مفاتح تدبر القرآن و النجاح في الحياة

#$%*المبحث الثالث : كيف نقرأ القرآن


المطلب الأول : القيام بالقرآن ( أن تكون القراءة في صلاة )
إن قراءة القرآن إما أن تكون في صلاة أو خارجها ولا شك أن هناك فرقا بين الحالين ، وتفاوتا في الفضل بينهما إجمالا .
وقد دلت بعض النصوص على فضل قراءة القرآن في صلاة وهو ما يسمى بـ : القيام بالقرآن أو التهجد به ، ومن ذلك قول الله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [(79) سورة الإسراء] ، وقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً } [1-7 سورة المزمل] وقول الله تعالى : { ليسوا سواءا من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون }
وسئل النبي صلى الله عليه وسم عن أفضل الصلاة فقال : طول القيام ، أو القنوت وهذا في بعض ألفاظ الحديث() ، ، وقال ‘ : "لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار "() ، عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله ‘ أنه قال من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمئة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" () ، وعن عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله ‘ من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل() ، عن أبي هريرة _ قال : قال رسول الله ‘ : أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان ؟؟ قلنا : نعم . قال : فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاة خير له من ثلاث خلفات عظام سمان " () وعن ابن عمر عن النبي ‘ : " إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإن لم يقم به نسيه ()
ودلت نصوص على أن العبد إذا دخل في الصلاة فإنه يزداد قربا من الله تعالى وأنه سبحانه يقبل عليه بوجهه من ذلك :
عن أنس _ أن النبي ‘ : قال : أيها الناس إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإنه مناج ربه ، وربه فيما بينه وبين القبلة . () ، عن أبي هريرة _ قال : قال رسول الله ‘ : إذا كان أحدكم في صلاة فلا يبزقن أمامه فإنه مستقبل ربه . () ، قال ابن جريج قلت لعطاء : أيجعل الرجل يده على أنفه أو ثوبه ؟ قال : فلا ، قلت من أجل أنه يناجي ربه ؟ قال : نعم ، وأحب ألا يخمر فاه . () ، قال عطاء : بلغنا أن الرب يقول : إلى أين تلتفت ؟ إلي يا ابن آدم إني خير لك ممن تلتفت إليه . ()
فيؤخذ مما سبق ذكره من النصوص تفضيل قراءة القرآن في الصلاة على قراءته خارجها وأنه أعظم أجرا وأعظم أثرا .
ولو لم يكن في القراءة داخل الصلاة إلا الانقطاع عن الشواغل والملهيات لكفى ، فإن المصلي إذا دخل في الصلاة حرم عليه الكلام والالتفات والحركة من غير حاجة ، فهذا أعون على التدبر والتفكر وأجمع للقلب ، وأيضا فإن من حوله لا يقاطعه ولا يشغله ما دام في صلاته .

 

المطلب الثاني : أن تكون القراءة في ليل :
إن وقت السحر من أفضل الأوقات للتذكر ؛ فالذاكرة تكون في أعلى مستوى بسبب الهدوء والصفاء وبسبب بركة الوقت حيث النزول الإلهي وفتح أبواب السماء .
فأي أمر تريد تثبيته في الذاكرة بحيث تتذكره خلال النهار فقم بمراجعته في هذا الوقت .
وقد استفاد من هذا أهل الدنيا من أهل السياسة والاقتصاد وخاصة الغرب حيث ذكر عدد منهم أنه يقوم بمراجعة لوائحة أو حساباته أو معاملاته وأوراقه في مثل هذا الوقت وأنه يوفق للصواب في قراراته . فأهل القرآن أهل الآخرة أولى باغتنام هذه الفرصة لتثبيت إيمانهم وعلمهم .
ومما يدل على كون القراءة في ليل أحد مفاتح التدبر قول الله عز وجل : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [(79) سورة الإسراء]، وقول الله عزوجل :{ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [(6) سورة المزمل] قال ابن عباس _ : هو أجدر أن يفقه القرآن ، ويقول ابن حجر – عن مدارسة جبريل لرسول الله ‘ في كل ليلة من رمضان : " المقصود من التلاوة الحضور والفهم ، لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية " اهـ .() قال الله تعالى : {لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [(113) سورة آل عمران] ، وقال عز وجل :{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أو كفورا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} [(23-26) سورة الإنسان]
قال الحسن بن علي _ : " إن من كان قبلكم رأو القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار " اهـ () والشاهد قوله : يتدبرونها بالليل ، قال ابن عمر : "أول ما ينقص من العبادة : التهجد بالليل ، ورفع الصوت فيها بالقراءة"() ، وقال الشيخ عطيه سالم حاكيا عن شيخه الشنقيطي : وقد سمعت الشيخ يقول : لا يثبت القرآن في الصدر ولا يسهل حفظه وييسر فهمه إلا القيام به في جوف الليل " اهـ() ، قال السري السقطي: " رحمه الله : رأيت الفوائد ترد في ظلام الليل"() ، قال النووي : " ينبغي للمرء أن يكون اعتناؤه بقراءة القرآن في الليل أكثر وفي صلاة الليل أكثر والأحاديث والآثار في هذا كثيرة وإنما رجحت صلاة اليل وقراءته لكونها أجمع للقلب وأبعد عن الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات وأصون عن الرياء وغيره من المحبطات مع ماجاء به الشرع من إيجاد الخيرات في الليل فإن الإسراء بالرسول كان ليلا "اهـ() ، عن عمر بن الخطاب _ قال : قال رسول الله ‘ من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ." اهـ () وفي هذا دلالة واضحة على أن الأصل في القيام بالحزب من القرآن هو الليل وفي حالة العذر فإنه يعطى الثواب نفسه إذا قضاه في النهار .، قال أبو داود الجفري : دخلت على كرز بن وبرة الحارثي الكوفي في بيته فإذا هو يبكي فقلت : ما يبكيك ؟ قال : إن بابي مغلق وإن ستري لمسبل ومنعت حزبي أن أقرأه البارحة ، وما هو إلا ذنب أحدثته "() فهذا يدل على أن لقراءته في الليل مزية مهمة وفضل عظيم يتحسر عليه من يعرف قيمته، قال ابن أبي مليكة سافرت مع ابن عباس _ما من مكة إلى المدينة فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفا حرفا ثم يبكي حتى تسمع له نشيجا " ()
إن القراءة للقلب مثل السقي للنبات ، فالسقي لا يكون في حر الشمس فإن هذا يضعف أثره خاصة مع قلة الماء فإنه يتبخر ، وكذلك قراءة القرآن إذا كانت قليلة وكانت في النهار وقت الضجيج والمشغلات فإن ما يرد على القلب من المعاني يتبخر ولا يؤثر فيه وهذا يجيب على تساؤل البعض إذ يقول إني أكثر قراءة القرآن لكن لا أتأثر به فلما سألته متى تقرأ القرآن ؟ تبين أن كل قراءته في النهار وفي وقت الضجيج وبشئ من المكابدة لحصول التركيز فكيف سيتأثر ؟

 

المطلب الثالث : التحزيب الأسبوعي للقرآن أو بعضه.
القرآن أنزل ليعمل به ، ووسيلة العمل به العلم به أولا ، وهو يحصل بقراءته وتدبره ، وكلما تقاربت أوقات القراءة وكلما كثر التكرار كان أقوى في رسوخ معاني القرآن الكريم . ومن أجل ذلك كان السلف يحرصون على كثرة تلاوته وتكرارها ، ومن ظن أنهم يقرأونه من أجل ثواب القراءة فحسب فقد قصر فهمه في هذا الباب ،
وقراءة القرآن مثل العلاج لا بد أن يكون بمقدار معين لا يزيد عليه ولا ينقص حتى يحدث أثره مثل المضاد الحيوي إن طالت المدة ضعف أثره ، وإن تقارب أكثر من المناسب أضرت بالبدن فكذلك قراءة القرآن المدة التي أقرها النبي ‘ لأمته لمن رغب في الخير هي سبعة أيام إلى شهر ، ونهى عن أقل من ثلاث ، وجاءت نصوص في النهي عن هجر القرآن أكثر من أربعين يوما .

 
السلف يختمون القرآن كل أسبوع:
عن أوس بن حذيفة الثقفي قال : قدمنا على رسول الله صلى اله عليه وسلم في وفد ثقيف فنزلوا الاحلاف على المغيرة بن شعبة ، وأنزل رسول الله ‘ بني مالك في قبة له فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء فيحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش ويقول : ولا سواء كنا مستضعفين مستذلين فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا فلما كان ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلت : يار سول الله لقد أبطأت علينا الليلة قال : فإنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج حتى أتمه قال أوس بن حذيفة سألت أصحاب رسول الله كيف يحزبون القرآن ؟ قالوا : ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل " () ، وذكر عن عثمان _ أنه كان يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة ويختم ليلة الخميس ،وعن عائشة _ا قالت : إني لأقرأ جزئي أو قالت : سبعي وأنا جالسة على فراشي أو على سريري() ، وقال عبد الله بن مسعود _ لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث اقرأوه في سبع ويحافظ الرجل على حزبه . ()
قال النووي عن الختم في سبع : فعل الأكثرين من السلف .
وقال السيوطي : وهذا أوسط الأمور و أحسنها وهو فعل الأكثر من الصحابة وغيرهم .

 
أهمية تحزيب القرآن والمحافظة عليه:
عن عمر بن الخطاب _ قال : قال رسول الله ‘ "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل" ()
قال عقبة بن عامر الجهني _ : "ما تركت حزب سورة من القرآن من ليلتها منذ قرأت القرآن "() ، وعن المغيرة بن شعبة قال : استأذن رجل على رسول الله وهو بين مكة والمدينة فقال : قد فاتني الليلة حزبي من القرآن وإني لا أوثر عليه شيئا"() ، عن خيثمة قال انتهيت إليه - يعني : عبد الله بن عمرو- وهو يقرأ في المصحف فقال هذا حزبي الذي أريد أن أقوم به الليلة"() ، عن أفلح عن القاسم قال كنا نأتي عائشة قبل() صلاة الفجر فأتيناها ذات يوم فإذا هي تصلي فقالت نمت عن حزبي في هذه الليلة فلم أكن لأدعه"() ، وعن أبي بكر بن عمرو بن حزم أن رجلاً استأذن على عمر _ بالهاجرة فحجبه طويلا ثم أذن له فقال إني كنت نمت عن حزبي فكنت أقضيه"() ، وعن ابن الهاد قال سألني نافع بن جبير بن مطعم فقال لي : في كم تقرأ القرآن ؟ فقلت : ما أحزبه ، فقال لي نافع : لا تقل ما أحزبه فإن رسول الله ‘ قال : قرأت جزءاً من القرآن "()
فهذه النصوص وغيرها مما نقل عن السلف في هذه القضية المهمة تؤكد على ضرورة تحزيب القرآن والمحافظة على ما يتم تحزيبه وأن يكون له الأولوية الأولى في كل وقت ،،،
ينبغي أن يوجد الحرص التام عليه وأن يقدم على كل عمل ، وألا يهدأ لك بال حتى تقوم به حتى تؤديه في وقته أو تقضيه إن فات أداؤه في وقته . إن العمل الذي لا تقضيه إذا فات يعني تساوي الفعل والترك عندك وهذا دليل على عدم أهميته لديك .
متى وجد هذا الحرص فهو مفتاح النجاح في الحياة ، إنه مفتاحٌ نحاحه لا يحتاج إلى إثباته بالتجربة فهو ثابت بالخبر عن الله تعالى وعن رسوله ‘ . { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } وهل يعقل أو يتصور أن يوجد اتباع دون قراءة مستمرة ، دون مذاكرة لقواعده وتوجيهاته . كما سبق البيان أننا في واقع الحياة نجد أن الإداري الذي لا يحفظ اللائحة ولا يعي ما فيها هو إداري فاشل ، والطالب الذي لا يذاكر دروسه كذلك ، ومتى علم الله منك صدق الرغبة والحرص على هذا الغذاء فإنه يفتح لك أبوابه ويبارك لك فيه ، ويمتد أثره ليشمل جميع جوانب حياتك . لا أقول إن التجربة تشهد لذلك . فثبات نتائج هذا العمل أقوى وأصدق من أن تخضع للتجربة وما يوجد في حياتنا من نقص إنما هو بسبب ترك وإهمال هذا العمل اليسير على من يسره الله عليه - العظيم في نفعه وأثره الشامل في تحقيق النجاح الكامل لكل من أخذ به بدقة وهو مجاني لا يحتاج إلى دورات ولا رسوم ولا مدرب ، إن عادات النجاح ليست سبعا ولا عشراً بل هي عادةٌ واحدة ! إنها المحافظة على قراءة حزبك من القرآن ، بل إنها عبادة وليست عادة من يسر الله له المحافظة عليها حصلت له كل معاني النجاح الدنيوية والدينية .

 
التدرج في التطبيق :
القيام بالقرآن كاملا في كل أسبوع يحتاج الوصول إليه إلى التدرج والتدريب شيئا فشيئا ، ومن ذلك تطبيق قاعدة : ( أدومه وإن قل)
فمن الممكن أن تكون البداية بالمفصل يحزبه سبعة أحزاب لكل يوم من أيام الأسبوع حزب .
أو من الممكن أن تكون البداية بجزء (عم) يقسمه سبعة أقسام وكل ليلة يقرأ بقسم ، يكرر هذا كل أسبوع .
ثم ينظر النتيجة كيف تكون ؟
وعندما يرى الأثر والفائدة فإن هذا سيدفعه إلى الزيادة ولتكن بالتدريج فيزيد المقدار وبنفس الطريقة يتم توزيع المقدار الجديد إلى سبعة أقسام كل قسم منها يقرأ في ليلة بحيث يختم المقدار كل أسبوع حتى يرسخ .
تنبيه :
الأولى أن يكون تحزيب القرآن وتقسيمه على السور- قدر الإمكان - بمعنى أن تقرأ السورة في الليلة الواحدة كاملة ، وأن يكون التقسيم والتوزيع متوافقا مع نهايات السور ، وهذا هو السنة ، وعليه عمل الصحابة والتابعين ، أما الأحزاب والأجزاء والأثمان المعروفة اليوم فلم تأت إلا متأخرة ، علاوة على ما فيها من بتر للمعاني وتقطيع للسور .ومن أراد تفصيل القول في هذه المسألة فليراجع ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الجزء الثالث عشر .

 

االمطلب الرابع : أن تكون القراءة حفظا
مثل حافظ القرآن وغير الحافظ : مثل اثنين في سفر الأول زاده التمر ، والثاني زاده الدقيق ، فالأول يأكل متى شاء وهو على راحلته، والثاني لا بد له من نزول وعجن وإيقاد نار وخبز وانتظار نضج.
والعلم مثل الدواء لا يؤثر حتى يدخل الجوف ويختلط بالدم .وما لم يكن كذلك فإن أثره مؤقت .
ومثل الجهاز المزود ببطارية والجهاز الذي ليس كذلك ، الأول يمكن أن يشتغل في أي مكان أما الثاني فلا بد من مصدر كهرباء
عن ابن عباس _ما قال: قال رسول الله ‘ : "إن الذي ليس في جوفه شئ من القرآن كالبيت الخرب "()
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : " أنا جنتي وبستاني في صدري أنى رحت فهي معي" وهو يريد بذلك القرآن والسنة التي في صدره تثبته وتزيده يقينا .
قال سهل بن عبدالله : لأحد طلابه : أتحفظ القرآن ؟ قال : لا ؟ قال : واغوثاه لمؤمن لا يحفظ القرآن ! فبم يترنم؟ فبم يتنعم ؟ فبم يناجي ربه ؟
يقول أبو عبد الله بن بشر القطان : ما رأيت رجلا أحسن انتزاعا لما أراد من آي القرآن من أبي سهل بن زياد وكان جارنا وكان يديم صلاة الليل وتلاوة القرآن فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينينه ينتزع منه ما شاء من غير تعب "()
وهذا المقصود من كون الحفظ أحد مفاتح التدبر لأنه متى كانت الآية محفوظة فتكون حاضرة ويتم تنزيلها على النوازل والمواقف التي تمر بالشخص في الحياة اليومية بشكل سريع ومباشر، أما إذا كان القرآن في الرفوف فقط فكيف يمكن لنا أن نطبقه على حياتنا ؟
توضيح أثر الحفظ على الفهم والتدبر :
إن علاج أي مشكلة له ثلاث صور :
الأولى : المعالجة الذهنية المجردة . الشفهية .من غير تحرير ولا ترتيب للحلول.
الثانية : المعالجة المكتوبة المحررة المرتبة .
الثالثة : المعالجة الذهنية لشئ مكتوب مسبقا ومحررا بمعنى حفظ ما تم التوصل إليه في علاج المشكلة كتابيا .
والصورة الثالثة هي أقواها تليها الثانية ثم الأولى ،
وحفظ القرآن وتكرار قراءته هو من النوع الثالث فترديد الآية والتفكر فيها وهي محفوظة أفضل من تكرارها نظرا لأن مفعول الطريقة الأولى يستمر بينما الثانية يقف عند إغلاق المصحف.
المطلب الخامس : تكرار الآيات
إن الهدف من التكرار هو التوقف لاستحضار المعاني ، وكلما كثر التكرار كلما زادت المعاني التي تفهم من النص .
والتكرار - أيضا - قد يحصل لا إراديا تعظيما أو إعجابا بما قرأ وهذا مشاهد في واقع الناس حينما يعجب أحدهم بجملة أو قصة فإنه يكثر من تكرارها على نفسه أو غيره .
التكرار : نتيجة وثمرة للفهم والتدبر .وهو أيضا وسيلة إليه حينما لا يوجد
قال ابن مسعود : " لا تهذوه هذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة "()
و قال أبو ذر _ قام النبي ‘ بآية حتى أصبح يرددها {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [(118) سورة المائدة] " ()
عن عباد بن حمزة قال دخلت على أسماء وهي تقرأ فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم قال فوقفت عليها فجعلت تستعيذ وتدعو قال عباد فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي فيها بعد تستعيذ وتدعو " ()
عن القاسم بن أبي أيوب أن سعيد بن جبير ردد هذه الآية :{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } بضعا وعشرين مرة ()
وقال محمد بن كعب القرظي لأن أقرأ ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) و (القارعة ) أرددهما وأتفكر فيهما أحب من أن أبيت أهذ القرآن ()
وردد الحسن البصري ليلة {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(18) سورة النحل] حتى أصبح ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن فيها معتبرا ما نرفع طرفا ولا نرده إلا وقع علىنعمة وما لا نعلمه من نعم الله أكثر " ()
وقام تميم الداري بآية حتى أصبح {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [(21) سورة الجاثية] ()
قال ابن القيم : هذه عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصبح " ()
قال النووي : وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ليلة كاملة أو معظمها يتدبرها عند القراءة ()
قال ابن قدامة : وليعلم أن ما يقرأه ليس كلام بشر وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه ويتدبر كلامه فإن التدبر هو المقصود من القراءة وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها ()
المطلب السادس: ربط الألفاظ بالمعاني:
ربط اللفظ بالمعنى ، هو حفظ المعاني ، وهو ربط الآية بالواقع ، هو تنزيل الآية على المواقف والأحوال اليومية التي تمر بالشخص ، هو التمثل بالقرآن في كل حدث يحصل في اليوم والليلة بحيث يبقى القرآن حيا في القلب تؤخذ منه الإجابات والتفسيرات للحياة . وتؤخذ منه التوجيهات والأنظمة في كل صغيرة وكبيرة وهذا الربط يعرف عند علماء النفس بالاقتران الشرطي ، ويعرف بالوقت الحاضر عند علماء البرمجة بالإرساء وهو ما يعرف في الكتاب والسنة بالذكر أو التذكر . وهو يعني تسلسل تذكر المعاني {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [(201) سورة الأعراف]
وهو نوعان : عفوي وقصدي ، فالعفوي إلهامات وفتوحات يفتحها الله تعالى على من يشاء من عباده ، وقصدي : وهو أن تقوم بالربط ثم التكرار حتى يرسخ ويثبت. والتكرار الذي يحقق الربط نوعان :
الأول : التكرار الآني .
الثاني : التكرار الأسبوعي .
أما التكرار الآني فسبق بيانه في مطلب : تكرار الآيات . وأما التكرار الأسبوعي فسبق بيانه في مطلب : تحزيب القرآن.

كيفيته التكرار
ان تكرر اللفظ مع استحضار معنى جديد في كل مرة حتى تمر على كل المعاني التي يمكن أن تتذكرها من النص أو اللفظ ، وقد سبق ذكر كلام الحسن البصري حين قام الليل كله يكرر قول الله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } فلما قيل له ؟ قال : إن فيها معتبرا ما نرفع طرفا ولا نرده إلا وقع علىنعمة.
حساب الألفاظ والكلمات:
الألفاظ قوالب المعاني وحساباتها البنكية ، فكلمة عند شخص لها خمسة معاني ، وعند آخر سبعة معاني ، وعند ثالث : صفر خالية لا تعني له شيئا .
إن إدارك ووعي الناس لآيات القرآن يتفاوت تفاوتا كبيرا مع أن الآية هي الآية يقرؤها هذا ويقرؤها هذا وإن ما بينهما في عمق فهم الآية أو الجملة كما بين المشرقين . تجد مثلا اثنين يسمعان الكلمة نفسها الأول يبكي والثاني يضحك ! لماذا ؟
مثال:
كلمة النار ، الرجل الصالح المؤمن يبكي ويقشعر جلدة خوفا من عذاب الله ، والغافل يضحك لأن هذه الكلمة تذكره بالشواء والمرح واللهو لا يفهم منها إلا هذا ؟

 

المطلب السابع : الترتيل
الترتيل يعني الترسل والتمهل ومن ذلك مراعاة المقاطع والمبادئ وتمام المعنى بحيث يكون القارئ متفكرا فيما يقرأ ، قال الحسن البصري : يا ابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همتك آخر السورة " () وقد أنكر ابن مسعود على نهيك بن سنان سرعته في القراءة حين قال : قرأت المفصل البارحة فقال عبد لله _ : هذا كهذ الشعر إنا قد سمعنا القراءة وإني لأحفظ القرناء التي يقرأ بهن النبي ‘ .() ، وقال ابن مسعود لعلقمة -وقد عجل في القراءة -: " فداك أبي وأمي رتل فإنه زين القرآن " () قال ابن مفلح : أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها "()
وصفة قراءة القرآن التي نقلت إلينا عن النبي ‘ وصحابته رضوان الله عليهم تدل على أهمية الترسل وتزيين الصوت بالقراءة ، فمن ينظر إلى أي كتاب في التجويد يدرك هذه الحقيقة بجلاء ووضوح ولم ينقل ذلك إلا للقرآن فالأحاديث ولخطب والمواعظ لم ينقل فيها شئ من ذلك ، وإنه لفرق كبير في التمهل والتأني بين من يطبق أحكام التجويد ومن لا يطبقها بل يهذ القراءة هذّاً
أخرج مسلم عن حذيفة _ قال : صليت مع النبي ‘ ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها ثم النساء فقرأها ثم آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ " ()
وإذا تعارض مقدار القراءة مع صفتها قدمت الصفة :
سئل زيد بن ثابت _ : كيف ترى في قراءة القرآن في سبع ؟ قال : حسن ، ولأن أقرأه في نصف شهر أو عشر أحب إلي . وسلني : لم ذلك ؟ قال : فإني أسألك . قال : لكي أتدبره وأقف عليه " اهـ ()
قال ابن حجر : "إن من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة ثمينة ، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة ، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات وقد يكون العكس " اهـ ()


 




المطلب الثامن : الجهر بالقراءة

قال ‘ : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به "() وعن أبي هريرة _ أنه سمع النبي ‘ يقول : " ما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت يجهر بالقرآن " () وعن أبي موسى _ قال : قال النبي ‘ " إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار " () وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت : كنت أسمع قراءة النبي ‘ وأنا على عريشي () ، وعن أبي قتادة _ : أن النبي ‘ خرج ليلة فإذا بأبي بكر يصلي يخفض صوته ، ومر على عمر بن الخطاب _ وهو يصلي رافعا صوته ، قال : فلما اجتمعا عند النبي ‘ قال : يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك ؟ قال : قد أسمعت من ناجيت يارسول الله ، وقال لعمر : مررت بك وأنت تصلي ترفع صوتك ؟ فقال : يا رسول الله أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان . فقال النبي ‘ : يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا ، وقال لعمر : اخفض من صوتك شيئا .() وسئل ابن عباس عن جهر النبي ‘ بالقراءة بالليل فقال : كان يقرأ في حجرته قراءة لو أراد حافظ أن يحفظها فعل "()
وقال ابن عباس لرجل ذكر له أنه سريع القراءة قال له : " إن كنت فاعلا فاقرأ قراءة تسمعها أذنك ويعيها قلبك " اهـ ()
وعن ابن أبي ليلى قال إذا قرأت فاسمع أذنيك فإن القلب عدل بين اللسان والأذن ()
إن الجهر بما يدور في القلب أعون على التركيز والانتباه ولذلك تجد الإنسان يلجأ إليه قسرا عندما تتعقد الأمور ويصعب التفكير.
البعض عند قراءته للقرآن يسر بقراءته طلبا للسرعة وقراءة أكبر قدر ممكن وهذا خطأ ومن الواضح غياب قصد التدبر في مثل هذه الحالة .
إن الجهر درجات أدناها أن يسمع المرء نفسه وتحريك أدوات النطق من لسان وشفتين ، وأعلاها أن يسمع من قرب منه ، فما دونه ليس بجهر وما فوقه يعيق التدبر ويرهق القارئ ويؤذي السامع .
ومن فوائد الجهر استماع الملائكة الموكلة بسماع الذكر لقراءة القارئ ، وهرب وفرار الشياطين عن القارئ والمكان الذي يقرأ فيه ، وفي ذلك تطهير للبيت وتعطير له وجعله بيئة صالحة للتربية والتعليم .
إن بيتا يكثر فيه الجهر بالقرآن بيت - كما قال أبو هريرة :كثر خيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين والبيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله وقل خيره وحضرته الشياطين وخرجت منه الملائكة" ()


 

رحلتي مع الكتاب
بدأت رحلتي مع هذا الكتاب منذ أن عقلت وأدركت أن الحياة مجاهدة ومصابرة وصراع بين الحق والباطل والخير والشر ، وأن الثبات على الحق وتحصيل الخير لا بد له من جهد ومن عمل ، كانت البداية مع كتاب الجواب الكافي أقرؤه كلما أحسست بضعف السيطرة على النفس وضعف الإرادة والوقوع في النقائص فكنت أجد فيه العلاج وانتفع به حينا من الدهر ، ثم انتقلت إلى كتب المثقفين والمفكرين المعاصرين أمثال : قوارب النجاة ، وحديث الشيخ ، وتربيتنا الروحية ، جدد حياتك ، وغيرها من كتب جعلتها قريبة مني أقرؤها لآخذ منها الزاد الروحي - على حد تعبير أولئك الكتَّاب - ثم جاءت فترة تعلقت بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامه . وفي المرحلة الجامعية كان التوجه نحو كتب الغرب والتي بدأت تغزو الأسواق من ذلك : كيف تكسب الأصدقاء ، دع القلق وابدأ الحياة ، سيطر على نفسك ، سلطان الإرادة وغيرها فكنت أرجع إليها كلما حصلت مشكلة أو احتجت لعلاج مسألة ، وكنت قرأتها أكثر من مرة ولخصت ما فيها على شكل قواعد وأصول . وفي حينها كان يتردد على خاطري سؤال محير : كيف يكون العلاج في مثل هذه الكتب ولا يكون في القرآن ؟ ثم تلتها مرحلة أخرى تعلقت بكتاب مدارج السالكين وخاصة بعدما طبع تهذيبه في مجلد واحد فكان رفيقي في السفر والحضر أقرأ فيه بهدف تقوية العزيمة ومجاهدة النفس ، ثم جاءت مرحلة لم يمض عليها سوى سنوات اتجهت إلى كتب وأشرطة القوة وتطوير الذات والتي بدأت تتنافس في جذب الناس فاشتغلت في الكثير منها طلبا للتطوير والترقية من ذلك : كتاب العادات السبع ، أيقظ قواك الخفية ، إدارة الأولويات ، القراءة السريعة ، كيف تضاعف ذكائك ، المفاتيح العشرة للنجاح ، البرمجة اللغوية العصبية ، كيف تقوي ذاكرتك ..كن مطمئنا ، السعادة في ثلاثة شهور ، كيف تصبح متفائلا ، أيقظ العملاق الخ من قائمة لا تنتهي كنت أقرؤها أو أسمعها بكل دقة وأناة باحثا فيها عما عساه يغير من الواقع شيئا ويحصل به الانطلاق والتخلص من نقاط الضعف ولكن دون جدوى ، وأحمد الله تعالى أنها كانت دون جدوى وأني نجوت من الفتنة بهذه المصادر البشرية للنجاح فكيف سيكون حالي لو كنت حصلت على النجاح من تلك الكتب ونسيت كتاب ربي إلى أن فارقت الحياة ؟
إن السؤال المحير والذي يدعو للعجب والاستغراب : هل كان مثل هذا التخبط حصل من شخص يعيش في مجاهل أفريقيا أو أدغال آسيا ولم يبلغه القرآن ؟ أو أنه حصل من شخص يحفظ القرآن وهو في المرحلة المتوسطة ومع هذا لم ينتفع به لأنه نسي هذه المفاتح .
هذا هو السؤال المحير الذي كنت أبحث عن إجابته ؟ فوجدتها والحمد لله وضمنتها هذا الكتاب فإياك أخي المسلم أن ترحل من هذه الدنيا ولم تذق ألذ وأطيب ما فيها إنه القرآن كلام الله الذي لا يشبه التنعم به أي نعيم على الإطلاق وهو حاصل بإذن الله تعالى لمن أخذ بهذه المفاتح التي هدي إليها سلفنا الصالح ففتحت لهم كنوز القرآن وبها فتحت لهم كنوز الأرض وخيراتها فكانوا خير أمة أخرجت للناس .
أفضل هدية يقدمها والد إلى ولده
إن أعظم هدية يقدمها والد إلى ولده ، وأعظم إحسان يسديه إليه أن يربيه على مفاتح تدبر القرآن - التي ذكرتها عن السلف - منذ الصغر حتى يتسلح بالقرآن في هذه العصر الذي كثرت فيه الفتن ، وانتشر فيه القلق والملل ، وزادت الأمراض النفسية ، وضعفت النفوس عن تحمل المصائب ، وصار الناس يبحثون عن التسلية والترويح عن النفس بوسائل شتى حتى أرهقتهم بدنيا وماليا ووصلوا معها إلى طريق مسدود وصدق عليهم قول الشاعر:
وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها
إن من ينشأ على القيام بالقرآن يقرؤه كما وصفت فإنه ينشأ قوي النفس ، قوي البدن ثابت الخطى يشق طريقه في الحياة بلا مخاوف ولا مشاكل بإذن الله تعالى لأنه يجد التفسير الواضح الثابت لكل المواقف التي يمر بها ، ولكل المناهج والأطروحات التي تتنافس في إثبات وجودها ، إن من يقرأ القرآن كما ذكر يستغني به عن كلام البشر ، وما زلت أسمع وأرى صوراً ومآسي لا نحرافات فكرية واجتماعية تحصل من أبناء المسلمين ، وماذاك إلا بسبب التفريط في الربط بالقرآن حبل الله المتين الذي ما ضل من تمسك به ، والتمسك به لا يكون أبداً إلا بما سبق بيانه من وسائل ومفاتح .
وهذا أسهل وأخصر الطرق في تربية الأولاد لمن وفق إليه وقدر عليه ، أما من حرمه فإنه سيظل حبيس تجارب وطرق وأفكار لا أول لها ولا آخر ، تجارب ووسائل متباينة ومكلفة وصعبة التطبيق ، وضعيفة النتائج ، وهشة البناء لا تصمد للمواقف الصعبة واللحظات الحرجة .

 
خاتمة البحث

أخي المسلم بفعلك لما سبق ذكره من مفاتح التدبر تكون كمن استعمل منظارا لتقريب وتكبير الصور وهذا ما يحصل تماما لقارئ القرآن بهذه الكيفية فإنه تكبر في نظره المعاني وتزداد عمقا ويغزر فهمه لمضامينها حتى إنه لينتبه إلى معان لم يكن يدركها من قبل ،وألفاظ كان يمر بها دون أن يشعر ؟حتى إنه ليقول : سبحان الله لقد كنت أقرأ هذه السورة أو الآية منذ سنوات لكن لم أفهمها كما فهمتها اليوم ؟
إن البعض منا يريد أن يتدبر القرآن ويتأثر بالقرآن وهو لم يهيئ الأسباب والوسائل المساعدة على فهمه وفقهه حتى أدنى درجات التركيز والهدوء لا يوجدها حين قراءته للقرآن ؟ لماذا ؟ لأن الذي يقرأ القرآن منا قصر همته على نطق الألفاظ وما يحصل من حسنات مقابل ذلك . نعم كما سبق تفصيله هذا أحد المقاصد والمطالب وهو حسن ومطلوب لكن هناك غيره من المقاصد وهي أهم وأولى وهي لا تحصل إلا بما تم بيانه من وسائل وضوابط .
إن من واظب على قراءة القرآن كما تم بيانه ووصفه من حال السلف فإن هذا سيؤدي إلى حياة قلبه ، وقوة ذاكرته وصحة نفسه وهذه هي مرتكزات النجاح الحقيقية ، ذلكم النجاح الشامل المتكامل الثابت في حال الشدة كما هو حاصل في حال الرخاء.
والله الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 
مفاتح تدبر القرآن و النجاح في الحياة

 
الوسوم
الحياة القرآن النجاح تدبر مفاتح
عودة
أعلى