الكبائر

المنان
الكبيرة الأربعون المنان
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى
قال الواحدي هو أن يمن بما أعطى ، و قال الكلبي بالمن على الله في صدقته و الأذى لصاحبها ، و في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم المسبل، و المنان ، و المنفق سلعته بالحلف الكاذب المسبل هو الذي يسبل إزاره أو ثيابه أو قميصه أو سراويله حتى تكون إلى القدمين ، لأنه صلى الله عليه و سلم قال ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار و في الحديث أيضاً ثلاثة لا يدخلون الجنة ، العاق لوالديه ، و المدمن الخمر ، و المنان رواه النسائي و فيه أيضاً لا يدخل الجنة خب و لا بخيل و لا منان و الخب هو المكر و الخديعة ، و المنان هو الذي يعطي شيئاً أو يتصدق به ثم يمن به و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إياكم و المن بالمعروف فإنه يبطل الشكر و يمحق الأجر ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم قول الله عز و جل يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى و سمع ابن سيرين رجلاً يقول لآخر أحسنت إليك و فعلت و فعلت فقال له ابن سيرين اسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي و كان بعضهم يقول من بمعروفه سقط من شكره ، و من أعجب بعمله حبط أجره و أنشد الشافعي رحمه الله تعالى
لا تحملن من الأنام بأن يمنوا عليك منه
و اختر لنفسك حظها و اصبر فإن الصبر جنه
منن الرجال على القلوب أشد من وقع الأسنة
و أنشد أيضاً بعضهم فقال
و صاحب سلفت منه إلي يد
أبطأ عليه مكافاتي فعاداني
لما تيقن أن الدهر حاربني
أبدى الندامة مما كان أولاني
أفسدت بالمن ما قدمت من حسن
ليس الكريم إذا أعطى بمنان
( موعظة ) يا مبادراً بالخطايا ما أجهلك إلى متى تغتر بالذي أمهلك ، كأنه قد أهملك ؟ فكأنك بالموت و قد جاء بك و أنهلك ، و إذا الرحيل و قد أفزعك الملك ، و أسرك البلا بعد الهوى و عقلك ، و ندمت على وزر عظيم قد أثقلك يا مطمئناً بالفاني ما أكثر زللك ، و يا معرضاً عن النصح كأن النصح ما قيل لك ، أين حبيبك الذي كان و أين انتقل ؟ أما وعظك التلف في جسده و المقل ، أين كثير المال ، أين طويل الأمل ، أما خلا وحده في لحده بالعمل ، أين من جر ثوبه الخيلاء غافلاً و رفل ؟ أما سافر به و إلى الآن ما وصل ، أين من تنعم في قصره فكأنه في الدنيا ما كان و في قبره لم يزل ، أين من تفوق و احتفل ؟ غاب و الله نجم سعوده و أفل أين الأكاسرة و الجبابرة العتاة الأول ، ملك أموالهم سواهم و الدنيا دول
 
التكذيب بالقدر
الكبيرة الحادية و الأربعون التكذيب بالقدر
قال الله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر قال ابن الجوزي في تفسيره في سبب نزولها قولان أحدهما ، أن مشركي مكة أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه و آله و سلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية انفرد بإخراجه مسلم و روى أبو أمامة أن هذه الآية في القدرية و القول الثاني أن أسقف نجران جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد تزعم أن المعاصي بقدر و ليس كذلك فقال صلى الله عليه و سلم أنتم خصماء الله فنزلت هذه الآية
إن المجرمين في ضلال و سعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر
و روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا جمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة أمر منادياً فنادى نداء يسمعه الأولون و الآخرون أين خصماء الله ؟ فتقوم القدرية فيؤمر بهم إلى النار يقول الله ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر ، و إنما قيل لهم خصماء الله لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها و روى هشام بن حسان عن الحسن قال و الله لو أن قدرياً صام حتى يصير كالحبل ، ثم صلى حتى يصير كالوتر لكبه الله على وجهه في سقر ، ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر و روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل شيء بقدر حتى العجز و الكيس و قال ابن عباس كل شيء خلقناه بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه قال الله تعالى و الله خلقكم و ما تعملون
قال ابن جرير فيها وجهان ، أحدهما أن تكون بمعنى المصدر فيكون المعنى و الله خلقكم و عملكم و الثاني أن تكون بمعنى الذي فيكون المعنى و الله خلقكم و خلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام ، و في هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة و الله أعلم و قال الله تعالى فألهمها فجورها و تقواها الإلهام إيقاع الشيء في النفس قال سعيد بن جبير ألزمها فجورها و تقواها و قال ابن زايد جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى و خذلانه إياها للفجور و الله أعلم و في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال إن الله من على قوم فألهمهم الخير فأدخلهم في رحمته ، و ابتلى قوماً فخذلهم و ذمهم على أفعالهم و لم يستطيعوا غير ابتلاهم فعذبهم و هو عادل لا يسأل عما يفعل و هم يسألون و عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بعث الله نبياً قط و في أمته قدرية و مرجئه ، إن الله لعن القدرية و المرجئة على لسان سبعين نبياً
و عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم القدرية مجوس هذه الأمة ، و عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لكل أمة مجوس و مجوس هذه الأمة الذين يزعمون أن لا قدر ، و أن الأمر أنف قال فإذا لقيتهم فأخبرهم أني منهم بريء و أنهم براء مني ثم قال و الذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبل حتى يؤمن بالقدر خيره و شره ثم ذكر حديث جبريل و سؤاله النبي صلى الله عليه و سلم قال ما الإيمان ؟ قال أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و تؤمن بالقدر خيره و شره
قوله أن تؤمن بالله الإيمان بالله هو التصديق بأنه سبحانه و تعالى موجود موصوف بصفات الجلال و الكمال ، منزه عن صفات النقص ، و أنه فرد صمد خالق جميع المخلوقات ، متصرف فيها بما يشاء يفعل في ملكه ما يريد و الإيمان بالملائكة هو التصديق بعبوديتهم لله
بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون
و الإيمان بالرسل هو التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى أيدهم الله بالمعجزات الدالة على صدقهم ، و أنهم بلغوا عن الله تعالى رسالاته و بينوا للمكلفين ما أمرهم الله به ، و أنه يجب احترامهم ، و أن لا يفرق بين أحد منهم و الإيمان باليوم الآخر هو التصديق بيوم القيامة و ما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت و النشر و الحشر و الحساب و الميزان و الصراط و الجنة و النار ، و أنهما دار ثوابه و عقابه للمحسنين و المسيئين إلى غير ذلك مما صح به النقل و الإيمان بالقدر هو التصديق بما تقدم ذكره ، و حاصله ما دل عليه قوله سبحانه و الله خلقكم و ما تعملون ، و قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر ، و من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عباس و اعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام و جفت الصحف
و مذهب السلف و أئمة الخلف أن من صدق بهذه الأمور تصديقاً جازماً لا ريب فيه و لا تردد كان مؤمناً حقاً ،سواء كان ذلك عن براهين قاطعة أو اعتقادات جازمة و الله أعلم
( فصل أجمع سبعون رجلاً من التابعين و أئمة المسلمين و السلف و فقهاء الأمصار على أن السنة التي توف عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم أولها الرضا بقضاء الله و قدره ، و التسليم لأمره ، و الصبر تحت حكمه ، و الأخذ بما أمر الله به ، و النهي عما نهى الله عنه ، و إخلاص العمل لله ، و الإيمان بالقدر خيره و شره ، و ترك المراء و الجدال و الخصومات في الدين ، و المسح على الخفين ، و الجهاد مع كل خليفة براً و فاجراً ، و الصلاة على من مات من أهل القبلة
و الإيمان قول و عمل و نية ، يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية ، و القرآن كلام الله نزل به جبريل على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم غير مخلوق ، و الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عدل أو جور ، و لا نخرج على الأمراء بالسيف و إن جاروا و لا نكفر أحداً من أهل القبلة و إن عمل الكبائر إلا إن استحلوها ، و لا نشهد لأحد من أهل القبلة لخير أتى به إلا من شهد له النبي صلى الله عليه و سلم و الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين و نترحم على جميع أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و أولاده و أصحابه رضي الله عنهم أجمعين
فائدة فيها من كلام الناس ما هو كفر صرحت به العلماء منها ما لو سخر باسم من أسماء الله أو بأمره أو وعده أو وعيده كفر ، و لو قال لو أمرني الله بكذا ما فعلت ، كفر و لو صارت القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها ، كفر و لو قيل له ألا تترك الصلاة فإن الله يؤاخذك فقال لو آخذني بها مع ما في من المرض و الشدة لظلمني كفر و لو قال لو شهد عندي الأنبياء و الملائكة بكذا ما صدقت ، كفر و لو قيل له قلم أظافرك فإنها سنة فقال لا أفعل و إن كانت سنة ، كفر و لو قال فلان في عيني كاليهودي ، كفر و لو قال أن الله جلس للإنصاف أو قام للإنصاف ، كفر و جاء في وجه من قال لمسلم لا ختم الله لك بخير أو سلبك الإيمان ، كفر و جاء أيضاً أن من طلب يمين إنسان فأراد أن يحلف بالله فقال أريد أن تحلف بالطلاق كفر و اختلفوا في من قال رؤيتي لك كرؤية الموت فقال بعضهم ، يكفر و لو قال لو كان فلان نبياً ما آمنت به ، كفر و لو قال إن كان ما قاله صدقاً نجونا ، كفر و لو صلى بغير وضوء استهزاء أو استحلالاً ، كفر و لو تنازع رجلان فقال أحدهما لا حول و لا قوة إلا بالله فقال له الآخر لا حول و لا قوة إلا بالله لا تغني من جوع ، كفر و لو سمع أذان المؤذن فقال إنه يكذب ، كفر و لو قال لا أخاف القيامة ، كفر و لو وضع متاعه فقال سلمته إلى الله فقال له رجل سلمته إلى من لا يتبع السارق ، كفر و لو جلس رجل على مكان مرتفع تشبيهاً بالخطيب فسألوه المسائل و هم يضحكون أو قال أحدهم قصعة ثريد خير من العلم ، كفر و لو ابتلى بمصائب فقال أخذت مالي و ولدي و ماذا تفعل ، كفر و لو ضرب ولده أو غلامه فقال له رجل ألست بمسلم ؟ فقال لا ـ متعمداً ـ كفر و لو تمنى أن لا يحرم الله الزنا أو القتل أو الظلم ، كفر و لو شد على وسطه حبلاً فسئل عنه فقال هذا زنار فالأكثرون على أنه يكفر و لو قال معلم الصبيان اليهود خير من المسلمين لأنهم يعطون معلمي صبيانهم ، كفر و لو قال النصراني خير من المجوسي ، كفر و لو قيل لرجل ما الإيمان فقال لا أدري ، كفر و من ذلك ألفاظ مستكرهة مستنكرة و هي لا دين لك ، لا إيمان لك ، لا يقين لك ، أنت فاجر ، أنت منافق، أنت زنديق ، أنت فاسق ، و من ذا و أشباهه كله حرام و يخشى على العبد بها سلب الإيمان و الخلود في النار
فنسأل الله المنان بلطفه أن يتوفانا مسلمين على الكتاب و السنة إنه أرحم الراحمين
موعظة عباد الله ! أين الذين كنزوا الكنوز و جمعوا و ثملوا من الشهوات و شبعوا ، و أملوا البقاء فما نالوا فيها ما طمعوا ، و فنيت أعمارهم بما غروا به و خدعوا ؟ نصب لهم شيطانهم أشراك الهوى فوقعوا ، و جاءهم ملك الموت فذلوا و خضعوا ، و أخرجهم من ديارهم فلا و الله ما رجعوا ، فهم مفترقون في القبور فإذا نفخ في الصور اجتمعوا
و كيف قرت لأهل العلم أعينهم أو استلذوا لذيذ العيش أو هجموا
و الموت ينذرهم جهراً علانية لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا
و النار ضاحية لابد موردهم و ليس يدرون من ينجو و من يقع
قد أمست الطير و الأنعام آمنة و النون في البحر لا يخشى لها فزع
و الآدمي بهذا الكسب مرتهن له رقيب على الأسرار يطلع
حتى يرى فيه يوم الجمع منفرداً و خصمه الجلد و الأبصار و السمع
و إذ يقومون و الأشهاد قائمة و الجن و الأنس و الأملاك قد خشعوا
و طارت الصحف في الأيدي منتشرة فيها السرائر و الأخبار تطلع
فكيف بالناس و الأنباء واقفة عما قليل و ما تدري بما تقع
أفي الجنان و فوز لا انقطاع له أم في الجحيم فلا تبقي و لا تدع
تهوي بسكانها طوراً و ترفعهم إذا رجوا مخرجاً من غمها قمعوا
طال البكاء فلم ينفع تضرعهم هيهات لا رقية تغني و لا جزع


 
التسمع على الناس و ما يسرون
الكبيرة الثانية و الأربعون التسمع على الناس و ما يسرون
قال الله تعالى و لا تجسسوا قال ابن الجوزي رحمه الله قرأ أبو زيد و الحسن و الضحاك و ابن سيرين بالحاء قال أبو عبيدة التجسس و التحسس واحد ـ و هو البحث ـ و منه الجاسوس و قال يحيى بن أبي كثير التجسس بالجيم عن عورات الناس ، و بالحاء الاستماع لحديث القوم قال المفسرون التجسس البحث عن عيب المسلمين و عوراتهم فالمعنى لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطلع عليه إذا ستره الله و قيل لابن مسعود هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً قال إنا نهينا عن التجسس فإن يظهر لنا شيء نأخذ به
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من استمع إلى حديث قوم و هم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة أخرجه البخاري ، و الآنك الرصاص المذاب نعوذ بالله منه ، و نسأل الله التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم
( موعظة ) عباد الله إن المنايا قد دقت و اقتربت ، فالنفوس رهينة قد جمعت و تعبت كأنكم بأكف الردى قد أخذت و سلبت ، رب شمس طالعة على القبر قد غربت ، يا فراخ الفنا فخاخ البلى قد نصبت ، عباد الله كل المعاصي قد سطرت و كتبت و النفوس رهينة بما جنت و اكتسبت ، لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت يا من يغتر بالأماني و الآمال الكواذب ، و مبارز بالقبايح و ما يدري من يحارب ، يا حاضر البدن غير أن القلب غائب ، أرضيت أن تفوتك الخيرات و الرغائب ؟ يا من عمره يفنى في ممره و يسري كالنجائب ، يا من شاب و ما تاب هذا من العجائب ، يا عجباً كيف نام المطلوب و ما غفل الطالب ؟





 
النمام
الكبيرة الثالثة و الأربعون النمام
و هو من ينقل الحديث بين الناس على جهة الإفساد بينهم هذا بيانها
و أما أحكامها فهي حرام بإجماع المسلمين ، و قد تظاهرت على تحريمها الدلائل الشرعية من الكتاب و السنة قال الله تعالى
و لا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يدخل الجنة نمام و في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بقبرين قال إنهما ليعذبان و ما يعذبان في كبير ، أما أنه كبير أما أحدهما فكان لا يستبرىء من بوله ، و أما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، ثم أخذ جريدة رطبه فشقها اثنتين و غرز في كل قبر واحدة ، و قال لعله أن يخف عنهما ما لم ييبسا
و قوله و ما يعذبان في كبير أي ليس بكبير تركه عليهما ، أو ليس بكبير في زعمهما و لهذا قال في رواية أخرى بلى إنه كبير و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه و هؤلاء بوجه ، و من كان ذا لسانين في الدنيا فإن الله يجعل له لسانين من نار يوم القيامة و معنى من كان ذا لسانين أي يتكلم مع هؤلاء بكلام و هؤلاء بكلام و هو بمعنى صاحب الوجهين قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله إنما تطلق في الغالب على من ينم قول الغير إلى المقول فيه بقوله فلان يقول فيك كذا و ليست النميمة مخصوصة بذلك بل حدها كشف ما يكره كشفه سواء كره المنقول عنه أو المنقول إليه أو ثالث ، و سواء أكان الكشف بالقول أو الكتابة أو الرمز أو الإيماء أو نحوها ، و سواء كان من الأقوال أو الأعمال ، و سواء كان عيباً أو غيره فحقيقة النميمة إفشاء السر و هتك الستر عما يكره كشفه و ينبغي للإنسان أن يسكت عن كل ما رآه من أحوال الناس إلا ما في حكايته فائدة للمسلمين أو دفع معصية قال و كل من حملت إليه نميمة و قيل له قال فيك فلان كذا و كذا لزمه ستة أحوال
الأول أن لا يصدقه لأنه نمام فاسق و هو مردود الخبر
الثاني أن ينهاه عن ذلك و ينصحه و يقبح فعله
الثالث أن يبغضه في الله عز و جل فإنه بغيض عند الله و البغض في الله واجب الرابع أن لا يظن في المنقول عنه السوء لقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم
الخامس أن لا يحمله ما حكي له على التجسس و البحث عن تحقق ذلك ، قال الله سبحانه و تعالى و لا تجسسوا
السادس أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكي نميمته
و قد جاء أن رجلاً ذكر لعمر بن عبد العزيز رجلا بشيء فقال عمر يا هذا إن شئت نظرنا في أمرك ، فإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ، و إن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية هماز مشاء بنميم ، و إن شئت عفونا عنك فقال العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً
و رفع إنسان رقعة إلى الصاحب بن عباد رحمه الله يحثه فيها على أخذ مال اليتيم و كان له مال كثير فكتب على ظهر الرقعة النميمة قبيحة و إن كانت صحيحة ، و الميت رحمه الله ، و اليتيم جبره الله ، و المال ثمره الله ، و الساعي لعنه الله
و قال الحسن البصري من نقل إليك حديثاً فاعلم أنه ينقل إلى غيرك حديثك و هذا مثل قول الناس من نقل إليك نقل عنك فاحذره و قال ابن المبارك ولد الزنا لا يكتم الحديث أشار به إلى أن كل من لا يكتم الحديث و مشى بالنميمة دل على أنه ولد الزنا استنباطاً من قول الله تعالى عتل بعد ذلك زنيم ، و الزنيم هو الدعي
و روي أن بعض السلف الصالحين زار أخاً له و ذكر له عن بعض إخوانه شيئاً يكرهه ، فقال له يا أخي أطلت الغيبة و أتيتني بثلاث جنايات بغضت إلي أخي ، و شغلت قلبي بسببه ، و اتهمت نفسك الأمينة و كان بعضهم يقول من أخبرك بشتم عن أخيك فهو الشاتم لك و جاء رجل إلى علي بن الحسين رضي الله عنهما فقال إن فلاناً شتمك و قال عنك كذا و كذا ، فقال اذهب بنا إليه ، فذهب معه و هو يرى أنه ينتصر لنفسه ، فلما وصل إليه قال يا أخي إن كان ما قلت في حقاً فغفر الله لي ، و إن كان ما قلت في باطلاً فغفر الله لك و قيل في قول الله تعالى حمالة الحطب يعني امرأة أبي لهب ، إنها كانت تنقل الحديث بالنميمة سمى النميمة حطباً لأنها سبب العداوة ، كما أن الحطب سبب لاشتعال النار و يقال عمل النمام أضر من عمل الشيطان لأن عمل الشيطان بالوسوسة و عمل النمام بالمواجهة
حكاية روي أن غلاماً يباع و هو ينادي عليه ليس به عيب إلا أنه نمام فقط ، فاستخف بالعيب و اشتراه ، فمكث عنده أياماً ثم قال لزوجة سيده إن سيدي يريد أن يتزوج عليك أو يتسرى ، و قال أنه لا يحبك فإن أردت أن يعطف عليك و يترك ما عزم عليه فإذا نام فخذي الموسى و احلقي شعرات من تحت لحيته و اتركي الشعرات و اتركي الشعرات معك ، فقالت في نفسها نعم و اشتغل قلب المرأة ، و عزمت على ذلك إذا نام زوجها ، ثم جاء إلى زوجها و قال سيدي إن سيدتي زوجتك قد اتخذت لها صديقاً و محباً غيرك و مالت إليه ، و تريد أن تخلص منك ، و قد عزمت على ذبحك الليلة ، و إن لم تصدقني فتناوم لها الليلة و انظر كيف تجيء إليك و في يدها شيء تريد أن تذبحك به ، و صدقه سيده فلما كان الليل جاءت المرأة بالموسى لتحلق الشعرات من تحت لحيته و الرجل يتناوم لها فقال في نفسه و الله صدق الغلام بما قال ، فلما وضعت المرأة الموسى و أهوت إلى حلقه قام و أخذ الموسى منها و ذبحها به ، فجاء أهلها فرأوها مقتولة فقتلوه ، فوقع القتال بين الفريقين بشؤم ذلك العبد المشئوم فلذلك سمى الله النمام فاسقاً في قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين
( موعظة ) يا من أسره الهوى فما يستطيع له فكاكا ، يا غافلاً عن التلف و قد أدركه إدراكا ، يا مغروراً بسلامته و قد نصب له الموت أشراكا ، تفكر في ارتحالك و أنت على حالك فإن لم تبك فتباكى
بكيت فما تبكي شباب صباك كفاك نذير الشيب فيك كفاك
ألم تر أن الشيب قد قام ناعياً مكان الشباب الغض ثم نعاك
ألم تر يوماً مر إلا كأنه بإهلاكه للهالكين عناكا
ألا أيها الفاني و قد حان حينه أتطمع أن تبقى فلست هناكا
ستمضي و يبقى ما تراه كما ترى فينساك ما خلفته هو ذاكا
تموت كما مات الذين نسيتهم و تنسى و يهوى الحي بعد هواكا
كأنك قد أقصيت بعد تقرب إليك و إن باك عليك بكاكا
كأن الذي يحثو عليك من الثرى يريد بما يحثو عليك رضاكا
كأن خطوب الدهر لم تجر ساعة عليك إذا الخطب الجليل أتاكا
ترى الأرض كم فيها رهون دفينة غلقن فلم يقبل من فكاكا




 
اللعان
الكبيرة الرابعة و الأربعون اللعان
قال النبي صلى الله عليه و سلم سباب المسلم فسوق و قتاله كفر و قال صلى الله عليه و سلم لعن المؤمن كقتله أخرجه البخاري و في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لا يكون اللعانون شفعاء و لا شهداء يوم القيامة و قال عليه الصلاة و السلام لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً و في الحديث ليس المؤمن بطعان و لا بلعان و لا بالفاحش و لا بالبذيء و البذيء هو الذي يتكلم بالفحش و رديء الكلام و عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ، ثم تأخذ يميناً و شمالاً ، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن إن كان أهلاً لذلك ، و إلا رجعت إلى قائلها و قد عاقب النبي صلى الله عليه و سلم من لعنت ناقتها بأن سلبها إياها ، قال عمران بن حصين بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره و امرأة من الأنصار على ناقة فضجت فلعنتها ، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال خذوا ما عليها و دعوها فإنها ملعونة قال عمران فكأني أنظر إليها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد أخرجه مسلم و عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المسلم ، و عن عمرو بن قيس قال إذا ركب الرجل دابته قالت اللهم اجعله بي رفيقاً رحيماً فإذا لعنها قالت على أعصانا لله و رسوله لعنة الله عز و جل
فصل في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعنيين المعروفين قال الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين و قال ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، و ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لعن الله آكل الربا و موكله و شاهده و كاتبه و إنه قال لعن الله المحلل و المحلل له و أنه قال لعن الله الواصلة و المستوصلة و الواشمة و المستوشمة و النامصة و المتنمصة فالواصلة هي التي تصل شعرها ، و المستوصلة هي التي يوصل لها ، و النامصة هي التي تنتف الشعر من الحاجبين ، و المتنمصة التي يفعل بها ذلك و أنه صلى الله عليه و سلم لعن الصالقة و الحالقة و الشاقة فالصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة ، و الحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة ، و الشاقة هي التي تشق ثيابها عند المصيبة ، و أنه صلى الله عليه و سلم لعن المصورين ، و أنه لعن من غير منار الأرض أي حدودها ، و أنه قال لعن الله من لعن والديه ، و لعن من سب أمه و في السنن أنه قال لعن الله من أضل أعمى عن الطريق و لعن الله من أتى بهيمة ، و لعن الله من عمل عمل قوم لوط و أنه لعن من أتى كاهناً أو أتى امرأة في دبرها ، و لعن النائحة و من حولها ، و لعن من أم قوماً و هم له كارهون ، و لعن الله امرأة باتت و زوجها عليها ساخط ، و لعن رجلاً سمع حي على الصلاة ، حي على الفلاح ثم لم يجب و لعن من ذبح لغير الله ، و لعن السارق ، و لعن من سب الصحابة ، و لعن المخنثين من الرجال و المترجلات من النساء ، و لعن المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال و لعن المرأة تلبس لبسة الرجل و الرجل يلبس لبسة المرأة ، و لعن من سل سخيمته على الطريق يعني تغوط على طريق الناس ، و لعن السلتاء و المرأة السلتاء التي لا تخضب يديها ، و المرأة التي لا تكتحل ، ولعن من خبب امرأة على زوجها أو مملوكاً على سيده ـ يعني أفسدها أو أفسده ـ و لعن من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها ، و لعن من أشار إلى أخيه بحديدة ، و لعن مانع الصدقة يعني الزكاة ، و لعن من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، و لعن من كوى دابة في وجهها ، و لعن الشافع و المشفع في حدود الله إذا بلغ الحاكم ، و لعن المرأة إذا خرجت من دارها بغير إذن زوجها ، و لعنها إذا باتت هاجرة فراش زوجها حتى ترجع ، و لعن تارك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا أمكنه ، و لعن الفاعل و المفعول به ـ يعني اللواط ـ و لعن الخمرة و شاربها و ساقيها و مستقيها و بائعها و مبتاعها و عاصرها و معتصرها و حاملها و المحمولة إليه و آكل ثمنها و الدال عليها و قال صلى الله عليه و سلم ستة لعنتهم لعنهم الله و كل نبي مجاب الدعوة المكذب بقدر الله ، و الزائد في كتاب الله ، و المتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله و يذل من أعزه الله ، و المستحل لحرم الله ، و المستحل من عترتي ما حرم الله ، و التارك لسنتي و لعن الزاني بامرأة جاره ، و لعن ناكح يده ، و لعن ناكح الأم و ابنتها ، و لعن الراشي و المرتشي في الحكم و الرائش يعني الساعي بينهما ، و لعن من كتم العلم ، و لعن المحتكر ، و لعن من أخفر مسلماً يعني خذله و لم ينصره ، و لعن الوالي إذا لم يكن فيه رحمة ، و لعن المتبتلين من الرجال الذين يقولون لا نتزوج ، و المتبتلات من النساء ، و لعن راكب الفلاة وحده ، و لعن من أتى بهيمة نعوذ بالله من لعنته و لعنة رسوله
( فصل ) إعلم أن لعنة المسلم المصون حرام بإجماع المسلمين ، و يجوز لعن أصحاب الأوصاف المذمومة كقولك لعن الله الظالمين ، لعن الله الكافرين ، لعن الله اليهود و النصارى ، لعن الله الفاسقين ، لعن الله المصورين و نحو ذلك كما تقدم ، و أما لعن إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي كيهودي أو نصراني أو ظالم أو زان أو سارق أو آكل ربا فظواهر الأحاديث إنه ليس بحرام و أشار الغزالي رحمه الله إلى تحريمه إلا في حق من علمنا أنه مات على الكفر ، كأبي لهب و أبي جهل و فرعون و هامان و أشباههم ، قال لأن اللعن هو الإبعاد عن رحمة الله و ما ندري ما يختم به لهذا الفاسق و الكافر قال و أما الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأعيانهم كما قال اللهم العن رعلا و ذكوان و عصية عصوا الله و رسوله و هذه ثلاث قبائل من العرب فيجوز أنه صلى الله عليه و سلم علم موتهم على الكفر ، قال و يقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر حتى الدعاء على الظالم كقول الإنسان لا أصح الله جسمه و لا سلمه الله و ما جرى مجراه و كل ذلك مذموم ، و كذلك لعن جميع الحيوانات و الجمادات فهذا كله مذموم ، قال بعض العلماء من لعن من لا يستحق اللعن فليبادر بقوله إلا أن يكون لا يستحق
( فصل ) و يجوز للآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر و كل مؤدب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك ويلك ، أو يا ضعيف الحال ، أو يا قليل النظر لنفسه ، أو يا ظالم نفسه ، أو ما أشبه ذلك ، بحيث لا يتجاوز إلى الكذب ، و لا يكون فيه لفظ قذف صريح أو كناية أو تعريض و لو كان صادقاً في ذلك و إنما يجوز ما قدمناه و يكون الغرض من ذلك التأديب و الزجر ، و يكون الكلام أوقع في النفس و الله أعلم اللهم نزه قلوبنا عن التعليق بمن دونك ، و اجعلنا من قوم تحبهم و يحبونك ، و اغفر لنا و لوالدينا و لجميع المسلمين
( موعظة ) يا قليل الزاد و الطريق بعيد ، يا مقبلاً على ما يضر تاركاً لما يفيد أتراك يخفى عليك الأمر الرشيد ، إلى متى تضيع الزمان و هو يحصي برقيب و عتيد
مضى أمسك الماضي شهيداً معدلاً و أعقبه يوم عليك شهيد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فبادر بإحسان و أنت حميد
و لا تبق فضل الصالحات إلى غد فرب غد يأتي و أنت فقيد
إذا ما المنايا أخطأتك و صادفت حميمك فاعلم أنها ستعود




 
الغدر و عدم الوفاء بالعهد
الكبيرة الخامسة و الأربعون الغدر و عدم الوفاء بالعهد
قال الله تعالى و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا
قال الزجاج كل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو من العهد و قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود
قال الواحدي قال ابن عباس في رواية الوالبي ( العهود ) يعني ما أحل و ما حرم و ما فرض و ما حد في القرآن و قال الضحاك بالعهود التي أخذ الله على هذه الأمة أن يفوا بها مما أحل و حرم و ما فرض من الصلاة و سائر الفرائض و العهود و كذا العهود جمع عهد العقد بمعنى المعقود و هو الذي أحكم ما فرض الله علينا فقد أحكم ذلك ، و لا سبيل إلى نقضه بحال و قال مقاتل بن حبان أوفوا بالعقود التي عهد الله إليكم بالقرآن ، مما أمركم به من طاعته أن تعلموا بها و نهيه الذي نهاكم عنه و بالعهود الذي بينكم و بين المشركين و فيما يكون من العهد بين الناس و الله أعلم و قال النبي صلى الله عليه و سلم أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، و من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب ، و إذا ائتمن خان ، و إذا عاهد غدر ، و إذا خاصم فجر مخرج في الصحيحين و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان ابن فلان و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ، و رجل باع حراً فأكل ثمنه ، و رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل و لم يعطه أجره أخرجه البخاري و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة و لا حجة له ، و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية أخرجه مسلم و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحب أن يزحزح عن النار و يدخل الجنة فلتأته منيته و هو يأمن بالله و اليوم الآخر ، و ليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه و من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر




 
تصديق الكاهن و المنجم
الكبيرة السادسة و الأربعون : تصديق الكاهن و المنجم
قال الله تعالى : و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا
قال الواحدي في تفسير قوله تعالى : و لا تقف ما ليس لك به علم قال الكلبي : لا تقل ما ليس لك به علم و قال قتادة : لا تقل سمعت و لم تسمع و رأيت و لم تر و علمت و لم تعلم و المعنى : لا تقولن في شيء بما لا تعلم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا قال الوالبي عن ابن عباس : يسأل الله العباد فيم استعملوها و في هذا زجر عن النظر إلى ما لا يحل و الاستماع إلى ما يحرم و إرادة ما لا يجوز ، و الله أعلم و قال الله تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول قال ابن الجوزي : عالم الغيب هو الله عز و جل وحده لا شريك له في ملكه فلا يظهر : أي فلا يطلع على غيبه الذي لا يعلمه أحد من الناس إلا من ارتضى من رسول ، لأن الدليل على صدق الرسل إخبارهم بالغيب و المعنى أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من الغيب ففي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدل على الغيب فهو كافر و الله أعلم
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم و روينا في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الصبح في أثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس بوجهه فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : أصبح من عبادي مؤمن و كافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ، و أما من قال : مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب
قال العلماء : إن قال مسلم مطرنا بنوء كذا يريد أن النوء هو الموجد و الفاعل المحدث للمطر صار كافراً مرتداً بلا شك ، و إن قال مريداً أنه علامة نزول المطر و ينزل المطر عند هذه العلامة و نزوله بفعل الله خلقه لم يكفر ، و اختلفوا في كراهته ، و المختار أنه مكروه لأنه من ألفاظ الكفار و هذا ظاهر الحديث
و قوله : في أثر سماء ـ السماء هنا المطر ، و الله أعلم و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أتى عرافاً فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً رواه مسلم و عن عائشة رضي الله عنها قالت : سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم أناس عن الكهان فقال : ليس بشيء قالوا : يا رسول الله أليس قد قال كذا و كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرها في إذن وليه ـ أي يلقيها ـ فيخلط معها مائة كذبة مخرج في الصحيحين و عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان ـ و هو السحاب ـ فتذكر الأمر قضي في السماء ، فيسترق الشيطان السمع فيسمعه فيوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم رواه البخاري
و عن قبيصة بن أبي المخارق رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : العيافة و الطيرة و الطرق من الجبت رواه أبو داود و قال : الطرق : الزجر ، أي زجر الطير، و هو من يتيامن أو يتشاءم بطيرانه فإن طار إلى جهة اليمين تيمن ، و إن طار إلى جهة اليسار تشاءم قال أبو داود : العيافة الخط قال الجوهري : الجبت كلمة يقع على النم و الكاهن و الساحر و نحو ذلك و عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ، و قال علي بن أبي طالب : الكاهن ساحر و الساحر كافر فنسأل الله العافية و العصمة في الدنيا و الآخرة
موعظة : عباد الله تفكروا في سلفكم قبل تلفكم ، و انظروا في أموركم قبل حلول قبوركم ، فتأهبوا للرحيل قبل فوت تحويلكم ، أين الأقرن الأخوان ، أين من شيد الإيوان ، رحلوا و الله عن الأوطان و مزقت في اللحود تلك الأكفان هتف نذيرهم بأهل العرفان ـ كل من عليها فان ـ تقلبت بهم الأحوال و لعب بهم في أيدي الليالي و شغلوا عن الأولاد و الأموال ، و نسيهم أحباؤهم بعد ليال عانقوا التراب و فارقوا الأموال فلو أذن لأحدهم في المقال لقال
من رآنا فليحدث نفسه إنه وقف على قرب زوال
و صروف الدهر لا يبقى لها و لما تأتي به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال
و الأباريق عليهم قدمت وعتاق الخيل تردى بالجلال
عمروا دهراً بعيش ناعم أبيض دهرهم غير محال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم و كذلك الدهر يودي بالرجال



 
نشوز المرأة على زوجها
الكبيرة السابعة و الأربعون ـ نشوز المرأة على زوجها
قال الله تعالى و اللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن و اهجروهن في المضاجع و اضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً
قال الواحدي رحمه الله تعالى النشوز ههنا معصية الزوج و هو الترفع عليه بالخلاف و قال عطاء هو أن تتعطر له و تمنعه نفسها و تتغير عما كانت تفعله من الطواعية فعظوهن بكتاب الله و ذكروهن ما أمرهن الله به ، ، و اهجروهن في المضاجع قال ابن عباس هو أن يوليها ظهره على الفراش و لا يكلمها و قال الشعبي و مجاهد هو أن يهجر مضاجعتها فلا يضاجعها ، و اضربوهن ضرباً غير مبرح و قال ابن عباس أدباً مثل اللكزة ، و للزوج أن يتلافى نشوز امرأته بما أذن الله له مما ذكره الله في هذه الآية فإن أطعنكم فيما يلتمس منهن فلا تبغوا عليهن
قال ابن عباس فلا تتجنوا عليهن العلل و الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأت لعنتها الملائكة حتى تصبح و في لفظ ـ فبات و هو عليها غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح ـ و لفظ الصحيحين أيضاً إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها زوجها
و عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة ، و لا ترفع لهم إلى السماء حسنة العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم ، المرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى عنها ، و السكران حتى يصحو
و عن الحسن قال حدثني من سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول أول ما تسأل عنه المرأة يوم القيامة عن صلاتها و عن بعلها و في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر أن تصوم و زوجها شاهد إلا بإذنه و لا تأذن في بيته إلا بإذنه أخرجه البخاري و معنى شاهد أي حاضر غير غائب و ذلك في صوم التطوع فلا تصوم حتى تستأذنه لأجل وجوب حقه و طاعته و قال صلى الله عليه و سلم لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها رواه الترمذي و قالت عمة حصين بن محصن و ذكرت زوجها للنبي صلى الله عليه و سلم فقال انظري من أين أنت منه فإنه جنتك و نارك أخرجه النسائي ، و عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها و هي لا تستغني عنه و جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا خرجت المرأة من بيت زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع أو تتوب ، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أيما امرأة ماتت و زوجها عنها راض دخلت الجنة
فالواجب على المرأة أن تطلب رضا زوجها و تجتنب سخطه و لا تمتنع منه متى أرادها لقول النبي صلى الله عليه و سلم إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلتأته و إن كانت على التنور قال العلماء إلا أن يكون لها عذر من حيض أو نفاس فلا يحل لها أن تجيئه ، و لا يحل للرجل أيضاً أن يطلب ذلك منها في حال الحيض و النفاس ، و لا يجامعها حتى تغتسل ، لقول الله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن حتى يطهرن أي لا تقربوا جماعهن حتى يطهرن قال ابن قتيبة يطهرن ينقطع عنهن الدم ، فإذا تطهرن أي اغتسلن بالماء ، و الله أعلم
و لما تقدم عن النبي صلى الله عليه و سلم من أتى حائضاً أو امرأة من دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد و في حديث آخر ملعون من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها و النفاس مثل الحيض إلى الأربعين ، فلا يحل للمرأة أن تطيع زوجها إذا أراد إتيانها في حال الحيض و النفاس ، و تطيعه فيما عدا ذلك ، و ينبغي للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج فلا تتصرف في نفسها و لا في ماله إلا بإذنه و تقدم حقه على حقها ، و حقوق أقاربه على حقوق أقاربها ، و تكون مستعدة لتمتعه بها بجميع أسباب النظافة ، و لا تفتخر عليه بجمالها ، و لا تعيبه بقبح إن كان فيه قال الأصمعي دخلت البادية فإذا امرأة حسناء لها بعل قبيح فقلت لها كيف ترضين لنفسك أن تكوني تحت مثل هذا ؟ فقالت اسمع يا هذا ، لعله أحسن فيما بينه و بين الله خالقه فجعلني ثوابه و لعلي أسأت فجعله عقوبتي و قالت عائشة رضي الله عنها يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بخد وجهها
و قال صلى الله عليه و سلم نساؤكم من أهل الجنة الودود التي إذا آذت أو أوذيت أتت زوجها حتى تضع يدها في كفه فتقول لا أذوق غمضاً حتى ترضى
و يجب على المرأة أيضاً دوام الحياء من زوجها ، و غض طرفها قدامه ، و الطاعة لأمره ، و السكوت عند كلامه ، و القيام عند قدومه ، و الابتعاد عن جميع ما يسخطه ، و القيام معه عند خروجه ، و عرض نفسها عليه عند نومه ، و ترك الخيانة له في غيبته في فراشه و ماله و بيته ، و طيب الرائحة و تعاهد الفم بالسواك و بالمسك و الطيب ، و دوام الزينة بحضرته ، و تركها الغيبة ، و إكرام أهله و أقاربه وترى القليل منه كثيراً
فصل في فضل المرأة الطائعة لزوجها و شدة عذاب العاصية ينبغي للمرأة الخائفة من الله تعالى أن تجتهد لطاعة الله و طاعة زوجها و تطلب رضاه جهدها ، فهو جنتها و نارها لقول النبي صلى الله عليه و سلم أيما امرأة ماتت و زوجها راض عنها دخلت الجنة ، و في الحديث أيضاً إذا صلت المرأة خمسها ، و صامت شهرها ، و أطاعت بعلها فلتدخل من أي أبواب الجنة شاءت و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء ، و الحيتان في الماء ، و الملائكة في السماء ، و الشمس و القمر ما دامت في رضا زوجها و أيما امرأة عصت زوجها فعليها لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين و أيما امرأة كلحت في وجه زوجها فهي في سخط الله إلى أن تضاحكه و تسترضيه و أيما امرأة خرجت من دارها بغير إذن زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع
و جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أيضاً قال أربع من النساء في الجنة ، و أربع في النار فأما الأربع اللواتي في الجنة فامرأة عفيفة طائعة لله و لزوجها ، ولود صابرة قانعة باليسير مع زوجها ، ذات حياء إن غاب عنها حفظت نفسها و ماله ، و إن حضر أمسكت لسانها عنه ، و الرابعة امرأة مات عنها زوجها و لها أولاد صغار فحبست نفسها على أولادها و ربتهم و أحسنت إليهم و لم تتزوج خشية أن يضيعوا و أما الأربع اللواتي في النار من النساء فامرأة بذيئة اللسان على زوجها أي طويلة اللسان على زوجها أي طويلة اللسان فاحشة الكلام إن غاب عنها زوجها لم تصن نفسها و إن حضر آذته بلسانها و الثانية امرأة تكلف زوجها ما لا يطيق و الثالثة امرأة لا تستر نفسها من الرجال و تخرج من بيتها متبرجة و الرابعة امرأة ليس لها هم إلا الأكل و الشرب و النوم و ليس لها رغبة في الصلاة و لا في طاعة الله و لا طاعة رسوله و لا طاعة زوجها فالمرأة إذا كانت بهذه الصفة و تخرج من بيتها بغير إذن زوجها كانت ملعونة من أهل النار إلا أن تتوب إلى الله ، و قال النبي صلى الله عليه و سلم اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء و ذلك بسبب قلة طاعتهن لله و رسوله و لأزواجهن و كثرة تبرجهن ، و التبرج إذا أرادت الخروج لبست أفخر ثيابها و تجملت و تحسنت و خرجت تفتن الناس بنفسها فإن سلمت هي بنفسها لم يسلم الناس منها و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان
و أعظم ما تكون المرأة من الله ما كانت في بيتها ، و في الحديث أيضاً المرأة عورة فاحبسوها في البيوت ، فإن المرأة إذا خرجت إلى الطريق قال لها أهلها أين تريدين ؟ قالت أعود مريضاً، أشيع جنازة ، فلا يزال بها الشيطان حتى تخرج عن دارها و ما التمست المرأة رضا الله بمثل أن تقعد في بيتها و تعبد ربها و تطيع بعلها و قال علي رضي الله عنه لزوجته فاطمة رضي الله عنها يا فاطمة ما خير للمرأة ؟ قالت أن لا ترى الرجال و لا يروها و كان علي رضي الله عنه يقول ألا تستحون ، ألا تغارون ؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم و ينظرون إليها ! و كانت عائشة و حفصة رضي الله عنهما يوماً عند النبي صلى الله عليه و سلم جالستين ، فدخل ابن أم مكتوم و كان أعمى فقال النبي صلى الله عليه و سلم احتجبا منه ، فقالتا يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا و لا يعرفنا ؟ فقال صلى الله عليه و سلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه
فكما أنه ينبغي للرجل أن يغض من طرفه عن النساء ، فكذلك ينبغي للمرأة أن تغض طرفها عن الرجال ، كما تقدم من قول فاطمة رضي الله عنها إن خير ما للمرأة أن لا ترى الرجال و لا يروها فإن اضطرت للخروج لزيارة والديها و أقاربها و لأجل حمام و نحوه مما لا بد لها منه ، فلتخرج بإذن زوجها غير متبرجة في ملحفة و سخة في ثياب بيتها ، و تغض طرفها في مشيتها ، و تنظر إلى الأرض لا يميناً و لا شمالاً ، فإن لم تفعل ذلك و إلا كانت عاصية و قد حكي أن امرأة كانت من المتبرجات في الدنيا ، و كانت تخرج من بيتها متبرجة ، فماتت فرآها بعض أهلها في المنام و قد عرضت على الله عز و جل في ثياب رقاق ، فهبت ريح فكشفتها فأعرض الله عنها ، و قال خذوا بها ذات الشمال إلى النار فإنها كانت من المتبرجات في الدنيا
و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم أنا و فاطمة رضي الله عنها و وجدناه يبكي بكاءً شديداً ، فقلت له فداك أبي و أمي يا رسول الله ، ما الذي أبكاك ؟ قال يا علي ليلة أسري بي إلى السماء رأيت نساء من أمتي يعذبن بأنواع العذاب ، فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن ، و رأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغها ، و رأيت امرأة معلقة بلسانها و الحميم يصب في حلقها، و رأيت امرأة قد شدت رجلاها إلى ثدييها و يداها إلى ناصيتها ، و رأيت امرأة معلقة بثدييها ، و رأيت امرأة رأسها رأس خنزير و بدنها بدن حمار عليها ألف ألف لون من العذاب ، و رأيت امرأة على صورة الكلب و النار تدخل من فيها و تخرج من دبرها و الملائكة يضربون رأسها بمقامع من نار
فقامت فاطمة رضي الله عنها و قالت حبيبي و قرة عيني ما كان أعمال هؤلاء حتى وضع عليهن العذاب ؟ فقال صلى الله عليه و سلم يا بنية أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال ، و أما التي كانت معلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها ، و أما المعلقة بثدييها فإنها كانت تفسد فراش زوجها ، و أما التي تشد رجلاها إلى ثدييها و يداها إلى ناصيتها و قد سلط عليها الحيات و العقارب فإنها كانت لا تنظف بدنها من الجنابة و الحيض و تستهزىء بالصلاة و أما التي رأسها رأس خنزير و بدنها بدن حمار فإنها كانت نمامة كذابة و أما التي على صورة الكلب و النار تدخل من فيها و تخرج من دبرها فإنها كانت منانة حسادة
و عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تؤذي المرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله و يا بنية الويل لامرأة تعصي زوجها
( فصل ) و إذا كانت المرأة مأمورة بطاعة زوجها و بطلب رضاه ، فالزوج أيضاً مأمور بالإحسان إليها و اللطف بها ، و الصبر على ما يبدو منها من سوء خلق و غيره ، و إيصالها حقها من النفقة و الكسوة و العشرة الجميلة لقول الله تعالى و عاشروهن بالمعروف و لقول النبي صلى الله عليه و سلم استوصوا بالنساء ، ألا إن لكم على نسائكم حقا و لنسائكم عليكم حقا فحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن و طعامهن ، و حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ، و لا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون و قوله صلى الله عليه و سلم عوان أي أسيرات جمع عانية و هي الأسيرة ، شبه رسول الله صلى الله عليه و سلم المرأة في دخولها تحت حكم الرجل بالأسير
و قال صلى الله عليه و سلم خيركم خيركم لأهله و في رواية خيركم ألطفكم بأهله و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم شديد اللطف بالنساء و قال صلى الله عليه و سلم أيما رجل صبر على سوء خلق امرأته أعطاه الله الأجر مثل ما أعطى أيوب عليه السلام على بلائه ، و أيما امرأة صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله من الأجر مثل ما أعطى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون و قد روي أن رجلاً جاء إلى عمر رضي الله عنه يشكو خلق زوجته ، فوقف على باب عمر ينتظر خروجه ، فسمع امرأة عمر تستطيل عليه بلسانها و تخاصمه و عمر ساكت لا يرد عليها ، فانصرف الرجل راجعاً و قال إن كان هذا حال عمر مع شدته و صلابته ـ و هو أمير المؤمنين ـ فكيف حالي ؟ فخرج عمر فرآه مولياً عن بابه فناداه و قال ما حاجتك يا رجل ؟ فقال يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي و استطالتها علي فسمعت زوجتك كذلك فرجعت و قلت إذا كان حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي ؟ فقال عمر يا أخي إني احتملتها لحقوق لها علي إنها طباخة لطعامي ، خبازة لخبزي ، غسالة لثيابي ، مرضعة لولدي و ليس ذلك كله بواجب عليها ، و يسكن قلبي بها عن الحرام فأنا احتملتها لذلك فقال الرجل يا أمير المؤمنين و كذلك زوجتي قال عمر فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة
و حكي أن بعض الصالحين كان له أخ في الله و كان من الصالحين يزوره في كل سنة مرة ، فجاء لزيارته فطرق الباب ، فقالت امرأته من ؟ فقال أخو زوجك في الله جئت لزيارته ، فقالت راح يحتطب لا رده الله و لا سلمه و فعل به و فعل و جعلت تذمذم عليه فبينما هو واقف على الباب و إذا بأخيه قد أقبل من نحو الجبل و قد حمل حزمة الحطب على ظهر أسد و هو يسوق بين يديه ، فجاء فسلم على أخيه و رحب به ، و دخل المنزل و أدخل الحطب و قال للأسد اذهب بارك الله فيك ، ثم أدخل أخاه و المرأة على حالها تذمذم و تأخذ بلسانها و زوجها لا يرد عليها ، فأكل مع أخيه شيئاً ثم ودعه و انصرف و هو متعجب من صبر أخيه على تلك المرأة قال فلما كان العام الثاني جاء أخوه لزيارته على عادته فطرق الباب فقالت امرأته من بالباب ؟ قال أخو زوجك فلان في الله ، فقالت مرحباً بك و أهلاً و سهلاً ، اجلس فإنه سيأتي إن شاء الله بخير و عافية قال فتعجب من لطف كلامها و أدبها ، إذ جاء أخوه و هو يحمل الحطب على ظهره فتعجب أيضاً لذلك ، فجاء فسلم عليه و دخل الدار و أدخله و أحضرت المرأة طعاماً لهما و جعلت تدعو لهما بكلام لطيف ، فلما أراد أن يفارقه قال يا أخي أخبرني عما أريد أن أسألك عنه قال و ما هو يا أخي ؟ قال عام أول أتيتك فسمعت كلام امرأة بذيئة اللسان قليلة الأدب تذم كثيراً و رأيتك قد أتيت من نحو الجبل و الحطب على ظهر الأسد و هو مسخر بين يديك ، و رأيت العام كلام المرأة لطيفاً لا تذمذم و رأيتك قد أتيت بالحطب على ظهرك فما السبب ؟ قال يا أخي توفيت تلك المرأة الشرسة و كنت صابراً على خلقها و ما يبدو منها كنت معها في تعب و أنا أحتملها ، فكان الله قد سخر لي الأسد الذي رأيت يحمل عني الحطب بصبري عليها و احتمالي لها ، فلما توفيت تزوجت هذه المرأة الصالحة و أنا في راحة معها فانقطع عني الأسد ، فاحتجت أن أحمل الحطب على ظهري لأجل راحتي مع هذه المرأة المباركة الطائعة فنسأل الله أن يرزقنا الصبر على ما يحب و يرضى ، إنه جواد كريم




 
التصوير في الثياب و الحيطان و الحجر و الدراهم و سائر الأشياء
الكبيرة الثامنة و الأربعون : التصوير في الثياب و الحيطان و الحجر و الدراهم و سائر الأشياء سواء كانت من شمع أو عجين أو حديد أو نحاس أو صوف أو غير ذلك ، و الأمر بإتلافها
قال الله تعالى : إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذاباً مهينا
قال عكرمة : هم الذين يصنعون الصور ، و عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم مخرج في الصحيحين و عن عائشة رضي الله عنها قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم من سفر و قد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم تلون وجهه و قال : يا عائشة : أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله عز و جل قالت عائشة رضي الله عنها : فقطعته فجعلت منه وسادتين مخرج في الصحيحين القرام بكسر القاف و هو الستر ، و السهوة كالصفة تكون بين يدي البيت و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : كل مصور في النار ، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب في نار جهنم مخرج في الصحيحين ، و عنه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة و ليس بنافخ فيها أبداً و عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : يقول الله عز و جل : و من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة ، أو ليخلقوا ذرة مخرج في الصحيحين
و قال صلى الله عليه و سلم : يخرج عنق من النار يوم القيامة فيقول : إني وكلت بثلاثة : بكل من دعا مع الله إلهاً آخر ، و بكل جبار عنيد ، و بالمصورين و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب و لا صورة مخرج في الصحيحين
و في سنن أبي داود عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب و لا صورة و لا جنب وقال الخطابي رحمه الله تعالى قوله صلى الله عليه و سلم : لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب و لا صورة و لا جنب يريد الملائكة الذين ينزلون بالرحمة و البركة دون الملائكة الذين هم الحفظة ، فإنهم لا يفارقون الجنب و غير الجنب ، و قد قيل : إنه لم يرد الجنب الذي أصابته الجنابة فأخر الإغتسال إلى أوان حضور الصلاة ، و لكنه الذي يجنب و لا يغتسل و يتهاون بالغسل و يتخذه عادة فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد ، و في هذا تأخير الإغتسال عن أول وقت وجوبه
و قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينام و هو جنب و لا يمس ماء
و أما الكلب فهو أن يقتني كلباً لا لزرع و لا لضرع و لا صيد ، فأما إذا اضطر إليه فلا حرج للحاجة إليه في بعض الأمور ، أو لحراسة داره إذا اضطر إليه ، فلا حرج عليه إن شاء الله
و أما الصور فهي كل مصور من ذوات الأرواح ، سواء كانت لها أشخاص منتصبة أو كانت منقوشة في سقف أو جدار أو موضوعة في نمط ، أو منسوجة في ثوب أو مكان ، فإن قضية العموم تأتي عليه فليجتنب ، و بالله التوفيق
و يجب إتلاف الصور لمن قدر على إتلافها و إزالتها روى مسلم في صحيحه عن حيان بن حصين قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ، و لا قبراً مشرفاً إلا سويته
فنسأل الله التوفيق لما يحب و يرضى ، إنه جواد كريم




 

اللطم و النياحة و شق الثوب و حلق الرأس و نتفه و الدعاء بالويل و الثبور عند المصيبة
الكبيرة التاسعة و الأربعون اللطم و النياحة و شق الثوب و حلق الرأس و نتفه و الدعاء بالويل و الثبور عند المصيبة
روينا في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس منا من لطم الخدود و شق الجيوب و دعا بدعوى الجاهلية
و روينا في صحيحهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بريء من الصالقة و الحالقة و الشاقة الصالقة التي ترفع صوتها بالنياحة ، و الحالقة التي تحلق شعرها و تنتفه عند المصيبة ، و الشاقة التي تشق ثيابها عند المصيبة ، و كل هذا حرام باتفاق العلماء ، و كذلك يحرم نشر الشعر و لطم الخدود و خمش الوجه ، و الدعاء بالويل و الثبور
و عن أم عطية رضي الله عنها قالت أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في البيعة أن لا ننوح رواه البخاري ، و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب و النياحة على الميت رواه مسلم
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم النائحة و المستمعة رواه تعالى داود و عن أبي بردة قال وجع أبو موسى الأشعري فغشي عليه و رأسه في حجر امرأة من أهله فأقبلت تصيح برنة ، فلم يستطع أن يرد عليها ، فلما أفاق قال أنا بريء مما برىء منه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بريء من الصالقة و الحالقة و الشاقة
و عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تعدد عليه فتقول و اكذا واكذا ، فقال حين أفاق ما قلت شيئاً إلا قيل لي أنت كذا أنت كذا ، أخرجه البخاري
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الميت يعذب في قبره بما نيح عليه و عن أبي موسى رضي الله عنه قال ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول واسيداه واجبلاه ، واكذا واكذا ، و نحو ذلك إلا و كل به ملكان يلهزانه أهكذا أنت ؟ أخرجه الترمذي
و قال صلى الله عليه و سلم النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من جرب و قال صلى الله عليه و سلم إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة و لهو و لعب و مزامير شيطان ، و صوت عند مصيبة خمش في وجوه و شق في جيوب ورنة شيطان و قال الحسن صوتان ملعونان مزمار عند نغمة و رنة عند مصيبة
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن هذه النوائح يجعلن صفين في النار فينبحن في أهل النار كما تنبح الكلاب و عن الأوزاعي أن عمر بن الخطاب سمع صوت بكاء فدخل و معه غيره ، فمال عليهن ضرباً حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خمارها ، و قال اضرب فإنها نائحة و لا حرمة لها ، إنها لا تبكي بشجوكم إنها تهريق دموعها لأخذ دراهمكم ، و إنها تؤذي موتاكم في قبورهم ، و أحياكم في دورهم لأنها تنهي عن الصبر و قد أمر الله به ، و تأمر بالجزع و قد نهى الله عنه
و اعلم أن النياحة رفع صوت بالندب تعديد النائحة بصوتها محاسن الميت و قيل هو البكاء عليه مع ذكر محاسنه
قال العلماء و يحرم رفع الصوت بإفراط بالبكاء ، و أما البكاء على الميت من غير ندب و لا نياحة فليس بحرام روينا في صحيح البخاري و مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد سعد بن عبادة و معه عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص ، و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم ، فبكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه و سلم بكوا فقال ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين و لا بحزن القلب ، و لكن يعذب بهذا أو يرحم و أشار إلى لسانه و روينا في صحيحهما عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال سعد ما هذا يا رسول الله ؟ قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، و إنما يرحم الله من عباده الرحماء و روينا في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل على ابنه إبراهيم و هو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم تذرفان ، فقال له عبد الرحمن بن عوف و أنت يا رسول الله ؟ قال يا ابن عوف إنها رحمة ، ثم أتبعها بأخرى فقال إن العين لتدمع و القلب يحزن ، و لا نقول إلا ما يرضي ربنا و إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون
و أما الأحاديث الصحيحة أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فليست على ظاهرها و إطلاقها بل هي مؤولة ، و اختلف العلماء في تأويلها على أقوال أظهرها و الله أعلم أنها محمولة على أن يكون له سبب في البكاء إما أن يكون قد أوصاهم به أو غير ذلك
قال أصحاب الشافعي و يجوز قبل الموت و بعده و لكن قبله أولى للحديث الصحيح فإذا وجبت فلا تبكين باكية ، و قد نص الشافعي و الأصحاب لأنه يكره البكاء بعد الموت كراهة تنزيه و لا يحرم ، و تأولوا حديث فلا تبكين باكية على الكراهة و الله أعلم
فصل و إنما كان للنائحة هذا العذاب و اللعنة لأنها تأمر بالجزع و تنهى عن الصبر ، و الله و رسوله قد أمر بالصبر و الاحتساب ، و نهيا عن الجزع و السخط قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلاة إن الله مع الصابرين
قال عطاء عن ابن عباس يقول إني معكم أنصركم و لا أخذلكم قال الله تعالى و لنبلونكم أي لنعاملنكم معاملة المبتلي لأن الله يعلم عاقبة الأمور فلا يحتاج إلى الابتلاء ليعلم العاقبة و لكنه يعاملهم معاملة من يبتلي ، فمن صبر أثابه على صبره و من لم يصبر لم يستحق الثواب ، و قول الله بشيء من الخوف و الجوع قال ابن عباس يعني خوف العدو ، و الجوع يعني المجاعة و القحط ، و نقص من الأموال يعني الخسران و النقصان في المال و هلاك المواشي ، و الأنفس بالموت و القتل و المرض و الشيب ، و الثمرات يعني الحوائج ، و أن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج ثم ختم الآية بتبشير الصابرين ليدل على أن من صبر على هذه المصائب كان على وعد الثواب من الله تعالى فقال تعالى و بشر الصابرين ثم نعتهم فقال الذين إذا أصابتهم مصيبة أي نالتهم نكبة مما ذكر ، و لا يقال فيما أصيب بخير مصيبة قالوا إنا لله عبيد الله فيصنع بنا ما يشاء و إنا إليه راجعون بالهلاك و بالفناء ، و معنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى انفراده بالحكم ، إذ قد ملك في الدنيا قوماً الحكم ، فإذا زال حكم العباد رجع الأمر إلى الله عز و جل
و عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما من مصيبة يصاب بها المؤمن إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها رواه مسلم و عن علقمة بن مرثد بن سابط عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مات ولد العبد يقول الله للملائكة قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون حمدك و استرجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة و سموه بيت الحمد و عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يقول الله تعالى ما لعبدي عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة رواه البخاري
و قال عليه الصلاة و السلام من سعادة بني آدم رضاه بما قضى الله ، و من شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله تعالى و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال إذا قبض ملك الموت عليه السلام روح المؤمن قام على الباب و لأهل البيت ضجة ، فمنهم الصاكة وجهها ، و منهم الناشرة شعرها ، و منهم الداعية بويلها فيقول ملك الموت عليه السلام مم هذا الجزع و مم هذا الفزع ؟ فوالله ما انتقصت لأحد منكم عمراً ، و لا ذهبت لأحد منكم برزق ، و لا ظلمت لأحد منكم شيئاً فإن كانت شكايتكم و سخطكم علي فإني و الله مأمور ، و إن كان على ميتكم فإنه مقهور ، و إن كان على ربكم فأنتم به كافرون ، و إن لي بكم عودة بعد عودة حتى لا أبقي منكم أحداً
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي نفسي بيده لو يرون مكانه و يسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم و لبكوا على أنفسهم
فصل في التعزية
عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من عزى مصاباً فله مثل أجره رواه الترمذي
و عن أبي بردة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة رضي الله عنها من عزى ثكلى كسي برداً من الجنة رواه الترمذي
و عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة رضي الله عنها ما أخرجك يا فاطمة من بيتك ؟ قالت أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم و عزيتهم به
و عن عمرو حزم عن النبي صلى الله عليه و سلم ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة
و اعلم رحمك الله أن التعزية هي التصبير ، و ذكر ما يسلي صاحب الميت و يخفف حزنه و يهون مصيبته ، و هي مستحبة لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و هي أيضاً داخلة في قول الله تعالى و تعاونوا على البر و التقوى و هذا من أحسن ما يستدل به في التعزية
و أعلم أن التعزية ـ هي الأمر بالصبر ـ مستحبة قبل الدفن و بعده قال أصحاب الشافعي من حين يموت الميت و تبقى بعد الدفن إلى ثلاثة أيام قال أصحابنا و تكره التعزية بعد ثلاثة أيام ، لأن التعزية تسكن قلب المصاب ، و الغالب سكون قلبه بعد الثالثة فلا يجدد له الحزن ، هكذا قاله الجماهير من أصحابنا و قال أبو العباس من أصحابنا لا بأس بالتعزية بعد ثلاثة أيام بل تبقى أبداً و إن طال الزمان قال النووي رحمه الله و المختار أنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين استثناهما أصحابنا ، و هما إذا كان المعزى أو صاحب المصيبة غائباً حال الدفن و اتفق رجوعه بعد ثلاثة أيام ، و التعزية بعد الدفن أفضل منها قبله ، لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه ، و لأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر هذا إذا لم ير منهم جزعاً ، فإن رآه قدم التعزية ليسكنهم ، و الله أعلم و يكره الجلوس للتعزية ، يعني أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية ، و لفظ التعزية مشهور و أحسن ما يعزى به ما روينا في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال أرسلت إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه و سلم للرسول تدعوه و تخبره أن ابناً لها في الموت فقال عليه الصلاة و السلام للرسول ارجع إليها فأخبرها إن لله ما أخذ و له ما أعطى ، و كل شيء عنده بأجل مسمى ، فمرها فلتصبر و لتحتسب ، و ذكر تمام الحديث قال النووي رحمه الله فهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين و فروعه و الأداب ، و الصبر على النوازل كلها ، و الهموم و الأسقام ، و غير من ذلك من الأغراض
و معنى قوله صلى الله عليه و سلم إن لله ما أخذ أن العالم كله ملك لله ، لم يأخذ ما هو لكم بل هو أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية و قوله و له ما أعطي ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه ، بل هو له سبحانه يفعل فيه ما يشاء و كل شيء عنده بأجل مسمى ، فلا تجزعوا فإن من قبضه فقد انقضى أجله المسمى فمحال تأخيره أو تقديمه عنه ، فإذا علمتم هذا كله فاصبروا و احتسبوا ما نزل بكم و الله أعلم
و عن معاوية بن أياس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه فقد رجلاً من أصحابه فسأل عنه ، فقالوا يا رسول الله ابنه الذي رأيته هلك ، فلقيه النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك ، فعزاه عليه ثم قال يا فلان إيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ؟ فقال يا نبي الله يسبقني إلى الجنة يفتحها لي و هو أحب إلي قال فذلك لك فقيل يا رسول الله هذا له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال بل للمسلمين عامة و عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه خرج إلى البقيع فأتى امرأة جاثية على قبر تبكي فقال لها يا أمة الله اتقي الله و اصبري ، قالت يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلى قال يا أمة الله اتقي الله و اصبري قالت يا عبد الله لو كنت مصاباً عذرتني قال يا أمة الله اتقي الله و اصبري قالت يا عبد الله قد أسمعتني فانصرف قال فانصرف عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و بصر بها رجل من المسلمين فأتاها فسألها ما قال لك الرجل ؟ فأخبرته بما قال و بما ردت عليه ، فقال لها أتعرفينه ؟ قالت لا و الله قال ويحك ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فبادرت تسعى حتى أدركته ، فقالت يا رسول الله أصبر قال إنما الصبر عند الصدمة الأولى أي إنما يجمل الصبر عند مفاجأة المصيبة ، و أما فيما بعد فيقع السلو طبعاً و في صحيح مسلم مات ابن لأبي طلحة من أم سليم ، فقالت لأهله لا تحدثوا أبا طلحة حتى أكون أنا أحدثه ، فجاء أبو طلحة فقربت إليه عشاء فأكل و شرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تتصنع قبل ذلك فوقع بها ، فلما رأت أنه قد شبع و أصاب منها قالت يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم ؟ قال لا ، قالت أم سليم فاحتسب ابنك قال فغضب أبو طلحة ، فقال تركتني حتى إذا تلطخت أخبرتني بابني ، و الله لا تغلبيني على الصبر ، فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخبره بما كان ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بارك الله لكما في ليلتكما فذكر الحديث و في الحديث ما أعطي أحداً عطاء خيراً و أوسع من الصبر و قال علي رضي الله عنه للأشعث بن قيس إنك إن صبرت إيماناً و احتساباً و إلا سلوت كما تسلو البهائم و كتب حكيم إلى رجل قد أصيب بمصيبة إنك قد ذهب منك ما رزئت به فلا يذهبن عنك ما عرضت عنه و هو الأجر و قال آخر العاقل يصنع أول يوم من أيام المصيبة ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام ، قلت قد علم أن ممر الزمان يسلي المصاب ، فلذلك أمر الشارع بالصبر عند الصدمة الأولى ، و بلغ الشافعي رضي الله عنه أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله مات له ابن فجزع عليه عبد الرحمن جزعاً شديداً ، فبعث إليه الشافعي رحمه الله يقول يا أخي عز نفسك بما تعزي به غيرك و استقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك ، و اعلم أن أمضى المصائب فقد سرور و حرمان أجر ، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر ؟ فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه و قد نأى عنك ، ألهمك الله عند المصائب صبراً و احرز لنا و لك بالصبر أجراً ، و كتب إليه يقول
إني معزيك لا أني على ثقة من الحياة و لكن سنة الدين
فما المعزي بباق بعد ميته و لا المعزى و لو عاش إلى حين
و كتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه أما بعد فإن الولد على والده ما عاش حزن و فتنه ، فإذا قدمه فصلاة و رحمة ، فلا تحزن على ما فاتك من حزنه و فتنته ، و لا تضيع ما عوضك الله تعالى من صلاته و رحمته و قال موسى بن المهدي لإبراهيم بن سلمة و عزاه بابنه أسرك و هو بلية و فتنة و أحزنك و هو صلاة و رحمة ؟
و عزى رجل رجلاً فقال إن من كان لك في الآخرة أجراً خير ممن كان في الدنيا سروراً و فرحاً
و عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه دفن ابناً له ثم ضحك عند القبر ، فقيل له أتضحك عند القبر ؟ فقال أردت أن أرغم الشيطان و عن ابن جريج رحمه الله قال من لم يتعرض مصيبته بالأجر و الإحتساب سلا كما تسلو البهائم ، و عن حميد الأعرج قال رأيت سعيد بن جبير رحمه الله يقول في ابنه و نظر إليه إني أعلم خير خلة فيك ، قيل و ما هي ؟ قال بموت فاحتسبه
و عن الحسن البصري رحمه الله إن رجلاً حزن على ولد له و شكا ذلك إليه فقال الحسن كان ابنك يغيب عنك ؟ قال نعم كان غيبته أكثر من حضوره ، قال فاتركه غائباً فإنه لم يغب عنك غيبة إلا لك فيها أجر أعظم من هذه فقال يا أبا سعيد هونت علي وجدي على ابني
و دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال يا بني كيف تجدك ؟ ؟ قال أجدني في الحق قال يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك قال يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب
و مات ابن الإمام الشافعي فأنشد يقول
و ما الدهر إلا هكذا فاصطبر له رزيه مال أو فراق حبيب
و وقعت في رجل عروة الآكلة فقطعها من الساق و لم يمسكه أحد و هو شيخ كبير و لم يدع ورده تلك الليلة إلا إنه قال لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً و تمثل بهذه الأبيات
لعمري ما أهويت كفي لريبة و لا نقلتني نحو فاحشة رجلي
و لا قادني سمعي و لا بصري لها و لا دلني رأيي عليها و لا عقلي
و أعلم أني لم تصبني مصيبة من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
و قال رضي الله عنه اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت ، و إن كنت أخذت فقد أبقيت ، أخذت عضواً و أبقيت أعضاء و أخذت إبناً و أبقيت أبناء
و قدم على الوليد في تلك الليلة رجل أعمى من بني عبس فسأله عن عينيه فقال بت ليلة في بطن واد و لم أعلم في الأرض عبسياً ماله على مالي ، فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من مال و أهل و ولد غير بعير و صبي ، و كان البعير صعباً فند ـ أي شرد ـ فاتبعته ، فما جاوزت الصبي إلا بيسير حتى سمعت صوته فرجعت فإذا رأس الصبي في بطنه فقتله ، ثم اتبعت البعير لأخذه فنفحني برجله فأصاب وجهي فحطمه و أذهب عيني ، فأصبحت لا أهل لي و لا مال و لا ولد و لا بعير فقال الوليد انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الأرض من هو أشد منه بلاء
و ذكر أن عثمان رضي الله عنه لما ضرب جعل يقول و الدماء تسيل على لحيته لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، اللهم إني أستعين بك عليهم ، و استعينك على جميع أموري ، و أسألك الصبر على ما ابتليتني
و قال المدائني رأيت بالبادية امرأة لم أرى جلداً أنضر منها و لا أحسن وجهاً منها ، فقلت تالله إن فعل هذا بك الاعتدال و السرور ، فقالت كلا و الله إني لبدع أحزان و خلف هموم و سأخبرك كان لي زوج ، و كان لي منه إبنان ، فذبح أبوهما شاة في يوم الأضحى و الصبيان يلعبان ، فقال الأكبر للأصغر أتريد أن أريك كيف ذبح أبي الشاة قال نعم فذبحه ، فلما نظر إلى الدم جزع ففزع نحو الجبل فأكله الذئب ، فخرج أبوه في طلبه فتاه أبوه فمات عطشاً فأفردني الدهر فقلت لها و كيف أنت و الصبر ؟ فقالت لو دام لي لدمت له و لكنه كان جرحاً فاندمل
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من كان له فرطان من أمتي دخل الجنة يعني ولدين
قالت عائشة رضي الله عنها بأبي أنت و أمي فمن كان له فرط ؟ قال صلى الله عليه و سلم و من كان له فرط يا موفقة فمن لم يكن له فرط من أمتك ؟ قال أنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي
و عن عبيدة رضي الله عنه عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصناً من النار فقال أبو الدرداء قدمت اثنين ، قال و اثنين قال أبي كعب سيد القراء قدمت واحداً قال صلى الله عليه و سلم و واحداً و لكن ذلك في أول صدمة و عن وكيع قال كان لإبراهيم الحربي ابن و كان له عشرة سنة قد حفظ القرآن و تفقه من الفقه و الحديث شيئاً كثيراً ، فمات فجئت أعزيه قال لي كنت أشتهي موت ابني هذا قلت يا أبا اسحاق أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا ؟ قد أنجب و حفظ القرآن و تفقه الفقه و الحديث قال نعم رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت و كأن صبياناً في أيديهم قلال ماء يستقبلون الناس يسقونهم ، و كان اليوم يوم حار شديد حره ، قال ، فقلت لأحدهم اسقني من هذا الماء قال فنظر إلي ، و قال لي ليس أنت أبي فقلت و من أنتم ؟ نحن الصبيان الذين متنا في الإسلام و خلفنا آباءنا نستقبلهم فنسقيهم الماء ، قال فلهذا تمنيت موته
و روى مسلم عن أبي حسان قال قلت لأبي هريرة رضي الله عنه حدثنا بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا ، قال نعم ، صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه ، فيأخذ بثوبه أو قال بيده فلا ينتهي حتى يدخل الجنة
و عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال كنت في أول أمري مكباً على اللهو و شرب الخمر ، فاشتريت جارية و تسريت بها و ولدت لي بنتاً فأحببتها حباً شديداً ، إلى أن دبت و مشت فكنت إذا جلست لشرب الخمر جاءت و جذبتني عليه فأهرقته بين يدي ، فلما بلغت من العمر سنتين ماتت فاكمدني حزنها قال فلما كان ليلة النصف من شعبان بت و أنا ثمل من الخمر ، فرأيت في النوم كأن القيامة قد قامت و خرجت من قبري ، و إذا بتنين قد تبعني يريد أكلي ـ و التنين الحية العظيمة ـ قال فهربت منه فتبعني ، و صار كلما أسرعت يهرع خلفي و أنا خائف منه ، فمررت في طريقي على شيخ نقي الثياب ضعيف ، فقلت ، يا شيخ بالله أجرني من هذا التنين الذي يريد أكلي و إهلاكي فقال يا ولدي أنا شيخ كبير و هذا أقوى مني و لا طاقة لي به ، و لكن مر و أسرع فلعل الله أن ينجيك منه قال فأسرعت في الهرب و هو ورائي ، فأشرفت على طبقات النار و هي تفور ، فكدت أن أهوي فيها ، و إذا قائل يقول لست من أهلي فرجعت هارباً ، و التنين في أثري ، فأشرفت على جبل مستنير و فيه طاقات و عليها أبواب و ستور و إذا بقائل يقول أدركوا هذا البائس قبل أن يدركه عدوه فتحت الأبواب و رفعت الستور و أشرقت علي منها أطفال بوجوه كالأقمار و إذا ابنتي معهم ، فلما رأتني نزلت إلى كفة من نور ، و ضربت بيدها اليمنى إلى التنين فولى هارباً ، و جلست في حجري وقالت يا أبت ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق فقلت يا بنية و أنتم تعرفون القرآن ؟ قالت نحن أعرف به منكم قلت يا بنية ما تصنعون ههنا ؟ قالت نحن من مات من أطفال المسلمين أسكنا ههنا إلى يوم القيامة ننتظركم تقدمون علينا فقلت يا بنية ما هذا التنين الذي يطاردني و يريد إهلاكي ؟ قالت يا أبت ذلك عملك السوء قويته فأراد إهلاكك ، فقلت و من ذلك الشيخ الضعيف الذي رأيته ؟ قالت ذلك عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء فتب إلى الله و لا تكن من الهالكين ، قال ثم ارتفعت عني و استيقظت فتبت إلى الله من ساعتي
فانظر رحمك الله إلى بركة الذرية إذا ماتوا صغاراً ذكوراً كانوا أو إناثاً ، و إنما يحصل للوالدين النفع بهما في الآخرة إذا صبروا و احتسبوا و قالوا الحمد لله إنا لله و إنا إليه راجعون ، فيحصل لهم ما وعد الله تعالى بقوله الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله أي نحن و أموالنا يصنع بنا ما يشاء و إنا إليه راجعون إقرار بالهلاك و الفناء
و عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أصاب عبداً مصيبة إلا بإحدى خلتين ، إما بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بتلك المصيبة أو بدرجة لم يكن الله يبلغه إياها إلا بتلك المصيبة
و قال سعيد بن جبير لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم تعط الأنبياء قبلهم إنا لله و إنا إليه راجعون ، و لو أعطيته الأنبياء عليهم السلام لأعطيه يعقوب عليه السلام إذ يقول يا أسفي على يوسف
و عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من قال عند المصيبة إنا لله و إنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي و اخلف لي خيراً منها إلا آجره الله و أخلف له خيراً منها قالت فلما توفي أبو سلمة قالت من خير من أبي سلمة ؟ ثم قلتها فأخلفني الله رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه مسلم
و عن الشعبي أن شريحاً قال إني لأصاب المصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات أحمده إذا لم يكن أعظم منها ، و أحمده إذ رزقني الصبر عليها ، و أحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب ، و أحمده إذ لم يجعلها في ديني و قوله أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة الصلوات من الله الرحمة و المغفرة و أولئك هم المهتدون يريد الذين اهتدوا للترجيع و قيل إلى الجنة و الثواب
و عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال نعم العدلان و نعم العلاوة أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة نعم العدلان ، و أولئك هم المهتدون نعم العلاوة
و أما إذا سخط صاحب المصيبة و دعا بالويل و الثبور ، أو لطم خداً ، أو شق جيباً ، أو نشر شعراً أو حلقة أو قطعة أو نتفه فله السخط من الله تعالى و عليه اللعنة رجلاً كان أو امرأة
و قد روي أيضاً أن الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر ، و قد روي أن من أصابته مصيبة فخرق عليها ثوباً أو لطم خداً أو شق جيباً أو نتف شعراً فكأنما رمحاً يريد أن يحارب ربه و قد تقدم أن الله عز و جل لا يعذب ببكاء العين و لا بحزن القلب ، و لكن يعذب بهذا ـ يعني ما يقول صاحب المصيبة بلسانه ، يعني من الندب و النياحة ـ و قد تقدم أن الميت يعذب في قبره بما نيح عليه إذا قالت النائحة و اعضداه ، وا ناصراه ، و اكاسياه ، جبذ الميت و قيل له أنت عضدها ؟ أنت ناصرها ؟ أنت كاسها ؟ فالنواح حرام لأنه مهيج للحزن و دافع عن الصبر ، و فيه مخالفة التسليم للقضاء ، و الإذعان لأمر الله تعالى حكاية قال صالح المري كنت ذات ليلة جمعة بين المقابر فنمت ، وإذا بالقبور قد شققت و خرج الأموات منها و جلسوا حلقاً حلقاً ، و نزلت عليهم أطباق مغطية ، و إذا فيهم شاب يعذب بأنواع العذاب من بينهم قال فتقدمت إليه و قلت يا شاب ما شأنك من بين هؤلاء القوم ؟ فقال يا صالح بالله عليك بلغ ما آمرك به و أد الأمانة و ارحم غربتي ، لعل الله عز و جل أن يجعل لي على يديك مخرجاً إني لما مت و لي والدة جمعت النوادب و النوائح يندبن علي و ينحن كل يوم، فأنا معذب بذلك ، النار عن يميني و عن شمالي و خلفي و أمامي لسوء مقال أمي ، فلا جزاها الله عني خيراً ، ثم بكي حتى بكيت لبكائه ثم قال يا صالح بالله عليك اذهب إليها فهي في المكان الفلاني و علم لي المكان ، و قل لها لم تعذبي ولدك يا أماه ، ربيتني و من الأسواء وقيتني ، فلما مت في العذاب رميتني
يا أماه لو رأيتني الأغلال في عنقي و القيد في قدمي ، و ملائكة العذاب تضربني و تنهرني ، فلو رأيت سوء حالي لرحمتني ، و إن لم تتركي ما أنت عليه من الندب و النياحة ، الله بيني و بينك يوم تشقق سماء عن سماء ، و يبرز الخلائق لفصل القضاء قال صالح فاستيقظت فزعاً ، و مكثت في مكاني قلقاً إلى الفجر فلما أصبحت دخلت البلد و لم يكن لي هم إلا الدار التي لأم الصبي الشاب ، فاستدللت عليها فأتيتها ، فإذا بالباب مسود ، و صوت النوادب و النوائح خارج من الدار فطرقت الباب فخرجت إلي عجوز ، فقالت ما تريد يا هذا ؟ فقلت أريد أم الشاب الذي مات فقالت ما تصنع بها هي مشغولة بحزنها فقلت أرسليها إلي ، معي رسالة من ولدها فدخلت فأخبرتها ، فخرجت أم و عليها ثياب سود و وجهها قد اسود من كثرة البكاء و اللطم ، فقالت لي من أنت ؟ قلت أنا صالح المري جرى لي البارحة في المقابر مع ولدك كذا و كذا ، رأيته في العذاب و هو يقول يا أمي ربيتني و من الأسواء وقيتيني ، فلما مت في العذاب رميتيني ، و إن لم تتركي ما أنت عليه الله بيني و بينك يوم تشقق سماء عن سماء فلما سمعت ذلك غشي عليها و سقطت إلى الأرض ، فلما أفاقت بكت بكاءً شديداً ، و قالت يا ولدي يعز علي ، و لو علمت ذلك بحالك ما فعلت ، و أنا تائبة إلى الله تعالى من ذلك ، ثم دخلت و صرفت النوائح و لبست غير تلك الثياب ، و أخرجت إلي كيساً فيه دراهم كثيرة ، و قالت يا صالح تصدق بهذه عن ولدي قال صالح فودعتها و دعوت لها و انصرفت و تصدقت عن ولدها بتلك الدراهم ، فلما كان ليلة الجمعة الأخرى أتيت المقابر على عادتي فنمت ، فرأيت أهل القبور قد خرجوا من قبورهم و جلسوا على عادتهم ، و أتتهم الأطباق ، و إذ ذاك الشاب ضاحك فرح مسرور فجاءه أيضاً طبق فأخذه ، فلما رآني جاء إلي فقال يا صالح جزاك الله عني خيراً ، خفف الله عني العذاب ، و ذلك بترك أمي ما كانت تفعل ، و جاءني ما تصدقت به عني قال صالح فقلت و ما هذه الأطباق ؟ فقال هذه هدايا الأحياء لأمواتهم من الصدقة و القراءة و الدعاء ينزل عليهم كل ليلة جمعة يقال له هذه هدية فلان إليك فارجع إلى أمي و أقرئها مني السلام ، و قل لها جزاها الله عني خيراً ، قد وصل إلي ما تصدقت به عني و أنت عندي عن قريب فاستعدي قال صالح ثم استيقظت و أتيت بعد أيام إلى دار أم الشاب و إذا بنعش موضوع على الباب ، فقلت لمن هذا ؟ فقالوا لأم الشاب ، فحضرت الصلاة عليها و دفنت إلى جانب ولدها بتلك المقبرة فدعوت لهما و انصرفت
فنسأل الله أن يتوفانا مسلمين ، و يلحقنا بالصالحين ، و يعصمنا من النار ، إنه جواد كريم ، رؤوف رحيم






 
البغي
الكبيرة الخمسون البغي
قال الله تعالى إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم
و قال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد و لا يفخر أحد على أحد رواه مسلم
و في الأثر لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكاً
و قال صلى الله عليه و سلم ما من ذنب أجدر أن يجعل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي و قطيعة الرحم
و قد خسف الله بقارون الأرض حين بغى على قومه ، فقد أخبر الله تعالى عنه بقوله إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم إلى قوله فخسفنا به و بداره الأرض الآية قال ابن الجوزي رحمه الله في بغي قارون أقوال أحدها أنه جعل للبغية جعلاً على أن تقذف موسى عليه السلام بنفسها ففعلت ، فاستحلفها موسى على ما قالت فاخبرته بقصتها مع قارون و كان هذا بغية قاله ابن عباس
و الثاني أنه بغى بالكفر بالله عز و جل قاله الضحاك
و الثالث بالكفر قاله قتادة
و الرابع أنه أطال ثيابه شبراً قاله عطاء الخرساني ، أنه كان يخدم فرعون فاعتدى على بني اسرائيل فظلمهم حكاه الماوردي
قوله فخسفنا به و بداره الأرض الآية ، لما أمر قارون البغية بقذف موسى على ما سبق شرحه غضب موسى فدعا عليه فأوحى الله إليه إني قد أمرت الأرض أن تعطيك فمرها ، فقال موسى يا أرض خذيه ، فأخذته حتى غيبت سريره فلما رأى قارون ذلك ناشد موسى بالرحم ، فقال يا أرض خذيه فأخذته حتى غيبت قدميه ، فما زال يقول يا أرض خذيه حتى غيبته فأوحى الله إليه يا موسى و عزتي و جلالي لو استغاث بي لأغثته ! قال ابن عباس فخسفت به الأرض إلى الأرض السفلى قال سمرة بن جندب إنه كل يوم يخسف به قامة قال مقاتل فلما هلك قارون قال بنو اسرائيل إنما أهلكه موسى ليأخذ ماله و داره فخسف الله بداره و ماله بعد ثلاثة أيام
فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله أي يمنعونه من الله، و ما كان من المنتصرين أي من الممتنعين مما أنزل به ، و الله أعلم
اللهم إنك إذا قبلت سلمت ، و إذا أعرضت أسلمت ، و إذا وفقت أهمت ، و إذا خذلت إتهمت
اللهم اذهب ظلمة ذنوبنا بنور معرفتك و هداك ، و اجعلنا ممن أقبلت عليه فأعرض عمن سواك ، و اغفر لنا و لوالدينا و سائر المسلمين آمين





 
الاستطالة على الضعيف و المملوك و الجارية و الزوجة و الدابة
الكبيرة الحادية و الخمسون الاستطالة على الضعيف و المملوك و الجارية و الزوجة و الدابة
لأن الله تعالى قد أمر بالإحسان إليهم بقوله تعالى
و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً و بالوالدين إحساناً و بذي القربى و اليتامى والمساكين و الجار ذي القربى و الجار الجنب و الصاحب بالجنب و ابن السبيل و ما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً
قال الواحدي في قوله تعالى و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً أخبرنا أحمد بن إبراهيم المهرجاني بإسناده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال كنت رديف النبي صلى الله عليه و سلم على حمار ، فقال يا معاذ ، لبيك و سعديك يا رسول الله قال هل تدري ما حق الله على العباد و ما حق العباد على الله ؟ قلت الله و رسوله أعلم ، قال فإن حق الله على العباد أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئاً ، و حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً
و عن ابن مسعود رضي الله عنه قال أتى النبي صلى الله عليه و سلم أعرابي فقال يا نبي الله أوصني ، قال لا تشرك بالله شيئاً و إن قطعت و حرقت ، و لا تدع الصلاة لوقتها فإنها ذمة الله ، و لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر
قوله و بالوالدين إحساناً يريد البر بهما مع اللطف و لين الجانب ، و لا يغلظ لهما الجواب ، و لا يحد النظر إليهما ، و لا يرفع صوته عليهما ، بل يكون بين أيديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما قوله و بذي القربى قال يصلهم و يتعطف عليهم ، و اليتامى يرفق بهم و يدنيهم و يمسح رؤوسهم ، و المساكين ببذل يسير ورد جميل ، و الجار ذي القربى يعني الذي بينك و بينه قرابة فله حق القرابة و حق الجوار و حق الإسلام ، و و الجار الجنب هو الذي ليس بينك و بينه قرابة يقال رجل جنب إذا كان غريباً متباعداً أهله ، و قوم أجانب و الجنابة البعد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه و عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الجار ليتعلق بالجار يوم القيامة يقول يا رب أوسعت على أخي هذا و اقترب علي ، أمسي طاوياً و يمسي هذا شبعان ، سله لم أغلق بابه و حرمني ما قد أوسعت به عليه
و الصاحب بالجنب قال ابن عباس و مجاهد هو الرفيق في السفر له حق الجوار و حق الصحبة و ابن السبيل هو الضعيف يجب اقراؤه إلى أن يبلغ حيث يريد ، و قال ابن عباس هو عابر السبيل تؤويه و تطعمه حتى يرحل عنك و ما ملكت أيمانكم يريد المملوك يحسن رزقه و يعفو عنه فيما يخطىء قوله إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ، قال ابن عباس يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الله ، و الفخور هو الذي يفخر على عباد الله بما خوله الله من كرامته و ما أعطاه من نعمه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال بينما رجل شاب ممن كان قبلكم يمشي في حلة مختالاً فخوراً إذ ابتلعته الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة و عن أسامة قال سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من جر ثوبه خيلاً لم ينظر الله إليه يوم القيامة هذا ما ذكره الواحدي
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عند خروجه من الدنيا في آخر مرضه يوصي بالصلاة ، و بالإحسان إلى المملوك ، و يقول الله الله الصلاة و ما ملكت أيمانكم
و في الحديث حسن الملكة يمن و سوء الملكة شؤم و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة سيء الملكة
قال أبو مسعود رضي الله عنه كنت أضرب مملوكاً لي بالسوط فسمعت من صوتاً من ورائي اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام قال ، قلت يا رسول الله لا أضرب مملوكاً لي بعده أبداً و في رواية سقط السوط من يدي من هيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و في رواية فقلت هو حر لوجه الله ، فقال أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار يوم القيامة رواه مسلم و روى مسلم أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من ضرب غلاماً له حداً لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه ، و من حديث حكيم بن حزام قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا
و في الحديث من ضرب بسوط ظلماً اقتص منه يوم القيامة ، و قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم كم نعفو عن الخادم ؟ قال في اليوم سبعين مرة و كان في يد النبي صلى الله عليه و سلم يوماً سواك فدعا خادماً له فأبطأ عليه فقال لولا القصاص لضربتك بهذا السواك ، و كان لأبي هريرة رضي الله عنه جارية زنجية فرفع يوماً عليها السوط فقال لولا القصاص لأغشيتكيه و لكن سأبيعك لمن يوفيني ثمنك ، اذهبي فأنت حرة لوجه الله
و جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إني قلت لأمتي يا زانية ، قال و هل رأيت عليها ذلك ؟ قالت لا أما أنها ستستقيد منك يوم القيامة فرجعت إلى جاريتها فأعطتها سوطاً ، و قالت اجلديني فأبت الجارية فأعتقتها ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته بعتقها فقال ( عسى ) أي عسى أن يكفر عتقك لها ما قذفتها به
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من قذف مملوكه و هو بريء مما قاله جلد يوم القيامة حداً إلا أن يكون كما قال و في الحديث للملوك طعامه و كسوته و لا يكلف ما لا يطيق و كان صلى الله عليه و سلم يوصيهم عند خروجه من الدنيا و يقول الله الله في الصلاة و ما ملكت أيمانكم ، أطعموهم مما تأكلون و اكسوهم مما تكتسون ، و لا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون ، فإن كلفتموهم فأعينوهم و لا تعذبوا خلق الله ، فإنه ملككم إياهم و لو شاء لملكهم إياكم
و دخل جماعة على سلمان الفارسي رضي الله عنه و هو أمير على المدائن فوجدوه يعجن عجين أهله ، فقالوا له ألا تترك الجارية تعجن ؟ فقال رضي الله عنه إنا أرسلناها في عمل فكرهنا أن نجمع عليها عملاً آخر و قال بعض السلف لا تضرب الملوك في كل ذنب و لكن احفظ له ذلك ، فإذا عصى الله فاضربه على معصية الله و ذكره الذنوب التي بينك و بينه
( فصل ) و من أعظم الإساءة إلى الملوك و الجارية التفريق بينه و بين ولده ، أو بينه و بين أخيه لما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من فرق بين والدة و ولدها فرق الله بينه و بين أحبته يوم القيامة قال علي كرم الله وجهه وهب لي رسول الله صلى الله عليه و سلم غلامين أخوين فبعث أحدهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم رده رده و من ذلك أن يجوع الملوك و الجارية و الدابة يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته و من ذلك أن يضرب الدابة ضرباً وجيعاً أو يحبسها و لا يقوم بكفايتها ، أو يحملها فوق طاقتها فقد روي في تفسير قول الله تعالى و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم الآية قيل يؤتى بهم و الناس وقوف يوم القيامة فيقضي بينهم ، حتى أنه ليؤخذ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء حتى يقاد للذرة من الذرة ، ثم يقال لهم كونوا تراباً ، فهنالك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا و هذا من الدليل على القضاء بين البهائم و بينها و بين بني آدم ، حتى إن الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوعها أو عطشها أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بقدر ما ظلمها أو جوعها و الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً لا هي أطعمتها و سقتها إذ حبستها ، و لا تركتها تأكل من خشاش الأرض أي من حشراتها
و في الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم رأى امرأة معلقة في النار و الهرة تخدشها في وجهها و صدرها و هي تعذبها كما عذبتها في الدنيا بالحبس و الجوع ، و هذا عام في سائر الحيوان ، و كذلك إذا حملها فوق طاقتها تقتص منه يوم القيامة لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث فهذه بقرة أنطقها الله في الدنيا تدافع عن نفسها بأنها لا تؤذى و لا تستعمل في غير ما خلقت له ، فمن كلفها غير طاقتها أو ضربها بغير حق فيوم القيامة تقتص منه بقدر ضربه و تعذيبه
قال أبو سليمان الداراني ركبت مرة حماراً فضربته مرتين أو ثلاثاً ، فرفع رأسه و نظر إلي و قال يا أبا سليمان هو القصاص يوم القيامة فإن شئت فأقلل و إن شئت فأكثر قال فقلت لا أضرب شيئاً بعده أبداً
و مر ابن عمر بصبيان من قريش قد نصبوا طيراً و هم يرمونه و قد جعلوا لصاحبه كل خاطئة من نبلهم ، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال من فعل هذا ؟ لعن الله من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن من اتخذ فيه الروح غرضاً و الغرض كالهدف و ما يرمى إليه و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تصبر البهائم يعني أن تحبس للقتل ، و إن كان مما أذن الشرع بقتله كالحية و العقرب و الفأرة و الكلب العقور ، قتله بأول دفعة و لا يعذبه لقوله عليه الصلاة و السلام إذا قتلتم فأحسنوا القتلة و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، و ليحد أحدكم شفرته و ليرح ذبيحته
و كذلك لا يحرقه بالنار لما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً و فلاناً بالنار ، و إن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما
قال ابن مسعود كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها ، فجاءت الحمرة فجعلت ترفرف ، فجاء النبي صلى الله عليه و سلم و قال من فجع هذه بولدها ؟ ردوا عليها ولديها ، و رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم قرية نمل ـ أي مكان نمل ـ قد أحرقناها فقال من حرق هذه ؟ قلنا نحن ، فقال عليه الصلاة و السلام إنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا ربها و فيه من النهي عن القتل و التعذيب بالنار حتى في القملة و البرغوث و غيرهما
فصل و يكره قتل الحيوان عبثاً لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من قتل عصفوراً عبثاً عج إلى الله يوم القيامة ، و قال يا رب سل هذا لم قتلني عبثاً و لم يقتلني لمنفعة ؟
و يكره صيد الطير أيام فراخه لما روي ذلك في الأثر ، و يكره ذبح الحيوان بين يدي أمه لما روي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله ، قال ذبح رجل عجلاً بين يدي أمه فأيبس الله يده
فصل في فضل عتق المملوك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو من أعضائه عضواً من أعضائه من النار حتى يعتق فرجه بفرجه أخرجه البخاري
و عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أيما امرىء مسلم أعتق امرأ مسلماً كان فكاكاً له من النار يجزى كل عضو منه عضواً منه ، و أيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزي كل عضوين منهما عضواً منه ، و أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة إلا كانت فكاكها من النار يجزى كل عضو منها رواه الترمذي و صححه
اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين و عبادك الصالحين


 
أذى الجار
الكبيرة الثانية و الخمسون أذى الجار
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال و الله لا يؤمن و الله لا يؤمن قيل من يا رسول الله ؟ قال من لا يأمن جاره بوائقه أي غوائله و شروره ، و في رواية لا يدخل الجنة من لا يؤمن جاره بوائقه و سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أعظم الذنب عند الله فذكر ثلاث خلال أن تجعل لله نداً و هو خلقك ، و أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، و أن تزني بحليلة جارك و في الحديث من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره و الجيران ثلاثة جار مسلم قريب له حق الجوار و حق الإسلام و حق القرابة ، و جار مسلم له حق الجوار و حق الإسلام و الجار الكافر له حق الجوار و كان ابن عمر رضي الله عنهما له جار يهودي ، فكان إذا ذبح الشاة يقول احملوا إلى جارنا اليهودي منها و روي أن الجار الفقير يتعلق بالجار الغني يوم القيامة ، و يقول يا رب سل هذا لم منعني معروفه و أغلق عني بابه
و ينبغي للجار أن يحمل أذى الجار ، فهو من جملة الإحسان إليه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا قمت به دخلت الجنة فقال كن محسناً ، فقال يا رسول الله كيف أعلم أني محسن ؟ قال سل جيرانك فإن قالوا أنك محسن فأنت محسن ، و إن قالوا أنك مسيء فأنت مسيء ذكره البيهقي من رواية أبي هريرة ، و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من أغلق بابه عن جاره مخافة على أهله و ماله فليس بمؤمن ، و ليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه
و قيل لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره ، و لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره و في سنن أبي داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يشكوه جاره فقال له اذهب فاصبر ، فأتاه مرتين أو ثلاثاً ثم قال اذهب فاطرح متاعك على الطريق ، ففعل فجعل الناس يمرون به ، و يسألونه عن حاله فيخبرهم خبره مع جاره ، فجعلوا يلعنون جاره و يقولون فعل الله به و فعل و يدعون عليه ، فجاء إليه جاره و قال يا أخي ارجع إلى منزلك فإنك لن ترى ما تكره أبداً
و أن يحتمل أذى جاره و إن كان ذمياً ، فقد روي عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله أنه كان له جار ذمي ، و كان قد انبثق من كنيفه إلى بيت في دار سهل بثق ، فكان سهل يضع كل يوم الجفنة تحت ذلك البثق فيجتمع ما يسقط فيه من كنيف المجوسي و يطرحه بالليل حيث لا يراه أحد فمكث رحمه الله على هذه الحال زماناً طويلاً إلى أن حضرت سهلاً الوفاة ، فاستدعى جاره المجوسي و قال له ادخل ذلك البيت و انظر ما فيه ، فدخل فرأى ذلك البثق و القذر يسقط منه في الجفنة ، فقال ما هذا الذي أرى ؟ قال سهل هذا منذ زمان طويل يسقط من دارك إلى هذا البيت و أنا أتلقاه بالنهار و ألقيه بالليل ، و لولا أنه حضرني أجلي ، و أنا أخاف أن لا تتسع أخلاق غيري لذلك و إلا لم أخبرك فافعل ما ترى ، فقال المجوسي أيها الشيخ أنت تعاملني بهذه المعاملة منذ زمان طويل و أنا مقيم على كفري ؟ مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، ثم مات سهل رحمه الله
فنسأل الله أن يهدينا و إياكم لأحسن الأخلاق و الأعمال و الأقوال ، و أن يحسن عاقبتنا إنه جواد كريم رؤوف رحيم



 
أذى المسلمين و شتمهم
الكبيرة الثالثة و الخمسون : أذى المسلمين و شتمهم
قال الله تعالى : و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً و إثماً مبينا و قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان و من لم يتب فأولئك هم الظالمون
و قال الله تعالى : و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا
و قال صلى الله عليه و سلم : إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس أو تركه الناس اتقاء فحشه و قال صلى الله عليه و سلم : عباد الله إن الله وضع الحرج إلا من افترض بعرض أخيه فذلك الذي حرج أو هلك
و في الحديث كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه و قال عليه الصلاة و السلام المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يحقره ، بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم و فيه أيضاً سباب المسلم فسوق و قتاله كفر
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله إن فلانة تصلي الليل و تصوم النهار و تؤذي جيرانها بلسانها فقال : لا خير فيها هي في النار صححه الحاكم و في الحديث أيضاً اذكروا محاسن موتاكم و كفوا عن مساوءهم و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من دعا رجلاً بالكفر أو قال يا عدو الله و ليس كذلك إلا حار عليه و قال عليه الصلاة و السلام : مررت ليلة أسري بي بقوم لهم أظافر من النحاس يخمشون بها وجوههم و صدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم
( فصل ) في الترهيب من الإفساد و التحريش بين المؤمنين و بين البهائم و الدواب : صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب و لكن في التحريش بينهم ، فكل من حرش بين اثنين من بني آدم و نقل بينهما ما يؤذي أحدهما فهو نمام من حزب الشيطان من أشر الناس ، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : شراركم المشاؤون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرءاء العنت و العنت المشقة و صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يدخل الجنة نمام و النمام هو الذي ينقل الحديث بين الناس و بين اثنين بما يؤذي أحدهما أو يوحش قلبه على صاحبه أو صديقه بأن يقول له : قال عنك فلان كذا و كذا و فعل كذا و كذا ، إلا أن يكون في ذلك مصلحة أو فائدة ، كتحذيره من شر يحدث أو يترتب و أما التحريش بين البهائم و الدواب و الطير و غيرها ، فحرام كمناقرة الديوك و نطاح الكباش و تحريش الكلاب بعضها على بعض و ما أشبه ذلك و قد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فمن فعل ذلك فهو عاص لله و رسوله و من ذلك إفساد قلب المرأة على زوجها ، و العبد على سيده لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ملعون من خبب امرأة على زوجها أو عبداً على سيده نعوذ بالله من ذلك ( فصل ) في الترغيب في الإصلاح بين الناس ، قال الله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس و من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً قال مجاهد : هذه الآية عامة بين الناس ، يريد أنه لا خير فيما يتناجى فيه الناس و يخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ، و هو قوله إلا من أمر بصدقة ثم حذف المضاف أو معروف ، قال ابن عباس : بصلة الرحم و بطاعة الله ، و يقال لأعمال البر كلها معروف لأن العقول تعرفها قوله تعالى : أو إصلاح بين الناس هذا مما حث عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لأبي أيوب الأنصاري ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم قال : بلى يا رسول الله قال : تصلح بين الناس إذا تفاسدوا و تقرب بينهم إذا تباعدوا و روت أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله
و روي أن رجلاً قال لسفيان : ما أشد هذا الحديث ، قال سفيان : ألم تسمع إلى قول الله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف الآية فهذا هو بعينه
ثم علم سبحانه أن ذلك إنما ينفع من ابتغى به ما عند الله قال الله تعالى : و من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً أي ثواباً لا حد له
و في الحديث ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيرا رواه البخاري و قالت أم كلثوم و لم أسمعه صلى الله عليه و سلم يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاثة أشياء : في الحرب و الإصلاح بين الناس و حديث الرجل زوجته و حديث المرأة زوجها و عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر ، فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلح بينهم في أناس معه من أصحابه رواه البخاري
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما عمل شيء أفضل من مشي إلى الصلاة أو إصلاح ذات البين و حلف جائز بين المسلمين
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أصلح بين اثنين أصلح الله أمره و أعطاه بكل كلمة تكلم بها عتق رقبة و رجع مغفوراً له ما تقدم من ذنبه و بالله التوفيق
اللهم عاملنا بلطفك و تداركنا بعفوك يا أرحم الراحمين




 
أذية عباد الله و التطول عليهم
الكبيرة الرابعة و الخمسون أذية عباد الله و التطول عليهم
قال الله تعالى و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً و إثماً مبينا
و قال الله تعالى و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى قال من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب و في رواية فقد بارزني بالمحاربة أي أعلمته أني محارب له و في الحديث أن أبا سفيان أتى على سلمان و صهيب و بلال في نفر فقالوا ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ، فقال أبو بكر رضي الله عنه أتقولون هذا لشيخ قريش و سيدهم ؟ فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره ، فقال يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ، لقد أغضبت ربك فأتاهم أبو بكر رضي الله عنه فقال يا أخوتاه أغضبتكم ؟ قالوا لا يغفر الله لك يا أخي و قولهم مأخذها أي لم تستوف حقها منه
( فصل ) في قوله تعالى
و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه الآيات و هذه الآيات في تفضيل الفقراء ، و سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم أول من آمن به الفقراء ، و كذلك كل نبي أرسل أول من آمن به الفقراء ، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلس مع فقراء أصحابه مثل سلمان و صهيب و بلال و عمار بن ياسر رضي الله عنهم ، فأراد المشركون أن يحتالوا عليه في طرد الفقراء لما سمعوا أن علامة الرسل أن يكون أول أتباعهم الفقراء ، فجاء بعض رؤساء المشركين فقالوا يا محمد اطرد الفقراء عنك ، فإن نفوسنا تأنف أن تجالسهم ، فلو طردتهم عنك لآمن بك أشراف الناس و رؤساؤهم فأنزل الله تعالى و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه
فلما أيس المشركون من طردهم قالوا يا محمد إن لم تطردهم فاجعل لنا يوماً و لهم يوماً فأنزل الله تعالى
و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا
أي لا تتعداهم و لا تتجاوز بنظرك رغبة عنهم و طلباً لصحبة أبناء الدنيا
و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر
ثم ضرب لهم مثل الغني و الفقير بقوله و اضرب لهم مثلاً رجلين و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعظم الفقراء و يكرمهم
و لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة هاجروا معه فكانوا في صفة المسجد مقيمين متبتلين فسموا أصحاب الصفة ، فكان ينتمي إليهم من يهاجر من الفقراء حتى كثروا رضي الله عنهم هؤلاء شاهدوا ما أعد الله لأوليائه من الإحسان و عاينوه بنور الإيمان فلم يعلقوا قلوبهم بشيء من الأكوان بل قالوا إياك نعبد و لك نخضع و نسجد و بك نهتدي و نسترشد ، و عليك نتوكل و نعتمد و بذكرك نتنعم و نفرح ، و في ميدان ودك نرتع و نسرح و لك نعمل و نكدح و عن بابك أبداً لا نبرح ، فحينئذ عمر لهم سبيله و خاطب فيهم رسوله فقال و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة الآية ، أي و لا تطرد قوماً أمسوا على ذكر ربهم يتقلبون ، و إن أصبحوا فلبابه ينقلبون لا تطرد قوماً المساجد مأواهم و الله مطلوبهم و مولاهم ، و الجوع طعامهم و السهر إذا نام الناس أدامهم ، و الفقر و الفاقة شعارهم ، و المسكنة و الحياء دثارهم ربطوا خيل عزمهم على باب مولاهم ، و بسطوا وجوههم في محاريب نجواهم ، فالفقر عام و خاص ، فالعام الحاجة إلى الله تعالى و هذا وصف كل مخلوق مؤمن و كافر ، و هو معنى قوله تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله الآية ، و الخاص وصف أولياء الله و أحبائه خلو اليدين من الدنيا و خلو القلب من التعلق بها ، اشتغالاً بالله عز و جل و شوقاً إليه ، و أنساً بالفراغ و الخلوة مع الله عز و جل
اللهم أذقنا حلاوة مناجاتك ، و أن تسلك بنا طريق مرضاتك ، و اقطع عنا كل ما يبعدنا من حضرتك ، و يسر لنا ما يسرته لأهل محبتك ، و اغفر لنا و لوالدينا و للمسلمين





 
إسبال الإزار و الثوب و اللباس و السراويل تعززاً و عجباً و فخراً و خيلاء
الكبيرة الخامسة و الخمسون : إسبال الإزار و الثوب و اللباس و السراويل تعززاً و عجباً و فخراً و خيلاء
قال الله تعالى : و لا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار
و قال عليه الصلاة و السلام : لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً و قال عليه الصلاة و السلام : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم : المسبل و المنان و المنفق سلعته بالحلف الكاذب
و في الحديث أيضاً : بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
و قال عليه الصلاة و السلام : من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، و قال صلى الله عليه و سلم الإسبال في الإزار و العمامة من جر شيئاً منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة
و قال عليه الصلاة و السلام : إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه و لا حرج عليه فيما بينه و بين الكعبين ، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار
و هذا عام في السراويل و الثوب و الجبة و القباء و الفرجية و غيرها من اللباس فنسأل الله العافية ، و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره قال له رسول الله : اذهب فتوضأ ، ثم جاء فقال اذهب فتوضأ فقال له رجل يا رسول الله ما لك أمرته أن يتوضأ ؟ ثم سكت عنه فقال : إنه كان يصلي و هو مسبل إزاره ، و لا يقبل الله صلاة رجل مسبلاً إزاره
و لما قال صلى الله عليه و سلم : من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده ، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك لست ممن يفعله خيلاء اللهم عاملنا بلطفك الحسن الجميل برحمتك يا أرحم الراحمين




 
لبس الحرير و الذهب للرجال
الكبيرة السادسة و الخمسون : لبس الحرير و الذهب للرجال
في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة و هذا عام في الجند و غيرهم لقوله صلى الله عليه و سلم : حرم لبس الحرير و الذهب على ذكور أمتي
و عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نشرب في آنية الذهب و الفضة و أن نأكل فيها ، و عن لبس الحرير و الديباج و أن نجلس عليها ، أخرجه البخاري
فمن استحل لبس الحرير من الرجال فهو كافر ، و إنما رخص فيه الشارع صلى الله عليه و سلم لمن به حكة أو جرب أو غيره ، و للمقاتلين عند لقاء العدو و أما لبس الحرير للزينة في حق الرجال فحرام بإجماع المسلمين ، سواء كان قباء أو قبطياً أو كلوثة و كذلك إذا كان الأكثر حريراً كان حراماً ، و كذلك الذهب لبسه حرام على الرجال ، سواء كان خاتماً أو حياصة أو سقط سيف حرام لبسه و عمله و قد رأى النبي صلى الله عليه و سلم في يد رجل خاتماً من ذهب فنزعه و قال : يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده و كذلك طراز الذهب و كلوثة الزركش حرام على الرجال و اختلف العلماء في جواز إلباس الصبي الحرير و الذهب فرخص فيه قوم و منع آخرون لعموم قوله صلى الله عليه و سلم عن الحرير و الذهب : هذان حرام على ذكور أمتي حل لأناثهم فدخل الصبي في النهي ، و هذا مذهب الإمام أحمد و آخرين رحمهم الله
فنسأل الله التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم



 
اباق العبد
الكبيرة السابعة و الخمسون : اباق العبد
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة . و قال صلى الله عليه و سلم : أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة . و روى ابن خزيمة في صحيحه من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة و لا يصعد لهم إلى السماء حسنة : العبد الآبق حتى يرجع إلى مولاه ، و المرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى ، و السكران حتى يصحو . و عن فضالة بن عبيد مرفوعاً : ثلاثة لا يسأل عنهم : رجل فارق الجماعة و عصى إمامه و عبد آبق و مات عاصياً ، و امرأة غاب عنها زوجها و قد كفاها المؤونة فتبرجت بعده ـ أي أظهرت محاسنها كما يفعل أهل الجاهلية و هم ما بين عيسى و محمد صلى الله عليه و سلم كذا ذكره الواحدي رحمه الله





 
الذبح لغير الله عز و جل
الكبيرة الثامنة و الخمسون الذبح لغير الله عز و جل
مثل من يقول بسم الشيطان أو الصنم أو باسم الشيخ فلان قال الله تعالى و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه قال ابن عباس يريد الميتة و المنخنقة إلى قوله و ما ذبح على النصب و قال الكلبي ما لم يذكر اسم الله عليه أو يذبح لغير الله تعالى و قال عطاء ينهي عن ذبائح كانت تذبحها قريش و العرب على الأوثان و قوله إنه لفسق يعني و إن كل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة فسق أو خروج عن الحق و الدين و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم أي يوسوس الشيطان لوليه فيلقي في قلبه الجدال بالباطل ، و هو أن المشركين جادلوا المؤمنين في الميتة قال ابن عباس أوحى الشيطان إلى أوليائه من الأنس كيف تعبدون شيئاً لا تأكلون ما يقتل و أنتم تأكلون ما قتلتم ؟ فأنزل الله هذه الآية و إن أطعتموهم يعني في استحلال الميتة إنكم لمشركون ، قال الزجاج و في هذا دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله أو حرم شيئاً مما أحل الله فهو مشرك
فإن قيل كيف أبحتم ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية و الآية كالنص في التحريم ؟ قلت إن المفسرين فسروا ما لم يذكر اسم الله عليه في هذه الآية بالميتة و لم يحمله أحد على ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية و في الآية أشياء تدل أن الآية في تحريم الميتة و منها قوله و إنه لفسق و لا يفسق آكل ذبيحة المسلم التارك للتسمية
و منها قوله و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم و المناظرة إنما كانت في الميتة بإجماع من المفسرين لا في ذبيحة تارك التسمية من المسلمين ، و منها قوله و إن أطعتموهم إنكم لمشركون و الشرك في استحلال الميتة لا في استحلال الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها
و قد أخبرنا أبو منصور بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أرأيت الرجل منا يذبح و ينسى أن يسمي الله تعالى ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم اسم الله على فم كل مسلم
و أخبرنا أبو منصور أيضاً بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يكفيه اسمه و إن نسي يسمي حين يذبح فليسم و يذكر الله ثم ليأكل
و أخبرنا عمرو بن أبي عمرو بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا يا رسول الله إن قوماً يأتونا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم سموا عليه و كلوا ، هذا آخر كلام الواحدي رحمه الله و قد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم لعن الله من ذبح لغير الله




 
فيمن ادعى إلى غير أبيه و هو يعلم
الكبيرة التاسعة و الخمسون : فيمن ادعى إلى غير أبيه و هو يعلم
عن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من ادعى إلى غير أبيه و هو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام رواه البخاري
و عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كافر رواه البخاري
و فيه أيضاً من ادعى إلى غير أبيه فعليه لعنة الله و عن زيد بن شريك قال : رأيت علياً رضي الله عنه يخطب على المنبر فسمعته يقول : و الله ما عندنا من كتاب نقرؤه إلا كتاب الله تعالى و ما في هذه الصحيفة فنشرها ، فإذا فيها أسنان الإبل و شيء من الجراحات ، و فيها : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : المدينة حرام ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثاً ، أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ، لا يقبل الله يوم القيامة منه صرفاً و لا عدلا ، و من تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك ، و ذمة المسلمين واحدة رواه البخاري و عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ليس منا رجلاً ادعى إلى غير أبيه و هو يعلمه إلا كفر ، و من ادعى ما ليس له فليس منا و ليتبوأ مقعده من النار و من دعا رجلاً بالكفر أو قال يا عدو الله و ليس كذلك إلا حار عليه ، أي رجع عليه ، و رواه مسلم فنسأل الله العفو و العافية و التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم




 
الوسوم
الكبائر
عودة
أعلى