فوائد من سورة القران


سورة البروج
البروج
37- واختار ابن جرير أنها: منازل الشمس والقمر، وهي اثنا عشر برجا، تسير الشمس في كل واحد منها شهرًا، ويسير القمر في كل واحد يومين وثلثا، فذلك ثمانية وعشرون منزلة ويستسرّ ليلتين.(البروج:1)
الشاهد والمشهود
38- ... وعن سعيد بن جبير: الشاهد: الله، وتلا { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء: 79]، والمشهود: نحن. حكاه البغوي، وقال: الأكثرون على أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة. .(البروج:3)
قصة أصحاب الأخدود
39- وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهَيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت سِنِّي وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر...
وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح عن هُدْبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به نحوه ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان، عن عفان، عن حماد بن سلمة ومن طريق حماد بن زيد، كلاهما عن ثابت، به واختصروا أوله. وقد جَوّده الإمام أبو عيسى الترمذي، فرواه في تفسير هذه السورة عن محمود بن غَيلانَ وعَبد بن حُمَيد-المعنى واحد- قالا أخبرنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهَيب قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى العصر هَمَس- والهَمس في قول بعضهم: تحريك شفتيه كأنه يتكلم- فقيل له: إنك- يا رسول الله- إذا صليت العصر همست؟ قال: "إن نبيا من الأنبياء، كان أُعجِب بأمته فقال: من يقوم لهؤلاء؟. فأوحى الله إليه أن خيرهم بين أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدوهم. فاختاروا النقمة، فسلَّط عليهم الموت، فمات منهم في يوم سبعون ألفا". قال: وكان إذا حَدّث بهذا الحديث، حَدّث بهذا الحديث الآخر قال: كان مَلك من الملوك، وكان لذلك الملك كاهن تكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلامًا فَهِمًا- أو قال: فطنًا لَقنًا- فأعلمه علمي هذا فذكر القصة بتمامها، وقال في آخره يقول الله -عز وجل-: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ } حتى بلغ: { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } قال: فأما الغلام فإنه دفن قال: فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب، وإصبعه على صُدغه كما وضعها حين قتل. ثم قال الترمذي: حسن غريب.
وهذا السياق ليس فيه صراحة أن سياق هذه القصة من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي: فيحتمل أن يكون من كلام صُهَيب الرومي، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، والله أعلم. (البروج:4)
... وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديما بعد زمان إسماعيل، عليه السلام، بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمان الفترة التي بين عيسى ومحمد، عليهما من الله السلام، وهو أشبه، والله أعلم.
وقد يحتمل أن ذلك قد وقع في العالم كثيرًا، كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير قال: كانت الأخدود في اليمن زمان تبع، وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد، فاتخذوا أتّونا، وألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد. وفي العراق في أرض بابل بختنصر، الذي وضع الصنم وأمر الناس أن يسجدوا له، فامتنع دانيال وصاحباه: عزريا وميشائيل، فأوقد لهم أتونا وألقى فيه الحطب والنار، ثم ألقاهما فيه، فجعلها الله عليهما بردًا وسلاما، وأنقذهما منها، وألقى فيها الذين بغوا عليه وهم تسعة رهط، فأكلتهم النار.
وقال أسباط، عن السدي في قوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ } قال: كانت الأخدود ثلاثة: خَدّ بالعراق، وخَدّ بالشام، وخَدّ باليمن. رواه ابن أبي حاتم.
وعن مقاتل قال: كانت الأخدود ثلاثة: واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس، أما التي بالشام فهو أنطنانوس الرومي، وأما التي بفارس فهو بختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله فيهم قرآنا، وأنزل في التي كانت بنجران. (البروج:4)
قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة
40- وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي: حَرقوا قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن أبْزَى.
{ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } أي: لم يقلعوا عما فعلوا، ويندموا على ما أسلفوا.
{ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } وذلك أن الجزاء من جنس العمل. قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة(البروج: 10)
إعراب المجيد
41- و { الْمَجِيدُ } فيه قراءتان: الرفع على أنه صفة للرب، عز وجل. والجر على أنه صفة للعرش، وكلاهما معنى صحيح. (البروج: 15)

 

سورة الطارق
الطارق
42- قال قتادة وغيره: إنما سمي النجم طارقا؛ لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار. ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح: نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا أي: يأتيهم فجأة بالليل. وفي الحديث الآخر المشتمل على الدعاء: "إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن" (الطارق:1)
فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ
43- وقوله: { فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ } تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خُلق منه، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد؛ لأن من قدر على البَدَاءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى، كما قال: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27].
وقوله: { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } يعني: المني؛ يخرج دَفقًا من الرجل ومن المرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله، عز وجل؛ ولهذا قال: { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } يعني: صلب الرجل وترائب المرأة، وهو صدرها. (الطارق:5)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
44- وقوله: { إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } فيه قولان:
أحدهما: على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. قاله مجاهد،وعكرمة، وغيرهما.
والقول الثاني: إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق، أي: إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر؛ لأن من قدر على البدء قدر على الإعادة.
وقد ذكر الله، عز وجل، هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع، وهذا القول قال به الضحاك، واختاره ابن جرير. ولهذا قال: { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } أي: يوم القيامة تبلى فيه السرائر، أي: تظهر وتبدو، ويبقى السر علانية والمكنون مشهورا. وقد ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يرفع لكل غادر لواء عند استه يقال: هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان". (الطارق:8-9)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ
45- قال ابن عباس: الرجع: المطر. وعنه: هو السحاب فيه المطر. وعنه: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } تمطر ثم تمطر.
وقال قتادة: ترجع رزق العباد كل عام، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم.
وقال ابن زيد: ترجع نجومها وشمسها وقمرها، يأتين من هاهنا.
{ وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات. وكذا قال سعيد بن جُبَير وعكرمة، وأبو مالك، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد. (الطارق:11-12)



 

سورة الأعلى
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى
46- وقوله: { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } قال مجاهد: هدى الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها.
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون: { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه:5] أي: قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عَمرو: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.(الأعلى:3)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى
47- وقوله: { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } أي: من جميع صنوف النباتات والزروع، { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } قال ابن عباس: هشيما متغيرا. وعن مجاهد، وقتادة، وابن زيد، نحوه.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر إلى السواد، فجعله غثاء بعد ذلك. ثم قال ابن جرير: وهذا وإن كان محتملا إلا أنه غير صواب؛ لمخالفته أقوال أهل التأويل. (الأعلى:4)
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى
48- وقوله: { سَنُقْرِئُكَ } أي: يا محمد { فَلا تَنْسَى } وهذا إخبار من الله، عز وجل، ووعد منه له، بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها، { إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ } وهذا اختيار ابن جرير.
وقال قتادة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينسى شيئا إلا ما شاء الله.
وقيل: المراد بقوله: { فَلا تَنْسَى } طلب، وجعلوا معنى الاستثناء على هذا ما يقع من النسخ، أي: لا تنسى ما نقرئك إلا ما شاء الله رفعه؛ فلا عليك أن تتركه. (الأعلى:6)
الأدب في نشر العلم
49- وقوله: { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } أي: ذكِّر حيث تنفع التذكرة. ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه: ما أنت بمحدِّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال: حدث الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!(الأعلى:9)




 

سورة الغاشية
50- الغاشية: من أسماء يوم القيامة. قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد؛ لأنها تغشى الناس وتَعُمّهم.(الغاشية:1)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ
51- { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } أي: سارحة. وهذه نكرة في سياق الإثبات، وليس المراد بها عينا واحدة، وإنما هذا جنس، يعني: فيها عيون جاريات. .(الغاشية:12)
{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }
52- يقول تعالى آمرًا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته: { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } ؟ فإنها خَلق عجيب، وتركيبها غريب، فإنها في غاية القوة والشدة، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل، وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها. ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل، وكان شريح القاضي يقول: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت؟ أي: كيف رفعها الله، عز وجل، عن الأرض هذا الرفع العظيم، كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } [ق:6]. { وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } أي: جعلت منصوبة قائمة ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن.
{ وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } ؟ أي: كيف بسطت ومدت ومهدت، فنبَّه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه، والسماء التي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه، والأرض التي تحته-على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنه الرب العظيم الخالق المتصرف المالك، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه. وهكذا أقسم "ضِمَام" في سؤاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه الإمام أحمد (الغاشية: 17)



 


سورة الفجر
ما المراد بالفجر وليال عشر؟
53- أما الفجر فمعروف، وهو: الصبح. قاله علي، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي. وعن مسروق، ومجاهد، ومحمد بن كعب: المراد به فجر يوم النحر خاصة، وهو خاتمة الليالي العشر.
وقيل: المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده، كما قاله عكرمة.
وقيل: المراد به جميع النهار. وهو رواية عن ابن عباس.
والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف. وقد ثبت في صحيح البخاري، عن ابن عباس مرفوعا: "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام" -يعني عشر ذي الحجة -قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء" وقيل: المراد بذلك العشر الأول من المحرم، حكاه أبو جعفر ابن جرير ولم يعزه إلى أحد وقد روى أبو كُدَيْنة، عن قابوس بن أبي ظِبْيان، عن أبيه، عن ابن عباس: { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } قال: هو العشر الأول من رمضان.والصحيح القول الأول؛(الفجر:1-2)
{ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ }
54- وقوله: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة، لكونه التاسع، وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر
قول ثان: الشفع يوم عرفة، والوتر ليلة الأضحى.
قول ثالث: الشفع قول الله، عز وجل: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } والوتر قوله: { وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] .
قول رابع: الخلق كلهم شفع، ووتر، أقسم تعالى بخلقه. وهو رواية عن مجاهد، والمشهور عنه الأول.
قول خامس: عن مجاهد: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قال: الشفع الزوج، والوتر: الله عز وجل.
قول سادس: قال قتادة، عن الحسن: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } هو العدد، منه شفع ومنه وتر.
قول سابع: "الشفع اليومان، والوتر اليوم الثالث"
ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر. (الفجر: 3). بتصرف كبير.
{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ }
55- وقوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } قال العوفي، عن ابن عباس: أي إذا ذهب.
وقال عبد الله بن الزبير: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } حتى يذهب بعضه بعضا.
وقال مجاهد، وأبو العالية، وقتادة، ومالك، عن زيد بن أسلم وابن زيد: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } إذا سار.
وهذا يمكن حمله على ما قاله ابن عباس، أي: ذهب. ويحتمل أن يكون المراد إذا سار، أي: أقبل. وقد يقال: إن هذا أنسب؛ لأنه في مقابلة قوله: { وَالْفَجْرِ } فإن الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل، فإذا حمل قوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } على إقباله كان قَسَمًا بإقبال الليل وإدبار النهار، وبالعكس، كقوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } [التكوير:17، 18]. وكذا قال الضحاك: { [وَاللَّيْلِ ] إِذَا يَسْرِ } أي: يجري. (الفجر: 4)
{ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ }
56- وقوله: { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } أي: لذي عقل ولب وحجا [ودين]وإنما سمي العقل حجْرًا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال، ومنه حجْرُ البيت لأنه يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي. ومنه حجر اليمامة، وحَجَرَ الحاكم على فلان: إذا منعه التصرف، { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } [الفرقان:22]، كل هذا من قبيل واحد، ومعنى متقارب، وهذا القسم هو بأوقات العبادة، وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها [إليه عباده] المتقون المطيعون له، الخائفون منه، المتواضعون لديه، الخاشعون لوجهه الكريم. (الفجر: 5)
{ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ }
57- وقوله: { ذَاتِ الْعِمَادِ } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشِّعر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا، ولهذا ذكَّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم، فقال: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ] } [الأعراف:69]. وقال تعالى: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [فصلت:15]، وقال هاهنا: { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } أي: القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم، لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم.
قال مجاهد: إرم: أمة قديمة. يعني: عادا الأولى، كما قال قتادة بن دعامة، والسُّدِّيُّ: إن إرم بيت مملكة عاد. وهذا قول حسن جيد قوي.
وقال مجاهد، وقتادة، والكلبي في قوله: { ذَاتِ الْعِمَادِ } كانوا أهل عمود لا يقيمون.
وقال العوفي، عن ابن عباس: إنما قيل لهم: { ذَاتِ الْعِمَادِ } لطولهم.
واختار الأول ابنُ جرير، ورد الثاني فأصاب. (الفجر: 7)
تصحيح خطأ لدي بعض المفسرين والرد على الإسرائيليات
58- وقوله: { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } أعاد ابن زيد الضميرَ على العماد؛ لارتفاعها، وقال: بنوا عُمُدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد. وأما قتادة وابن جرير فأعاد الضمير على القبيلة، أي: لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد، يعني في زمانهم. وهذا القول هو الصواب، وقول ابن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف؛ لأنه لو كان أراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ }...
قلت: فعلى كل قول سواء كانت العماد أبنية بنوها، أو أعمدة بيوتهم للبدو، أو سلاحا يقاتلون به، أو طول الواحد منهم -فهم قبيلة وأمة من الأمم، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع، المقرونون بثمود كما هاهنا، والله أعلم. ومن زعم أن المراد بقوله: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مدينة إما دمشق، كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة، أو إسكندرية كما رُوي عن القُرَظي أو غيرهما، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يُرَد، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم. وإنما نبهت على ذلك لئلا يُغْتَرَّ بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مبنية بلبن الذهب والفضة، قصورها ودورها وبساتينها، وإن حصباءها لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك، وأنهارها سارحة، وثمارها ساقطة، ودورها لا أنيس بها، وسورها وأبوابها تصفر، ليس بها داع ولا مجيب. وأنها تنتقل فتارة تكون بأرض الشام، وتارة باليمن، وتارة بالعراق، وتارة بغير ذلك من البلاد - فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين، من وضع بعض زنادقتهم، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك. وذكر الثعلبي وغيره أن رجلا من الأعراب - وهو عبد الله بن قِلابة- في زمان معاوية ذهب في طلب أباعر له شردت، فبينما هو يتيه في ابتغائها، إذ طلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب، فدخلها فوجد فيها قريبًا مما ذكرناه من صفات المدينة الذهبية التي تقدم ذكرها، وأنه رجع فأخبر الناس، فذهبوا معه إلى المكان الذي قال فلم يروا شيئا.
وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } هاهنا مطولة جدا، فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها، ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوع من الهَوَس والخبال فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وليس كذلك. وهذا مما يقطع بعدم صحته. وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين، من وجود مطالب تحت الأرض، فيها قناطير الذهب والفضة، وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير، ونحو ذلك من الهذيانات، ويَطْنزون بهم. والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية وكنوزًا كثيرة، من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله فأما على الصفة التي زعموها فكذب وافتراء وبهت، ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم، والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب.
وقولُ ابن جرير: يحتمل أن يكون المراد بقوله: { إِرَمَ } قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تُصرَف فيه نظر؛ لأن المراد من السياق إنما هو الإخبار عن القبيلة، ولهذا قال بعده: { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } (الفجر: 8)
الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب
59- قال الله: { كَلا } أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر. (الفجر: 17)
{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ }
60- ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية، فروى الضحاك، عن ابن عباس: نزلت في عثمان بن عفان. وعن بُرَيدة بن الحصيب: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه.
وقال العوفي، عن ابن عباس: يقال للأرواح المطمئنة يوم القيامة: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ } يعني: صاحبك، وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا، { رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً }
وروي عنه أنه كان يَقرؤها: "فادخلي في عبدي وادخلي جنتي". وكذا قال عكرمة والكلبي، واختاره ابن جرير، وهو غريب، والظاهر الأول؛ لقوله: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } [الأنعام:62]{ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ } [غافر:43] أي: إلى حكمه والوقوف بين يديه. (الفجر: 27)





 

سورة البلد
{ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ }
61- هذا قسم من الله عز وجل بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالا؛ لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها.
قال خَصيف، عن مجاهد: { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } لا رد عليهم؛ أقسم بهذا البلد.
وقال شَبيب بن بشر، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } يعني: مكة، { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } قال: أنت - يا محمد- يحل لك أن تقابل به. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، وأبي صالح، وعطية، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
وقال مجاهد: ما أصبت فيه فهو حلال لك.
وقال قتادة: { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } قال: أنت به من غير حَرَج ولا إثم.
وقال الحسن البصري: أحلها الله له ساعة من نهار.
وهذا المعنى الذي قالوه قد وَرَد به الحديث المتفق على صحته: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حَرَامٌ بحُرمَة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شجره ولا يختلى خلاه. وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب". وفي لفظ [آخر] فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم".(البلد:1-2)
ووالد وما ولد
62- وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والضحاك، وسفيان الثوري، وسعيد بن جبير، والسدي، والحسن البصري، وخُصيف، وشرحبيل بن سعد وغيرهم: يعني بالوالد آدم، وما ولد ولده.
وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حَسَنٌ قوي؛ لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن أقسم بعده بالساكن، وهو آدم أبو البشر وولده.
وقال أبو عمران الجوني: هو إبراهيم وذريته. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
واختار ابن جرير أنه عام في كل والد وولده. وهو محتمل أيضا. (البلد:3)
{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ }
63- وقوله: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } رُوي عن ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وخَيْثَمة، والضحاك، وغيرهم: يعني منتصبا -زاد ابن عباس في رواية عنه-في بطن أمه.
والكبد: الاستواء والاستقامة. ومعنى هذا القول: لقد خلقنا الإنسان سويا مستقيما كقوله: { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } [الانفطار: 6 ، 7] ، وكقوله { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين:4].
وقال ابن [أبي نجيح] جريج وعطاء عن ابن عباس: في كبد، قال: في شدّة خُلق، ألم تر إليه... وذكر مولده ونبات أسنانه... واختار ابن جرير أن المراد [بذلك] مكابدة الأمور ومشاقها. (البلد:4)
العمل بالقرآن
64- قرئ: { فَكُّ رَقَبَةٍ } بالإضافة، وقُرئ على أنه فعل، وفيه ضمير الفاعل والرقبة مفعوله وكلتا القراءتين معناهما متقارب.
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله -يعني ابن سعيد بن أبي هند-عن إسماعيل بن أبي حكيم -مولى آل الزبير-عن سعيد بن مرجانة: أنه سمع أبا هُرَيرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرْب منها إربا منه من النار، حتى إنه ليعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج". فقال علي بن الحسين: أنتَ سَمعتَ هذا من أبي هُرَيرة؟ فقال سعيد: نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له -أفْرَهَ غلمانه-: ادعُ مطْرَفًا. فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حُر لوجه الله.
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، من طرق، عن سعيد بن مرجانة، به وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم. (البلد:13)
{ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ }
65- وقوله: { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } أي: فقيرا مُدقعًا لاصقا بالتراب، وهو الدقعاء أيضا.
قال ابن عباس: { ذَا مَتْرَبَةٍ } هو المطروح في الطريق الذي لا بيت له، ولا شيء يقيه من التراب -وفي رواية: هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة، ليس له شيء -وفي رواية عنه: هو البعيد التربة.
قال ابن أبي حاتم: يعني الغريب عن وطنه.
وقال عكرمة: هو الفقير المديون المحتاج.
وقال سعيد بن جبير: هو الذي لا أحد له.
وقال ابن عباس، وسعيد، وقتادة، ومقاتل بن حيان: هو ذو العيال.
وكل هذه قريبة المعنى. (البلد: 16)



 

سورة الشمس
{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا }
66- قال مجاهد: { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } أي: وضوئها. وقال قتادة: { وَضُحَاهَا } النهار كله.
قال ابن جرير: والصواب أن يقال: أقسم الله بالشمس ونهارها؛ لأن ضوء الشمس الظاهر هو النهار.(الشمس:1)
{ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا }
67- وقوله: { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } يحتمل أن تكون "ما" هاهنا مصدرية، بمعنى: والسماء وبنائها. وهو قول قتادة، ويحتمل أن تكون بمعنى "مَن" يعني: والسماء وبانيها. وهو قول مجاهد، وكلاهما متلازم، والبناء هو الرفع، كقوله: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } أي: بقوة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [الذاريات: 47، 48] .(الشمس:5)
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }
68- وقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى نفسه، أي: بطاعة الله -كما قال قتادة- وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل. ويُروَى نحوه عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير. وكقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [الأعلى: 14 ، 15] .
{ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } أي: دسسها، أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهُدَى، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل.
وقد يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دَسَّى الله نفسه، كما قال العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. (الشمس:9-10)




 

سورة الليل
{ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى }
69- ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان القسم عليه أيضا متضادا؛ ولهذا قال: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } أي: أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضًا ومتخالفة، فمن فاعل خيرا ومن فاعل شرا. (الليل:4)
فضل أبي بكر الصديق- رضي الله عنه-
70- وقوله: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى } أي: وسَيُزَحزح عن النار التقي النقي الأتقى.
ثم فسره بقوله: { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } أي: يصرف ماله في طاعة ربه؛ ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا.
{ وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } أي: ليس بَذْله حاله في مكافأة من أسدى إليه معروفًا، فهو يعطي في مقابلة ذلك، وإنما دفعه ذلك { ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى } أي: طمعًا في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات، قال الله تعالى: { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } أي: ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات.
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة؛ فإنه كان صديقًا تقيًا كريما جوادًا بذالا لأمواله في طاعة مولاه، ونصرة رسول الله، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منّةٌ يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل؛ ولهذا قال له عروة بن مسعود - وهو سيد ثقيف، يوم صلح الحديبية- : أما والله لولا يد لك كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك. وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف بمن عداهم؟ ولهذا قال: { وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله دَعَته خَزَنَةُ الجنة: يا عبد الله، هذا خير" ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من يُدعى منها ضرورة فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم"(الليل:17-21)




 


سورة الضحى
{ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى }
71- { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى } أي: والدار الآخرة خير لك من هذه الدار. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأعظمهم لها إطراحًا، كما هو معلوم [بالضرورة] من سيرته. ولما خُيِّرَ، عليه السلام، في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة، وبين الصيرورة إلى الله عز وجل، اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية.(الضحى: 4)
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }
72- وقال الإمام أبو عمر الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي، عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: عرض على رسول الله ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزا كنزا، فسر بذلك، فأنزل الله: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. رواه ابن جرير من طريقه، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس: ومثلُ هذا ما يقال إلا عن توقيف.(الضحى:5)
نعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم
73- ثم قال تعالى يعدد نعَمه عل عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى } وذلك أن أباه تُوفّي وهو حَملٌ في بطن أمه، وقيل: بعد أن ولد، عليه السلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين. ثم كان في كفالة جده عبد المطلب، إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب. ثم لم يزل يحوطه وينصره ويَرفع من قَدره وَيُوقّره، ويكفّ عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقدر الله وحُسن تدبيره، إلى أن تُوفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل، فأقدم عليه سفهاء قريش وجُهالهم، فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى الله سُنَّته على الوجه الأتم والأكمل. فلما وصل إليهم آوَوه ونَصَرُوه وحاطوه وقاتلوا بين يديه، رضي الله عنهم أجمعين، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به. (الضحى:6)
{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ }
74- { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } أي: وكما كنت ضالا فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.
قال ابن إسحاق: { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } أي: فلا تكن جبارًا، ولا متكبرًا، ولا فَحَّاشا، ولا فَظّا على الضعفاء من عباد الله.
وقال قتادة: يعني رَد المسكين برحمة ولين.
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } أي: وكما كنت عائلا فقيرًا فأغناك الله، فحدث بنعمة الله عليك، كما جاء في الدعاء المأثور النبوي: "واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها، قابليها، وأتمها علينا"..(الضحى:9-11)



 

سورة الشرح
{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }
75- وقوله: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } قال مجاهد: لا أُذْكرُ إلا ذُكِرتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وقال قتادة: رفع اللهُ ذكرَه في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا مُتشهد ولا صاحبُ صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله...
وما أحسن ما قال الصرصري، رحمه الله،:
لا يَصِحُّ الأذانُ في الفَرْضِ إلا ... باسمِه العَذْب في الفم المرْضي ...
وقال أيضًا:
[ألَم تَر أنَّا لا يَصحُّ أذانُنَا ...وَلا فَرْضُنا إنْ لم نُكَررْه فيهما].(الشرح:2-4)
" لن يغلب عسر يسرين"
76- ومعنى هذا: أن العسر معرف في الحالين، فهو مفرد، واليسر منكر فتعدد؛ ولهذا قال: "لن يغلب عسر يسرين" ، يعني قوله: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد...
ومما يروى عن الشافعي، رضي الله عنه، أنه قال:
صَبرا جَميلا ما أقرَبَ الفَرجا ... مَن رَاقَب الله في الأمور نَجَا
مَن صَدَق الله لَم يَنَلْه أذَى ... وَمَن رَجَاه يَكون حَيثُ رَجَا
وقال ابن دُرَيد: أنشدني أبو حاتم السجستاني:
إذا اشتملت على اليأس القلوبُ ... وضاق لما به الصدر الرحيبُ
وأوطأت المكاره واطمأنت ... وأرست في أماكنها الخطوبُ
ولم تر لانكشاف الضر وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريبُ
أتاك على قُنوط منك غَوثٌ ... يمن به اللطيف المستجيبُ
وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها الفرج القريب
وقال آخر:
وَلَرُب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج ... (الشرح:3)
نعمة الفراغ
77- وقوله: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } أي: إذا فَرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها، فانصب في العبادة، وقم إليها نشيطا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة... { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } قال الثوري: اجعل نيتك ورغبتك إلى الله، عز وجل. (الشرح:7-8)



 

سورة التين
أماكن الأنبياء
78- وقال بعض الأئمة: هذه مَحَالٌّ ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبيًا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم. والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء -يعني الذي كلم الله عليه موسى [بن عمران] -وأشرق من سَاعيرَ -يعني بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى-واستعلن من جبال فاران -يعني: جبال مكة التي أرسل الله منها محمدًا-فذكرهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما.(التين:1-3)
تعقب واستدراك على ابن جرير
79- وقال بعضهم: { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي: إلى أرذل العمر. رُوي هذا عن ابن عباس، وعكرمة -حتى قال عكرمة: من جمع القرآن لم يُرَدّ إلى أرذل العمر. واختار ذلك ابن جرير. ولو كان هذا هو المراد لما حَسُن استثناء المؤمنين من ذلك؛ لأن الهَرَم قد يصيبُ بعضهم، وإنما المراد ما ذكرناه، كقوله: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ العصر: 1 -3 ] .(التين:5)



 

سورة العلق
أحوال العلم
80- فأول شيء [نزل] من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم. وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر: قيدوا العلم بالكتابة . وفيه أيضا: "من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يكن [يعلم] .(العلق:1-5)

 


سورة القدر
خير من ألف شهر
81- وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس في تلك الشهور ليلة القدر. وهكذا قال قتادة بن دعامة، والشافعي، وغير واحد.
وقال عمرو بن قيس الملائي: عمل فيها خير من عمل ألف شهر.
وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر -وليس فيها ليلة القدر-هو اختيارُ ابن جرير. وهو الصواب لا ما عداه، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: "رِباطُ ليلة في سبيل الله خَيْر من ألف ليلة فيما سواه من المنازل" . رواه أحمد وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة، ونية صالحة: "أنه يُكتَبُ له عمل سنة، أجر صيامها وقيامها" إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك.(القدر:3)
مسائل عن ليلة القدر
82- اختلف العلماء: هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة، أو هي من خصائص هذه الأمة؟ على قولين:
قال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري: حدثنا مالك: أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله -أو: ما شاء الله من ذلك-فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر وقد أسند من وجه آخر.
وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر، وقد نقله صاحب "العُدّة" أحد أئمة الشافعية عن جمهور العلماء، فالله أعلم. وحكى الخطابي عليه الإجماع ونقله الرافعي جازمًا به عن المذهب والذي دل عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا.
قال أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عكرمة بن عمار: حدثني أبو زُمَيل سِمَاك الحَنَفي: حدثني مالك بن مَرْثَد بن عبد الله، حدثني مَرْثَد قال: سألت أبا ذر قلت: كيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر؟ قال: أنا كنت أسأل الناس عنها، قلت: يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر، أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال: "بل هي في رمضان". قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قبضوا رفعت؟ أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: "بل هي إلى يوم القيامة". قلت: في أي رمضان هي؟ قال: "التمسوها في العشر الأول، والعشر الأواخر". ثم حَدّثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحَدّث، ثم اهتبلت غفلته قلت: في أي العشرين هي؟ قال: "ابتغوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها". ثم حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اهتبلت غفلته فقلت: يا رسول الله، أقسمت عليك بحقي عليك لَمَا أخبرتني في أي العشر هي؟ فغضب علي غضبًا لم يغضب مثله منذ صحبته، وقال: "التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها".
ورواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى بن سعيد القطان، به.
ففيه دلالة على ما ذكرناه، وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة في كل سنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة من رفعها بالكلية، على ما فهموه من الحديث الذي سنورده بعدُ من قوله، عليه السلام: "فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم"؛ لأن المراد رفعُ عِلْم وقتها عينًا. وفيه دلالة على أنها ليلة القدر يختص وقوعها بشهر رمضان من بين سائر الشهور، لا كما رُوي عن ابن مسعود ومن تابعه من علماء أهل الكوفة، من أنها توجد في جميع السنة، وترجى في جميع الشهور على السواء.
وقد ترجم أبو داود في سننه على هذا فقال: "باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان": حدثنا حُمَيد بن زَنْجُويه النسائي أخبرنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، حدثني موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر، فقال: "هي في كل رمضان".
وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن أبا داود قال: رواه شعبة وسفيان عن أبي إسحاق فأوقفاه.
وقد حكي عن أبي حنيفة، رحمه الله، رواية أنها ترجى في جميع شهر رمضان. وهو وجه [حكاه] الغزالي، واستغربه الرافعي جدًا.




 

سورة البينة
فضيلة أبي بن كعب رضي الله عنه
83- وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك: " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا " قال: وسمانى لك؟ قال: "نعم". فبكى.
ورواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث شعبة، به .
وإنما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة تثبيتًا له، وزيادة لإيمانه، فإنه -كما رواه أحمد والنسائي، من طريق أنس، عنه ورواه أحمد وأبو داود، من حديث سليمان بن صُرَد عنه ورواه أحمد عن عفان، عن حماد، عن حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، عنه ورواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه كان قد أنكر على إنسان، وهو: عبد الله بن مسعود، قراءة شيء من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرأهما، وقال، لكل منهما: "أصبت". قال أبي: فأخذني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، قال أبي: فَفضْتُ عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فرقًا. وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف. فقلت: "أسأل الله معافاته ومغفرته". فقال: على حرفين. فلم يزل حتى قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف. كما قدمنا ذكر هذا الحديث بطرقه وألفاظه في أول التفسير. فلما نزلت هذه السورة الكريمة وفيها: " رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ " قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار، لا قراءة تعلم واستذكار، والله أعلم.
وهذا كما أن عمر بن الخطاب لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية عن تلك الأسئلة، وكان فيما قال: أولم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟". قال: لا قال: "فإنك آتيه، ومُطوَّف به". فلما رجعوا من الحديبية، وأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم سورة "الفتح"، دعا عمر بن الخطاب وقرأها عليه، وفيها قوله: " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ " الآية [ الفتح: 27] ، كما تقدم.(البينة:1)

معنى البينة
84- { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } أي: هذا القرآن؛ ولهذا قال تعالى: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } ثم فسر البينة بقوله: { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، وما يتلوه من القرآن العظيم، الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى، في صحف مطهرة كقوله: { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 -16].(البينة:1-2)
الأعمال داخلة في الإيمان
85- { وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ } وهي أشرف عبادات البدن، { وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج. { وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } أي: الملة القائمة العادلة، أو: الأمة المستقيمة المعتدلة.
وقد استدل كثير من الأئمة، كالزهري والشافعي، بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان؛ ولهذا قال: { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.(البينة:5)
تفضيل المؤمنين على الملائكة
86- يخبر تعالى عن مآل الفجار، من كفرة أهل الكتاب، والمشركين المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة: أنهم يوم القيامة { فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي: ماكثين، لا يحولون عنها ولا يزولون { أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } أي: شر الخليقة التي برأها الله وذرأها.
ثم أخبر تعالى عن حال الأبرار -الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بأبدانهم-بأنهم خير البرية.
وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء، على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة؛ لقوله: { أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}.(البينة:5)




 

سورة الزلزلة
{ وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا }
87- وقوله: { وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا } أي: استنكر أمرها بعد ما كانت قارة ساكنة ثابتة، وهو مستقر على ظهرها، أي: تقلبت الحال، فصارت متحركة مضطربة، قد جاءها من أمر الله ما قد أعد لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه، ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من الأولين والآخرين، وحينئذ استنكر الناس أمرها وتبدلت الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار.(الزلزلة:3)
الآية الفاذة الجامعة
88- فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحُمُر، فقال: "ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }.
ورواه مسلم، من حديث زيد بن أسلم، به. (الزلزلة:7)



 


سورة العاديات
معنى العاديات
89- يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله فَعَدت وضَبَحت، وهو: الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو. { فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } يعني: اصطكاك نعالها للصخر فتقدح منه النار.
{ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا } يعني: الإغارة وقت الصباح، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير صباحًا ويتسمّع أذانا، فإن سمع وإلا أغار.
[وقوله] { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا } يعني: غبارًا في [مكان] معترك الخيول.
{ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا } أي: توسطن ذلك المكان كُلُّهن جمع. (العاديات:1-5)
{ إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ }
90- وقوله: { إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } هذا هو المقسم عليه، بمعنى: أنه لنعم ربه لجحود كفور.
قال ابن عباس، ومجاهد وإبراهيم النَّخعِي، وأبو الجوزاء، وأبو العالية، وأبو الضحى، وسعيد بن جبير، ومحمد بن قيس، والضحاك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد: الكنود: الكفور. قال الحسن: هو الذي يعد المصائب، وينسى نعم ربه. (العاديات:6)
{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }
91- وقوله: { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } أي: وإنه لحب الخير -وهو: المال-لشديد. وفيه مذهبان:
أحدهما: أن المعنى: وإنه لشديد المحبة للمال.
والثاني: وإنه لحريص بخيل؛ من محبة المال. وكلاهما صحيح. (العاديات:8)




 

سورة القارعة
{ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ }
92- وقوله: { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } قيل: معناه: فهو ساقط هاو بأم رأسه في نار جهنم. وعَبَّر عنه بأمه-يعني دماغه-روي نحو هذا عن ابن عباس، وعكرمة، وأبي صالح، وقتادة -قال قتادة: يهوي في النار على رأسه وكذا قال أبو صالح: يهوون في النار على رءوسهم.
وقيل: معناه: { فَأُمُّهُ } التي يرجع إليها، ويصير في المعاد إليها { هَاوِيَةٌ } وهي اسم من أسماء النار.
قال ابن جرير: وإنما قيل: للهاوية أمه؛ لأنه لا مأوى له غيرها.(القارعة:9)

 

سورة التكاثر
{ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ }
93- والصحيح أن المراد بقوله: { زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } أي: صرتم إليها ودفنتم فيها، كما جاء في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأعراب يعوده، فقال: "لا بأس، طهور إن شاء الله". فقال: قلت: طَهُور؟! بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور! قال: "فَنَعَم إذًا".(التكاثر:2)
تفسير الوعيد
94- وقوله: { كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } أي: لو علمتم حق العلم، لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة، حتى صرتم إلى المقابر.
ثم قال: { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } هذا تفسير الوعيد المتقدم، وهو قوله: { كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } تَوعَّدَهم بهذا الحال، وهي رؤية النار التي إذا زفرت زفرة خَرَّ كل ملك مقرب، ونبي مرسل على ركبتيه، من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال، على ما جاء به الأثر المروي في ذلك".(التكاثر:5-7)




 

سورة العصر
فضل سورة العصر
95- قال الشافعي-رحمه الله- : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.


سورة الهمزة
بكاء ثابت البناني
96- ولهذا قال: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ } قال ثابت البناني: تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء، ثم يقول: لقد بلغ منهم العذاب، ثم يبكي.(الهمزة:5-
 


سورة الفيل
فائدة لغوية
97- قال ابن هشام: الأبابيل الجماعات، ولم تتكلم العرب بواحدة. قال: وأما السجيل، فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب: الشديد الصلب. قال: وذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية، جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنما هو سنج وجل يعني بالسنج: الحجر، والجل: الطين. يقول: الحجارة من هذين الجنسين: الحجر والطين. قال: والعصفُ: ورقُ الزرع الذي لم يُقضب، واحدته عصفه. انتهى ما ذكره.
وقد قال حماد بن سلمة: عن عاصم، عن زر، عن عبد الله -وأبو سلمة بن عبد الرحمن-: { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال: الفرق.
وقال ابن عباس، والضحاك: أبابيل يتبع بعضها بعضًا. وقال الحسن البصري، وقتادة: الأبابيل: الكثيرة. وقال مجاهد: أبابيل: شتى متتابعة مجتمعة. وقال ابن زيد: الأبابيل: المختلفة، تأتي من هاهنا، ومن هاهنا، أتتهم من كل مكان.
وقال الكسائي: سمعت [النحويين يقولون: أبول مثل العجول. قال: وقد سمعت] بعض النحويين يقول: واحد الأبابيل: إبيل. .(الفيل:3)

عاقبة الظالمين
98- والمعنى: أن الله- سبحانه وتعالى- أهلكهم ودمرهم، وردهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرًا، وأهلك عامتهم، ولم يرجع منهم بخير إلا وهو جريح، كما جرى لملكهم أبرهة، فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء، وأخبرهم بها جرى لهم، ثم مات. فملك بعده ابنه
يكسوم، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة ثم خرج سيف بن ذي يَزَن الحميري إلى كسرى فاستغاثه على الحبشة، فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه، فرد الله إليهم ملكهم، وما كان في آبائهم من الملك، وجاءته وفود العرب للتهنئة.
وقد قال محمد بن إسحاق: حدثنا عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مُقْعَدَين، يستطعمان ورواه الواقدي، عن عائشة مثله. ورواه أيضا عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: كانا مقعدين يستطعمان الناس، عند إساف ونائلة، حيث يذبح المشركون ذبائحهم.
قلت: كان اسم قائد الفيل: أنيسا. (الفيل:5)
الرد على الحافظ أبي نعيم في كتابه "دلائل النبوة"
99- وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب "دلائل النبوة" من طريق ابن وهب، عن ابن لَهِيعة عن عقيل بن خالد، عن عثمان بن المغيرة قصة أصحاب الفيل، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن، وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له: شمر بن مفصود، وكان الجيش عشرين ألفًا، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى.
وهذا السياق غريب جدًا، وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره. والصحيح أن أبرهة الأشرم الحبشي قدم مكة كما دل على ذلك السياقات والأشعار. وهكذا روى ابن لَهِيعة، عن الأسود، عن عُرْوَة: أن أبرهة بعث الأسود بن مفصود على كتيبة معهم الفيل، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه، والصحيح قدومه، ولعل ابن مقصود كان على مقدمة الجيش، والله أعلم. (الفيل:5)




 
الوسوم
القران سورة فوائد من
عودة
أعلى