فوائد من سورة القران


40 فائدة من سورة المائدة




حكم خيار المجلس
1- وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال: فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته، فيقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك. وخالفهما الشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "البَيِّعان بالخيار ما لم يَتَفرَّقا"، وفي لفْظ للبخاري: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا" وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع، وليس هذا منافيًا للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقد. ( المائدة:1)


 

إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت

2- وقوله تعالى: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ } هي: الإبل والبقر، والغنم. قاله الحسن وقتادة وغير واحد. قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب. وقد استدل ابن عمر، وابن عباس، وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت، وقد ورد في ذلك حديث في السنن، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه()، من طريق مُجالد، عن أبي الودَّاك جبر بن نَوْف، عن أبي سعيد، قال: قلنا: يا رسول الله، ننحر الناقة، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: "كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمه". وقال الترمذي: حديث حسن .
[و] قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عَتَّاب بن بشير، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ذكاة الجنين ذكاة أمه". تفرد به أبو داود.( المائدة:1)

 

حكم قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم؟

3- وقد حكى الإمام أبو جعفر[رحمه الله] الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم، وغيرها من شهور السنة، قال: وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أوذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم، لم يكن ذلك له أمانا من القتل، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان.( المائدة:2)


 

الأمر بعد الحظر قاعدة أصولية

4- وقوله: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } أي: إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد. وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السَّبْر: أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبًا رده واجبًا، وإن كان مستحبًا فمستحب، أو مباحًا فمباح. ومن قال: إنه على الوجوب، ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال: إنه للإباحة، يرد عليه آيات أخر، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم. .( المائدة:2)

 

الرد على الظاهرية في فهم (لحم الخنزير)

5- وقوله: { وَلَحْمُ الْخِنزيرِ } يعني: إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله: { فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا } يعنون قوله تعالى: { إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير، حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطرد، وفي صحيح مسلم، عن بُرَيدة بن الخصيب الأسلمي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لعب بالنردَشير فكأنما صَبَغَ يده في لحم الخنزير ودمه" فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به، وفيه دلالة على شُمُول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.
وفي الصحيحين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويَسْتَصبِحُ بها الناس؟ فقال: "لا هو حرام".( المائدة:3)


 

فائدة لغوية في كلمة النطيحة

6- وأما { النَّطِيحَةُ } فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها.
والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي: منطوحة. وأكثر ما ترد هذه البِنْيَة في كلام العرب بدون تاء التأنيث، فيقولون: كَفٌّ خضيب، وعينٌ كحيل، ولا يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة: وأما هذه فقال بعض النحاة: إنما استعمل فيها تاء التأنيث؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء، كما في قولهم: طريقة طويلة. وقال بعضهم: إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة، بخلاف: عين كحيل، وكف خضيب؛ لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام.

 
أكبر نعم الله على هذه الأمة


7- وقوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } هذه أكبر نعم الله ،عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم ؛ ولهذا قال [تعالى]: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو الإسلام، أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطُه أبدا. ( المائدة:3)

 

متى تؤكل الميتة؟

8- قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على مهجته التلف ولم يجد غيرها،
وقد يكون مندوبا، و[قد] يكون مباحا بحسب الأحوال.
واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به الرَّمَق، أو له أن يشبع، أو يشبع ويتزود؟ على أقوال، كما هو مقرر في كتاب الأحكام.
وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير، أو صيدًا وهو محرم: هل يتناول الميتة، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطعام ويضمن بدله؟ على قولين، هما قولان للشافعي، رحمه الله، .
وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: "إذا لم تَصْطَبِحوا، ولم تَغْتَبِقُوا، ولم تَجتفئوا بقْلا فشأنكم بها ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين...
ومعنى قوله: "ما لم تصطبحوا": يعني به: الغداء، "وما لم تغتبقوا": يعني به: العشاء، "أو تختفئوا بقلا فشأنكم بها" [أي] فكلوا منها.
وقال ابن جرير: يروى هذا الحرف -يعني قوله: "أو تختفئوا [بقلا] على أربعة أوجه: "تختفئوا" بالهمزة، "وتحتفيوا" بتخفيف الياء والحاء، "وتحتفوا" بتشديد [الفاء] وتحتفوا" بالحاء وبالتخفيف، ويحتمل الهمز، كذا ذكره في التفسير. ( المائدة:3)


 

أمنية أبي المعالي الجويني قد تحققت

9- وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه(كلب الصيد) فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم. وللعلة التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم-: "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل من الصيد لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخُشَنِيّ، وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين صحيح.
وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجُوَيني في كتابه "النهاية" أن لو فصل مفصل هذا التفصيل، وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم. ( المائدة:4)

 

أحكام المجوس والرد على أبي ثور
10- وأما المجوس، فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد بن حنبل، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك، حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه! يعني في هذه المسألة، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سُنوا بهم سنة أهل الكتاب"، ولكن لم يثبت بهذا اللفظ، وإنما الذي في صحيح البخاري: عن عبد الرحمن بن عوف؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مَجوس هَجَر ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فدل بمفهومه -مفهوم المخالفة-على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل .( المائدة:4)

 


قول غريب لسعيد بن المسيب

11- وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء. فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك. .( المائدة:6)

 

مسح الرأس

12- وقوله: { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } اختلفوا في هذه "الباء" هل هي للإلصاق، وهو الأظهر أو للتبعيض؟ وفيه نظر، على قولين. ومن الأصوليين من قال: هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة،مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وفي حديث عبد خير، عن علي في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نحو هذا، وروى أبو داود، عن معاوية والمقدام بن معد يكرب، في صفة وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثله.
ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، لاسيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن.
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس، وهو مقدار الناصية.
وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح، لا يتقدر ذلك بحدٍّ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه.
واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة، قال: تخلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال: "هل معك ماء؟" فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته، وعلى العمامة وعلى خفيه... وذكر باقي الحديث، وهو في صحيح مسلم، وغيره.
فقال لهم أصحاب الإمام أحمد: إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة، ونحن نقول بذلك، وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك أحاديث كثيرة، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين، فهذا أولى، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة، والله أعلم. ( المائدة:6)



 

حكم الترتيب في الوضوء

13- وقوله: { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } قُرئ: { وَأَرْجُلَكُمْ } بالنصب عطفا على { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ }
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو سلمة، حدثنا وُهَيْب، عن خالد، عن عِكَرِمة، عن ابن عباس؛ أنه قرأها: { وَأَرْجُلَكُمْ } يقول: رجعت إلى الغسل.
وروي عن عبد الله بن مسعود، وعُرْوَة، وعطاء، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، والضحاك، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حيان، والزهري، وإبراهيم التيمي، نحو ذلك.
وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل، كما قاله السلف، ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب كما هو مذهب الجمهور، خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب، بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ثم وجهه أجزأه ذلك؛ لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء، و"الواو" لا تدل على الترتيب. وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقا، فمنهم من قال: الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة؛ لأنه مأمور به بفاء التعقيب، وهي مقتضية للترتيب، ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولا ثم لا يجب الترتيب بعده، بل القائل اثنان، أحدهما: يوجب الترتيب، كما هو واقع في الآية. والآخر يقول: لا يجب الترتيب مطلقا، والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء، فوجب الترتيب فيما بعده بالإجماع، حيث لا فارق. ومنهم من قال: لا نسلم أن "الواو" لا تدل على الترتيب، بل هي دالة -كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء. ثم نقول - بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي-: هي دالة على الترتيب شرعا فيما من شأنه أن يرتب، والدليل على ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- لما طاف بالبيت، خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [ البقرة : 158 ] ثم قال: "ابدأ بما بدأ الله به" لفظ مسلم، ولفظ النسائي: "ابدءوا بما بدأ الله به". وهذا لفظ أمر، وإسناده صحيح، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعا، والله أعلم.
ومنهم من قال: لما ذكر تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب، فقطع النظير عن النظير، وأدخل الممسوح بين المغسولين، دل ذلك على إرادة الترتيب.
ومنهم من قال: لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ مرة مرة، ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" قالوا: فلا يخلو إما أن يكون توضأ مرتبا فيجب الترتيب، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب، ولا قائل به، فوجب ما ذكره. ( المائدة:6)


 

حكم غسل الرجلين والرد على الرافضة
14- وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح. ثم قال الشعبي: ألا ترى أن "التيمم" أنْ يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟
وحدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد، أخبرنا إسماعيل، قلت لعامر: إن ناسا يقولون: إن جبريل نزل بغسل الرجلين؟ فقال: نزل جبريل بالمسح.
فهذه آثار غريبة جدًا، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف، لما سنذكره من السنة الثابتة في وجوب غسل الرجلين. وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام، كما في قول العرب: "جُحْرُ ضَب خربٍ"، وكقوله تعالى: { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } [ الإنسان: 21 ] وهذا سائغ ذائع، في لغة العرب شائع. ومنهم من قال: هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان، قاله أبو عبد الله الشافعي رحمه الله. ومنهم من قال: هي دالة على مسح الرجلين، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف، كما وردت به السنة. وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا، لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها.
ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي، حيث قال: أخبرنا أبو علي الروذباري، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن مَيْسَرَة، سمعت النزال بن سَبْرَة يحدث عن علي بن أبي طالب، أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رَحَبَة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء، فأخذ منه حفنة واحدة، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم، ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] صنع ما صنعتُ. وقال: "هذا وضوء من لم يحدث ".
رواه البخاري في الصحيح، عن آدم، ببعض معناه...
ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف، فقد ضل وأضل. وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث، وأوجب مسحهما للآية، فلم يحقق مذهبه في ذلك، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دَلْك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء؛ لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دَلْكَهما ليذهب ما عليهما، ولكنه عَبَّر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما، فحكاه من حكاه كذلك؛ ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل، سواء تقدمه أو تأخر عليه؛ لاندراجه فيه، وإنما أراد الرجلُ ما ذكرتهُ، والله أعلم. ثم تأملت كلامه أيضًا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين، في قوله: { وَأَرْجُلَكُمْ } خفضا على المسح وهو الدلك، ونصبا على الغسل، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه...
وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشروعية المسح على الخفين قولا منه وفعلا كما هو مقرر في كتاب "الأحكام الكبير"، وما يحتاج إلى ذكره هناك، من تأقيت المسح أو عدمه أو التفصيل فيه، كما هو مبسوط في موضعه. وقد خالفت الروافض ذلك كله بلا مستند، بل بجهل وضلال، مع أنه ثابت في صحيح مسلم، من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. كما ثبت في الصحيحين عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها. وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين، مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على وفق ما دلت عليه الآية الكريمة، وهم مخالفون لذلك كله، وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر، ولله الحمد.
وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين، فعندهم أنهما في ظهر القدم، فعندهم في كل رجل كعب، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. قال الربيع: قال الشافعي: لم أعلم مخالفًا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم. هذا لفظه. فعند الأئمة، رحمهم الله، [أن] في كل قدم كعبين كما هو المعروف عند الناس، وكما دلت عليه السنة، ففي الصحيحين من طريق حُمْران عن عثمان؛ أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين، واليسرى مثل ذلك.
وروى البخاري تعليقًا مجزوما به، وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه، من رواية أبي القاسم الحسيني بن الحارث الجدلي، عن النعمان بن بشير قال: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم -ثلاثا-والله لتقيمُن صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين قلوبكم". قال: فرأيت الرجل يُلْزِق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، ومَنْكبِه بمنكبه. لفظ ابن خزيمة.
فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه إلا والمراد به العظم الناتئ في الساق، حتى يحاذي كعب الآخر، فدل ذلك على ما ذكرناه، من أنهما العظمان الناتئان عند مَفْصِل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن موسى، أخبرنا شريك، عن يحيى بن عبد الله بن الحارث التيمي -يعني الجابر-قال: نظرت في قتلى أصحاب زيد، فوجدت الكعب فوق ظهر القدم، وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم، تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه. .( المائدة:6)


 

أقرب للتقوى

15- وقوله: { هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله [تعالى] { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } [ الفرقان : 24 ] وكقول بعض الصحابيات لعمر: أنت أفَظُّ وأغلظ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.( المائدة:8)



الحبيب لا يعذب حبيبه

16- وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا الصوفي هذه الآية: { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ }
وهذا الذي قاله حسن، وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال: حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن حُمَيْد، عن أنس قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يُوْطَأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار. قال: فَخفَّضَهُم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا والله ما يلقي حبيبه في النار". تفرد به() .( المائدة:18)

 

كم الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؟

17- { عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } أي: بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.
وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة، كم هي؟
فقال أبو عثمان النَّهْديّ وقتادة - في رواية عنه-: كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي.
وعن قتادة: خمسمائة وستون سنة،
وقال مَعْمَر، عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة.
وقال: الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.
وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى، عليه السلام، عن الشعبي أنه قال: ومنْ رفع المسيح إلى هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة.
والمشهور هو الأول، وهو أنه ستمائة سنة. ومنهم من يقول: ستمائة وعشرون سنة. ولا منافاة بينهما، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية، والآخر أراد قمرية، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين؛ ولهذا قال تعالى في قصة أصحاب الكهف: { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } [ الكهف : 25 ] أي: قمرية، لتكميل الثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب. وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بني إسرائيل، وبين محمد [صلى الله عليه وسلم] خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أولى الناس بابن مريم؛ لأنه لا نبي بيني وبينه هذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى [عليه السلام] نبي، يقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القضاعي وغيره.
والمقصود أن الله [تعالى] بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على فترة من الرسل، وطُمُوس من السبل،وتَغَير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عَمَم، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين.( المائدة:20)



 

وجعلكم ملوكا

18- وقوله: { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس، في قوله: { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال: الخادم والمرأة والبيت.
وروى الحاكم في مستدركه، من حديث الثوري أيضا، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: المرأة والخادم { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قال: الذين هم بين ظَهرانيهِم يومئذ، ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي مَلِكًا.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وَهْب، أنبأنا أبو هانئ؛ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. فقال: إن لي خادما. قال فأنت من الملوك.
وقال الحسن البصري: هل الملك إلا مركب وخادم ودار؟
رواه ابن جرير. ثم روي عن منصور والحكم، ومجاهد، وسفيان الثوري نحوًا من هذا. وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران.
وقال ابن شَوْذَب: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم، واستؤذن عليه، فهو ملك.
وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم. .( المائدة:20)

 

فضل بني إسرائيل

19- وقوله: { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني عالمي زمانكم، فكأنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم، من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم، كما قال: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الجاثية: 16] وقال تعالى إخبارًا عن موسى لما قالوا: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 138-140 ]
والمقصود: أنهم كانوا أفضل أهل زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند الله، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجا، وأكرم نبيا، وأعظم ملكا، وأغزر أرزاقا، وأكثر أموالا وأولادا، وأوسع مملكة، وأدوم عزا، قال الله [عز وجل] { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وقال { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }[ البقرة : 143] وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها، عند الله، عند قوله عز وجل: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } من سورة آل عمران. وروى ابن جرير عن ابن عباس، وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله: { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني: أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله: { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } مع هذه الأمة. والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا.
وقيل: المراد: { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني بذلك: ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى، وتَظلَّلهم من الغمام وغير ذلك، مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات، فالله أعلم .( المائدة:20)



الأرض المقدسة

20- فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال: { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } أي: المطهرة.
قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: { ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } قال: هي الطور وما حوله. وكذا قال مجاهد وغير واحد.
وقال سفيان الثوري، عن أبي سعيد البقال، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: هي أريحا. وكذا ذكر غير واحد من المفسرين.
وفي هذا نظر؛ لأن أريحا ليست هي المقصود بالفتح، ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس، وقد قدموا من بلاد مصر، حين أهلك الله عدوهم فرعون، [اللهم] إلا أن يكون المراد بأريحا أرض بيت المقدس، كما قاله -السدي فيما رواه ابن جرير عنه-لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الغَوْر شرقي بيت المقدس. ( المائدة:21)



 

قصة عوج بن عنق

21- وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارًا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأنه كان فيهم عوج بن عنق، بنت آدم، عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع، تحرير الحساب! وهذا شيء يستحى من ذكره. ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله [تعالى] خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن".
ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زِنْية، وأنه امتنع من ركوب السفينة، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [ نوح : 26 ] وقال تعالى: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ } [ الشعراء : 119-120 ] وقال تعالى: { لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ } [ هود : 43 ] وإذا كان ابن نوح الكافر غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، وهو كافر وولد زنية؟! هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له: "عوج بن عنق" نظر، والله أعلم. ( المائدة:22)





صفات اليهود

22- وقوله تعالى: { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } تسلية لموسى، عليه السلام، عنهم، أي: لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما حكمت عليهم، به فإنهم يستحقون ذلك.
وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما، فيما أمرهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم، ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا وقد شاهدوا ما أحل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون لتَقَرَّ به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدّة أهلها وعُدَدهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غَيِّهم يترددون، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود، وقد فعل وله الحمد من جميع الوجود. ( المائدة:26)



 

قابيل وهابيل

23- المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل، وأنه تُقُبل من هابيل شاته، حتى قال ابن عباس وغيره: إنه الكبش الذي فدي به الذبيح، وهو مناسب، والله أعلم، ولم يتقبل من قابيل. كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف، وهو المشهور عن مجاهد أيضًا، ولكن روى ابن جرير، عنه أنه قال: الذي قرب الزرع قابيل، وهو المتقبل منه، وهذا خلاف المشهور، ولعله لم يحفظ عنه جيدا والله أعلم. . ( المائدة:27)



إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ

24- وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زبريق، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاش، حدثني صَفْوان بن عمرو، عن تَمِيم، يعني ابن مالك المقري، قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }. ( المائدة:27)

 
الوسوم
القران سورة فوائد من
عودة
أعلى