فوائد من سورة القران

رد: 30فائدة من سورة الأحزاب


حكم الصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأخير

21- وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خُزَيمة، وابن حبّان، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا: يا رسول الله، أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: "قولوا: اللهم، صَل على محمد وعلى آل محمد..." وذكره.
ورواه الشافعي، رحمه الله، في مسنده، عن أبي هريرة، بمثله. ومن هاهنا ذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصح صلاته. وقد شَرَع بعض المتأخرين من المالكية وغيرهم يُشنع على الإمام الشافعي في اشتراطه ذلك في الصلاة، ويزعم أنه قد تفرد بذلك، وحكى الإجماع على خلافه أبو جعفر الطبري والطحاوي والخطابي وغيرهم، فيما نقله القاضي عياض. وقد تَعَسّف القائل في رده على الشافعي، وتكلف في دعواه الإجماع في ذلك، [وقال ما لم يحط به علما] ، فإنه قد روينا وجوب ذلك والأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما هو ظاهر الآية، ومفسر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة، منهم: ابن مسعود، وأبو مسعود البدري، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: الشعبي، وأبو جعفر الباقر، ومقاتل بن حيان. وإليه ذهب الشافعي، لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضا، وإليه ذهب [الإمام] أحمد أخيرا فيما حكاه عنه أبو زُرْعَة الدمشقي، به. وبه قال إسحاق بن راهويه، والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن الموّاز المالكي، رحمهم الله، حتى إن بعض أئمة الحنابلة أوجب أن يقال في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما علمهم أن يقولوا لما سألوه، وحتى إن بعض أصحابنا أوجب الصلاة على الآل ممن حكاه البَنْدَنيجِيّ، وسُلَيم الرازي، وصاحبه نصر بن إبراهيم المقدسي، ونقله إمام الحرمين وصاحبه الغزالي قولا عن الشافعي. والصحيح أنه وجه، على أن الجمهور على خلافه، وحكوا الإجماع على خلافه، وللقول بوجوبه ظواهر الحديث، والله أعلم.
والغَرَض أن الشافعي، رحمه الله، لقوله بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة -سَلَفٌ وَخَلَفٌ كما تقدم، لله الحمد والمنة، فلا إجماع على خلافه في هذه المسألة لا قديما ولا حديثا، والله أعلم. (الأحزاب:56)


 
رد: 30فائدة من سورة الأحزاب


حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر

22- وهكذا يجب على الخطيب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر في الخطبتين، ولا تصح الخطبتان إلا بذلك؛ لأنها عبادة، وذكر الله فيها شرط، فوجب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالأذان والصلاة. هذا مذهب الشافعي وأحمد، رحمهما الله. (الأحزاب:56)

 
رد: 30فائدة من سورة الأحزاب


مواطن لا يصلى فيها على الرسول صلى الله عليه وسلم

23-وقالوا: ويستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر الله عند الذبح: واستأنسوا بقوله تعالى: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك } [الشرح: 4]، قال بعض المفسرين: يقول الله تعالى: "لا أذكر إلا ذكرت معي". وخالفهم في ذلك الجمهور، وقالوا: هذا موطن يفرد فيه ذكر الرب تعالى، كما عند الأكل، والدخول، والوقاع وغير ذلك، مما لم ترد فيه السنة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. (الأحزاب:56)

 
رد: 30فائدة من سورة الأحزاب

الصلاة على غير الأنبياء

24- وأما الصلاة على غير الأنبياء، فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث: "اللهم، صل على محمد وآله وأزواجه وذريته"، فهذا جائز بالإجماع، وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم: فقال قائلون: يجوز ذلك، واحتجوا بقوله: { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ } ، وبقوله { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة: 157]، وبقوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [التوبة: 103]، وبحديث عبد الله بن أبي أوْفَى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهم صل عليهم". وأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى". أخرجاه في الصحيحين. وبحديث جابر: أن امرأته قالت: يا رسول الله، صل عَلَيَّ وعلى زوجي. فقال: "صلى الله عليكِ وعلى زوجك".
وقال الجمهور من العلماء: لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة؛ لأن هذا قد صار شعارا للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال: "قال أبو بكر صلى الله عليه". أو: "قال علي صلى الله عليه". وإن كان المعنى صحيحا، كما لا يقال: "قال محمد، عز وجل"، وإن كان عزيزا جليلا؛ لأن هذا من شعار ذكر الله، عز وجل. وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء لهم؛ ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبي أوفى، ولا لجابر وامرأته. وهذا مسلك حسن.
وقال آخرون: لا يجوز ذلك؛ لأن الصلاة على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل الأهواء، يصلون على من يعتقدون فيهم، فلا يقتدى بهم في ذلك، والله أعلم.
ثم اختلف المانعون من ذلك: هل هو من باب التحريم، أو الكراهة التنزيهية، أو خلاف الأولى؟ على ثلاثة أقوال، حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في كتاب الأذكار. ثم قال: والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه؛ لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم، والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود. قال أصحابنا: والمعتمد في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة في اللسان بالأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، كما أن قولنا: "عز وجل"، مخصوص بالله سبحانه وتعالى، فكما لا يقال: "محمد عز وجل"، وإن كان عزيزا جليلا لا يقال: "أبو بكر -أو: علي -صلى الله عليه". هذا لفظه بحروفه. قال: وأما السلام فقال الشيخ أبو محمد الجُوَيني من أصحابنا: هو في معنى الصلاة، فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: "علي عليه السلام"، وسواء في هذا الأحياء والأموات، وأما الحاضر فيخاطب به، فيقال: سلام عليكم، أو سلام عليك، أو السلام عليك أو عليكم. وهذا مجمع عليه. انتهى ما ذكره .
قلت: وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب، أن يفرد علي، رضي الله عنه، بأن يقال: "عليه السلام"، من دون سائر الصحابة، أو: "كرم الله وجهه" وهذا وإن كان معناه صحيحا، لكن ينبغي أن يُسَاوى بين الصحابة في ذلك؛ فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان [بن عفان] أولى بذلك منه، رضي الله عنهم أجمعين. (الأحزاب:56)



 
رد: 30فائدة من سورة الأحزاب


الأولى الجمع بين الصلاة والتسليم

25- قال النووي: إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم، فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول: "صلى الله عليه فقط"، ولا "عليه السلام" فقط، وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة، وهي قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، فالأولى أن يقال: صلى الله عليه وسلم تسليما. (الأحزاب:56)

 
رد: 30فائدة من سورة الأحزاب


الرافضة منكوسو القلوب

26- { فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } وهذا هو البهت البين أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص لهم، ومَنْ أكثر مَنْ يدخل في هذا الوعيد الكفرةُ بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد بَرَّأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم؛ فإن الله، عز وجل، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا، فهم في الحقيقة منكوسو القلوب يذمون الممدوحين، ويمدحون المذمومين.(الأحزاب:58)

 
رد: 30فائدة من سورة الأحزاب


{ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا }

27- { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } . قرأ بعض القراء بالباء الموحدة. وقرأ آخرون بالثاء المثلثة، وهما قريبا المعنى، كما في حديث عبد الله بن عمرو: أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: "قل: اللهم، إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". أخرجاه في الصحيحين، يُروى "كبيرا" و"كثيرا"، وكلاهما بمعنى صحيح.
واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه، وفي ذلك نظر، بل الأولى أن يقول هذا تارة، وهذا تارة، كما أن القارئ مخير بين القراءتين أيتهما قرأ فَحَسَن، وليس له الجمع بينهما، والله أعلم.(الأحزاب:68)

 
رد: 30فائدة من سورة الأحزاب


الأذى الذي وقع على موسى عليه السلام

28- عن ابن عباس في قوله: { لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى } قال: قال قومه له: إنك آدر. فخرج ذات يوم يغتسل، فوضع ثيابه على صخرة، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، وخرج يتبعها عريانا حتى انتهت به مجالس بني إسرائيل، قال: فرأوه ليس بآدر، فذلك قوله: { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } .
وهكذا رواه العوفي، عن ابن عباس سواء...
وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، حدثنا الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، في قوله: { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، عليه السلام، فقال بنو إسرائيل لموسى، عليه السلام: أنت قتلته، كان ألين لنا منك وأشد حياء. فآذوه من ذلك، فأمر الله الملائكة فحملته، فمروا به على مجالس بني إسرائيل، فتكلمت بموته، فما عرف موضع قبره إلا الرَّخَم، وإن الله جعله أصم أبكم.
وهكذا رواه ابن جرير، عن علي بن موسى الطوسي، عن عباد بن العوام، به.
ثم قال: وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى، وجائز أن يكون الأول هو المراد، فلا قول أولى من قول الله، عز وجل.
قلت: يحتمل أن يكون الكل مرادا، وأن يكون معه غيره، والله أعلم. (الأحزاب:69)


 
رد: 30فائدة من سورة الأحزاب

الأمانة

29- { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا (72) }
قال العوفي، عن ابن عباس: يعني بالأمانة: الطاعة، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم، فلم يطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضتُ الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحمَّلها، فذلك قوله: { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، الأمانة: الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم. وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله: { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } يعني: غرًا بأمر الله.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } قال: عرضت على آدم فقال: خذها بما فيها، فإن أطعت غَفَرت لك، وإن عَصَيت عذبتك. قال: قبلت، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم، حتى أصاب الخطيئة.
وقد روى الضحاك، عن ابن عباس، قريبا من هذا. وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه، والله أعلم. وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن البصري، وغير واحد: [ألا] إن الأمانة هي الفرائض.
وقال آخرون: هي الطاعة.
وقال الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق [قال]: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها.
وقال قتادة: الأمانة: الدين والفرائض والحدود.
وقال بعضهم: الغسل من الجنابة.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة.
وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عُوقِبَ، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا مَنْ وفق اللَّهُ، وبالله المستعان. (الأحزاب:72)



 
رد: 30فائدة من سورة الأحزاب



يبكي عند سماعه الحلف بغير الله

30- وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة، قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق الشيباني، عن خُنَاس بن سُحَيم -أو قال: جَبَلَة بن سُحَيم -قال: أقبلت مع زياد بن حُدَيْر من الجابية فقلتُ في كلامي: لا والأمانة. فجعل زياد يبكي ويبكي، فظننت أني أتيتُ أمرا عظيما، فقلت له: أكان يكره هذا؟ قال: نعم. كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالأمانة فليس منا"، تفرد به أبو داود، رحمه الله.(الأحزاب:72)




وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

37فائدة من جزء تبارك




سورة الملك

الموت أمر وجودي
1- ثم قال: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } واستدل بهذه الآية من قال: إن الموت أمر وجودي لأنه مخلوق. ومعنى الآية: أنه أوجد الخلائق من العدم، ليبلوهم ويختبرهم أيهم أحسن عملا؟ كما قال: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة: 28] فسمى الحال الأول -وهو العدم-موتًا، وسمى هذه النشأة حياة. ولهذا قال: { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة: 28] .(الملك:1)



فائدة النجوم
2- قال قتادة: إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها الله زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. (الملك:4-5)


الكافر تائه حائر ضال
3- { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ؟ : وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مُكبّا على وجهه، أي: يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه، أي: لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب؟ بل تائه حائر ضال، أهذا أهدى { أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا } أي: منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي: على طريق واضح بين، وهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة. هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة. فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم، مُفض به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم، { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ }.(الملك:22)


 

سورة القلم
القرآن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم
4- وقوله: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قال العوفي، عن ابن عباس: أي: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام. وكذلك قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد.
وقال عطية: لعلى أدب عظيم. وقال مَعْمَر، عن قتادة: سُئلت عائشةُ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: كان خلقه القرآن، تقول كما هو في القرآن.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قوله: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني يا أم المؤمنين -عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: أتقرأ القرآن؟ فقلتُ: نعم. فقالت: كان خلقه القرآن.
هذا حديث طويل. وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث قتادة بطوله...
ومعنى هذا أنه، عليه السلام، صار امتثالُ القرآن، أمرًا ونهيًا، سجية له، وخلقًا تَطَبَّعَه، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، والصفح والحلم، وكل خلق جميل. كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: خدمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: "أف" قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ولا مَسسْتُ خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم (القلم:4)

{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}

5- فقال: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ } يعني: يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء والامتحان والأمور العظام. وقد قال البخاري هاهنا:
حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يَكشِفُ رَبّنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا" .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق وله ألفاظ، وهو حديث طويل مشهور.(القلم:42)

العين حق
6- وقوله: { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: { لَيُزْلِقُونَكَ } لينفذونك بأبصارهم، أي: ليعينونك بأبصارهم، بمعنى: يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم. وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله، عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة .(القلم:51)


 
سورة الحاقة

معنى الحاقة
7- الحاقةُ من أسماء يوم القيامة؛ لأن فيها يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد؛ ولهذا عَظَّم تعالى أمرَها فقال:{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ }.(الحاقة:1)

إنه لقول رسول كريم
8- يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم: إن القرآن كلامُه ووحيه وتنزيلُه على عبده ورسوله، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال: { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني: محمدًا، أضافه إليه على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } وهذا جبريل، عليه السلام. ثم قال: { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } يعني: أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي: بمتهم { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [التكوير: 19 -25] ، وهكذا قال هاهنا: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } ، فأضافه تارة إلى قول الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري؛ لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه؛ ولهذا قال: { تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الحاقة:38-40)

عظم الافتراء على الله
9- يقول تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا } أي: محمد صلى الله عليه وسلم لو كان كما يزعمون مفتريا علينا، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة. ولهذا قال { لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين؛ لأنها أشد في البطش، وقيل: لأخذنا منه بيمينه.
{ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } قال ابن عباس: وهو نياط القلب، وهو العِرْقُ الذي القلب معلق فيه. وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والحكم، وقتادة، والضحاك، ومسلم البَطِين، وأبو صخر حُميد بن زياد.
وقال محمد بن كعب: هو القلب ومَرَاقَّه وما يليه.
وقوله: { فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي: فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئا من ذلك. والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد؛ لأن الله، عز وجل، مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات.



سورة المعارج
{ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }
10- وقوله: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فيه أربعة أقوال:
أحدهما: أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة. وذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة، وأنه من ياقوتة حمراء، كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش....
القول الثاني: أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة....
القول الثالث: أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو قول غريب جدًا....
القول الرابع: أن المراد بذلك يوم القيامة، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: يوم القيامة. هذا وإسناده صحيح. ورواه الثوري عن سماك بن حرب، عن عكرمة { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } يوم القيامة. وكذا قال الضحاك، وابن زيد.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: فهذا يوم القيامة، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة. وقد وردت أحاديث في معنى ذلك.(المعارج:4)


 
سورة نوح

معنى (من)
11- { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } أي: إذا فعلتم ما آمرتكم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم، غفر الله لكم ذنوبكم. و " من " هاهنا قيل: إنها زائدة. ولكن القول بزيادتها في الإثبات قليل. ومنه قول بعض العرب: "قد كان من مطر".
وقيل: إنها بمعنى "عن" تقديره: يصفح لكم عن ذنوبكم واختاره ابن جرير.
وقيل: إنها للتبعيض، أي يغفر لكم الذنوب العظام التي وعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام.(نوح:4)

فضيلة الاستغفار
12- { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } أي: ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب عليه، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك . ولهذا قال: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } أي: متواصلة الأمطار. ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية.
وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار. ومنها هذه الآية { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي ستنزل بها المطر.
وقال ابن عباس وغيره: يتبع بعضه بعضا.
وقوله: { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وَأَدَرَّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها.
هذا مقام الدعوة بالترغيب. ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال: { مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } أي: عظمة قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقال ابن عباس: لا تعظمون الله حق عظمته، أي: لا تخافون من بأسه ونقمته. .(نوح:10-13)

عظم خلق السموات
13- وقوله: { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } ؟ أي: واحدة فوق واحدة، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط؟ أو هي من الأمور المدركة بالحس، مما علم من التسيير والكسوفات، فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا، فأدناها القمر في السماء الدنيا وهو يكسف ما فوقه، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشترى في السادسة، وزحل في السابعة. وأما بقية الكواكب -وهي الثوابت-ففي فَلَك ثامن يسمونه فَلَكَ الثوابت. والمتشرعون منهم يقولون: هو الكرسي، والفلك التاسع، وهو الأطلس. والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك، وذلك أن حركته مبدأ الحركات، وهي من المغرب إلى المشرق؛ وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب، ومعها يدور سائر الكواكب تبعا، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها، فإنها تسير من المغرب إلى المشرق. وكل يقطع فلكه بحسبه، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، وذلك بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجمع في السرعة متناسبة. هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام، على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة، لسنا بصدد بيانها، وإنما المقصود أن الله سبحانه: { خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } أي: فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر القمر منازل وبروجا، وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستسر، ليدل على مضي الشهور والأعوام، كما قال:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[يونس:5].(نوح:14-16)

معنى ( ديارا)
14- { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } أي: لا تترك على[وجه]الأرض منهم أحدًا ولا تُومُريَّا وهذه من صيغ تأكيد النفي.
قال الضحاك: { دَيَّارًا } واحدا. وقال السُّدِّي: الديار: الذي يسكن الدار.
فاستجاب الله له، فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين حتى ولد نوح لصلبه الذي اعتزل عن أبيه، وقال: { سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود: 43] . (نوح:26)

دعاء نوح عليه السلام
15- ثم قال: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا } قال الضحاك: يعني: مسجدي، ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها، وهو أنه دعا لكل من دخل منزله وهو مؤمن،...
وقوله: { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات، وذلك يَعُم الأحياءَ منهم والأموات؛ ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء، اقتداء بنوح، عليه السلام، وبما جاء في الآثار، والأدعية [المشهورة] المشروعة.
وقوله: { وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا } قال السدي: إلا هلاكا. وقال مجاهد: إلا خسارا، أي: في الدنيا والآخرة.(نوح:28)


 


سورة الجن

{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا }
16- وقوله: { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { جَدُّ رَبِّنَا } أي: فعله وأمره وقدرته.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: جد الله: آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه.
وروي عن مجاهد وعكرمة: جلال ربنا. وقال قتادة: تعالى جلاله وعظمته وأمره. وقال السدي: تعالى أمر ربنا. وعن أبي الدرداء، ومجاهد أيضا وابن جريج: تعالى ذكره. وقال سعيد بن جبير: { تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } أي: تعالى ربنا.
فأما ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: الجد: أب. ولو علمت الجن أن في الإنس جدا ما قالوا: تعالى جَدّ ربنا.
فهذا إسناد جيد، ولكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام؛ ولعله قد سقط شيء، والله أعلم.(الجن:3)
سفيه الجن
17- ثم قالوا: { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا } قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي: { سَفِيهُنَا } يعنون: إبليس، { شَطَطًا } قال السُّدِّي، عن أبي مالك: { شَطَطًا } أي: جورا. وقال ابن زيد: ظلما كبيرا.
ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: { سَفِيهُنَا } اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولدا. ولهذا قالوا: { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } أي: قبل إسلامه { عَلَى اللَّهِ شَطَطًا } أي: باطلا وزورا؛ { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } أي: ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالئون على الكذب على الله في نسبة الصاحبة والولد إليه. فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به، علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك...
الأدب في العبارة
18- { وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } أي: ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء، لا ندري أشر أريد بمن في الأرض، أم أراد بهم ربهم رشدا؟ وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله عز وجل. وقد ورد في الصحيح: "والشر ليس إليك". وقد كانت الكواكب يُرمَى بها قبل ذلك، ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان. (الجن:10)

الرافضة شر الإنس والجن
19- وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه، حدثنا أسلم بن سهل بحشل، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان -هو أبو الشعثاء الحضرمي، شيخ مسلم-حدثنا أبو معاوية قال: سمعتُ الأعمش يقول: تروح إلينا جني، فقلت له: ما أحب الطعام إليكم؟ فقال الأرز. قال: فأتيناهم به، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا. فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم. قلت: فما الرافضة فيكم ؟ قال: شرنا. عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المِزِّي فقال: هذا إسناد صحيح إلى الأعمش. (الجن:11)
القاسط والمقسط
20- { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } أي: منا المسلم ومنا القاسط، وهو: الجائر عن الحق الناكب عنه، بخلاف المقسط فإنه العادل، { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } أي: طلبوا لأنفسهم النجاة،
{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } أي: وقودًا تسعر بهم. . (الجن:14)



 
سورة المزمل

القول الثقيل
21- وقوله: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } قال الحسن، وقتادة: أي العمل به.
وقيل: ثقيلٌ وقت نزوله؛ من عظمته.كما قال زيد بن ثابت: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فكادت تُرض فَخذي...
واختار ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معا، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين.(المزمل:5)

قيام الليل
22- وقوله: { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا } قال أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: نشأ: قام بالحبشة.
وقال عمر، وابن عباس، وابن الزبير: الليل كله ناشئة. وكذا قال مجاهد، وغير واحد، يقال: نشأ: إذا قام من الليل. وفي رواية عن مجاهد: بعد العشاء. وكذا قال أبو مِجْلَز، وقتادة، وسالم وأبو حازم، ومحمد بن المنكدر.
والغرض أن ناشئة الليل هي: ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وهي الآنات. والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة؛ ولهذا قال: { هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا } أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولَغَط الأصوات وأوقات المعاش. (المزمل:6)

قراءة المأموم للفاتحة
23- { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } أي: من غير تحديد بوقت، أي: ولكن قوموا من الليل ما تيسر. وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي: بقراءتك، { وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة، رحمه الله، بهذه الآية، وهي قوله: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه؛ واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن".
وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، غير تمام". وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن".(المزمل:20)

من دلائل النبوة
24- وقوله: { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: علم أن سيكون من هذه الأمة ذووأعذار في ترك قيام الليل، من مرضى لا يستطيعون ذلك، ومسافرين في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر، وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله وهذه الآية -بل السورة كلها-مكية، ولم يكن القتال شُرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة. ولهذا قال:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}أي: قوموا بما تيسر عليكم منه.(المزمل:20)

حامل القرآن وقيام الليل
25- قال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء محمد، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، ولا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة؟ قال: يتوسَّدُ القرآن، لعن الله ذاك، قال الله تعالى للعبد الصالح: { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } [يوسف: 68] { وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ } قلت: يا أبا سعيد، قال الله: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } ؟ قال: نعم، ولو خمس آيات.
وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري: أنه كان يرى حقًا واجبًا على حَمَلة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل؛ ولهذا جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح، فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه". فقيل معناه: نام عن المكتوبة. وقيل: عن قيام الليل. وفي السنن: "أوتِرُوا يا أهل القرآن."وفي الحديث الآخر: "من لم يوتر فليس منا".
وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر عبد العزيز، من الحنابلة، من إيجابه قيام شهر رمضان، فالله أعلم. (المزمل:20)
متى فرضت الزكاة؟
26- وقوله: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } أي: أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة. وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النّصب والمَخْرَج لم تُبَين إلا بالمدينة. والله أعلم.
وقد قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف: إن هذه الآية نَسَخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل. واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل: "خمس صلوات في اليوم والليلة". قال: هل عليّ غيرها؟ قال: "لا إلا أن تَطوّع".(المزمل:20)


 

سورة المدثر

{ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ }
27- وقوله: { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قال ابن عباس: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وعطاء، وطاووس، وأبو الأحوص، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم.
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: "ولا تمنن أن تستكثر".
وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره. وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير. وقال خصيف، عن مجاهد في قوله: { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قال: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال تمنن في كلام العرب: تضعف.
وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس، تستكثرهم بها، تأخذ عليه عوضا من الدنيا.
فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول، والله أعلم. (المدثر:6)

{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ }
28- وقوله: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } أي: ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط، كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة ومن الفلاسفة اليونانيين. ومن تابعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الآية، فأرادوا تنزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة، التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على مقتضاها، فأفهموا صدر هذه الآية وقد كفروا بآخرها، وهو قوله: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } (المدثر:31)

إعراض المشركين
29- { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } أي: كأنهم في نفارهم عن الحق، وإعراضهم عنه حُمُر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد، قاله أبو هريرة، وابن عباس -في رواية-عنه وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن. أو: رام، وهو رواية عن ابن عباس، وهو قول الجمهور.
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران عن ابن عباس: الأسد، بالعربية، ويقال له بالحبشية: قسورة، وبالفارسية: شير وبالنبطية: أويا. (المدثر:50-51)




 
سورة القيامة

{ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ }
30- وقال تعالى ها هنا: { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ } قال أبو عمرو بن العلاء: { بَرِقَ } بكسر الراء، أي: حار. وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى: { لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } [ إبراهيم : 43 ]، بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا، لا يستقر لهم بصر على شيء؛ من شدة الرعب.
وقرأ آخرون: "بَرَقَ" بالفتح، وهو قريب في المعنى من الأول. والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور. (القيامة:7)

تعليم من الله عزوجل لرسوله صلى الله عليه وسلم
31- هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه.
فالحالة الأولى: جمعه في صدره،
والثانية: تلاوته،
والثالثة: تفسيره وإيضاح معناه؛ ولهذا قال: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } أي: بالقرآن، كما قال:{ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[ طه : 114 ].
ثم قال: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أي: في صدرك، { وَقُرْآنَهُ } أي: أن تقرأه، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله عز وجل ، { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا. (القيامة:16-19)

رؤية الله عزوجل يوم القيامة
32- ثم قال تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } من النضارة، أي حسنة بَهِيَّة مشرقة مسرورة، { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي: تراه عيانا، كما رواه البخاري، رحمه الله، في صحيحه: "إنكم سترون ربكم عَيَانا". وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة -وما في الصحيحين-: أن ناسا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: "هل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب؟" قالوا: لا. قال: "فإنكم تَرَون ربكم كذلك".
ومن تأول ذلك بأن المراد بـ { إِلَى } مفرد الآلاء، وهي النعم، كما قال الثوري، عن منصور، عن مجاهد: { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال تنتظر الثواب من ربها. رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد. وكذا قال أبو صالح أيضا -فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه. وأين هو من قوله تعالى: { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } ؟[ المطففين : 15 ]، قال الشافعي، رحمه الله: ما حَجَب الفجار إلا وقد عَلم أن الأبرار يرونه عز وجل. ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله: { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال ابن جرير:.حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا آدم، حدثنا المبارك عن الحسن:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ }قال: حسنة،{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال تنظر إلى الخالق، وحُقّ لها أن تَنضُر وهي تنظر إلى الخالق.(القيامة:22-23)

{ أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى }
33- وقوله: { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } قال السدي: يعني: لا يبعث.
وقال مجاهد، والشافعي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني لا يؤمر ولا ينهى.
والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة. والمقصود هنا إثبات المعاد، والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد.(القيامة:36)



 
سورة الإنسان

{ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا }
34- وقوله: { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } أي: يتصرفون فيها حيث شاءوا وأين شاءوا، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم.
والتفجير هو الإنباع، كما قال تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } [الإسراء : 90] . وقال: { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا } [الكهف : 33] .
وقال مجاهد: { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } يقودونها حيث شاءوا، وكذا قال عكرمة، وقتادة. وقال الثوري: يصرفونها حيث شاءوا. (الإنسان:6)

السلسبيل
35- وقوله: { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا } أي: ويسقون -يعني الأبرار أيضا-في هذه الأكواب { كَأْسًا } أي: خمرًا، { كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا } فتارة يُمزَج لهم الشراب بالكافور
وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة. وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صِرْفًا، كما قاله قتادة وغير واحد . وقد تقدم قوله: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } وقال هاهنا: { عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا } أي: الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا.
قال عكرمة: اسم عين في الجنة. وقال مجاهد: سميت بذلك لسلاسة سيلها وحِدّة جَريها.
وقال قتادة: { عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا } عين سَلِسَة مُستَقِيد ماؤها.
وحكى ابنُ جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها في الحَلْق. واختار هو أنها تَعُمّ ذلك كلَّه، وهو كما قال. (الإنسان:17-18)



 
سورة المرسلات

{ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا }
36- وتوقف ابن جرير في { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعُرْف، أو كعُرْف الفَرَس يتبع بعضهم بعضا؟ أو: هي الرياح إذا هَبَّت شيئا فشيئا؟ وقطع بأن العاصفات عصفا هي الرياح، كما قاله ابن مسعود ومن تابعه. وممن قال ذلك في العاصفات أيضا: علي بن أبي طالب ، والسدي، وتوقف في { وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا } هل هي الملائكة أو الريح؟ كما تقدم. وعن أبي صالح: أن الناشرات نشرا: المطر.
والأظهر أن: "الْمُرْسَلات" هي الرياح، كما قال تعالى: { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22]، وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57] وهكذا العاصفات هي: الرياح، يقال: عصفت الريح إذا هَبَّت بتصويت، وكذا الناشرات هي: الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء، كما يشاء الرب عز وجل.
وقوله: { فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا } يعني: الملائكة قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومسروق، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، والسّدي، والثوري. ولا خلاف هاهنا؛ فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغيّ، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذارٌ لهم عقابَ الله إن خالفوا أمره.(المرسلات:1-6)

{ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ }
37- وقال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، أخبرنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس: { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } قال: كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك، فنرفعه للشتاء، فنسميه القَصَرَ، { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } حبال السفن، تجمع حتى تكون كأوساط الرجال.(المرسلات:33)


وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 
الوسوم
القران سورة فوائد من
عودة
أعلى