المرأة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

نورحياتى

الاعضاء
المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
المرأة في مجتمعنا الإسلامي نصفه الجميل الحبيب ، وشطره الظريف اللطيف ، فهي الأم والأخت ، والزوجة ، والجدّة ، والحفيدة ، والابنة ، والعمة ، والخالة . تحيط بنا ـ معشر الرجال ـ فنرى فيها الأُنس والسعادة ، فالله خلقها آية ، فجعل فيها السكن ، وفيها الرحمة والمودة . . ولن تكون الحياة طيبة إلا بالمرأة الصالحة خيرِ متاع الدنيا كما وصفها الحبيب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ (1) .
لقد كان للمرأة نصيب وافٍ في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، سواء روايتُها لحديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحديثُ عنها أماً ورَحِماً ، وقد حفلت أحاديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحديث عن المرأة وسمو مكانتها في هذا الدين العظيم .
ولعلّي في هذا البحث أتناول بعضاً من ذلك راجياً المولى الرشاد والسداد والتوفيق والهداية .

 
المرأة مربية وداعية



لكل إنسان في هذه الحياة دورٌ مهم لا يقوم به غيره ، يقول النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم - : (( كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، والأمير راع ، والرجل راع على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ، فكلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته )) (1) .
والنساء في الإسلام شقائق الرجال ، لهنَّ ما للرجال وعليهنَّ ما على الرجال في مجمل الأحوال إلا أموراً منوطة بالرجال وحدهم أو بالنساء وحدَهُنَّ ، ورسخ القرآن المساوة بين الطرفين في قوله تعالى : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَاكِرَتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيما ) (2) ، ونرى المساواة بين الرجال والنساء في آيات عديدة أخرى وأحاديث شريفة .
فالمرأة في الإسلام معززة مكرمة ولن تجد مثل هذا في الشرائع المحرّفة والديانات المصطنعة ، فشريعة الله تعالى لا يرقى إلى مثلها أهواء البشر ولا شرائعهم الأرضية .
ولها فضل في الرواية عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأخذ عنه مما جعل الصحابة والتابعين يروون عن كثير منهنّ الدين والأحكام ، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها روت عن زوجها الحبيب ألفين ومئتين وعشرة أحاديث ، وأم سلمة رضي الله عنها تروي عن زوجها سيد الخلق ثلاثة مئة وسبعة وثمانين حديثاً ، وكانت ذا رأي صائب ، وهي التي أشارت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية أن يحلق وينحر فيتّبعه الناس .
ولقد كان المرأة حريصة على التزوُّد بالعلم والعمل به ، فهذه أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في أصحابه فقالت :
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، أنا وافدة النساء إليك ، إنَّ الله عزَّ وجل َّ بعثك إلى الرجال والنساء كافةً ، فآمنّا بك وبإلهك ، وإنّا – معشر النساء – محصورات مقصورات قواعد بيوتكم ، ومقضى شهواتكم ، وحاملاتُ أولادكم ، وإنكم ـ معشر الرجال ـ فُضِّلْتم علينا في الجُمَعِ والجماعات ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، والحج ، وأفضلَ من ذلك ، الجهادُ في سبيل الله عزَّ وجلَّ ، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجّاً أو مجاهداً حفظنا لكم أموالكم ، وغزلنا أثوابكم ، وربينا لكم أولادكم ، أفلا نشارككم في هذا الأجر ؟
فالتفت النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أصحابه بوجهه كله ، ثم قال :
هل سمعتم بمقالة امرأة قط أحسن من مسائلها في أمر دينها من هذه ؟ فقالوا : يا رسول الله ؛ ما ظننا أنَّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا . فالتفت النبيُّ - صلى الله عليه وسلم ـ إليها فقال : (( افهمي أيتها المرأة وأعلمي مَنْ خلفك من النساء أنّ حسن تبعُّلِ المرأة لزوجها ، وطلبها مرضاته ، واتباعَها موافقتـَه يعدل ذلك كله )) . فانصرفت وهي تهلل (3) وروت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم ـ واحداً وثمانين حديثاً ، وروى عنها جِلّةٌ من التابعين ، وشهدت أسماء بنت يزيد هذه معركة اليرموك وقتلت يومئذ تسعةً من الروم بعمود خبائها ، رضي الله عنها .
والصحابيات اللواتي طلبن الحديث الشريف وروينه كثيرات اهتممن كذلك بتعليمه أبناءَهن وأبناء المسلمين . وكانت الصحابيات يسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ أمورهُنَّ ليكنَّ على صواب في تصرُّفاتهن ، فقد روى ابن عباس رضي الله عنه ما في قصة بريرة وزوجها قال : قال لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : (( لو راجعتِه ؟ )) قالت : يا رسول الله ، تأمرني ؟ قال : (( إنما أشفع )) قالت : لا حاجة لي فيه (1) . فحين علمت أن تدخُّلَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للشفعة وليس أمراً منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعودة إلى زوجها أنِفَت الرجوع إليه .
وهذه أسماء رضي الله عنها بنت الصديق رضي الله عنه تقول للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ وهي تنشد التصرّف السليم ـ حين قدمت أمها عليها ، وهي كافرة ! قدمت عليَّ أمي وهي راغبة ، أفأصلُ أمي ؟ قال : (( نعم صلي أمك )) (2) .
وينطلق المسلمون من أطراف الجزيرة قاصدين مكّة حاجّين مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويلتقي ركب منهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( بالرَّوحاء )) وهو مكان قرب المدينة المنورة ، آمنوا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون أن يروه ، فيقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَن القوم )) ؟ قالوا : المسلمون ، فقالوا : مَنْ أنتَ ؟ قال : (( رسول الله )) ، فرفعت إليه امرأةٌ صبيّا فقالت : ألهذا حج ؟ قال ((نعم ولك أجر)) (3) فكان سؤالها وجوابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ دافعاً للمسلمين أن يعوِّدوا أبناءهم منذ الصغر مناسك الإسلام وشعائره حتى يتمثلوها في حياتهم ثوابتَ يعملون بها ، لا يحيدون عنها .
ويخطب فاطمةََ بنتَ قيسٍ رجلان هما أبو الجهم ، ومعاويةُ ، فتحتار أيُّهما تختار ؟ ولتقف على خبريهما تنطلق إلى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ تستفتيه فيهما ، وتعرف أمرهما ، فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولُ الله ، ولن يخذلها . . . قالت : إن أبا الجهم ومعاوية خطباني ؟ ولا تقول أكثر من هذه الجملة ، ويعرف الأريبُ ، النبيهُ ، المعلّم ، الناصح ، ماتريد . فيقول : (( أما معاويةُ فصعلوك (4) لا مال له ، وأما أبو الجهْم فلا يضع العصا عن عاتقه )) (5) (( ضرّابٌ للنساء)) . . . هاتان إذاً أبرز صفتين في الرجلين ، إن شاءت اختارت أحدهما وإن شاءت رغبت عنهما ، ثم ينصحها أن تتزوج أسامة بن زيد رضي الله عنهما .
وتروي أم المؤمنين زينب رضي الله عنها أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل عليها فزعاً يقول: (( لا إله إلا الله . . . ويل للعرب من شرِّ قد اقترب ، فتح اليوم ردم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه )) وحلّقَ بإصبعيه الإبهام والتي تليها ، فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟! قال : (( نعم إذا كثر الخَبَثُ )) (6) .
فينبغي أن يكون الصالحون مصلحين ، أما إذا كان موقفهم سلباً ، ونشط المفسدون يهدمون الأمّة، وحقّ عليها العذاب فأوّل ما يُبدأ بهؤلاء الذين انزوَوا ، ولم يَدْعوا إلى الله تعالى وتركوا المجال للمفسدين ينخرون في المجتمع وينشرون فيه الفساد ، ونسُوا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) (7) . . . نعم . . نهلك وفينا الصالحون إذا كثر فينا الخَبَثُ .
وكثيراً بل اكثر من الكثير أن ترى المرأة لا تفهم للحجاب معنى ، وإن كانت محجّبةً بل قلْ : تخمّر رأسها وتلبس قميصاً وبنطالاً ، وكأن إخفاء الشعر هو الحجاب !! أما الكحل ، وطلي الوجه بالألوان والأصباغ وتحميرُ الشفاه فلا علاقة له بالحجاب !! أما القميص والسراويل فهي ضيّقة جداً لا تظهر من جسد المراة سوى هضابها ووهادها ومرتفعاتها ومنخفضاتها ، وترسم للعين المتفجِّعة ما خَفِي رسماً واضحاً ! فأي حجاب هذا وأي ستر هذا الستر ؟
وغالب النساء ومعهم كثير من الرجال لا يرون مانعاً أن تنظر المرأة إلى الرجل في الأحوال العادية دون حرج ،لأنه الطالب وهي المطلوبة ، وكأن الرجل وحده مأمور بغض البصر! ونسوا أنَّ الله تعالى يأمر الجنسين أن يغضوا من أبصارهم قال تعالى : ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ . . . ) (1) إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ــ كان مع زوجتيه أم سلمة وميمونة رضي الله تعالى عنهما فأقبل ابن أم مكتوم بعد أن أمرت النساء بالحجاب ، فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( احتجبا منه )) فقالتا : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ، ولا يعرفنا ؟ فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه !؟ )) (2) .
فالحجاب إذاً غضُّ البصر إضافة إلى الستر وإخفاء محاسن المرأة . وهذا أدعى إلى الحشمة والعفاف ، وهذا لا يناقض ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها : (( رأيتُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ــ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد . . )) (3) . فقد كانت صغيرة تحب اللعب والنظر إليه ، كما أنه يجوز للمراة أن تخرج للسوق والمسجد متنقّبة لئلا يراها الرجال .
كما أن كثيراً من النساء يجهلن أنّ عورة المرأة إلى المرأة كعورة الرجل إلى الرجل ، فلا ينبغي أن تنظر المرأة إلى جسد امرأة أخرى فترى منها إلا ما تحت ركبتها وفوق سرتها . . . ولأن درهم وقاية خير من قنطار علاج وجّه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ــ عناية الرجل والمرأة إلى ذلك فقال : (( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المراة في الثوب الواحد )) (4)(5) فالمرأة المسلمة المربّية تعي خطورة الانزلاق ، وتبتعد عن خطوات الشيطان .
والمرأة المسلمة ترى حياتها في الإسلام وسعادتها في العمل بما يرضي ربها ، وتدعو إلى الله على بصيرة ، وتجد راحتها في بناء بيت إسلامي دعائمه التقوى وأساساته الإخلاص ، هذه أم سُليم بنت ملحان بن خالد مجاهدة جليلة ذات عقل ورأي ، أسلمت مع السابقين إلى الإسلام ، وبايعت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فغضب زوجها مالك بن النضر غضباً شديداً من إسلامها ، وقال لها : أصبَوْتِ ؟ قالت : ما صبوتُ ولكنّي آمنت بهذا الرجل . . ثم جعلت تلقّن ابنها أنساً وتشير اليه بقولها : قل : لا إله إلا الله ، قل أشهد أنَّ محمداً رسول الله ، فكان مالك يقول لها : لا تفسدي عليَّ ابني، فتقول : لا أفسده .
ثم خرج زوجها إلى الشام فلقيه عدو فقتله ، فلما بلغها قتله قالت : لا أفطم أنساً حتى يدع الثديَ وكان ابنها أنَسٌ غلاماً حدثاً . . هذه المرأة يخطبها أبو طلحة وهو مشرك ، فتقول له : يا أبا طلحة ، ما أعيب فيك شيئاً فنعم الرجل أنت ، ولكنّك مشرك تعبد الأصنام فيعود إليها عارضاً عليها مهراً مغرياً فتقول : يا أبا طلحة ألست تعلم أنَّ إلهك الذي تعبده حجر لا يضرك ولا ينفعك أو خشبة تأتي بها النجار فينجرها لك ، هل يضرّك ؟! هل ينفعك ؟! أفلا تستحي من عبادتك هذه ؟ فإن أسلمت فإني لا أريد منك صداقاً غير إسلامك! . . . لا تريد أن يكون زوجها من ذوي الأموال والأطيان فكل ذلك زائل ، إنها تريده من أصحاب الإيمان والتقوى وأهل الهدى والرشاد . . ويقع الإسلام في قلبه فينطق بالشهادتين ، فتتزوجه ويكون إسلامُه صداقـَها (6) .
امرأة داعية مربية كهذه حريصة كل الحرص على مرضاة زوجها ، روى ابنها أنس قال : كان لأبي طلحة طفل يشتكي ( مريض ) فخرج أبو طلحة لبعض أعماله ، فقـُبض الصبيُّ ، فلما رجع قال : ما فعل ابني؟ قالت أم سُليم ـ وهي أم الصبي ـ هو أسكن ما كان ، فظنّ أن ابنه شُفي فاطمأن ، فقرّبت إليه عشاء فتعشّى ، ثم تصنّعت له وتزيّنت أحسن ما كانت تتصنّع وتتزيّن ، فوقع بها ، فلما رأت أنه قد شبع ، وأصاب منها قالت : يا أبا طلحة أرأيتَ لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت ، فطلبوا عاريتهم ، ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا . قالت : فاحتسب ابنك ، فغضب أبو طلحة ثم قال : تركتني حتى تلطخت (1) ثم أخبرتني بابني ، كيف فعلت ذلك ؟ فلما هدأ أو كاد قالت : واروا الصبيَّ .

يتبع
 
فلما أصبح أبو طلحة أتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فشكا له ما فعلت أم سُليم ، فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أعرّستمُ الليلة؟ )) قال : نعم ، قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ داعياً : (( اللهم بارك لهما )) فحملت من تلك الليلة وولدت غلاماً .
قال أبو طلحة لأنس : احمله حتى تأتي به النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ وبعث معه بتمرات ـ ولا يرضعه أحد حتى تغدوَ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فحمله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيديه الشريفتين ومضغ التمرات ، ثم أخذها من فيه ، فجعلها في فم الصبي ، ثم حنَّكه وسمّاه عبدالله .
قال أحد التابعين ـ ابن عيينة ـ : رأيتُ من أولاد عبدالله المولود تسعةََ أولاد ، كلهم قد قرأوا القرآن(2) .
فأم سُليم امرأة تعرف أنَّ ما قدّر الله كائن ، فلم تلطُم ، ولم تُوَلْوِلْ ، واحتسبت ولدها ، وقلبها في غاية الحزن ، وحاولت التخفيف عن زوجها في مصابهما بولديهما ، فعوّضهما الله ولداً صالحاً وذريّة صالحة ، ولم ينكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صنيعها ، إنما خفـّف عن زوجها ودعا لهما أن تكون ليلةً مباركة ، وكان دعاؤه عليه الصلاة والسلام بلسماً ، وكانت أم سليم مثالاً يُقتدى في الصبر وحُسن التصرّف .
والمرأة الداعية المربية لا تكون كذلك إلا إذا تسلَّحَت بالإيمان والتقوى .
1ـ فعزفَتْ عن الحياة الدنيا وبهرجها ، وعلمت أن الدنيا فانية ، فلم تعمل لها إلا بما يبلغها منازل الآخرة تلك الدار الباقية . . قال الشاعر :
قارف الدنيا بثوب ومن العيـش بقوت
واتخذ بيتـاً خفيفــاً مثل بيت العنكبوت
قالت عائشة رضي الله عنها :قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من سفر،وقد سترت سهوة (3) لي بقرام (4) فيه تماثيل ، فلما رآه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هتكه ، وتلوّن وجهه وقال : (( يا عائشة : أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله )) (5) .
فماذا نقول نحن الآن وقد امتلأت بيوتنا بالتماثيل والرسوم على الجدران والطنافس ، وأصبح اقتناء مثل هذه الأمور أمراً دالاً على الحضارة والتقدم !!؟
2ـ وقامت الليل فصلَّت وسألت الله عزَّ وجلَّ الهداية والعفو والغفران ، وسألته من خيره وفضله وكانت خير شريك وصاحب لزوجها تامره بالمعروف وتنهاه عن المنكر .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى وأيقظ امرأته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء . رحم الله امرأة قامت من الليل فصلّت وأيقظت زوجها ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء )) (6) .
فكم من أمثال هؤلاء يفعل ذلك اليومَ ، وكم نسبتُهم إلى من يقوم الليل على القنوات الفضائية يتابعون الأفلام الخليعة ، والتمثيليات الهابطة ، والرقصات الماجنة ، والأغاني الصفيقة ، والسهرات التافهة ، فإذا ما أذن الصبح بانبلاج غطُّوا في سبات عميق لا يعرفون صلاة فرض ولا قيام نفل ... وكان صلى الله عليه وسلم يقول : (( إذا أيقظ الرجل اهله من الليل ، فصليا . . أو صلى ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين والذاكرات )) (1) .
3ـ وآتـَتْ زكاة مالها وتصدَّقت على الفقراء والمساكين ، وساعدت زوجها بمالها إن كان فقيراً ، فهو أبو أولادها ، والمعروفُ مع الأقربين أولى . . هذا ما فعلته زينب زوجة عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما حين سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( تصدَّقن يا معشر النساء ، ولو من حُليِّكُن )) فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقالت : إنك رجل خفيف ذات اليد (2) وإنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمرنا بالصدقة ، فأتِه ، فاسألْهُ إن كانت صدقتي إليك وإلى أولادك تجزئ عني (3) وإلا صرفتها إلى غيركم . قال عبدالله : بل ائتيه أنت ، فانطلقَتْ ، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاجتُها كحاجة زينب ، وكانت مهابةُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تملأ القلوب ، فخرج عليهما بلال فقالتا له : ايتِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاخبره أن امرأتين بالباب تسألانك : أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما ، وعلى أيتام في حجورهما(4) ؟ ولا تخبره من نحن . فدخل بلال على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من هما ؟ )) قال بلال : امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أي الزيانب هي ؟ )) قال : امرأة عبدالله ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لهما أجران : أجر القرابة ، وأجر الصدقة )) (5) .
فماذا تقول باللواتي يسرفن ، ويكثرن الطلب ، ويحملن أزواجهن ما لهم به طاقة ، وما ليس لهم به طاقة .
ماذا تقول باللواتي يشتكين من قلة أثوابهن وخزائنُهن ملأى بالجديد الغالي ، ولا يعبأن أيأتيهن ما يطلبن من حلال أو حرام ، ويكثرن التزاور مفتخرات بما يلبسن ويتحلّين ، فإذا نبّهتهُنَّ إلى ذلك قلن : هكذا تفعل النساء ولا قدرة لنا على مخالفة ما يفعلن . . نسأل الله العافية .
4ـ وصامَت تبتغي الأجر من الله وتعوّد نفسها تحمُّلَ المشاق ، والصبر على الجوع والعطش ، فتتذكر الفقراء المحرومين ، والأسر البائسة ، وتشعر بشعورهم ، فتعمل ما وسعها العمل على التخفيف عنهم ، ومساعدتهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً .
زار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم عُمارة الأنصارية رضي الله نها ، فقدّمت إليه طعاماً ، فقال : (( كُلي )) فقالت : إني صائمة ، فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّ الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أُكل عنده حتى يفرُغوا )) ، وربما قال : (( حتى يشبعوا )) (6) وما أجمل دعاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين زار سعد بن عبادة ، فجاء بخبز وزيت ، ولم يكن لديه اللحم مرصوصاً فوق الأرز ، ولا أنواع الحلوى التي يشبع لرؤيتها الناظرون قبل أن يأكلوا ، أكل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه ولم يأنفوا من خبز وزيت . ودعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأهل البيت قائلاً : (( أفطر عندكم الصائمون ، وأكل طعامكم الأبرار ، وصلَّت عليكم الملائكة )) (7) .
5ـ وَوَصَلََتْ رحمها ، وتقرَّبت إليهم ، وأكرمتهم إن استطاعت ، فمَن أكرم أقاربه كان أقدر على إكرام الآخرين ، ومن أحسن إلى أرحامه سهَّل الله له إكرام مَن دونهم ، والنبع يروي ما حوله ثم يصل إلى ما بَعُد .
فعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة (1) ولم تستأذن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما كان يومُها الذي يدور عليها فيه ، قالت : أشعَرْت يا رسول الله أني أعتقدتُ وليدتي؟ قال : (( أوَ فَعَلْتِ ؟)) قالت : نعم . قال : (( أما إنّك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك )) (2) .
فعلى الرغم أن العتق من أفضل القربات كانت صلة الرحم ، والإحسانُ إليهم أعلى فضلاً وأجزل مثوبة .
وقد مرَّ بنا قبل صفحات برُّ أسماء ذات النطاقين بأمها المشركة .
6ـ وصَدَقَتْ في قولها وفي فعلها ، فلم تدَّعِ ما لم يكن ، ولم تفخر بما لا ينبغي ، ولم تسئ إلى مشاعر الآخرين وإن سابقتهم ورغبت أن تكون خيراً منهم ، إن المنافسة سمة من سمات الإنسان ، ولكن يجب أن تكون في الحق وبالحق ، وإلا كانت خداعاً ومكراً لا يليق بالمسلم أن يتصف بهما ، ألم يقل الله سبحانه وتعالى : ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (3) و (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (4) .
كذلك روت أسماء رضي الله عنها أنّ امرأة قالت : يا رسول الله إنَّ لي ضَرّة (5) فهل عليَّ إن تشَبَّعْتُ (6) من زوجي غير الذي يعطيني ؟ فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المتشبّع بما لم يُعط كلابس ثوبَيْ زور )) (7) .
فهي تريد أن تظهر أمام ضرَّتها أن زوجها يفضلها عليها ، ويميل إليها ، فيعطيها ما لا يعطي الأخرى، لتكيدها وتؤذي مشاعرها ، فبماذا شبهها النبي ُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن فعلت ذلك ؟ إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صوَّر هذه الفعلة الشائنة بمن يتزيَّا بزيّ أهل الزهد أو العلم أو الثروة ليغتر به الناس ، وهو غير ذلك .
7ـ وتوكَّلََتْ على الله ولجأت إليه في العسر واليسر ووصلت حبلها بحبله فكانت أهلاً للأسوة الحسنة والقدوة الطيبة ، فاستنَّ الناس بسنَّتها ، واقتدوا بسيرتها .
وقد حدثنا النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصة هاجر أم إسماعيل عليه السلام ، فقد جاء إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأم إسماعيل وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت الحرام ، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعها هناك ، ووضع عندها جِراباً فيه تمر ، وسقاءٌ فيه ماء ، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيئ ؟ فقالت ذلك مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آللهُ أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذاً لا يضيّعنا ، ثم رجعت .
جواب رائع ، رائع ، يدلُّ على عظيم الإيمان بالله سبحانه ، وجميل التوكل عليه ، والرضا بقضائه ، فهو سبحانه خيرٌ حافظاً ، وهو أرحم الراحمين .

وقال الملك الذي حفر بجناحه زمزم : (( لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيتاً يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإنّ الله لا يضيّع أهله )) (1) . نعم إن الله لا يضيّع أهله .
فإن فعلت تلك التي تندرج تحت سمة التقوى كانت امرأة صالحة مصلحة ، ودرجت في مرابع الإيمان ، وكانت حَرِيّة أن تبني جيلاً عظيماً وأمّةً ثابتة الأركان ورجالاً يبنون بسواعدهم المؤمنة وعقولهم الراجحة مجد أمتهم . نسأل الله ذلك .



 
المرأة التقيّة



أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حافلة بذكر المرأة التقيّة التي تنأى بنفسها عن التبذُُّل ، وتلتزم بأمر الله ورسوله وتنتهي عما يُغضب الله تعالى ، وتحاول أن تتمثَّل السمات الخيّرة ، وتقواها ينعكس على البيت رحمة وسعادة ، وعلى المجتمع صفاءً ونقاءً ، وعلى الحياة صلاحاً وإصلاحاً . . ألمْ يقل الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ:(( الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ؟))(1)
ألمْ يوصِ الزوج المؤمن بامرأته المؤمنة خيراً (( لا يفرَكْ مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر )) (2) .
وفي حجة الوداع قال : (( ألا واستوصوا بالنساء خيراً . . )) (3) .
وها أنا أقدّم صوراً من النساء التقيات في أحاديثه صلى الله عليه وسلم .
ففي الحديث الذي رواه عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في النفر الثلاثة الذين باتوا في الغار ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فتوسّلوا إلى الله تعالى أن ينجّيهم فذكروا صالح أعمالهم ، يقول الثاني منهم : (( اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحبَّ الناس إليَّ ـ وفي رواية ـ كنت أحبُّها كأشد ما يحب الرجال النساء ، فأردتُها على نفسها ، فامتنعت مني حتي ألَمَّت بها سَنةُ من السنين ، فجاءتني فأعطيتُها عشرين ومئة دينار على أن تُخلّيَ بيني وبين نفسها ، ففعلت ، حتى إذا قدرتُ عليها ـ وفي رواية ـ فلما قعدت بين رجليها قالت : اتّق الله ، ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه . . . )) (4) ، فقد كانت تقيّة لم تمكنه من نفسها ابتداءً فلما ضعفت لفقرها ـ وكاد الفقر أن يكون كفراً ـ اضطرت إلى ما طلب ، وذكّرَته بالله وتقواه ، وهزت فيه المشاعر الإيمانية وأن عليه ـ إن أرادها ـ أن يتزوجها حلالاً ولا يقع عليها زنا ، فارعوى وتاب إلى الله تعالى فكان لها الفضل الأكبر عليه ـ حقيقة ـ في انفراج شيء من الصخرة يوم سدَّت باب الغار .
وهذه المرأة الجُهَنيّةُ زلَّتْ فوقعت في الزنا وهي مُحصنةٌ ثم ذكرت الله فتابت وأنابت وجاءت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تريد أن يرجمها فيطهّرها . . جاءته حبلى من الزنا ، فقالت : يا رسول الله إني أصبتُ حدّاً ، فأَقِمْه عليَّ ، فدعا النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليَّها فقال : (( أحسِنْ إليها ، فإذا وضعَتْ فأتني )) ، ففعل فأمر بها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَشُدَّتْ عليها ثيابُها ، ثم أُمِرَ بها فَرُجِمت ، ثم صلّى عليها ، فقال له عمر : تصلّي عليها يا رسول الله وقد زنتْ؟! قال : (( لقد تابت توبةً ، لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجَدْتَ أفضلَ من أن جادت بنفسها لله عزّ وجلَّ ؟)) (5) .
دفعةٌ إيمانيّةُ قويّةُ دفعتها إلى التطهُّر ، واختيار الآجلة على العاجلة ، ولو لم تكن ذات إيمان قويّ ما آثرت الموت رجماً ، ولعلَّ قائلاً يقول : فلماذا زنت وهل يفعل ذلك إلا ضعيفُ الإيمان مهزوزُه ؟! ، فأقول : قد يضعف الإنسان فيقعُ في المحظور ، لأنه خُلِقَ من ضعف ، ويَزِلُّ ، لأنه خُلق من عَجَل ، ويضل لحظةً لأنه ناقص ، لكنَّ بِذرة الإيمان حين تنمو في قلبه شجرةً باسقةً وارفةََ الظلال تُظهر معدِنه الأصيلَ ، ويقينَه المتينَ ، وهذا ما جعلها تسرع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسأله أن يطهِّرها ، وجادت بروحها ابتغاء مرضاة الله ورحمته وغفرانه .
وما أروع ما قالته السيدة هاجر رضي الله عنها زوج إبراهيم وأم إسماعيل عليهما السلام حين تبعت زوجها ـ بعد أن وضعها وابنها في وادٍ غير ذي زرع ومضى ـ تكرر على مسامعه (( يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيئ ؟)) وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت : له : (( آلله أمرك بهذا ؟ )) قال : (( نعم )) . . قالت [ والإيمان رفيقها ، والتسليم لقضاء الله غايتُها ، والاعتماد عليه سبحانه وتعالى رائدها ] : (( إذاً لا يضيِّعنا )) (6) نعم ، إنِّ الله لا يضيِّع عباده الصالحين . ألم يعوّض الله سبحانه وتعالى الرجل وزوجته في سورة الكهف بخير ممن قُتِل ( وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) ) ؟ !! (7) .
ألم يحفظ الله تعالى صاحب الكنز ـ الرجل الصالح ـ في ولديه حين أمر صاحبَ موسى أن يبني الجدار من جديد ، فيثبته حتى يكبر ولداه فيأخذا كنز والدهما ؟
( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ) (8) .
ومن بعض سمات المرأة التقيّة التي ذكرت في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها :
1ـ تصبر على لأواء الدنيا وما ابتلاها به الله فيها لتدخل جنة عرضها السموات والأرض .
فقد روى عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس رضي الله عنهما : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلتُ بلى ، قال : هذه المرأة السوداء أتت النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : إني أُصرَع(9) ، وإني أتكشَّفُ ، فادع اللهَ تعالى لي (10) ، قال : (( إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة ، وإن شئتِ دعوتُ الله تعالى أن يعافيكِ )) فقالت : أصبرُ . . . فقالت : إني أتكشّفُ ، فادع الله أن لا أتكشَّف ، فدعا لها(11) .
رضيتْ هذه المرأة المؤمنة التقيّة ببلاءٍ يصاحبها حياتَها الفانية على أنّ لها الجنة . . وقد ربح البيع ، فكانت من أهل الجنة ، ولكنّها أَنِفَتْ ـ وهكذا التقوى ـ أن تتكشّف فيرى الناس من عورتها ما لا يليق بالمرأة المسلمة المحتشمة التقيّة ، فماذا نقول لهؤلاء الكاسيات العاريات اللواتي يتفنَّنَّ في إبداء محاسنهنّ ويجهدن في خلع برقع الحياء ، وفي التعرّي ، إلا من ورقة التوت ، إن كان هناك ورق التوت . .
2ـ وهذه أم سلمة رضي الله عنها زوج النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسمعه يقول : (( مَن جرََّ ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة )) (12) فقالت أم سلمة : فكيف تصنع النساء بذيولهنَّ ؟ قال : (( يرخين شبراً )) ، فقالت : إذاً تنكشف أقدامُهُنّ . قال : (( فيرخينه ذراعاً ولا يزدن )) (13) ... لله درّك يا أمَّ المؤمنين !! لله درّك يا أم سلمة ، لستِ من أهل الخيلاء ولا التكبُّر ، فلا يجوز إسبال الثوب إلى الأرض . . ولكنَّ نساء المسلمين حَيِِيات عفيفات ، طاهرات شريفات ، لا ينبغي أن تُرى أقدامُهُن ، وثيابهن لها ذيول يجررنها على الأرض وراءهن ، فلا يرى الرجال منها شيئاً . . ماذا يصنعن بعد أن سمعن حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ !! تسألين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عسى أن يجد حلاًّ لذلك ، فيسمح لَكُنَّ أن ترخين الذيل شبراً ، فترين هذا قصيراً ، وتخشين ظهور باطن القدمين ، فيقول لكي أَرْخي ذيلك ذراعاً ولا تزيدي . . . لكنَّ النساء في عصرنا ، عصرِ المدنيّة والحضارة !! يرخين الذيل إلى (( أعلى )) أقصى ما يستطعن ، خوفاً عليه من البلل وأنْ يغبَرَّ ، لو استطعن لخلعنه ، أسوة بالكوافر العواهر ، وتتعجبين !! . . فيَجِدْنَ ألفَ مبرِّر للتعرِّي والتفسُّخ ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ورجالهُنَّ ليس فيهم من الرجولة إلا الاسم ، يمشون إلى جانبهن ، يحملون قرون الاستشعار ، ولا يبالون . فقد ذهب الحياء .
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العودُ ما بقيَ اللـحاءُ
فلا والله مـا في العيش خيـر ولا الدنيا ، إذا ذهب الحياءُ
3ـ وتلتزم المرأة بخلق الإسلام ، والمجالس بالأمانات ، وأعراض النساء أعراض الرجال .
هذا ابن مسعود رضي الله عنه يروي عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( لا تباشر المرأةُ المرأةَ ، فتصفَها لزوجها ، كأنه ينظر إليها )) (14) فإنْ فعلت فإنه هَتْكٌ لأعراض الناس ، وتحريكٌ لكوامن الشهوة عند الرجال ، وفضحٌ لأسرار البيوت إلا إن كانت تريد أن تخطب فتاةً له ، وهي لن تفعل فالضَّرَّة مُرّة . ولن تفعل الأختُ إن كانت مؤمنة تقيّة لأنها تعلم الحياة ديناً ووفاءً ، فقد توصَفُ هي الأخرى من حيث لا تدري .
4ـ وقد حدّد النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغبة الرجال في زواجهم من النساء في أربعة أنواع فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه ، عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( تُنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين ، تربت يداك )) (15) .
ولا أعلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا على أحد إلا في مواطن معدودة ، منها ما ورد في هذا الحديث ، وكأنه عليه الصلاة والسلام يدعو على مَنْ يختار أحد الأنواع الثلاثة الأولى دون المرأة ذات الدين أن لا يوفِّقه الله في حياته ، فينقلب كل ما يفعله هباءً لا قيمة له ، فصار كل ما يلمسه تراباً ، ولعله يدعو عليه بالفقر ـ والله أعلم ـ .
فالمرأة ذات الدين تعرف حقَّ زوجها عليها فبِيَدِه جنتُها لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أيُّما امرأة ماتت ، وزوجها عنها راض دخلت الجنّة )) (16) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : (( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )) (17) .
ولأنَّ المرأة الصالحة تعرف حقَّ زوجها عليها فهي تعرف أن مخالفتها إياه ينتج عنه إثم كبير ، فقد قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه (18) فلم تأته ، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح )) (19) .
ومن حقه عليها أن لا تؤدي النافلة إلا بإذنه لقول النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((لا يحلُّ لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه (20) ولا تأذن في بيته إلا بإذنه )) (21) .
5ـ وترغب أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما أن تبرَّ والدتَها الكافرة ، ولكن لا بدَّ من استئذان النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، خوفَ أن يكون استقبالها لأمها وهي كافرة غير مقبول ، فيجيبها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن تقول له : قدِمَت عليَّ أمي وهي راغبةٌ ، أفأصِلُ أمي ؟ قائلاً : (( نعم صِلي أمك )) (22) فَصِلةُ الأرحام أصْلٌ في المجتمع الإسلامي ، يدعو إليه الإسلام ، ويحضُّ عليه ، ويرفع الله صاحبه في عليين ، وهذا ما يصبو إليه كل مسلم تقي .
6ـ وقد عرفت المسلمات الأوائل أنَّ الصلاة صلة بين العبد وربه ، أفلح فيها الخاشعون ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) (23) .
فكنَّ يقمن الليالي متبتلات خاشعات ، وعرفن أنّ من أفضل الزاد إلى الآخرة ، والزاد الذي يعين على إيصال الدعوة إلى الناس هو الصلاة التي تهب صاحبها قوة وعزيمة على مقابلة الصعاب وتخطّي الشدائد ، وأن قيام الليل من أفضل القربات إلى الله سبحانه وتعالى حيث يقول جلَّ وعلا مخاطباً الداعية الأول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) (24) ويمدح من قام الليل : ( كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) (25) .
وقد روى أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل المسجد ، فإذا حبل مشدود بين ساريتين من سواري المسجد فقال : (( ما هذا الحبلُ )) قالوا : هذا حبلٌ لزينب (26) إذا فترت تعلقَتْ به ، قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ :(( حُلّوه ، ليُصَلِّ أحدُكم نشاطَهُ ، فإذا فتر فليقعد ))(27) إذاً فقد كانت النساء المؤمنات يشددن على أنفسهن ابتغاء مرضاة الله تعالى ، وقد أمرهنّ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكلفن أنفسهن طاقتهن ، فخير العبادة ما دام وإن قلَّ ، ونحن نعلم أن نساء العصر ملأن أوقاتهن ليلاً ونهاراً بأمور الدنيا ، فلا أقلَّ أن يركعن ركعتين في جوف الليل يغالبن فيها الشيطان ، فخير الأمور أوسطها . و (( هلك المتنطعون )) (28) قالها الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثاً .
7ـ ومن الالتزام الرائع بهدي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما فعلته كلٌّ من أم حبيبةََ وزينبَ زوجتي النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ امتثالاً لأمر النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين مات أبو سفيان ابن حرب أبو أم حبيبة ، وعبدالله أخو زينب رضي الله عنهم جميعاً ، فماذا فعلت المرأتان العظيمتان بعد موت قريب كلَّ منهما بثلاثة أيام ؟! تقول كلٌّ منهما بعد أن دعت بالطيب ، ومَسَّتْ منه : أما واللهِ ، وما لي بالطيب من حاجة ، غير أني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول من على المنبر : (( لا يَحِلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً )) (29) .
هكذا يكون الالتزام ، وهكذا تكون التقوى .

 
كرم المرأة المسلمة

أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كرم المرأة وفيرة إنْ بالحضِّ على الجود والإنفاق ، وإنْ بالمدح والثناء ، وإنْ بالإيثار على النفس وسعادتها بضيافها الأصدقاء والأحباب ، فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّهم ذبحوا شاةً (1) فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما بقي منها ؟ )) قالت : ما بقي منها إلا كتفُها .
قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بقي كلُّها غير كتفِها )) (2) .
فهو عليه الصلاة والسلام يوضح لآل بيته أن ما تصدَّقوا به بقي أجره إلى يوم القيامة ، وأن ما بقي في الدنيا فأكلوه لم يستفيدوا من أجره في الآخرة . وهذه لفتة كريمة إلى الحضّ على الصدقة ابتغاء رضوان الله سبحانه وتعالى .
وهذه السيدة أسماء أخت عائشة رضي الله عنهما ينصحها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتصدُّق كي يزيدها الله من فضله فتقول : قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا توكِي فيوكى عليك )) (3) وفي رواية (( أنفقي أو انفحي ، أو انضحي ولا تُحصي (4) فيُحصي الله عليك ، ولا توعي (5) فيوعي الله عليك )) (6) فهي دعوة إذاً إلى الإنفاق فيُفيد منه اثنان :
أـ المنفِق في سبيل الله تعالى ، فإن الله يبارك في رزقه في الدنيا ، ويدّخر له أجره في الآخرة .
يقول النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما: اللهمَّ أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهمَّ أعط ممسكاً تلفاً )) (7) .
ب ـ المنفَق عليه . فلا يبقى في المجتمع الإسلامي فقير ، ويشعر كل فردٍ في المجتمع الإسلامي غنيّه وفقيره أنهم إخوة متحابون متضامنون متكافلون ، يُعين بعضُهم بعضاً ، ويدفع بعضهم عن بعض غائلة الجوع والحرمان ، ويسعَون جميعاً إلى بناء صرح إسلامي قويِّ يكون مثالاً حيّاً للإنسانية جمعاء ، وقدوة صالحة للحياة البشرية الممتدة إلى ماشاء الله تعالى .
وقد سألت أم سلمة ـ إحدى أمهات المسلمين (8) ـ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا رسول الله هل لي أجرٌ في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ؟ ولست بتاركتهم هكذا وهكذا (9) إنما هم بنيَّ . . فقال : (( نعم لك أجر ما أنفقت عليهم )) (10) .
فعلى الرغم أن عاطفة الأمومة تدفع الأمَّ إلى أن تؤثر أبناءها على نفسها فتعطيهم بأريحية وسخاء فهم أفلاذ أكبادها ، تنال الأجر والثواب حين تتصدَّق عليهم وتؤويهم وتحنو عليهم .
وقد مرّ في موضوع (( المرأة المربية الداعية )) سؤال امرأة من الأنصار وزينب زوجة عبدالله بن مسعود رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أتجزئ الصدقةُ عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ؟ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( لهما أجران :
أـ أجر القرابة .
ب ـ وأجر الصدقة )) (11)
وتعال معي نقرأ قصة الرجل وزوجته اللذين أكرما ضيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال :
جاء رجل إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : (( إني مجهود )) (12) فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء .
ثم أرسل إلى الأخرى ، فقالت مثل ذلك ، حتى قُلن كلهُنَّ مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحقِّ ما عندي إلا ماء .
فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَن يُضيفُ هذا اليلةَ )) ؟
فقال رجل من الانصار : أنا يا رسول الله . فانطلقَ به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وفي رواية قال لامرأته : هل عندك شيء ؟ فقالت : لا ، إلا قوت صبياني . قال : علّليهم بشيء إذا أرادوا العشاء ، فَنَوِّميهم ، وإذا دخل ضيفنا ، فأطفئي السراج ، وأريه أنّا نأكل . فقعدوا ، وأكل الضيفُ ، وباتا طاويين (13) .
فلما أصبح غدا على النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقد عجب (14) الله من صنيعكما بضيفكما الليلة )) (15) .
يأتي فقير إلى مجلس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، سيّد المدينة وحاكمها ، موقناً أنه سيلقى طعاماً يملأ معدته ، فقد قرَّحها جوعه الشديد وأضعفه ، فما عاد يقوى على الحركة . أوَليس المالُ كلّه والطعام جلّه في بيوت المالكين وأصحاب القرار ، ومَن بيدهم مقاليد الأمور ؟!! لقد وقع إذاً على طِلبته ، ووصل إلى مكان راحته . .
نعم ، لقد وصل إلى طلبته ، ومكان راحته ، لكنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس همُّه الطعامُ ولا الشرابُ ، ولم يكن يحفل بملذات الدنيا ، فما كان يوقد في بيته نار ولا يُطهى طعام إلا في أوقات متفرّقة ، وكان جلَّ طعامه الأسودان (( الماء والتمر )) كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها (16) ، فليس غريباً ـ إذاً ـ أن يرسل إلى زوجاته يسألهن ما يملأ معدة هذا الرجل الفقير فيأتيه الردُّ : لا والذي بعثك بالحق ، ما عندي إلا الماء .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين يعود من صلاة الفجر ويسأل زوجاته ما يأكله فلا يجد ، ينوي الصيام . . . فإذا لم يكن في بيوت أزواجه ما يقري به ضيفه ، التفت إلى أصحابه يسألهم مَن يُضيف ضيفَه ؟ فيلبي أحد أصحابه من الأنصار فرحاً مسروراً ، فمن يحوز مثل هذه الغنيمة ؟ إنه ضيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وينطلق الرجل بضيف رسول الله إلى بيته ، ويسأل زوجته : ما عندنا من طعام ؟ فتجيبه : ما عندنا من شيء سوى قوت الأطفال ، فأنا وأنت نصبر على الجوع ، أما الأطفال فلا يصبرون . فماذا يفعلان ؟ لا بدَّ من قرى الضيف ، ويتفتق ذهنه بخطة محبوكة ، ويُعلَّلُ الأولاد ويمنَّوْن بطعام طيب إن صبروا ، وتحاول الأم صرفهم لحظة وراء لحظة وبطرق مختلفة عن العشاء إلى أن يأخذهم سلطانُ النوم فيستسلموا له . . . وهذا ما كان ، ويدخل الضيف إذ ذاك إلى البيتِ الذي أعدَّ فيه الطعام ليأكل ، ولأنَّ الأكل قليل لا يكاد يكفي واحداً فإن الضيف سيشعر بالخجل والإحراج . . . ولن يأكل إلا قليلاً إذ لا بدَّ أن يؤاكله أهل البيت ، فماذا يفعل الزوجان كي لا يشعر أن الطعام قليل . . ؟! فليطفأ ِ السراج ، ولا بأس أن يعتذر الزوجان بأي عذر لانطفائه ، ومن ثمَّ يجلس الرجل وامرأته يوهمان الضيف أنهما ياكلان ، فينشرح صدره ، ويملأ معدته . . . وهكذا كان . . . لقد بات أولادهما جائعين وباتا بعد ذلك جائعَين مثلهم ، وأكل الضيف ، وشبع ، ونام قرير العين .
ويذهب الضائف والضيف كلاهما إلى صلاة الفجر حيث ينظر الرسول الكريم إلى الأنصاري نظرة إعجاب وتقدير . . . إعجاب بحسن تصرفه وزوجته ، وتقدير لكرمهما .
أما الزوجة فقد ضبطت عاطفتها ولم ترفض عرض زوجها أن ينام أولادهما دون عشاء ، إنما كانت له خير عون في مهمّته لتحفظ ماء وجهه ، وتعينه على حسن ضيافة الرجل الفقير ضيفِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهكذا تكون المرأة الصالحة ، والزوجة الأصيلة ، لقد قاما بعمل جليل أرضى الله سبحانه وتعالى ، فأنزل ملكاً يخبر نبيّه صلوات الله عليه وسلامه برضا الملك الجليل ، وهو أعظم مكانة للإنسان أن يرضى الله سبحانه عنه ؟
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال :
خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال : (( ما أخرجكما من بيتكما هذه الساعة ؟ )) قالا : الجوعُ يا رسول الله ، فقال : (( وأنا ، والذي نفسي بيده ، لأخرجني الذي أخرجكما . قُُوما )) فقاما معه ، فأتى رجلاً من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا وأهلاً . فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أين فلان ؟ )) قالت : ذهب يستعذب لنا الماء ، إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبيه ، ثم قال الحمد لله ، ما أحدٌ اليوم أكرمَ أضيافاً مني ، فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بُسر وتمر ورطب (17) ، فقال كلوا ، وأخذ المُدية ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إياك والحلوب )) (18) فذبح لهم ، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق ، وشربوا ، فلما أن شبعوا وَرَوُوا قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : (( والذي نفسي بيده لتسألُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم )) (19) .
فامرأة هذا الرجل طيبة النفس ، كريمة ، تحب الضيفان ، لم تعتذر لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن استقباله وصاحبيه ، بل استقبلتهم مرحّبة مؤهّلة ، واستبْقتـْهم إلى حين وصول زوجها ، وذكرت أنه لن يغيب طويلاً فقد ذهب إلى إحدى الآبار العذبة ليأتي بماء عذبة طيّبة ، وقد حان وقت عودته ، مما يجعل الضيفان يأنسون لهذه الحفاوة فلا يغادرون .
(( إن حُسْنَ الاستقبال نصفُ القِرى إن لم يكن القِرى كلّه ، وهذا يذكرنا بالحديث الطويل الذي رواه البخاري رحمه الله (20) وقد جاء فيه أن إسماعيل عليه السلام تزوج من قبيلة جرهم امرأة ، وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل يطالع تركته (21) ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ـ وفي رواية ـ يصيد لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحنُ بشَرٍّ ، نحن في ضيق وشدّة ، وشكت إليه ، قال : فإذا جاء زوجك ، اقرَئي عليه السلام ، وقولي له : يُغيّرْ عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنّه آنسَ شيئاً فقال : هل جاءكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخٌ كذا وكذا ، فسأَلَنا عنك ، فأخبرته ، فسألني : كيف عيشنا ، فأخبرتُه أنّا في جَهد وشدّةٍ . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول : غيِّر عتبةَ بابك . قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك ، فطلَّقها ، وتزوَّج منهم أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعدُ ، فلم يجده ، فدخل على امرأته ، فسأل عنه ، قالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعةٍ . وأثنت على الله تعالى ، فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحمُ . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماءُ . قال : اللهمَّ بارك لهم في اللحم والماء . . . قال : فإذا جاء زوجك ، فاقرئي عليه السلام ، ومريه يُثَبِّت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ، قال : هل أتاكم مِنْ أحد ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حَسَنُ الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا ، فأخبرته أنّا بخير ، قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت نعم ، يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تُثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأنت العتبَةُ ، أمرني أن أمسككِ . . . )) .
فالأولى : كانت ضيّقة النفس ، قصيرة النظر ، ضعيفة حُسن الظن بالله سبحانه وتعالى ، وامرأة كهذه تصبغ البيت بما فيها من صفات ، ولا تحسن تربية أبنائها ، ولا تريح زوجها ، وتنشر في أجواء البيت والأسرة عدم الاستقرار والبعد عن الرضا ، وتزرع فيه القلق والبؤس .
والثانية : طيبة النفس ، مطمئنة القلب ، حَسَنَةُ الظن بالله سبحانه وتعالى ، وامرأة كهذه تملأ الحياة سعادة وأملاً ورضا بقدر الله ، وتنشر في البيت الهناءَ والاستقرار ، والحبَّ والودَّ ، فينشأ أولادها نشأة طيبة ويحيَوْن حياة فيها أسس الخير ، وفضائل الشمائل .
وهؤلاء المسلمون يخرجون من صلاة الجمعة فيجدون عجوزاً على باب المسجد قد طبخت سلقاً في قدر لها ، وخلطته بشعير مطحون ، فتقدمه للمسلمين تبتغي من الله سبحانه الأجر والمثوبة ، فيأخذونه منها ، ويأكلونه متحلقين حولها يدعون لها بطول العمر وحسن العمل . . ما الذي دعاها إلى ذلك ؟ إنه الكرم المتأصل فيها ، والرغبة في إحراز الأجر والفضل (22) .
أما أم عمارة الأنصاري فيدخل عليها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتقدم إليه طعاماً فيقول لها : (( كلي )) فتقول : إني صائمة ، فيقول لها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( إنَّ الصائم تصلّي عليه الملائكةُ إذا أُكِلَ عنده حتى يفرُغوا )) وربما قال : (( حتى يشبعوا )) (23) .
فعلى الرغم مِنْ أنها صائمة رأت أن قِرى الضيف واجب ، فأكرمت ضيفها ، وأحسنت وفادته ، فكان جزاؤها أن الملائكة تدعو لها وتستغفر لها ما دام الضيف يأكل زادها وهي تخدمه وترعاه . .
إذن هي دعوة إلى الكرم في كل الأحوال . . الكرم الذي يقارب بين الأرواح فتصفو النفوس ، وتتمازج القلوب ، وتُستل السخائم ، وتزول الشحناء من الصدور ، و . . .
وهذا الصاحب الجليل جابر بن عبدالله يرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة الخندق وبطنه معصوب بحجر ، فيستأذنه أن يعود للبيت يسأل زوجته إن كان عندها شيء ، فتجيبه أن عندها صاعا من شعير وأنثى ماعز ، فذبح الماعز وعجنت هي الشعير بعدما طحنته ، وبدأت تصنع الطعام ، وانطلق زوجها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعوه مع رجل أو رجلين يتخيّرهما ، فما كان من النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن نادى : (( يا أهل الخندق ، إن جابراً قد صنع سؤراً (24) فحيّهلا بكم )) وجاء يقدم الناس ، وقال لجابر : انطلق ، فمُرْ زوجتك أن لا ترفع الغطاء عن اللحم ، ولا تخبز حتى آتي ، فجاء جابر إلى زوجته فأخبرها ، فخاصمته قائلة : فضحتنا ، ألم أقل لك ادع رسول الله ورجلاً أو رجلين معه ؟ قال : بلى ، وقد فعلتُ ، فقالت : إذن يتكفل بهم رسول الله .
وكان المسلمون ألف رجل ، فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على العجين واللحم بالبركة ، وأمر المرأة أن تخبز ، ودخل الناس فوجاً بعد فوج ، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغرف لهم من اللحم ويكسر لهم الخبز حتى شبعوا جميعاً .
قالت امرأة جابر : فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن القدر مليئة باللحم كأنه لم يأكل ، وإن العجين ليُخبزُ كما هو ، فقال لها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كلي هذا وأهدي ، فإن الناس أصابتهم مجاعة )) (25) .
فقد كانت المرأة تشعر بشعور زوجها وتجتهد أن ترضيه وتكرم ضيوفه ، ولا يخفى مافي هذه القصة من معجزة ظاهرة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن أسوة رائعة له عليه الصلاة و السلام ، فقد أطعم بيديه الشريفتين المسلمين جميعاً حتى شبعوا ، ثم أكل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ونبّه إلى ضرورة تفقُّد الجيران والإحسان إليهم ، كي يشعروا بالانتماء إلى جسمٍ واحدٍ وفكرٍ واحد ومجتمع واحد ، يظلهم دينُ الله وشرعُه فيجعل منهم أمّة متحابّة قوية . . . والقصة نفسها تتكرر مع أبي طلحة وزوجه أم سُليم ، فقد كانت مثال الزوجة الصالحة التي تكرم ضيوف زوجها وتخدمهم (26).
ولعلَّ من المفيد أن نختم هذا بقوله سبحانه وتعالى يحضُّ المسلمين على الكرم في قصة سيدنا إبراهيم في سورة الذاريات : ( فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ )(27) ؟! وقول النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )) (28) .
والمسلم والمسلمة كريمان جوادان لا بخيلان شحيحان ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (29) .

 
الأمُّ الرحيمة

روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( إنّ لله تعالى مئة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها بتراحمون ، وبها تعطف الوحشُ على ولدها ، وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة )) وفي رواية (( جعل الله الرحمة مئة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابّةُ حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه )) (1) .
وتظهر رحمة الأم ببنيها في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واضحة جليّة ، فهي مثال العطف والحنان ، ونبع الشفقة والرأفة ، خلقها الله سبحانه وتعالى ينبوعاً يفيض على أبنائها بالحب ، ويؤثرهم بالرفد والعطاء ، فقد جعلها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صورة حية ، ينفذ منها إلى توضيح رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ، فقد روى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بسبيٍ ، فإذا امرأة من السبي تسعى ، إذ وجَدَتْ صبياً في السبي (2) ، فألزقته ببطنها (3) ، فأرضعته ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أترون هذه المرأة طارحةًً ولدها في النار ؟ )) قلنا لا والله ، فقال :(( لَلّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها )) (4).
امرأة وقعت في ذلّ الأسرِ ، حزينة كاسفةُ البال ، كانت سيدة في أهلها وعشيرتها ، حرّة في كنف رجال قبيلتها ، مطاعةٌ في بيت زوجها ، فجعلها الأسر أمةً مملوكة وجارية مأمورة . . حالةٌ نفسيّةٌ صعبة يَذهلُ الإنسانُ بها عما حوله ، ويعتصر الألم قلبه ، ولكنَّ هذا كلّه لم يلهها عن ابنها وفلذة كبدها ، فقد بحثت عنه جاهدة حتى رأته ، فاحتضنته راغبة ، وألقمته ثديها حانيةً ، وضمّته إلى صدرها بين ذراعيها مشفقة ، امرأة كهذه لا تُسلِمُ ابنها إلى مكروه مهما صغُر ، وتدفع عنه الأذى مهما حقـُر ، وتفديه بنفسها من كل ضرِّ .
امراة كهذه تَهَبُ ابنها كلَّ ما لديها ، وتسعى جاهدة ما وسعها الجهد إلى الذود عنه . . إنها الرحمة ما بعدها رحمة . . فحين انتبه المسلمون إليها ، ورأوا ما فعلته بولدها قالوا بصوت واحد : لا والله ، لا تسلمه إلى النار ولا تطرحه فيها .
وهنا يلفتُ الرسول الكريم نظر المسلمين إلى رحمة الله بهم ، لهو تعالى أشدُّ رحمة بهم من هذه الأم بولدها . . أيّ رحمة إذاً يدّخرها الرحيم الرحمن لعباده ؟ والربُّ العظيم الغفور لمن آمن به وأطاعه ، وامتثل أمره ؟
وهذه إحدى بنات النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحتضَر ابنُها فتودُّ أن يحضر أبوها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفاته ، فترسل إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنّ ابني قد احتُضِرَ (5) فاشهدنا ، فأرسل يُقرئها السلام ويقول : (( إنَّ لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمّى ، فلتصبر ولتحتسب (6) فأرسلت إليه تـُقسم عليه ليأتينّها . . . )) (7) .
فهذه ابنة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ شأنها شأن الأمهات جميعاً ، ترى ابنها يذوي ويموت . . وبمن تستعين في هذا المصاب الجلل ؟ إنه أبوها رسول الله ـ صلى لله عليه وسلم ـ ، فحين يرسل إليها أن تصبر وتحتسب تفزع إليه مقسمة عليه أن لا يخيّب رجاءها ، وأن يوافيها ، فهي في أشدّ الحاجة إليه ليهوّن عليها المصاب أو يسرّي عنها في فلذة كبدها . .
وهذه أم الربيع بنت البراء ، وهي أم حارثة بن سراقة الذي قتل في بدر تأتي إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترجو أن تسمع منه عن ابنها الشهيد ما يثلج صدرها فقالت : يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة ؟ . . فإن كان في الجنّة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء ، فقال : (( يا أم حارثة ، إنها جنانٌ في الجنّة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى )) (8) .
إن فقدان الولد أمر عظيم يمزق القلب ، ويقطع الأحشاء ، ويفتت الكبد . . . وهي تسأل النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن كان في الجنة فسوف تلقاه إن شاء الله ، وصبرُها على فراقه رفعٌ لدرجتها ودرجته (9) في الجنة ، وإن لم يكن كذلك لتبكينّه بحرقة مَن يفقد العزيز الغالي إلى الأبد . . وهذا ما تستطيعه ، وجلّ ما تقدر عليه . . إنها الأم الثكلى والراحمة العطوف .
وتعال معي إلى هذه الصورة الرائعة المتجسدة رحمة فيما روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت :
أ ـ جاءتني مسكينة تحمل ابنيتن لها . .
ب ـ فأطعمتها ثلاث تمرات .
جـ ـ فأعطت كل واحدة منهما تمرة .
د ـ ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها .
هـ ـ فاستطعمتها ابنتاها .
و ـ فشقّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما .
فاعجبني شأنها ، فذكرت الذي صنعتْ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنّة ، أو أعتقها من النار )) (10) .
إنه الإيثار الرائع الذي جعلها ـ عن رضا ـ تتخلّى عن نصيبها لابنتيها ، ولهذا كانت الجنّة تحت قدميها ، وأوصى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها ثلاث مرات وربَّع بالأب بعد ذلك .
وقد مرّ في بحث المرأة الكريمة ما فعلته السيدة أم سلمة رضي الله عنها حين سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إنفاقها على بنيها حين قالت :
أ ـ هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ؟
ب ـ ولست بتاركهم هكذا وهكذا .
جـ ـ إنما هم بَنيَّ . . .
وتقرّر أنها لن تتركهم قبل أن يجيبها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإيجاب ، فالفطرة أجابتها قبل إجابته .
وهل يحضُّ الإسلام إلا على المبرّات ، وفعل الخيرات ، والعطف على الأرحام وصلتهم ، وغرس الرحمة والودَّ في المجتمع كي ينشأ الأبناء صالحين أبراراً .
وقد أورد النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصة المرأة كان ابنها يرضع من ثديها ـ وكل أم تحبُّ أن يكون ابنها وجيهاً ، عظيماً ، يُشار إليه بالبنان ـ فمََرَّ رجل راكب على دابّة فارهة وشارَةٍ حسنَةٍ ، فقالت : (( اللهمَّ اجعل ابني مثل هذا ، وكلُّ امرأة لا ترضى لابنها أن يكون خسيساً فاسداً مرذولاً . . فمرَّت به على جارية يضربونها ، ويقولون : زنيتِ سَرَقْتِ . . فقالت الأم حين رأتها : اللهمَّ لا تجعل ابني مثلها . . (11) .
أما أم أيمن رضي الله عنها حاضنة النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي تكبره سنّاً بست سنوات ـ خدمته رضي الله عنها حتى شبَّ وبلغ مبلغ الرجال ، وكان يناديها أمي . . كان يجلُّها عليه الصلاة والسلام ، وزوَّجََها من أنصاري فولدت له أيمن ، فلما مات زوجها زَوَّجها من زيد بن حارثة رضي الله عنه فولدت له أسامة (( الحِبَّ ابن الحِبَّ )) ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها لفضلها ـ يقول أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ـ بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها ، فلما انتهينا إليها بكتْ ، فقالا لها : ما يبكيكِ ؟ ألا تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ! قالت : إني لا أبكي أني لا أعلم أنّ ما عند الله خير لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء ، فهيّجتـْهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها (12) .
فقد أحبته كأفضل ما تحب أم ابنها ، وترجو الخير بوجوده ، وانقطع الوحي حين التحق الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق الأعلى ، أفلا تبكي أغلى الأبناء وأفضل الرجال !! ؟
والرحمة تنفع صاحبتها ولو اقترفت ملء قراب الدنيا آثاماً ، لأنَّ الراحمين في الأرض يرحمهم الرحمن (( وارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء )) (13) . . فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن َّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( بينما كلب يُطيف بِرَكيّةِ ، قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغيُّ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقَها (14) فاستسقت له به ، فسقته ، فَغُفِرَ لها به )) (15) .
وهناك كثير من الأحاديث الشريفة تتحدّث عن رحمة المرأة بمن حولها . . . اللهمَّ ارحم نساء المسلمين ، ودلَّهُنَّ على الخير ، واملأ قلوبهن بحبك وحبَّ دينك ورسولك ، ونحن معهن يا رب العالمين .

 
المرأة فتنة

لو سألنا أنفسنا : لماذا حذّر النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرأة التي تمتنع عن زوجها فقال : (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه ، فلم تأته ، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح )) (1) ؟ وأكّد المعنى مقسماً بالله تعالى فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( والذي نفسي بيده ، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها )) (2) ؟ . ولماذا دعا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرأة أن تجيب زوجها ، ولو كانت غارقة في عملها المنزلي مشغولة به في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته ، وإن كانت على التنُّور )) (3) ؟ ، بل إنه عليه الصلاة والسلام يمنعها من أداء عبادة النافلة إلا بإذن زوجها في قوله : (( لا يحلُّ لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه . . )) (4) ؟
الجواب : إن المرأة شهوة الرجل وموطن راحته ، فقد ركّب الله تعالى هذه الشهوة الشديدة فيه إلى المرأة ، فإذا رغبها ولم ينلْها ضاقت نفسه ، وفسدت أخلاقُه ، وساءت تصرفاتُه ، واعتصر الألم قلبه ، فإن استجابت زوجته له فتمتّع بها ، ارتاحت نفسه ، وهدأت بلابله ، وسكنت لواعجه ، فكان تصرفه سليماً وتفكيره سديداً .
وعلى هذا حث الرسول الكريم الشاب المسلم على الزواج ليجد راحته في زوجته يسكن إليها ، ويأنس إلى صحبتها . فقال : (( يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة (5) فلينزوّج ، فإنه أغضّ للبصر ، وأحصن للفرج ، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء (6))) (7) فالصوم والجوع يخففان شبق الإنسان ، وحدة شهوته .
ويسير الإنسان في شوارع المدينة وأزقتها فيرى من النساء الستّيرةَ والمتهتكة ، والنظرة سهم من سهام إبليس ، وقد أمرنا الله تعالى أن نغضّ البصر رجالاً ونساءً ، فقال : (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( 30 ) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ . . ) (8) أما الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه حين نهى عن الجلوس في الطرقات ، ثم رأى أنه لا بدّ لبعض المسلمين أن يجلسوا فيها لأعمالهم ، اشترط (( غضّ البصر . . . )) (9) . . .
ويرى الرجل من النساء ما يشغل فكره ، فيزين الشيطان له الزنا ، فيذكر قول النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن المرأة تقبل في صورة شيطان ، وتدبر في صورة شيطان ، فإذا رأى أحدكم من امرأةٍ ما يعجبه فليأت أهله ، فإن ذلك يرُدُّ ما في نفسه )) (10) .
ولعلَّ الرجل يصبر على الفقر ، ويتحمَّلُ الجوع وكثيراً من الشدائد ، ويعرض عن المغريات ويأباها إلا فتنة النساء حين يظهرن متبخترات بجمالهنَّ ورقتهنَّ ودَلّهِنّ ، فتراه يميل إليهنَّ ويرغب فيهن ، وقد عرفَ أعداؤنا نقطة الضعف هذه فاستغلُّوها ، وهذه بروتوكولات حكماء صهيون تؤكد (( أن الانحلال الأخلاقي وخاصة بمساعدة النساء اليهوديات المتنكرات في صور الفرنسيات والإيطاليات ومن إليهن . . . وإنَّ هؤلاء النساء أضمنُ ناشرات للخلاعة والتهتك في حيوات المتزعمين على رؤوس الأمم ، والنساء في خدمة صهيون يعملن كأحابيل ومصايد لمن يكونون بفضلهنّ في حاجة إلى المال . . . )) (11) .
ويقول النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ :((ما تركتُ بعدي فتنة هي أضرّ على الرجال من النساء )) (12) .
وتراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحذر من الإخلاد إلى الدنيا والركون إلى الشهوة هذه في حديثه المشهور حيث يقول : (( إنَّ الدنيا حلوة خَضِرةٌ ، وإنَّ الله مستخلفكم فيها ، فينظرُ كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساءَ ، فإنَّ أوّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )) (13) ، فأول فساد بني إسرائيل كان في فتنتهم بالنساء ، وهم يريدون للمسلمين أن يقعوا في المستنقع الذي سقطوا فيه .ويحذر النبيُّ الكريم والمعلِّم العظيم المسلمين أن يترخصوا في الدخول على النساء والخلوِّ بهِنّ ولو كانوا أتقياء ، فقال : (( إيّاكم والدخول على النساء )) ، فقال رجل من الانصار : أفرأيت الحمو (14) قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الحمو الموت )) (15) .
إن الناس يرون الداخل بيت جيرانهم والخارج منه ، فإذا كان غريباً أنكروه وسألوا عنه ، فيكون هذا الإنكار وهذا السؤال دافعاً إلى البعد عن الشبهات والوقوع في المفاسد ، أمّا إن كان من أقارب الزوج كأخيه وابن أخيه فإنهم يتغاضون عن ذلك ، ويتساهلون فيه ، فلا يرى حرجاً أن يدخل البيت في غياب صاحبه ، فيلقي الشيطان حبائله ، ويزيّن الخلوة بينهما ، فتحدث الطامّة .
ولو التزم الناس شرعة ربِّهم ، فلم يدخل على المرأة في غياب زوجها إلا محارمها ، لكان أدعى إلى الطهارة والعفّة وحفظ الدين والعرض ، والبعد عن الريبة والمفاسد .
ويؤكد هذا المعنى الخليفة الخامس الأمويّ عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه حين يقول : لا يَخْلُوَن رجل بامرأة ولو كان يعلمها القرآن . . . ودرهم وقاية خير من قنطار علاج .
في الجاهلية الأولى كانت النساء على شركهنَّ وكفرهنَّ محتشمات يجررن أثوابهن على الأرض ، وغالبهُنَّ يسترن رؤوسهن بخُمُرِهنّ ، وكانت الإماء يتخفَّفن من الخمار ويترخَّصنَ في ذلك .
فالشريفة في أعرافهنّ ذات حياء وخَفر ، أما في الجاهلية الحديثة ، فحدّث ولا حَرَج ، فما تستره المرأة أقلُّ مما تكشفه ، ولا تخرج من بيتها إلا بعد أن تتحلّى بأفضل زينتها !!.. ثوبٌ عصري يُظهر مفاتنها ، ورقته يريك ما تحته ، فإن حرّكه الهواء ضاع الحياء ، تنبئك رائحتها أنها قادمة ، وأثر العطر يخبر مَن لم يرها أنّها مرّت من هنا ، تمشي متمايلة تدعو الناس إليها ، صبغت وجهها وما ظهر من جسمها ، فبدت كالدُّمية ، شعرها يتماوج مع النسيم . .
لقد اطلع النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صنفين من أهل النار لم يرهما في حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنهما لم يكونا في عصره إنما حظينا في هذا الزمان الكئيب بهما !!! فاسمع وصفه للصنف الثاني (( صنفان من أهل النار لم أرهما . . . ونساءٌ كاسيات عاريات مائلات ، مميلات ، رؤوسهنَّ كأسنمة البخت المائلة (16) ، لا يدخُلْن الجنّة ، ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )) (17).
يقول النووي رحمه الله : معنى (( كاسيات )) أي : من نعمة الله ، (( عاريات )) من شكرها ، وقيل معناه : تستر بعض بدنها ، وتكشف بعضه إظهاراً لجمالها ونحوه . وقيل : تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها .
ولم يكن رحمه الله تعالى يتصوّرُ أنّ زماناً بعد زمانه ستظهر فيه نساء كاللواتي وصفهن ثانياً وثالثاً ، فاستعمل كلمة (( قيل )) ولو أنه تأكد من ذلك لاستعاذ بالله سبحانه وتعالى منهنَّ ومن زمانهنَّ ، وحمد الله تعالى أنّه مات ولم يدركهنّ .
ويقول النووي رحمه الله تعالى أيضاً عن (( مائلات )) : عن طاعة الله تعالى وما يلزمهن حفظه . (( مميلات )) يعلّمن غيرهنَّ فعلهنّ المذموم . وقيل : مائلات : يمشين متبخترات ، مميلات لأكتافهنّ . وقيل : مائلات : يمتشطن المِشطة الميلاء ، وهي مِشطة (( البغايا )) ، ومميلات يُمًشِّطن غيرهن تلك المشطة . . . وأقوله له ـ يرحمه الله ـ : بل المعنى كلُّ ما ذكرت يا إمام ، ناهيك عن انتشار الماشطات (( الكوافير )) في كل حَدَبٍ وصوبٍ ، يسوّين البَدَن ويغسلنه وينتفن الشعر في كل مكان من هضاب النساء وجبالهنَّ ووديانهنَّ في أماكن العفّة وغيرها . . . وتبعْن سنَنَ من قبلهنَّ شبراً بشبرٍ ، وذراعاً بذراع ، اتباع المفتون الذي لا يفكر بعقله ، ولا يعرف الخير من الشرِّ ، قِبلته هواه ، وهدفه شهوته ، وفهمه لا يتجاوز ما حوله ، ونظر لا يتعدى أرنبة أنفه ، يعيشون كالأنعام ويتصرّفون كالدواب ( نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (18) .
ولأنَّ للمرأة الدورَ الأكبر في اقتراف جريمة الزنا ، فقد قدَّمها القرآن الكريم على الرجل في ذكر العقوبة ، فقال : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ) .

أـ ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ) .
ب ـ ( وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .
ج ـ ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) ) .
د ـ ( الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) .
هـ ـ ( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (19) .
فكانت عقوبتهما على هذه الصورة مخزية ، ونزّه المؤمنين والمؤمنات أن يرتبطوا بالزناة والزواني لأنَّ القاعدة تقرِّر ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) (20) .
ويقول النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رؤيا رآها فحدَّث بها المسلمين : (( فانطلقنا ، فأتينا على مثل التنّور . . . فإذا فيه لغط وأصوات ، فاطَّلعنا فيه ، فإذا فيه رجال ونساء عُراة ، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم ، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا )) (21) ، وفي رواية : (( فانطلقنا إلى نَقْبٍ مثل التنور ، أعلاه ضيّق ، وأسفله واسع ، يتوَقّدُ تحته ناراً فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا ، وإذا خمدت رجعوا فيها ، وفيها رجال ونساءٌ عراة )) ثم يوضح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم حالهم فيقول :(( وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنّهم الزُّناة والزّواني )) (22) .
فكيف يرضى الزناة لذّة عابرة بنعيم مقيم ، وكيف يستبدلون بالنعيم المقيم عذاب الآخرة الدائم ؟! تلك إذاً تجارة خاسرة ، نعوذ بالله أن نكون من أهلها .
وقد تزل قدم الإنسان في الزنا أو دواعيه ، وعقوبة الوقوع في الزنا معروفة ، أما الوقوع في دواعيه مثل كلمةٍ أو قبلةٍ أو نظرةٍ . . . فبالاستغفار والتوبة يتطهّر الإنسان ، فقد جاء رجل إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله أصبتُ حدّاً ، فأقمه عليَّ ، وحضَرتِ الصلاةُ ، فصلّى مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما قضى الصلاة قال : يا رسول الله إني أصبتُ حدّاً ، فأقم فيّ كتاب الله . قال : (( هل حضَرْتَ معنا الصلاةَ ؟ )) قال : نعم . قال : (( قد غُفر لك )) (23) .
وفي رواية أنَّ رجلاً أصاب من امرأة قُبلة فاتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره ، فانزل الله تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ (24) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ) (25) فقال الرجل : ألي هذا يا رسول الله ؟ قال : (( لجميع أمتي كلهم )) (26) .
ومثله ما رواه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار ، فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل ، فسدَّت عليهم الغار فقالوا : إنّه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ، فدعَوا فقال الثاني : (( اللهم إنه كانت لي ابنةُ عمِّ ، كانت أحبّ الناس إليَّ )) ـ وفي رواية ـ (( كنت أحبها كأشدِّ ما يحب الرجالُ النساءَ ، فأردتها على نفسها ، فامتنعَتْ مني حتي ألَمَّت بها سنةُ من السنين ، فجاءتني ، فأعطيتُها عشرين ومئة دينار على أن تُخَلّيَ بيني وبين نفسها ، ففعلت ، حتى إذا قَدَرْتُ عليها )) ، وفي رواية (( فلما قعدْتُ بين رجليها قالت : اتّقِ الله ، ولا تفضَّ الخاتَمَ إلا بحقه فانصرفت عنها ، وهي أحبُّ الناس إليَّ ، وتركت الذهبَ الذي أعطيتُها ، اللهمَّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة غير انهم لا يستطيعون الخروج منها . . )) (27) .
فقد غفر الله له رغبته في الزنا ، بل أكرمه حين خاف الله سبحانه وتعالى وترك ابنة عمه ولم يستعِد المال ففرَّج عنهم الصخرة ، وهذا ما يفعله الإخلاص لله تعالى والإقلاع عن الذنب واستغفار المولى الكريم .
أما جُريج العابدُ فإنه فُتن بامرأتين ، أما الأولى فأمُّه حين نادته وهو يصلي النافلة ـ قيام الليل ـ فلم يردَّ عليها ظناً منه أن صلاة النافلة كصلاة الفرض لا ينبغي لمصلِّيها أن يلبّي نداء أمّه التي كررت النداء ، فلمّا لم يجبها دعت عليه أن يرى وجوه المومسات ، وأما الثانية فتلك المومس الفاتنة التي ذُكر العابد جريح أمامها بتقواه وورعه ، فراهنَتْ على الإيقاع به ، كما أوقعت بالكثير من الرجال ، وفيهم الوجهاء والنبلاء !! ، فلما تبدَّت له بزينتها ودلالها وحاولت إغراءه أعرض عنها وتجاهلها ، فأعقبها رغبة في الانتقام منه والكيد له ، فأسلمت نفسها لراعٍ كان تحت صومعته وترددت عليه فحملت منه ، فلما وضعت الغلام نسبته إلى جريح العابد ، فأنقذه الله من كيدها ومكرها (28) .
وأخيراً فإنَّ نبيَّ الله يوشع بن نون عليه السلام أراد أن يغزو قوما برجال لا تشغلهم الدنيا عن الجهاد في سبيل الله ، فاشترط للمجاهدين معه أن تكون قلوبهم خاوية من الأمل في الحياة الدنيا ليتفرَّغوا للقتال ، وكان مما اشترط عليهم أن لا يكون منهم مّنْ خطب امرأة وعقد عليها ثم لم يبنِ بها، فإن فعل ذلك ظلَّ قلبه متعلقاً بها ، وانتظر الفرصة كي يعود إليها ، وأمثال هذا لن يَصْدُقوا في القتال ، والاعتمادُ عليهم سراب ، وأولى بهم أن يكونوا بعيدين عن ساحة المعركة (29).



 
حبُّ المرأة زوجها وطاعتُها إياه

لكل جسم رأس يقوده ، رأس واحد ، له وحده الرئاسة ، وله وحده الكلمة الأخيرة ، ومدار الحياة كلها على هذا الأساس ، ولا يعني هذا التفرّدَ في اتخاذ القرار ، والتخطيطِ ، والتدبير ، لئن كان كذلك كانت الحياة مظلمة والعيش بائساً ، والتفكير قاصراً ، والهدف متعباً . ولا بدَّ من المشورة ، وإشراك الآخرين في مناقشته ودراسته ، والإحاطة به ، ثم . . بعد كل هذا يتخذ المسؤول ومَنْ يتحمَّل التبعةَ القرار ويُنْفِذُه . . . ووجود أكثر من رأس لا يوصل إلى الهدف المنشود لتضارب القناعات والإرادات والقدرة على تحمل المسؤولية . .
وعلى هذا قررت الحكمة الإلهية أن تُسنِد قيادة البيت إلى الرجل ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (1) لما فيهم من صفات تؤهلهم لذلك، وخلقت النساء في الدرجة الثانية ـ ليس في المكانة أبداً ـ فالله سبحانه وتعالى يجعلهن والرجال في مغفرته وأجره سواءً . قال تعالى : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35 ) ) (2) وقال سبحانه : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (3) إنما هنَّ في الدرجة الثانية في القيادة البيتية وتحمل التبعات . قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( والمرأة راعية على بيت زوجها وولده . . )) (4) ، فالزوج زوجها ، والبيت بيتها ، والأولاد أولادها ، لكنَّ الحديث جاء مؤكداً أنَّ البيت لزوجها والأولاد أولاده للتأكيد على مكانتها الأولى بعد زوجها في البيت ، وأن مسؤوليتها تأتي بعد مسؤوليته .
فكيف عبَّر الحديث عن مكانة الزوج في المقام الأول ؟
كانت العرب وغيرهم من الأمم إذا عظَّموا أحداً سجدوا له ، ولما كان السجود في الإسلام لله تعالى وحده فما ينبغي أن نسجد إلا لله سبحانه ، فالسجود خاص به ، خالص له . ولتعظيم حق الزوج على زوجته قال الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )) (5) ، وقال كذلك عليه الصلاة والسلام موضحاُ أنَّ جنَّة المرأة بيد زوجها ، فإذا رضي عنها دخلت الجنة :(( أيُّما امرأة ماتت ، وزوجها عنها راض دخلت الجنة )) (6) ، والمقصود هنا الزوج المسلم الصالح والمرأة المسلمة الصالحة فهو يكرمها ويؤدي حقَّها وهي تفعل كذلك .
وخير ما يحوزه المرء زوجة صالحة تعينه على أمور دنياه ، تودعه بابتسامة المحب وتأمره أن يتخيّر الرزق الحلال ، وأن ينأى بنفسه وزوجته وولده عن الحرام ، وتدعو له بظهر الغيب ، وتجعل بيتها جنّته ، وتستقبله حين يعود بحفاوة تنسيه ما لقيه خارج البيت . قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة )) (7) .
وقد مرَّ معنا نهي النبيِّ أن تمتنع المرأة عن زوجها إذا دعاها ، ولو كانت منشغلة عنه بما يصلح البيت من غسيل وطعام وتظيف و . . .
ولا ينبغي للمرأة أن تشاكس زوجها أو تؤذيه ، وقد مدح القرآن الكريم النساء المطيعات لله القائمات بحقوق الأزواج ، الحافظات في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في أنفسهن وماله ، الكاتمات أسرار أزواجهن ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ ) (8) .
وللرجل المسلم في الجنة نساء من أهلها ينتظرن بفارغ الصبر مجيئه إليهن ، مطلعات على ما يحدث بين الرجل وزوجته ، فإذا وجدن منها ما يؤذيه عاتبنَها ، فقد روى معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين : لا تؤذيه قاتلك الله ! فإنما هو عندك دخيل (9) يوشك أن يفارقك إلينا )) (10) .
وهذه أم الدرداء رضي الله عنها آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين زوجها أبي الدرداء وسلمان الفارسي رضي الله عنهما ، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذّلة تلبس ثياب المهنة تاركة ثياب الزينة وذلك قبل أن يُضربَ الحجاب فقال لها : ما شأنك ؟ لمَ أنت هكذا لا تهتمين بنفسك أليس لزوجك عليك حقاً ؟ قالت له : ولمن تتزين المرأة ؟ أليس لزوجها ؟ قال : بلى . قالت : فهذا أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، ولا نسائها ، فتراه قوّاما بالليل صوّاماً بالنهار .
فجاء أبو الدرداء ، ورحّب به ، وصنع له طعاماً ، وقال له : قم يا سلمان فَكُلْ فإني صائم .
قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل معي ، فأكل أبو الدرداء حفاظاً لحق الضيف ورغبة في إكرامه ، لكنّه وجد في نفسه إذ اضطر أن يُفطِرَ نهاره .
فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقومه فأمره سلمان أن يذهب إلى مخدعه فينام ، وللقيام وقتٌ آخر ، وأخبره أنَّ لزوجته حقاً فيه لا ينبغي التفريط فيه ، فانصاع لأمره .
ثم قام يريد صلاة الليل ، وما زال في الوقت متسع ، فأمره أخوه سلمان أن يعود إلى فراشه فأجابه متأففاً ، فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن ، فصلّيا جميعاً ، ثم انطلقا إلى مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسلمان يقول لأبي الدرداء : إنَّ لربك عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاّ ، فأعط كل ذي حقٍّ حقَّه .
لكنَّ أبا الدرداء شكا للنبيِّ ما فعل به سلمان ، فقد منعه صوم يومه ، وقيام ليله ، فما كان من النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن سُرَّ من فقه سلمان رضي الله عنه ووافقه على فهمه وحسن تصرفه ، وقال لأبي الدرداء : (( صدق سلمان )) (11) .
فالمرأة حين رأت من زوجها عزوفاً عنها ، لا كرهاً ولا رغبةً عنها ، أذعنت لذلك على الرغم أنه انتقص حقها دون أن يدري ، ولم تشكُه لسلمان إنما وضّّحت له سبب ابتذالها ، واجتهدت أن ترضي زوجها وتطيعه ما أمكنها . . وما ذاك إلا لحبها إياه وطاعتها له ، والنزول عن رغبته .
ولا أدلَّ على حب المرأة المسلمة زوجها من تَصَرُّفِ امرأة هلال بن أميّة ، أحد الثلاثة المخلفين (12) ، حين أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نساءهم ـ معشر الثلاثة ـ أن يعتزلنهم ، فذهبت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشفقة على زوجها ، خائفة عليه وهو الشيخ الهرم لا يستطيع خدمة نفسه إذا اعتزلته زوجتُه ، فقالت له : يا رسول الله إنَّ هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدُمه ؟ قال : (( لا , ولكنْ لا يقرَبنّكِ )) ، فقالت : إنه والله ما به من حركة إلى شيء ( لا يشتهي النساء ) ووالله ما زال يبكي منذ أن كان من أمره ما كان ، إلى يومه هذا (13) .
أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل المدينة ألا يتعاملوا مع هؤلاء الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك دون عذر مدّة أربعين يوماً ، ثم أمر النساء فابتعدن عن أزواجهن إلا زوجة هلال بقية الخمسين يوماً ، وامرأة محبّةٌ لزوجها امتثلت لأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكنها استأذنته في خدمة من عاشت معه سنيّ عمرها ، وذاقت معه الحلو والمرَّ ، والشهدَ والعلقم ، فكانت مؤمنة تقيّة في طاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومحبَّةً وفيّةً لزوجها ورفيق عمرها .
ومن الصور الجميلة في الحبّ المتبادل بين الزوجين ما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى ، وأيقظ امرأته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلّت ، وأيقظتْ زوجها ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء )) (14) .
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلّيا أو صلّى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات )) (15) .
إنها حياة مثالية رائعة للزوجين المسلمين الصالحين ، وإنها والله امرأة من أهل الجنة إن أحبّت زوجها وأطاعته .



 
وصية الرجال في النساء


علاقة الزوجين أحدهما بالآخر قائمة على المحبة والودِّ والسكن والرحمة . قال تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) ) (1) فهما صنوان يكمل أحدهما الآخر ، فالرجل حريص على إسعاد شريكه في العمل خارج البيت ، والمرأة حريصة على تهيئة ما يسعد زوجها داخله ، وعلى مر الأيام يكوّن الزوجان فريق عمل متكافلاً يبذل كل منهما جهده فيما يعود على الاثنين بالحياة الطيبة .
والمرأة أضعف الطرفين ، ونصفهما اللطيف ، ينضوي تحت جناح الرجل القوي ، ويُسْلِم له قياده ، ويلقي إليه زمامه ويذوب فيه حناناً ورقة ولطفاً ، ويؤثره على نفسه راحةً ، ويرى ذاته فيه ، وأمانه بين يديه . . . هذه هي المرأة التي وصّى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها دائماً فقال : (( إني أحرّج عليكم حقَّ الضعيفين : اليتيم والمرأة )) (2) ، وتراه في حجة الوداع بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه ، وذكـّر، ووعظ قال : (( ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هنّ عوانٌ عندكم ، ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك )) (3) .
وجعل الإحسان إليهنَّ من سمات المسلمين ذوي الإيمان الكامل والخلق العالي والشمائل الحميدة فقال : (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً (4) وخياركم خياركم لنسائهم )) (5) ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يمشي فتأتي الفتاة الصغيرة تأخذ بيده وتكلمه ، وتنطلق به حيث شاءت ، وهو لا يخالفها إلى أن تنتهي منه فتتركه (6) .
وحدَّد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقَّ المرأة على زوجها فقال حين سأله أحدهم : يا رسول الله ما حقُّ زوجة أحدنا عليه ؟ .
أ ـ (( أن تطعمها إذا طعمْتَ ،
ب ـ وتكسوَها إذا اكتسَيت ،
جـ ـ ولا تضرب الوجه ،
دـ ولا تقبّحْ (7) ،
هـ ـ ولا تهجر إلا في البيت )) (8) .
ويقول في حديث آخر : (( ألا إنَّ لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ، فحقُّكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرُشَـكم من تكرهون ، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن ، وطعامهنّ )) (9) .
والنساء كالرجال ، فيهنَّ الصالحة والطالحة ، والمطيعة والناشزة ، وقد حثّنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نتخير النساء الصالحات زوجات ، ذوات ِالدين اللواتي يضعن خوف الله تعالى وابتغاء رضوانه نصب أعينهنّ ، هؤلاء فقط هنَّ اللائي يبنين البيوت المسلمة ، ويربين الأجيال المؤمنة . ولا يكن هم الزوج البحث عن الجمال والحسب والمال . . فهذه أمور تتغير على مرّ الزمن وقد تعود على الزوج بالحسرة والندامة حين تدلُّ المرأة على زوجها بإحدى هذه الصفات الثلاث . قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تُنكح المرأةُ لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك )) (10) وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : افتقرت أيها الإنسان إن لم تفعل ما أرشدتك إليه . ويؤيد هذا الحديث ما قاله النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المعنى نفسه : (( لا تزوّجوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهنَّ أن يؤذيهُنّ ، ولا تزوّجوهنَّ لأموالهنّ ، فعسى أموالهنّ أن يطغيهُنّ ، ولكنْ تزوَّجوهنَّ على الدين ، ولامرأة جذماءُ (11) سوداءُ ذات دين أفضل )) (12) ، وأين الراحة والسعادة في بيت صاحبته متكبرة تذل زوجها بكثرة مالها أو جمالها الطاغي تعرضه على الآخرين حيث ضعف الدين ، وقلَّ الحياء ، أو بنسبها الأصيل ومحتدها الشريف . .

دين الفتاة سياجها من حمـأة الزّمن
الرديء ، وفي الفسـادِ المُزبد
فاظفر بذات الدين ، قد نـادى بهــا
طـــه ، رسـول الله دون تردُّدِ
لا تطلبنْ فيـها الجمـال ، ولا الجـِدا
أو لا تقل أرنو لحُـسـنِ المحتِدِ
إن الجمــال بغيـــر ديـــنٍ محــنةٌ
والمال يطغيـها ، فلا تستبعــدِ
والبحثُ عن حسبٍ لمحوٍ خسيسةٍ
يرديك في ذلٍّ ، وعيـشٍ أنـكدِ (14) .
والنبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبّه الرجال إلى أن المرأة خلقت من ضِلعٍ معوج ، فلا يُنكر اعوجاجُها ولن يستطيع الزوج أن يقيمها على الجادة المستقيمة تماماً ، فهذا وضعها وشأنها ، والتشديد عليها في ذلك قد يؤدي إلى الشقاق والفراق . فإما أن يصبر الزوج على ضعفها فتستمر العشرة ، وإلا يصبر كان الطلاق ، وهو - عليه الصلاة والسلام - يدعونا إلى الترفق بالنساء ، ومراعاة ضعفهن لنبني بيتاً مسلماً قائماً على التفاهم والتراضي فقال : (( إنّ المرأة خُلقت من ضِلَع ، لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعتَ بها وفيها عِوَج ، وإن ذهبتَ تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها )) (15) فأيُّ الأمرين يختار اللبيبُ العاقل ؟
وعلى هذا فالمرأة المؤمنة الصالحة كنزٌ يحافظ الزوج عليه ، وصاحبة ٌ يحرصُ على إكرامها والإحسان إليها ، وقد يبدو منها ما يسيء فهي من بنات آدم وحواء ، مركـّبة كالرجال من النقصان ، وكل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطائين التوّابون ، فإن بدا منها ما لا يسر أحياناً فقد بدا منها أشياء كثيرة تسرُّ ، وترفع مقامها في عيني الزوج وأهله ، فلا يحسنُ أن يكرهها الرجل ويسيء معاملتها ، وأيُّ الناس معصوم عن الخطأ ؟ .
ومَن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه (16)
قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يفرَكْ مؤمنٌ مؤمنة ً ، إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخرَ )) أو قال : (( غيرَه )) (17) .
وحين نهى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضرب النساء (( لا تضربوا إماء الله )) جاء عمر رضي الله عنه إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( ذَئِرْنَ النساء على أزواجهن (18) فرخّص في ضربهنّ )) (19) فأطاف بآل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نساء كثير يشكون أزواجهن ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقد طاف بآل بيت محمد نساء كثير يشكون أزواجهنَّ ، ليس أولئك بخياركم )) (20) .
فرخّص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بضربهنَّ ضرباً تأديبياً لا يترك أثراً ولا يصيب الوجه ، ويظهر الغضب فقط دون أن يؤذي الجسد والنفس معاً ، إذ كيف يضرب الرجل زوجته أو يجلدها جلداً مبرّحاً دون رأفة ولا رحمة وكأنها عبد من عبيده أو ملك يمينه ، ثمَّ لا يجد حرجاً في آخر الليل أو آخر يومه أن ينام معها ؟!! قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يعمِد أحدكم فيجلد امرأته جلدَ العبد ، فلعلّه يضاجعها من آخر يومه )) (21) وفي رواية للبخاري : (( يجامعها )) (22) وكثيراً ما يقع الرجال في هذا الإثم نسأل الله السداد والرشاد .
بل إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل الهجران قبل الضرب فإن لم ينفع سمح بالضرْب الذي لا يؤذي ولا يفسد ودّاً ، فإن أقرّت المرأة بالخطأ فلْيكُفَّ الزوج عن هجرانها وليمتنع عن ضربها .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإن فعلن فاهجروهنَّ في المضاجع ، واضربوهنَّ ضرباً غير مبرّح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلاً . . . )) (23) .
والرسول عليه الصلاة والسلام لم يتجاوز في تأديب النساء ما قرره القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حيث قال سبحانه : (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ) .
أ ـ (فَعِظُوهُنَّ ) .
ب ـ (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ) .
ج ـ (وَاضْرِبُوهُنَّ ) .
د ـ (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) (24) .

 
المرأة وبرُّ الوالدين

أمرنا الله تعالى بصلة الأرحام ، فديننا دين البر ودين المرحمة . فقال في كتابه العزيز : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ) (1) ، وقال سبحانه مادحاً من يصل رحمه بأنه من أولي الألباب :
( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ )
أ ـ ( أُوْلُواْ الأَلْبَابِ(19) ) .
ب ـ ( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ) .
ج ـ ( وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) ) .
د ـ ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) .
هـ ـ ( وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) .
و ـ ( وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ( 21 ) ) (2) .
ثم خصّص صلة الأرحام فذكر الوالدين ، فقال سبحانه : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ) (3) ثم قرن برَّ الوالدين بعبادته جلّ وعلا فقال آمراً وناهياً : ( وَقَضَى رَبُّكَ ) .
أ ـ ( أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) .
ب ـ ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) .
( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ) .
أ ـ ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ).
ب ـ ( وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ) .
جـ ـ ( وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ) .
د ـ ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ).
هـ ـ ( وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (4) .
والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تأمر ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما .
وأحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البرِّ بهما والإحسان إليهما ، وإرضائهما ، مؤمنين وكفاراً كثيرة تدل على عظيم اهتمام الإسلام بالآباء والإقرار بفضلهم ومكانتهم في عالم الإسلام الذي يقرّ لأهل الفضل فضلَهم ولأهل الإحسان إحسانَهم .
فقد رسخ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أقواله الشريفة مفهوم البرّ للوالدين حين قرنه بأحب الأعمال إلى الله ، الصلاة والجهاد فقال حين سأله عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : أي العمل أحبُّ إلى الله تعالى ؟ قال : (( الصلاة على وقتها )) ، قال : ثم أيُّ ؟ قال : (( بر الوالدين )) قال : ثمّ أيّ ؟ (( الجهاد في سبيل الله )) (5) .
وجعل الرسول عليه الصلاة والسلام عقوق الوالدين من الكبائر ـ والعياذ بالله ـ فقد روى عبدالله بن عمرو بن العاص أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس )) (6) .
وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يشتم الرجل والديه . . وشتمهما بإحدى طريقتين ـ نسأل الله الهداية وبرَّ الوالدين ـ .
الأولى : الشتم المباشر الوقح دون أن يرعى لهما ذمّة ولا يخاف الله فيهما ، وقد يضربهما ، ويؤذيهما مما يدلُّ عل فجوره وعقوقه .
الثانية : الشتم غير المباشر ، فهو لا يذكرهما بسوء لكنه يسبب لهما الشتم والإيذاء ، فقد قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من الكبائر شتم الرجل والديه )) ، قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟! قال : (( نعم ؛ يسبُّ أبا الرجلَ فيسبُّ أباه ، ويسبُّ أمّه ، فيسبُّ أمّه )) (7) ، فإذا شتم الإنسان آباء الآخرين شتموا أبويه . . هذا أمر درج عليه الناس ، يردُّون وهم يشعرون أو لا يشعرون ، وسرعان ما ُيستفزُّ الناس في حالة كهذه .
1 ـ ومن صور البرّ للوالدين في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه يقول : جاء رجل إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله مَن أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : (( أمُّك )) قال : ثم مَنْ ؟ قال : (( أمُّك )) قال : ثم مَنْ ؟ قال : (( أمُّك )) قال : ثم مَنْ ؟ قال (( أبوك )) (8) ، فالأم تستحق الحظ الأوفر من البرِّ ، ثلاثة الأمثال والربع للأب ، وذلك لـ :
أ ـ صعوبة الحمل .
ب ـ صعوبة الوضع .
جـ ـ مهمَّة الإرضاع.
فإذا بلغ الطفل السنتين بدأ يدرك أن أباه يصرف عليه ، وأمَّه تخدُمه ، فاشتركا ـ إذ ذاك ـ في حيّز فهمه وإدراكه لفضلهما . ونجد لهذا الحديث أصلاً وتأييداً في قوله تعالى في الآية الخامسة عشرة من سورة الأحقاف " ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً ، حملته أمُّه كُرهاً ووضعتْهُ كُرهاً .." فقد ذُكرت الأم ضمناً في قوله تعالى " بوالديه " ثم أُفرِدَتْ في الحمل والوضع ، فكان ذكرها في هذه الآية ثلاث مرات . وصدق الله عز وجلّ ، وصدق رسوله الكريم .
2ـ وروى أبو هريرة كذلك أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( رَغِمَ أنفُ ، ثم رَغِمَ أنفُ ، ثم رَغِمَ أنفُ من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ، فلم يدخل الجنّة )) (9) ، فإدراك الأبوين عند الكبر وبرُّهما أمر مهم جداً ، فلو عدنا إلى الآية الثالثة والعشرين من سورة الإسراء ، وقرأنا كلمتي (عِندَكَ الْكِبَرَ ) لفهمنا أن الطفل المحتاج إلى الرعاية يعيش في كنف والديه ورعايتهما ، لا يُسلمانه لأحد أبداً ، وهما عند الكبر والهرم يحتاج كل منهما إلى الرعاية والعناية ، فقد بلغا مرحلة الضعف والشيبة ولا ينبغي أن يحفظهما في شيخوختهما إلا الذي حفظاه هما في طفولته ، والحياة دَيْنٌ ووفاءٌ ، ومن الظلم أن يتخلّى الأبناء لدُور العجزة أن تقوم بهذا الدَّور ، وإلا فأين البرُّ بالوالدين ، وأين الوفاءُ لهما ، وأين ردُّ بعضِ حقوقهما ؟!!
3 ـ وروى عبدالله بن عمر بن العاص قال : أقبل رجل إلى نبيِّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : أبايعك على الهجرة والجهاد ، أبتغي الأجر من الله تعالى . قال : (( فهل لك من والديك أحد حي ؟ )) قال : نعم ؛ بل كلاهما . قال : (( فتبتغي الأجر من الله تعالى ؟ )) قال : نعم . قال : (( فارجع إلى والديك ، فأحسِنْ صحبتهما )) (10) .
4 ـ وجاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه ، فقال : إنَّ لي امرأة ، وإنَّ أمي تأمرني بطلاقها ؟ فقال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( الوالد أوسط أبواب الجنّة ، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو أحفظه )) (11) ، ولا بدَّ من كلمة نقولها دفعاً للفهم الخاطئ : فلن تطلب أم من ابنها أن يطلّق زوجته ما لم تكن الزوجة مسيئة بطريقة ما للأم ، كأن تترفـّع عنها ، أو تهملها ، أو تحرّض ابنها عليها . . . وسوف تعاملها كما تعامل ابنتها إن رأت منها تواضعاً وتقديراً واحتراماً وتودَّدَت إليها كأنها أمها .
وإن قيل إن الأم ذات خلق سيء فالجواب على شقّين :
الأول : تتحملها احتراماً لزوجها ورغبة في العيش معه ، ورجاء أن يبرَّ أمّه ، وذلك قدر الإمكان ، وتتغاضى عن مضايقات الأم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً .
الثاني : يقول العلماء : هذا ندب وليس أمراً ، فإن ثبت أنَّ الزوجة مخطئة حاول الزوج تقويمها وإلا طلّقها ، وإن ثبت أنَّ الأم متجنية لاطفها ابنها وزوجته واحتملاها إلى أن يجدا حلاًّ مناسباً لهذه القضيّة .
5 ـ وروى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ امرأة جاءت إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : يا رسول الله ؛ إن فريضة الله على عباده في الحج ، أدركتُ أبي شيخاً كبيراً ، لا يثبت على الراحلة ، أفأحجُّ عنه ؟ قال : (( نعم )) (12) فالمرأة تريد أن تبرَّ أباها ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرّها على ذلك .
6 ـ وهذا سيّد الخلق ورسول الحق يعلّمنا وابنته رضي الله عنها صورة من صور البرِّ بالوالدين ، فعن أم هانئ ، فاختة بنتِ أبي طالب رضي الله عنها ، قالت : أتيتُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الفتح وهو يغتسل ، وفاطمة تستره بثوب . . . )) (13) .
لقد كان خدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرين ، يحوطونه بعيونهم ويسهرون على خدمته ، لكنَّ ابنته الفاضلة تريد أن ترضيه ، وترضي الله تعالى ببره وخدمته فتكون أسوة حسنة لبنات جنسها ، وللمسلمين جميعاً .
7 ـ وقد مرَّ في حديثنا في (( المرأة المربية والداعية )) أنَّ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تستفتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في برِّ والدتها الكافرة ، فيحضّها ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك ويدفعها إليه ، فديننا دين الرحمة ، ودين الصلة ، وما بُعِث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا ليتم مكارم الأخلاق ، ويؤصلها في النفس الإنسانية ، وأعظم هذه الأخلاق برّ الوالدين والإحسان إليهما وطاعتهما ولو كانا مشركين إلا في توحيد الله وعبادته . قال تعالى : (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ) (14) .
8 ـ ومن البرِّ الرائع للوالدين أن تصل من يحبانه ويأنسان إليه ، وتكرمه رغبة في إسعادهما وإدخال السرور إلى قلبيهما . . . قد روى ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( إنّ مِنْ أبرَّ البرِّ أن يصل الرجل أهل ودِّ أبيه )) (15) فلئن وصلتَ أصحابهما في حياتهما أو بعد مماتهما لأنت بارٌّ بهما ، مطيع لهما ، ثوابك عند الله تعالى كبير ، وأجرك خطير ، لأنك فعلت ما يرضيانه إنْ حيَّيْن وإن ميِّتَيْنِ .
9 ـ وجاء رجل من بني سلمة والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالس مع أصحابه يسأله : يا رسول الله ؛ هل بقي من برِّ أبويَّ شيء أبرُّهما به بعد موتهما ؟ فقال : (( نعم :
أ ـ الصلاة عليهما (16) .
ب ـ والإستغفار لهما .
جـ ـ وإنفاذ عهدهما من بعدهما .
د ـ وصلة الرحم التي لا توصَل إلا بهما .
هـ ـ وإكرام صديقهما )) (17) .
10 ـ ولا أدلّ على برّ الوالدين ما قصَّه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه الكرام من قصّة الراهب العابد (( جريج )) الذي ما فتئ يصلي ويعبد الله تعالى ، وقد جعل الدنيا وراء ظهره ، فتأتيه أمه وهو يصلي في صومعته ، وتناديه : (( يا جريج )) ثلاث مرات في ثلاثة أيام ، فيقول محتاراً : يا ربِّ أمي وصلاتي ، ثم يظن أن صلاة النفل أفضل من إجابة الأم ، فيستمر في صلاته فتغضب أمه ، وغضب الأم عصيب ، فتدعو حزينة كاسفة البال من سكوته وصدّه قائلة : اللهمَّ لا تمته حتى ينظر إلى وجه المومسات . . نعم حتى ينظر إلى وجه المومسات . .
وأجاب الله دعاءها ، فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته ، وأعجبوا بتقواه وورعه ، وكانت امرأة بغيٌّ يُتمثَّلُ بحسنِها ، فقالت : إن شئتم لأفتِنَنَّه ، فتعرَّضت له ، فلم يلتفت إليها ، فأتَتْ راعياً كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها ،فوقع عليها ، فحملت ، فولَدَتْ ، فقالت : هو من جريج ، فأتوه فهدموا صومعته وجعلوا يضربونه ، وهو لا يدري لذلك سبباً . . . إلى أن أنقذه الله تعالى بعد أن رأى وجوه المومسات استجابة لدعوة أمّه ، وما كان الله تعالى ليضيع إيمان ذلك الراهب العابد ، ولكن أراد أن يعلمه ويعلمنا أن الأمَّ ـ وما أدراك ما الأمّ ـ أولى أن تُجاب وتطاع (18) .
11 ـ وقصة أويس بن عامر القَرَني من اليمن ذكره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه ، فسأل عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى رآه ، وكان مما ذكره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه أنّ له والدةً هو بها برٌّ (19) . . نسأله تعالى أن يجعلنا من الأبرار المرضيّ عنهم ، وأن يكرم آباءنا وأمهاتنا . . اللهم آمين .



 
الأرحام

الأمهات والزوجات والبنات والأخوات أرحامنا ، وصّانا بهنَّ القرآن الكريم ، وجعل وصلهنَّ والإحسان إليهنَّ من التقوى فقال سبحانه : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (1) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إنَّ الله تعالى خلق الخلق ، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : نعم ؛ أما ترضين أن أصِلَ مَنْ وصلك ، وأقطع مَنْ قطعك ؟ قالت : بلى ، قال : فذلك لكِ ، ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : اقرؤوا إن شئتم :( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) ) (2) )) (3).
وللنساء في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصيب وافر يدلُّ على عظيم اهتمام هذا الدين العظيم بأمورهنّ ، فتحدّث عنهن بعامة ، وفصَّل فيهن بخاصّة .
ومِنْ أمثلة الحديث العام قولهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوصي بهن في حجة الوداع (( . . . ألا واستوصوا بالنساء خيراً . . )) (4) ، وذكر مكانتهنَّ في المجتمع الإسلامي وطريقة التعامل معهن ، وحقوقهن ، وواجباتهن . . . وقولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوصي المرأة أن تحسن معاملة جارتها حتى ينموَ الودُّّ بينهما (( يا نساء المسلمات ؛ لا تحقرَنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة )) (5) .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واصفاً حالة النساء في النار ، كي تتجنّب الواعيات الصالحات منهن أن يكنَّ من أهلها (( . . . وقمتُ على باب النار ، فإذا عامّةُ مَنْ دخلها النساء )) (6) ، وفي رواية (( . . واطّلَعْتُ في النار فرأيتُ أكثر أهلها النساءَ )) (7) ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ موضحاً أثرهنَّ على الرجال لأنهنَّ محطُّ شهوتهم (( ما تركت بعدي فتنة هي أضرُّ على الرجال من النساء )) (8) .
أما الحديث عنهنّ بخاصة - وهذا ما أرمي إليه في هذا المقام - فأرحامنا من النساء . . .
1 ـ وأبدأ بالأم لعظيم فضلها ، وجليل خطرها ، ورفعة مكانتها . وقد شغلت في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيّزاً كبيراً . . ، أختار من هذا الحيّز أحاديث توضِّحُ هذه المكانة السامية . ففي قصة جريج العابد تدعوه أمه وهو يصلي فلا يلتفت إليها ظانّاً أن الصلاة النافلة أهم من إجابة دعوة الأم ، وسيجيبها حين ينتهي من صلاته فتدعو ـ من حزنها لإهماله إياها ـ أن يرى وجوه المومسات ، وقد كانت رؤيتهنَّ تورث التقزُّز والقرفَ على العكس مما نراه في هذا العصر التقدّمي المتحرر !! حيث ارتفعت أسهمهن ، وصارت لهنّ الصدارة ، وتشوّفَ الناس ، وتشوّقوا للوصول إلى ما وصلن إليه من الشهرة وفيض المال (9)!! وفي الحديث نفسه نجد حبَّ الأم ابنها ورغبتها أن يصبح عظيماً كالوجيه الذي مرَّ بحصانه أمامها ، وعوذهاا أن يكون ابنها مثل الفتاة التي يضربها الناس ويتهمونها بالزنا والسرقة . . .
ويحذر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عقوق الوالدين ولا سيّما الأم فيقول : (( إنَّ الله تعالى حرَّم عليكم عقوق الأمهات ، ومنْعاً وهات ، ووأد البنات . . . )) (10) والعقوق استخفاف بفضل الوالدين ، وقطع الإحسان إليهما ، وقطع الرحم التي أمر الله بوصلها .
جاء رجل إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله مَنْ أحبُّ الناس بحسن الصحبة؟ قال (( أمُّك ثم أمُّك ثم أمُّك ثم أبوك ، ثمَّ أدناك أدناك )) (11) .
والصحابي هو أبو حكيم يريد أن يكون من أهل الله الذين يبغون ثوابه ويخافون عقابه ، فلما قال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المرة الأولى : (( أمك )) وهي كلمة واحدة معبرة عن إرضاء الأم الكريمة ذات الفضل العظيم الذي لا يدانيه فضل ، فالجنة تحت أقدامها ، سأله عن الشخص الثاني في حياة الإنسان ، فكرّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفظ : (( أمك )) فعرف أبو حكيم أنَّ فضلها كبير لا يدانيه فضل مهما علا وسما .
ورغب أبو حكيم أن يعرف الثالث في الفضل بعد مرتبة الأم أولاً وثانياً اللتين خصَّصهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأم الحبيبة ، فكرّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفظ (( أمك )) يا الله ، إنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينبئ عن عظيم فضل الأم ، فهي نبع الحنان ، ونهر الرحمة ، وسحائب الغفران . إرضاؤها خطير ، وإكرامها واجب كبير . . ثم مَنْ يا رسول الله بعد الأم أولاً وثانياً وثالثاً بعد باب الجنّة ، ومفتاح الخيرات ! فيأتيه الجواب (( أبوك )) فهو المربّي ، والأسوة الحسنة لأولاده ، يشقى لأجلهم ، ويتعب لراحتهم ، رضاه من رضا الرب ، وسخطه يؤدي إلى سخطه ، إكرامه واجب ، وحبُّه لازب ، أدخلهما الله جميعاً جنّته في الفردوس الأعلى (12) .
وقد ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمَّ مثلاً للرحمة فقال حين قَدِم بسبي ( أسيرات ) فإذا امرأة منهن تبحث عن وليدها ، فلما وجدته أخذته ، فألزقته ببطنها ، فأرضعته ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أترون هذه المرأة طارحة ولدها بالنار ؟ )) قلنا : لا والله ، قال : (( لـَله أرحم بعباده من هذه بولدها )) (13) ، ولو لم تكن الأم مثال الرحمة وعنوانها ما جعلها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثل الواضح لرحمة الله سبحانه وتعالى بعباده .
2 ـ وأثنّي بالزوجة خيرِ متاع الدنيا ، المرأة الصالحة ، فقد خصّها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأحاديث وافرة ، فهي شقيقة العمر ، ورفيق الدرب ، ترى رضاء الله في رضاء زوجها ، راعية في بيته ، شريكة حياته .
أ ـ أمرنا الرسول الكريم أن نتخَّير المرأة الصالحة ذات الدين ، التي ترى حقَّ زوجها قبل حقوق الآخرين وتفضله على نفسها ، ولا بأس أن يجتمع والدينَ صفة ٌ أو صفتان أو الصفات كلُّها . قال عليه الصلاة والسلام : (( تُنكح المرأة لأربع :
أ ـ لمالها .
ب ـ ولحَسَبِها .
جـ ـ ولجمالها .
د ـ ولدينها ، فاظفر بذات الدين ، تربت يداك )) (14) .
وعودة إلى الفصول السابقة توضح العلاقة بين الرجل وزوجته :
ـ فهو يحبها ويودّها فإن كره منها خلقاً حمد لها خلقاً آخر .
ـ ولا ينبغي له أن يجلدها فهي ليست خادمة بل زوجة كريمة .
ـ يكرمها ولا يظلمها ولا يقبّح ، ولا يهجر إلا في البيت .
ـ يكسوها مما يكتسي ، ويطعمها مما يَطعَم ، وله صدقة في ذلك وثواب كبير .
ـ أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخيارُهم خيارهم لنسائهم .
ب ـ وهذه السيدة عائشة رضي الله عنها تقول في حق السيدة خديجة رضي الله عنها : ما غرتُ على أحد من نساء النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما غرتُ على خديجة ، وما رأيتُها ، ولكنْ كان النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر من ذكرها ، وربما ذبح الشاة ، ثم يقطّعُها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأنّه لم يكن في الدنيا إلا خديجة ؟ فيقول : (( إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد )) (15) .
جـ ـ وهذه بريرة خادمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوّجها ـ وهي أمَةٌ ـ عبدٌ أسود لبني المغيرة يُدعى مغيث ، فلما أعتِقَتْ وصارت حرَّة خيَّرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مفارقة زوجها أو البقاء في عصمته ، لكنها آثرت الفراق ، فلجأ مغيث إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتشفّع له عندها ففعل ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لها : (( لو راجعتهِ فإنه أبو ولدك )) قالت له : يا رسول أتأمرني بذلك ؟ قال : (( إنما أشفع )) قالت : لا حاجة لي فيه (16) .
د ـ وقد مرَّ في فصل (( كرم المرأة المسلمة )) كيف أجابت الزوجة الأولى لإسماعيل عليه السلام أباه حين زاره فأمره أن يفارقها ، ففعل ، وكيف أجابت الزوجة الثانية إجابة تدل على طيب نفسها فأمره أن يمسكها ، وفي القصة نفسها نجد السيدة هاجر المرأة المؤمنة التي تسأل زوجها حين تركها وابنها في واد غير ذي زرع : آلله أمرك بهذا ؟ فيقول : نعم ، فتقول إذاً لا يضيِّعنا (17) .
هـ ـ ولِيُحافظ الرجل على عرض أخيه وجاره في غيابه يعظم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمانة والشرف والطهارة فيقول حاثّاً على حرمة نساء المجاهدين في سبيل الله تعالى : (( حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ، ما مِنْ رجلٍ من القاعدين يخلُف رجلاً من المجاهدين في أهله ، فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة ، فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى )) ، ثم التفت إلينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( ما ظنكم ؟ )) (18) .
فبماذا نجيب بعد هذا التهديد الواضح الذي يأخذ بالألباب ؟ رجل يجاهد الأعداء ويبذل دمه في سبيل الله ، متغرّب عن أهله ، ترك الدنيا وراءه ، يريد رضا الله جلّ في علاه ، هل يخونه في أهله إلا فاسق فاجر ، لا يرعى للمسلم حرمة ، ولا يعرف لله حدّاً ؟!!
3 ـ وأثلـّث بالبنت فلذة الكبد وحبّة القلب ، فقد حباها الحديث الشريف بعشرات الأحكام ، وصوّر حبها لأبيها وحبَّ أبيها لها .
يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها أغضبني )) (19) .
حبٌّ أبويٌّ عارم ، لا يرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأساً أن يظهره ليعلّم الناس أن الفطرة الصحيحة برٌّ متبادل بين الآباء والأبناء ، وأنَّ محاولة طمس هذه الفطرة يورث العُقَد النفسية .
ورورت عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت عليَّ امرأة ، ومعها ابنتان لها تسأل ، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة ، فأعطيتُها إياها ، فقسمتها بين ابنتيها ، ولم تأكل منها شيئاً ، ثم قامت فخرجت ، فدخل النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ علينا ، فأخبرتُه ، فقال : (( مَن ابتُلي من هذه البنات بشيء ، فأحسنَ إليهن كنَّ له ستراً من النار )) (20) .
وهذه فاطمة رضي الله عنها تحفظ سرَّ أبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد روت السيدة عائشة حديثاً يدلُّ على العلاقة الرائعة بين الأب وابنته . . تقول : كنَّ - أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم ـ فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ، ما تخطئ مِشْيَتُها من مشية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئاً ، فلما رآها رحّب بها وقال : (( مرحباً بابنتي )) ثم أجلسها عن يمينه أو شماله ، ثم سارّها ، فبكت بكاءً شديداً ، فلما رأى جزعها سارّها الثانيةَ ، فضحِكَتْ ، فقلت لها : خصَّكِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بين نسائه بالسرار ، ثم أنت تبكين ؟ فلمَّا قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألتها : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ما كنتُ لأُفشي على رسول الله ـصلى الله عليه وسلم سرَّه .
فلما توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلتُ : عزمت عليكِ بما لي عليك من الحق لّما حدَّثتِني ما قال لك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قالت : أما الآن فنعَمْ ، أما حين سارّني في المرة الأولى فأخبرني (( أنَّ جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة ، أو مرَّتين ، وأنه عارضه الآن مرَّتين ، وإني لا أُرى الأجل إلا اقترب ، فاتقي الله واصبري )) فبكيت بكائي الذي رأيتِ .
فلما رأى جزعي سارّني الثانية ، فقال : (( يا فاطمةُ أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة ؟ )) فضحكتُ ضَحكي الذي رأيتِ (21) .
وهذه أمّ سليم ترى ابنها انساً رضي الله عنهما تأّخر عند النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتسأله حين عاد إلى أمّه : ما حبسك ؟ فيقول لها : بعثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحاجة ، قالت : ما حاجتُه ؟ قلتُ : إنها سرٌّ . قالت : لا تخبرَن بسرِّ رسول الله ـ صلى الله عله وسلم ـ أحداً . . (22) .
وقد مرَّ معنا تحريم القرآن الكريم وأد البنات والتشنيع على من يفعله ، يقول الله تعالى : ( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ( 8 ) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( 9 ) ) (23) ، وقد مرَّ معنا في هذا الفصل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّ الله تعالى حرَّم عليكم :
أ ـ عقوق الأمهات .
ب ـ ومنعاً وهات .
جـ ـ ووأد البنات . . . )) إنّ وأَدهُنَّ ناتج عن وأد النفس أولاً ، فما يفعل ذلك إلا رجل لا خلاق له ، ولا قلب عنده .
أما الحفيدة فهي البنت الصغيرة المدلَّلة ، وابنة البنتِ كأمِّها حبّاً وكرامة .
وهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرحيم بأمته ، وشأنـُه شأن كل الآباء يخفق قلبه حناناً وعطفاً حين يرى أمامة بنت زينب بنتِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيحملها ويصلّي ، فإذا سجد وضعها ، وإذا قام حملها (24) .
يقول العلامة الفاكهاني : وكأن السرَّ في حمله أمامة في الصلاة دفعٌ لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن ، فخالفهم في ذلك ، حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم ، والبيانُ بالفعل أقوى من القول .(25)
ونراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو الناس إلى الإسلام لينقذوا أنفسهم من النار ، ويخصُّ ابنته فاطمة التي يحبها كثيراً بهذه الدعوة (( يا فاطمة أنقذي نفسك من النار . . )) (26) ، فهو عليه الصلاة والسلام راعٍ في بيته فضلاً عن رعايته للأمّة الإسلامية ، بل للناس جميعاً .
4 ـ ورابعة الأرحام الأخت التي لا ترى أفضل من أخيها ، وتفخر به قبل زواجها ، وتربّي أبناءها على حبّه ، وتلجأ إليه حين تضيق الدنيا بها ، وقد حفل الحديث الشريف بذكرها ولا سيّما في علم الفرائض .
لكنني أقف في حقِّها على ثلاثة أحاديث :
أولها : قصة النبيِّ سليمان في حكمه بين الأختين ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت لصاحبتها : إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكما إلى داود ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرتاه.
فقال : ائتوني بالسكين أشقّه بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل ، رحمك الله ، هو ابنها . فقضى به للصغرى )) (27) .
ثانيها : ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات ، فيحسن إليهن إلا كنَّ له ستراً من النار )) (28) وهذ دعوى إلى :
أ ـ تحمّل مسؤولية الأسرة تحملاً جادّاً .
ب ـ بناءِ أسرة بناءً قائماً على التراحم والتربية الاجتماعية المتكافلة .
جـ ـ العملِ على إرضاء المولى سبحانه ورعاية عباده الضعفاء .
د ـ التقوى التي توجب الجنة وتبتعد عن النار (29) .
ثالثها : ما قالته السيدة أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد سمعَتْ أنه قد يتزوّج بدُرّةَ بنت أم سلمة ، يا رسول الله : انكح أختي بنت أبي سفيان ، قال : (( أوَتحبين ذلك ؟ )) قالت : نعم ؛ لست لك بمخلِيَة (30) وأَحَبُّ من شاركني في خيرٍ أختي . فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّ ذلك لا يحلُّ لي )) فقالت : فإنّا نُحدثُ أنك تريد أن تنكح درّةَ بنت ابي سلمة . قال : (( بنتَ أم سلمة ؟ )) قالت : نعم . فقال : (( لو أنها لم تكن ببيتي في حجري ما حلّت لي ، إنها لابنةُ أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثُويبَةُ ، فلا تعرِضْنَ عليَّ بناتكنَّ ولا أخواتكنَّ )) (31)
هذه أم حبيبة رضي الله عنها في السنوات الأولى للإسلام في هجرة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تسمع :
1 ـ أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيتزوج درّة بنت زوجته أم سلمة .
2 ـ أم حبيبة سعيدة بزواجها من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتحبُّ الخيرَ لأختها فتسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتزوجها كي ترى أختها من الخير في كنفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما تراه هي .
3 ـ يخبرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّّه لا يجوز الجمع بين الأختين في شريعة الإسلام .
4 ـ تقول له ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنها سمعت أنه سيتزوج من درَّة بنت أم سلمة فهل يجوز الجمع بين الأم وابنتها ولا يجوز الجمع بين الأختين .
5ـ ينكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سيضم درَّة إلى نسائه لسببين كل منهما وحده يمنع الإقتران بدرة .
الأول : أنها ربيبته ( ابنة زوجته ) .
الثاني : أنَّ درّة ابنة أخيه من الرضاعة فقد رضع ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو سلمة من ثويبة أمة أبي لهب التي أعتقها حين ولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (32) .

 
إرشادات نبوية


لم يترك لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمراً ينفعنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا إلا علمَنا إياه ، ووضّحه لنا ، وكان عليه الصلاة والسلام يضع نصب عينيه الشريفتين قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (1) فاجتهد صلى الله عليه وسلم أن يوصل أوامر الله تعالى ونواهيه إلى الناس جميعاً ، مسلمهم وكافرهم ، كي يقيم الحجة عليهم . وكثير من أحاديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتهت بـ : (( ألا هل بلّغت ؟ اللهم فاشهد )) إلى أن بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة كما أمره بذلك المولى العظيم ، فأعلن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أنَّ الدين نزل كاملاً ونعمة الإسلام أضحت تامة ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) (2) .
وفي أحاديثه الشريفة ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثير من هذه الإرشادات ، أوامرَ ونواهيَ للنساء خاصة ، وكذلك للرجال في النساء ، نقف على بعض منها لكثرة ورودها في الأحاديث الشريفة :
1 ـ ففي التنفير من الزنا وعاقبته نجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصف من وقع فيه وصفاً مخيفاً في حديثه الطويل في حُلُمِه ، وما رأى فيه من محاذيرَ على المسلمين أن يتجنبوها (( . . فانطلقتنا ، فأتينا على مثل التنور )) . . . (( فإذا لغط وأصوات ، فاطّلعنا فيه ، فإذا رجال ونساء عراةٌ ، وإذا هم يأتيهم لهبٌ من أسفل منهم ، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوا )) وفي رواية (( . . . فانطلقنا إلى مثل التنور ، أعلاه ضيّق ، وأسفله واسع ؛ يتوقّد تحته ناراً ، فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا ، وإذا خمدت رجعوا فيها ، وفيها رجال ونساء عراة )) (3) ، ويبيّن الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّ هذه عقوبة الزناة والزواني نسأل الله الطهارة والعفاف .
ويقول عليه الصلاة والسلام محذراُ من الزنا بعامة ، والفاحشة بنساء المجاهدين خاصة هؤلاء المجاهدين الذين نذروا أنفسهم لقتال الأعداء ، والدفاع عن حرمة الإسلام ، وتركوا ذراريهم ونساءهم أمانة بيد الآخرين ، فوجب على هؤلاء حفظ أولئك المجاهدين في أولادهم ونسائهم ، وأداء هذه الأمانة بإخلاص وصيانة للعرض والشرف أن يلوّثا حرمة نساء المجاهدين على القاعدين التي وصلت إلى درجة حرمة أمهاتهم ، (( ما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا :
أ ـ وقف له يوم القيامة .
ب ـ فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى !! )) .
يقول بريدة رضي الله عنه ـ راوي الحديث ـ : ثم التفت إلينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( ما ظنُّكم ؟ )) (4) أي لا تتعجبوا من هذا العقاب الشديد لمن يعتدي على حرمات المسلمين فالأمر خطير ، ومن حارب في سبيل الله مدافعاً عن دينه دافع الله عنه ، وخذل من خانه .
وكما حضّ الإسلام على طهارة الحرائر حثَّ على متابعة الإماء ـ لأنهن جزء من الأسرة والمجتمع ـ وحض على تقويمهن ومعاقبتهن إن وقعن في الزنا مرّة ، ومرّتين ، فإن تُبنَ ورجعن إلى العفّة فهذا لبُّ ما يريده الدين الطاهر ، وإلا فالتخلُّص منهنّ أَولى . . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا زنت الأَمَةُ ، فَتَبَيَّن زناها فليجلدها الحدَّ (5) ، ولا يثرِّبْ (6) عليها ، ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحدَّ ، ولا يُثَرِّبْ عليها ، ثم إن زنت الثالثة فليبعها (7) ولو بحبل من شعره )) (8) ، ويزهد الإنسان بثمنها للتخلص منها ، فبقاؤها في الأسرة أشدُّ خسارة من بيعها بثمن بخسٍ ، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج .
وفي حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصنفين من أهل النار لم يرهما نجد قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ونساء كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رؤوسهنَّ كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )) (9) .
إنهنَّ النساء اللواتي خلعن برقع الحياة ، وأمطن حجاب الطهر والعفاف ، يلبسْنَ وهنَّ في الحقيقة لا يسترنَ أجسادهُنّ .
يرتدين الثياب الرقيقة ، فلا تحجب عن العيون النَّهِمَةِ والذئاب الجائعة شيئاً .
ويرتدين الثياب القصيرة ، فلا تَرُدُّ عن السوق والأفخاد وقاحة الغربان الجائعة .
ويلبسن الثياب الضيقة التي ترسم هضاب أجسادهن ووديانها ، فكأنهنّ عاريات .
ويرتدين الثياب الفاضحة ، عارضاتٍ الشعرَ والأعناق ، والصدور والنهود لكل من يرغب ، فلا يتمنّعنَ عن لمس الفاسقين ، وإجابة الفاجرين ، يتزَيَّنَّ للزنا ، ويتهيَّأْن للخنا . . . فسق ودعارةٌ ، ودعوةٌ إلى الفساد ، وترويج للفجور على صفحات المجلات والجرائد ، وفي وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ، في الشوراع والطرقات . . بلاء . . بلاء . . هؤلاء هنَّ الصنف الثاني (10) الذي حذر الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه منهنّ .
2 ـ وفي النهي عن تغيير الخلقة يقول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لامرأة استفتنته في شعر ابنتها المخطوبة ، وقد أصابتها الحصبةُ فانتشَر شعرها ، وسقط ، فأرادت أن تَصِلها بشعر غيرها لتبدو مقبولة في عين من يطلبها : (( لعن الله الواصلة والموصولة (11) )) (12) .
وروى ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن الواصلة والمستوصلة ، والواشمة والمستوشِمة (13) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشماتِ ، والمتنمِّصاتِ ، والمتفلّجاتِ للحُسْنِ ، المغيّراتِ خَلْقَ الله (14) .
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تحلق المرأة رأسها (15) ، فهو عنوان جمالها ، وعلى هذا روى داود عن ابن عمر مرفوعاً (( ليس على النساء الحلق ، إنما على النساء التقصير ، وذلك في مناسك الحج والعمرة )) .
3 ـ ومنع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرأة أن تنوح على الميت ، أما البكاء والحزن فمما يدلُّ على إنسانية المرأة . لكنّ رفع صوتها بالنياحة والندب وشقّ الثياب ، وتمزيق الجيوب وضرب الخدود ليس من سمات المرأة المسلمة ، وقد قال رسول الله ـ صلى الله علي وسلم ـ : (( الميت يُعذَّب في قبره بما نيحَ عليه )) وفي رواية (( ما نيح عليه )) (16) ، وقال أيضاً : (( ليس منا مَنْ ضربَ الخدودَ ، وشقَّ الجيوبَ ، ودعا بدعوى الجاهليّة )) (17) .
وعن أبي بردة قال : وَجِعَ أبو موسى ، فغُشِيَ عليه ، ورأسه في حجر امرأة من أهله ، فأقبلَتْ تصيح بِرَنَّةٍ (18) ، فلم يستطع أن يَرُدَّ عليها شيئاً ، فلما أفاق قال : أنا بريء ممن برىء منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بريءٌ من الصالقة والحالقة و الشاقَّة (19) .
وحين أغمي على عبدالله بن رواحة رضي الله عنه جعلت أخته تبكي عليه وتقول : واجبلاه ، وكذا وكذا ، تعدِّدُ عليه . فقال حين أفاق : ما قلتِ شيئاً إلا قيل لي : أنتَ كذلك ؟! (20) .
ويؤكد هذا المعنى ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( ما مِن ميتٍ يموتُ ، فيقوم باكيهم ، فيقول : واجبلاهُ ، واسيداه )) أو نحو ذلك إلا وُكِّلَ به ملكان يَلْهزانه (21) : أهكذا كنتَ ؟! (22) استنكاراً لما قيل ، ومنعاً له .
وقد توعَّد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النائحة والتي تستأجر لهذا الغرض ـ إذا ماتت وهي على هذا الامر ـ بالعذاب الشديد يوم القيامة فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( النائحة إذا لم تَتُبْ قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قَطِران ، ودِرع من جرب )) (23) .
4 ـ وحذّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عمل يفضي إلى فساد ، فقد أقبل ابن أم مكتوم وهو أعمى إلى إحدى بيوتات النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك بعد الأمر بالحجاب فقال لاثنتين من نسائه كانتا موجودتين : (( احتجبا منه )) فقالتا له : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ، فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه !؟ )) (24) ، فالحجاب إذاً عن الرجال ومنهم ، فلا تقع أعين النساء على الرجال ، ولا أعين الرجال على النساء ،فلا يبقى للنفس أن تقع في حبائل الشيطان و (( العينان زناهما النظر )) (25) .
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ محذراً أيضاً من النظر والإفضاء (26) : (( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد )) (27) فتنتفي الشهوة الحرام إذ ذاك فلا لِواط ، ولا سِحاق ، نعوذ بالله من ذلكما العملين المشؤومَيْن المغضبين لله تعالى المهدرَيْن لإنسانية الإنسان وشرفه وكرامته .
وحذر كذلك من دخول أقارب الزوج على الزوجة في غيابه فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إيَّاكم والدخولَ على النساءِ ! )) فقال رجل من الأنصار : أفرأيت الحَمْوَ ؟ قال : (( الحمو الموت ))(28) ، وقد توقفنا عند هذا الحديث في فصل سابق وبيَّنا خطر الاختلاط وأثره على الحياة في المجتمع والأسرة ، والفساد الذي يؤدي إليه (29) .
وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا يخلَوَنَّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي مَحْرَم )) (30) وما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما !! . . . أفهم من هذا أن الشيطان يحرّك الإثم في نفسيهما كليهما ، فهو رسول الرجل إلى المرأة ، يضرم فيها النظرة الآثمة والشهوة الحرام ، ورسول المرأة إلى الرجل يضرم فيه النظرة الآثمة والشهوة الحرام .
5 ـ ولعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النشاز من الرجال والنساء الذين يحاكي كلٌّ منهم حركات الجنس الآخر ، ويتشبّه به في خَلقِه ، وحركاته ، وكلماته .
فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء )) (31) وفي رواية : (( لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء بالرجال )) (32) .
ثم خصّص القول في رواية أبي هريرة حيث يروي هذا الصحابي الجليل فقال : (( لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجلَ يلبَس لِبسَة المرأة ، والمرأة تلبس لِبسة الرجل )) (33) .
فالله سبحانه وتعالى خلق للرجل ما يناسبه من صفات الرجولة والخشونة ليتحمّل مسؤوليته التي أنيطت به ، وجعل للمرأة ما يناسبها من سمات الأنوثة واللطافة والدلِّ لتقوم بعملها المنوط بها ، فإن خرج أحدهما من لباسه هذا وقلّد الجنس الآخر فهو ناشز مذموم مخنّث محتقَر من الطرفين فهو كالغراب حاول تقليد القطا في مشيه فلا هو استطاع ذلك ، ولا هو استطاع العودة إلى ما كان عليه .
وقد مرّ معنا في فصل (( حب المرأة زوجَها وطاعتها إياه )) عظيم خطر العقوبة التي تنال الزوجة التي تهجر فراش زوجها وهي لعنة الملائكة إياها ، ولا تلعنها الملائكة إلا بأمر من الله تعالى . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه ، فأبت فبات غضبانَ عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح )) (34)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة مرَّت كذلك في الفصل المذكور نفسه مع شيء من التفصيل .
6 ـ ونهى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن وصف النساء ِ النساءَ للرجال فقال : (( لا تباشر المرأةُ المرأةَ ، فتصفَها لزوجها ، كأنه ينظر إليها )) (35) .
فإن فعلت فهذا مؤشر على :
أ ـ قلة دينها .
ب ـ وجهلها به .
جـ ـ وعدم الاكتراث بفضح الأخريات .
د ـ وضعف دين زوجها ، إن استمع إليها وأصغى .
هـ ـ ضعفِ غيرتها أو دليل على سفاهتها .
وأمور كثيرة تنهى عن الخوض فيما حرّمه الله تعالى ، وكان الأولى أن يتنزّه المسلم المؤمن عنها فهي لا تليق به ، بل هي ثلمة في دينه وأخلاقه .
ونهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قذف المحصنات العفيفات ، فحين أمر باجتناب السبع الموبقات . ذكر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( . . . وقذفُ المحصنات المؤمنات الغافلات )) (36) ، وقد قال الله تعالى في سورة النور الآية 23 : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .
7 ـ وحذّر النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرأة التي رغبت أن تكيد لضرتها بأن تدّعي أنَّ زوجها يُعطيها مالا يعطيه الثانية فتدّعي فضلها عليها ومكانتها الأثيرة عند الزوج ، فقد روت أسماء رضي الله عنها أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن لي ضَرّة ، فهل عليَّ جُناح ( أي ذنب ) إن تشبَّعت من زوجي غير الذي يعطيني ؟ فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المتشبِّعُ بما لم يُعْط كلابس ثوبيْ زور )) (37) فلا ينبغي أن تتظاهر بفضلها على ضرتها لتؤذي مشاعرها .
كما لا ينبغي للمرأة إذا خطبها رجل قد بنى بأخرى أن تربط موافقتها الزواج منه بطلاق امرأته الأولى ، أو أن تسأله بعد الزواج أن يطلق الأخرى وتعَنته في ذلك ليصفو لها الجو فتؤذيها عامدةً وغير متعمدة .
يروي أبو هريرة أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن . . . (( ولا تسألُ المرأة طلاقَ أختِها لتكفأ ما في إنائها )) (38) . . . وفي رواية : (( وأن تشترط المرأة طلاق أختها )) (39) .
وتكفأ المرأة القدر حين تكبّه على فمه فيفرغ ما فيه فتصب فيه ما تريد ، والمقصود أنه لا ينبغي أن تطلب طلاق ضرتها المسلمة ليكون الخيرُ بعد هذا كلّه لها .
8 ـ وأخيراً نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعْن الحيوانات المفيدة ، وإيذاء غير الضارِّ منها :
أ ـ ففي الأولى ما رواه عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال : بينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض أسفاره ، وامرأة من الأنصار على ناقة ، فضجرتْ (40) فلعنتها ، فسمع ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( خذوا ما عليها ، ودعوها ، فإنها ملعونة )) ، قال عمران : فكأني أراها الآن تمشي في الناس ، ما يعرض لها أحد (41) .
وعن أبي برزة نضلةَ بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال : بينما جارية على ناقة ، عليها بعض متاع القوم ، إذ بَصُرَت بالنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتضايق بهم الجبل ، فقالت : حَلْ اللهمَّ العَنْها. فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة )) (42) .
فهذه شابة من الأنصار في سفر ، اقتربت بناقتها من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مضيق بين جبلين ، وصعُب عليها أن تقود ناقتها في هذا المكان والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قريب منها ، فهابت هذا الموقف ، فأنحَتْ باللائمة على الناقة ، فلعنتْها ، فكان ما كان منها ، وسمع الرسول الكريم ما قالته ، فأمر أن تُترك الناقة عقوبة للمرأة ، ودفعاً إلى تحمُّلِ المسؤولية ، والصبر على الحيوان ، والرأفة به .
ب ـ وفي الثانية ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( عُذِّبت امرأة في هرّةٍ سجنتْها حتى ماتت ، فدخلتْ فيها النارَ ، لا هي أطعمتْها وسقَتْها إذ حبستْها ، ولا هي تركتْها تأكُل مِنْ خَشاش الأرض )) (43) .
وإذا غرَّتك قدرتك على الآخرين فتذكّر قدرة الله عليك . . . لكنَّ هذه المرأة نسيتْ هذا وتسربلت بسمات الوحوش ، فذابت في نفسها الرحمة وتملَّكها الجبروت ، فحبست الهرة ومنعت عنها الطعام فكانت مثالاً للظلم والطغيان . وما عليها إذ كرهت هذه الهرَّة الطوّافة الألوفة أن تطردَها ، فتنطلق في أرض الله الواسعة تبحث عن رزق الله فيها فنالت جزاءها ، والعياذ بالله تعالى أن ينقلب الإنسان وحشاً والآدميُّ حيواناً .


 




المرأة  في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم


المرأة  في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

 
الوسوم
الله المرأة حديث رسول صلى عليه في وسلم
عودة
أعلى