كتاب الحج

ياسر المنياوى

شخصية هامة
كتاب الحج

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

1= الحج لغة هو :
القصد .
و العمل .
وقال الخليل بن أحمد : هو كثرة القصد إلى من تُعظِّم . ذكره ابن الملقِّن .

وشرعاً : هو قصد مخصوص ، من شخص مخصوص ، إلى مَحَلٍّ مخصوص ، في زمن مخصوص ، على وجه مخصوص . ذَكَره ابن الملقِّن .

شرح التعريف :
قصد مخصوص : لإخراج سائر المقاصد ، فهو قصد مخصوص .
من شخص مخصوص : هو المسلم العاقل البالغ الْحُرّ القادر – وتزيد المرأة " وجود محرم " – .
فالكافر لا يَصِحّ منه ، ولو حجّ حال كُفره لزمته الإعادة بعد إسلامه .
والمجنون ، لا يَصِحّ منه تقرّب .
والصغير لو حجّ ثم بَلَغ ، أو العبد لو حجّ ثم عتِق ، فعليهم حجّة الإسلام .
والقادر : الذي يجد المال والراحلة وما يَحجّ به زائداً عن قُوت من يَعول ، لأن الحج على الاستطاعة .
ومن الاستطاعة في حق المرأة : وُجود المحرم أو الزوج .
إلى محلّ مخصوص : هو مكة – شرّفها الله – والمشاعر المقدّسة .
في زمن مخصوص : هي أشهر الحجّ .
على وجه مخصوص : هي أفعال الحج .
فلو قصد مكة من تنطبق عليه شروط وُجوب الحج وأتى بأفعال الحج واختلّ شرط الزمن الخصوص لم يَكن فِعله حَجّاً ولا يُقبل منه .
وكذا لو اختل واحد من أركان التعريف .

2= هل يَجِب الحج على الفور ؟

في المسألة قولان :
الصحيح منهما : أنه يَجب على الفور .
فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يَحجّ إلا في آخر حياته . فكيف تقولون يجب على الفور ؟
فالجواب :
أن مكة لم تكن قبل ذلك دار إسلام إلا بعد الفتح .
وقد بَعَث عليه الصلاة والسلام أبا بكر ثم أتبَعه بِعليّ رضي الله عنهما يُنادون في الناس : ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . كما في الصحيحين .
فلو حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الظروف لم يتمكّن الصحابة رضي الله عنهم من أخذ مناسكهم عنه عليه الصلاة والسلام على الوجه المطلوب ، ولم تتمحّض الصُّحْبَة ، بل يكون في الناس مسلم ومشرك .
فلما تم إعلان ذلك وإعلام الناس بذلك حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة .
ثم إن دلالة القول أقوى من دلالة الفعل .
فإنه صلى الله عليه وسلم قال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فَحُجُّوا . رواه مسلم .
والأمر يقتضي المبادرة .
فلو افترضنا تعارض القول لفِعل فإن الفعل مُقدَّم على القول ، كيف وهو ليس بينهما تعارض ؟!
وبالوجوب على الفور القول قال أبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية .

3= حُكم العمرة :

واجبة .
قال تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) .
قال القرطبي : في هذه الآية دليل على وجوب العمرة ، لأنه تعالى أَمَرَ بإتمامها كما أَمَرَ بإتمام الحج . قال الصُّبَي بن مَعبد : أتيت عمر رضي الله عنه ، فقلت : إني كنت نصرانيا فأسلمت ، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين عليّ ، وإني أهللت بهما جميعا . فقال له عمر : هُدِيتَ لِسُنَّة نبيك . قال ابن المنذر : ولم يُنْكِر عليه قوله " وجدتُ الحج والعمرة مكتوبتين عليّ " .
وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس . وروى الدارقطني عن ابن جريج قال : أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلا ، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع ... قال ابن جريج : وأُخْبِرتُ عن عكرمة أن ابن عباس قال : العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا .
وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين : عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبد الله بن شداد ، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد ، وابن الجهم من المالكيين . وقال الثوري : سمعنا أنها واجبة . وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج ، فقال : صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت . ذكره الدارقطني .
وكان مالك يقول : العمرة سُنّة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها . وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكي ابن المنذر ، وحكي بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج ، وبأنها سُنة ثابتة قاله ابن مسعود وجابر بن عبد الله . انتهى ما ذَكَره القرطبي في التفسير .

بابُ المواقيتِ


1= المواقيت جمع ميقات

والميقات : هو الْحَـدّ .

وشرعا : هي الحدود المكانية التي حدَّها الشارع لمن أراد الحج أو العمرة أو هما معاً .

2= مواقيت الحج :
جَمَعتْ بين المواقيت الزمانية والمكانية .
فالحاج يقصد مكة في أشهر الحج ، ويُحرِم من هذه المواقيت .
ومن كان دون ذلك فميقاته من مكانه – كما سيأتي – .

والله تعالى أعلم .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 228-229 المواقيت المكانية

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 228
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ : ذَا الْحُلَيْفَةِ . وَلأَهْلِ الشَّامِ: الْجُحْفَةَ . وَلأَهْلِ نَجْدٍ : قَرْنَ الْمَنَازِلِ . وَلأَهْلِ الْيَمَنِ : يَلَمْلَمَ . هُنَّ لَهُنّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ , مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ . وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ : فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ , حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ .

ح 229

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ , وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ , وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ . قَالَ عبد الله : وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ .

في الحديثين مسائل :

1= توقيت هذه المواقيت كتوقيت مواقيت الصلاة لا يجوز تجاوزها لمن أراد الحج أو العمرة .

وفي حديث ابن عمر : " يُهِلّ " وفي رواية " مُهَلّ " وهو خبر بمعنى الأمر .
وفي رواية لمسلم لحديث ابن عمر : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يُهِلُّوا من ذي الحليفة ، وأهل الشام من الجحفة ، وأهل نجد من قرن . وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : وأُخْبِرتُ أنه قال : ويُهِلّ أهل اليمن من يلملم .
وفي رواية للبخاري من طريق زيد بن جبير أنه أتى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في مَنْزِله - وله فسطاط وسرادق - فسألته : من أين يجوز أن أعتَمِر ؟ قال : فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرنا ، ولأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة .

2= هل هذه المواقيت توقيفية ؟

الجواب : نعم .
الإشكال :
لِمَ نُقِل ميقات الجحفة ؟
ولِم جَعَل الصحابة " ذات عرق " ميقاتاً لأهل العراق ؟
الجواب :
أن الجحفة لم تُنقَل بتقريب أو تبعيد ، وإنما في المحاذاة ، لأنها أصبحت جائرة عن الطريق ، أو انحرف الطريق عنها .
وذات عِرق في محاذاة المواقيت – وسيأتي الكلام عنها – .

3= لو أحرم من قبل هذه المواقيت .

يُكْرَه ، وينعقِد إحرامه .
لأنهم يَرون أنه ضيّق على نفسه ما كان له فيه سَعة .
وإن فَعَل ذلك تديّناً فقد شدّد العلماء في ذلك ، لأن هذا من باب البِدع .
حَكَى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال : سألت مالكا عمّن أحْرَم من المدينة وراء الميقات . فقال : هذا مخالف لله ورسوله ، أخشى عليه الفتنة في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة . أما سمعت قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُهَلّ من المواقيت .
وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال : سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أُحْرِم ؟ قال : من ذي الحليفه حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : إني أريد أن أُحْرِم من المسجد فقال : لا تفعل .
قال : فإني أريد أن أُحْرِم من المسجد من عند القبر .
قال : لا تفعل ! فإني أخشى عليك الفتنة .
فقال : وأي فتنه هذه ! إنما هي أميال أزيدها ؟
قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قَصّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم . إني سمعت الله يقول : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) . [ الاعتصام للشاطبي ]
وقال القرطبي في التفسير : أجمع أهل العلم على أن من أحرم من قبل أن يأتي الميقات أنه مُحْرِم ، وإنما مَنَع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل كراهية أن يُضَيّق المرء على نفسه ما قَد وسّع الله عليه ، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يَحْدُث في إحرامه ، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك ؛ لأنه زاد ولم ينقص . اهـ .

4= لو جاوز الميقات .

عند أبي حنيفة ومالك : لا ينفعه رجوعه ، وعليه دم .
عند الشافعي وأحمد : لو رَجَع قبل الدخول في النُّسُك ، ثم أحرم من الميقات فلا شيء عليه .
والذي يظهر رُجحان القول الثاني .
قال النووي : إن عاد قبل التلبس بِنُسُك سقط الدم ، وإن عاد بعده لم يسقط ، سواء كان النُّسُك رُكناً كالوقوف والسعي ، أو سنة كطواف القدوم . اهـ .

5= ذو الحليفة
، ويُسمّى " أبيار عليّ " وهو أقرب المواقيت إلى أهلها ، وهو أبعدها عن مكة .
والْتَمَس العلماء الحكمة في ذلك :
فقال بعض أهل العلم : السبب في ذلك أن أهل المدينة إذا قصدوا الميقات لا يُسافِرون قبل الميقات ، فكان سفرهم بعد الإحرام أطول لعدم وجود مشقّة سابقة .
وقال ابن حزم : إنما جعل ذلك ليعظم أجره عليه الصلاة والسلام .

6= الجحفة
، وتُسمى " مَهْيَعَة "
في رواية لمسلم : ومهل أهل الشام مهيعة ، وهي الجحفة .
وقد خَرِبتْ ثم نُقِل الميقات إلى رابغ .
وهو ميقات أهل الشام .

7= قَرْن الْمَنَازِلِ
، وتُسمّى " السيل الكبير " ويُحاذيها " وادي مَحْرَم " وقرن المنازل أو السيل الكبير على طريق مكة النازل على وادي نخلة ، حيث نَزَل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ردّه أهل الطائف .
و " وادي مَحْرَم " على طريق الهدا ، النازل بالقرب من عرفات .
وهو ميقات أهل نجد .

8= يلملم
، ويُسمّى " السَّعْدِيّة " وهو ميقات أهل اليمن .

9= ذات عرق .

اخْتُلِف فيها . هل هي توقيفية أو اجتهادية ؟
هل وقّتها الصحابة عندما فُتِحت العراق . أو جاء النص فيها ؟
فالذي يظهر أنه غير منصوص عليه .
قال الشافعي رحمه الله في الأم : هو غير منصوص عليه .
وروى البخاري من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما فُتِح هذان الْمِصْرَان أتوا عمر ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَدّ لأهل نجد قرنا ، وهو جَور عن طريقنا ، وإنا إن أردنا قرنا شقّ علينا . قال : فانظروا حذوها من طريقكم ، فَحَدّ لهم ذات عرق .

وعند مسلم من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يُسأل عن المهل ، فقال : سمعت - أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال : مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، والطريق الآخر الجحفة ، ومهل أهل العراق من ذات عرق ... الحديث .
قال الإمام النووي في المجموع :
وأما حديث جابر في ذات عرق فضعيف ، رواه مسلم في صحيحه لكنه قال في روايته عن أبي الزبير أنه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال : سمعت - أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال : ومهل أهل العراق من ذات عرق؛ فهذا إسناد صحيح لكنه لم يجزم بِرَفْعِه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يثبت رفعه بمجرد هذا .
ورواه ابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد الجوزي - بضم الجيم المعجمة - بإسناده عن جابر مرفوعا بغير شك لكن الجوزي ([1]) ضعيف لا يحتج بروايته .
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك أيضا ، لكنه من رواية الحجاج بن أرطأة ، وهو ضعيف .
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم وَقّتَ لأهل العراق ذات عرق . رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم بإسناد صحيح ، لكن نقل ابن عَدِيّ أن أحمد بن حنبل أنكر على أفلح بن حميد روايته هذه ، وانفراده به أنه ثقة .
وعن ابن عباس قال : وَقّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق . رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن . وليس كما قال ، فإنه من رواية يزيد بن زياد ، وهو ضعيف باتفاق المحدثين .
وعن الحارث بن عمرو السهمي الصحابي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وَقّتَ أهل العراق ذات عرق . رواه أبو داود عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقت لأهل المشرق ذات عرق . رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن .
وعن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا . وعطاء من كبار التابعين وقد قدمنا في مقدمة هذا الشرح أن مذهب الشافعي الاحتجاج بمرسل كبار التابعين إذا اعتضد بأحد أربعة أمور ، منها : أن يقول به بعض الصحابة أو أكثر العلماء ، وهذا قد اتفق على العمل به الصحابة ومن بعدهم . قال البيهقي : هذا هو الصحيح من رواية عطاء أنه رواه مرسلا . قال : قد رواه الحجاج بن أرطأة عن عطاء وغيره مُتَّصِلاً ، والحجاج ظاهر الضعف . فهذا ما يتعلق بأحاديث الباب . اهـ .
قال الإمام ابن عبد البر : أجمع أهل العلم بالحجاز والعراق والشام وسائر أمصار المسلمين - فيما علمت - على القول بهذه الأحاديث واستعمالها لا يخالفون شيئا منها ، واختلفوا في ميقات أهل العراق ، وفيمن وقَّتَه ؟
وقال الإمام القرطبي في التفسير : وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله لا يخالفون شيئا منه ، واختلفوا في ميقات أهل العراق .

10= في رواية لمسلم : قال : فَهُنّ لهن ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ، فمن كان دونهن فمن أهله ، وكذا فكذلك حتى أهل مكة يهلون منها .

وفي رواية لمسلم أيضا : وقال : هُنّ لهم ، ولكل آتٍ أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة .
وهذا يعني أن المواقيت لتلك البلاد المذكورة من باب أولى .
وهُن مواقيت لمن أتى عليهن من غير أهلهنّ .
والرواية الثانية تعود على أهل تلك الديار ، وعلى غير أهلهنّ ممن مرّ بِهنّ مُريداً الحج أو العمرة ، أو هما معاً .

11= قوله صلى الله عليه وسلم : " ممن أراد الحج والعمرة " هل يُفهَم أنه على التخيير ؟ أو أنه لا يَجب على الفور ؟

أما الثاني فقد سبق جوابه آنفاً .
وأما الأول ، فهو غير مُراد قطعاً ، أي ليس وجوب الحج على التخيير ، بل هو واجب على المستطيع ، والحجّ ركن من أركان الإسلام .
ولكن لما كان هناك من يَمرّ على المواقيت ، وقد يكون مروره بِكثرة كالْمُكارِي [ كسائق الأجرة والحافلة والشاحنة ] الذي قد يَمرّ على المواقيت وهو لا يُريد حجّاً ولا عمرة ، فإنه لا يَلزمه إحرام .

12= قوله :
" وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ : فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ " من حيث أنشأ العمرة أو الحجّ ، وهذا خاص بمن كان بين المواقيت وبين الحرم . لأن من كان داخل الْحَرَم حُكمه في الفقرة التالية .
وهذا يعني أن أهل جدّة – مثلا – وأهل الشرائع ونحوها يُحرِمون من أماكنهم ، ولا يُجاوزونها ، فإن جاوزوها فكالذي جاوز ميقاته .
وفي رواية للبخاري من حديث ابن عباس : فمن كان دونهن فَمَهَلّه من أهله .
قال ابن دقيق العيد : قوله : " ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ " يقتضي أنّ مَنْ مَنْزِله دون الميقات إذا أنشأ السفر للحج أو العمرة فميقاته مَنْزِله ، ولا يلزمه المسير إلى الميقات المنصوص عليه من هذه المواقيت .

13= قوله صلى الله عليه وسلم : " حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ " أي يُهلّون من مكة ، وذلك بالحج دون العمرة

أما العمرة فيُهلّون ويُحرِمون بها من أدنى الْحِلّ ، كما فعلت عائشة رضي الله عنها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن دقيق العيد : أهل مكة يُحْرِمون منها ، وهو مخصوص بالإحرام بالحج ، فإنّ من أحرم بالعمرة ممن هو في مكة يُحْرِم من أدنى الْحِلّ .

14= لو مَـرّ الشامي بميقات أهل المدينة ، فمن أين يُحرِم ؟

يُحرِم من الميقات الذي مَـرّ بِهِ ، ولا يُجاوزه إلى ميقاته ، لدلالة هذا الحديث .
قال ابن عبد البر : أجمع أهل العلم بالعراق والحجاز على القول بهذه الأحاديث واستعمالها لا يخالفون شيئا منها ، وأنها مواقيت لأهلها في الإحرام بالحج منها ، ولكل من أتى عليها من غير أهلها ممن أراد حجا أو عمرة .
قال الشيرازي : وهذه المواقيت لأهلها ولكل مَنْ مَـرّ بِهَا من غير أهلها .
قال النووي : وهذا الحكم الذي ذكره المصنف مُتَّفق عليه ، فإذا مَرّ شامي من طريق العراق أو المدينة ، أو عراقي من طريق اليمن ، فيمقاته ميقات الإقليم الذي مَـرّ به ، وهكذا عادة حجيج الشام في هذه الأزمان أنهم يَمُرّون بالمدينة فيكون ميقاتهم ذا الحليفة ، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام إلى الجحفة . اهـ .
وكذا القول في سائر المواقيت ، من مرّ بميقات غير ميقاته لزمه الإحرام إن كان مُريدا للحج أو العمرة أو هما
قال ابن حزم – في ذِكر الخلاف في هذه المسألة – : ومنه أن المالكيين قالوا : مَن مَرّ على المدينة من أهل الشام خاصة فلهم أن يَدَعُوا الإحرام إلى الجحفة ، لأنه ميقاتهم ، وليس ذلك لغيرهم . ومَنَعَ من ذلك أبو حنيفة والشافعي وأبو سليمان وغيرهم ، وهو الحق لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " هُنَّ لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة " فقد صار ذو الحليفة ميقاتاً للشامي والمصري إذا أتى عليه ، وكان إن تجاوزه غير محرم عاصيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما الميقات لمن مَرّ عليه بِنَصِّ كلامه عليه السلام لا لمن لم يَمُرّ عليه فقط . اهـ .

15= هل جُــدّة ميقات ؟

جُدّة ليست ميقاتاً ، بل هي داخل المواقيت ، ولذلك فإنه لا يَزالون يُحرِمون من بيوتهم ، وهذا بالإجماع ، فلا تكون جُدّة ميقاتاً لغير أهلها .
فالقادم من السودان أو من مصر جوّاً أو بحراً لا يجوز له أن يُحرِم من جدّة ، بل يُحرِم من محاذاة الميقات في البحر و في الجو .
فإن أحرم من جدّة لزِمه دم لمجاوزته الميقات .

16= مُهَلّ – يُهِلّ : روايتان عند مسلم .

قال النووي : وقوله صلى الله عليه وسلم : " يُهِلّ " معناه يُحْرِم بِرَفْعِ الصوت .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : والإهلال هو التلبية .

17= هل يقول عند إهلاله : نَويتُ الحج ؟ أو نويتُ العمرة ؟

الجواب : لا
والمشروع هو التلبية ، وهي بِمنْزِلة التكبير للصلاة .
فليس فيه جَهْر بالنية .
قال ابن رجب رحمه الله : وصَحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلا عند إحرامه يقول : اللهم إني أريد الحج والعمرة. فقال له : أتُعَلّم الناس ؟ أو ليس الله يعلم ما في نفسك ؟ ونَصَّ مالك على مثل هذا ، وأنه لا يُسْتَحَبّ له أن يُسَمِّي ما أحْرَم به ، حكاه صاحب كتاب تهذيب المدونة من أصحابه . اهـ .
وهذا يَعني أن يُلبي بما أراد من حجّ أو عُمرة .

18= قول ابن عمر رضي الله عنهما :

قال عبد الله : وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ويُهِلّ أهل اليمن من يلملم .
فيه فائدة :
وهي أن الصحابة رضي الله عنهم لم يَكونوا يُولَعون بسياق الأسانيد في روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند المحاققة والمسائلة ، أما ما عدا ذلك فالاختصار هو المنهج الذي كانوا يسيرون عليه .
وإن تَعجب فاعجب لطالب عِلم يُحدِّث عامة الناس فيأتي بالأسانيد الطويلة وربما ساق ترجمة الراوي واسمه رباعياً ! وزاد ذِكر نسبه – وهل هو من أنفسهم أو من مواليهم ! – وهو يُحدِّث عامة الناس في موعظة قصيرة !
فهذا لم يكن من منهج الصحابة ، بل ولا من منهج المحدِّثين .

والله تعالى أعلم .

--------------------------------
([1]) قال المطيعي في حاشية المجموع : كذا ضبطه الإمام النووي بالجيم ، وهو خطأ ، لأنه منسوب إلى الخوز – بالخاء المعجمة – وهوشِعب بمكة ، وليس منسوبا إلى خوزستان .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 230 ، 231 في ما لا يلبس الْمُحْرِم

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 230

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لايَلْبَسُ الْقُمُصَ , وَلا الْعَمَائِمَ , وَلا السَّرَاوِيلاتِ , وَلا الْبَرَانِسَ , وَلا الْخِفَافَ , إلاَّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَس الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ , وَلا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّـهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ .
وَلِلْبُخَارِيِّ : وَلا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ ، وَلا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ .

ح 231

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ : مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ , وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَاراً فَلْيَلْبَسْ سَّرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ .

في الحديثين مسائل :


1= بوّب عليه المصنِّف " باب ما يلبس المُحْرِمُ من الثيابِ " قال ابن الملقِّن : أي وصِفة التلبية ، ومَنْع سَفر المرأة إلا بِزوج أو مَحرَم .

2= في رواية للبخاري : قال : قام رجل فقال : يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام ؟

3= هذا الجواب يُسمّى " جواب الحكيم " فإن الأصل في الجواب مطابقة السؤال ، وهنا أفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل – وغيره – بزيادة على مطابقة الجواب ، وهو ما لا يلبس الْمُحرِم .
قال النووي :
قال العلماء : هذا من بديع الكلام وجَزْلِه ، فإنه صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبسه الْمُحْرِم ، فقال : لا يلبس كذا وكذا ، فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات ويلبس ما سوى ذلك ، وكان التصريح بما لا يلبس أولى لأنه مُنْحَصِر ، وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر ، فضبط الجميع بقوله صلى الله عليه وسلم : لا يلبس كذا وكذا ، يعنى ويلبس ما سواه ، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم لبس شيء من هذه المذكورات ، وأنه نَـبّـه بالقميص والسراويل على جميع ما في معناهما ، وهو ما كان مُحِيطاً أو مَخِيطا مَعْمُولاً على قَدْرِ البدن ، أو قَدْرِ عضو منه كالجوشن والتُّـبّان والقفاز وغيرها ، ونَـبّـه صلى الله عليه وسلم بالعمائم والبرانس على كل ساتر للرأس مخيطا كان أو غيره ، حتى العصابة ، فإنها حرام ، فإن احتاج إليها لِشَجَّةٍ أو صداع أو غيرهما شدّها ولزمته الفدية ، ونَـبّـه صلى الله عليه وسلم بالْخِفَاف على كل ساتر للرِّجْل من مداس وجمجم وجورب وغيرها ، وهذا كله حكم الرجال ، وأما المرأة فيباح لها ستر جميع بدنها بكل ساتر من مَخِيط وغيره إلا ستر وجهها فإنه حرام بكل ساتر ، وفي ستر يديها بالقفازين خلاف للعلماء ، وهما قولان للشافعى أصحهما تحريمه ونَـبّـه صلى الله عليه وسلم بالورس والزعفران على ما في معناهما وهو الطِّيب ، فَيَحْرُم على الرَّجُلِ والمرأة جميعا في الإحرام جميع أنواع الطيب ، والمراد ما يقصد به الطِّيب ، وأما الفواكه كالأترج والتفاح وأزهار البراري كالشيح والقيصوم ونحوهما فليس بحرام ، لأنه لا يُقصد للطيب .

4= الثياب : جمع ثوب ، وهو يُطلق على المخيط وعلى غير المخيط من إزار ورداء ، ولذلك سأل الرجل : ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام ؟

5= الْقُمُص : جمع قميص ، وهو نوع من الثياب . وربما اختصّ بما يُلبَس أعلى البدن .

6= العمائم : جمع عمامة ، وهو ما يُلفّ به الرأس .
وقيل سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَعُمّ جميع الرأس .
وفي حُكمها العصابة .

7= السراويلات : جمع سراويل .

8= البرانس : جمع بُرنس ، وهو كل ثوب رأسه ملتَصِق به .

9= الْخِفاف : جمع خُفّ ، وهو ما يُلبس في القدم .
وفي حُكمه : الجوارب والْجِزَم ، أو ما نُسميه " الكنادر " .

10= الزعفران : نبات معروف ، طيب الرائحة ، وقد كان يُستعمل في صبغ الثياب .

11= الورس : نبات أصفر تُصبَغ به الثياب أيضا .

12= القفاز : ما يُلبس في اليد .

13= النِّقاب : ما يُستَر به الوجه ، ويُفتح به فتحة صغيرة للعين ، وسُمِّي كذلك لأن فتحة العين صغيرة ، مأخوذ من النَّقْب ، وهو الفتحة الصغيرة .

14= هل تستر المرأة وجهها حال الإحرام ؟
الجواب :
يَحرُم عليها ستر وجهها حال الإحرام إلا إذا كانت بِحضرة رجال أجانب ، فإنه يجب عليها ستر وجهها .
وهذا يَدلّ على أن تغطية الوجه في غير الإحرام واجبة ، إذ لو كانت مسنونة لم يَجُز أن يُعارض بها الواجب ، ولا ارتُكِب من أجلها المحظور .
ويَدلّ عليه قول عائشة رضي الله عنها : كان الركبان يَمُرّون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحرِمَات فإذا حاذونا سَدَلَتْ إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه .
وهذا عام في أمهات المؤمنين وغيرهن .
ومن ادّعى خصوصية أمهات المؤمنين بهذا الأمر فقد غلِط .
وذلك لأن عائشة رضي الله عنها أفتت نساء المؤمنين بذلك .
روى إسماعيل بن أبي خالد عن أمِّـه قالت : كنا ندخل على أم المؤمنين يوم التروية ، فقلت لها : يا أم المؤمنين هنا امرأة تأبى أن تُغَطِّي وجهها . فَرَفَعَتْ عائشة خمارها من صدرها فَغَطَّتْ به وجهها . رواه ابن أبي خيثمة .
وكان عليه العمل عند غير أمهات المؤمنين .
كما رَوَتْ ذلك فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر - وهي جدتها - .
روى الإمام مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت : كنا نُخَمِّر وجوهنا ونحن محرمات ، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق .
فَدَل ذلك على أمور :
1 – أن المحذور لبس النِّقاب – ويَلتحق به " البرقع " – .
2 – أن المحذور تغطية الوجه إذا كانت المرأة في غير حضرة رجال أجانب .
3 – أن تغطية الوجه حال الإحرام جارية على قاعدة " درء المفاسِد مُقدّم على جلب المصالِح " ، فكشف الوجه فيه مصلحة وتغطيته " محظور من محظورات الإحرام " ، وفي كشفه فتنة ومفسدة ، إلا أن هذه المفسدة مدفوعة بستره وتغطيته إذا كانت المرأة بحضرة رجال أجانب .
قال ابن عبد البر :
وأجمعوا أن إحرام المرأة في وجهها ، وأن لها أن تُغَطّي رأسها وتستر شعرها وهي مُحْرِمَة ، وأن لها أن تَسْدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفا تَسْتَتِرُ به عن نَظَرِ الرَّجُل إليها . اهـ .

15= الحكمة في تخصيص لباس الإحرام بإزار ورداء .
قال النووي :
قال العلماء : والحكمة في تحريم اللباس المذكور على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن التَّرَفُّه ويَتَّصِف بِصِفَةِ الخاشع الذليل ، وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره ، وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته ، وامتناعه من ارتكاب المحظورات ، وليتذكر به الموت ولباس الأكفان ، ويتذكر البعث يوم القيامة والناس حفاة عراة مهطعين إلى الداعي .

16= الحكمة في تحريم النساء والطيب على الْمُحرِم
قال النووي : الحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن التَّرَفُّـه وزينة الدنيا وملاذّها ، ويجتمع هَمّه لمقاصد الآخرة .

17= وقوله صلى الله عليه وسلم : " إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين "
الجمهور على قطع الخفّ إذا لم يجِد النعلين . وعُفي عن المفسدة هنا لوجود المصلحة ، ولأنه لا يُفسِد المال .
ولا تعارض بين هذا الحديث وبين ما في حديث ابن عباس " مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ " فإن هذا لفظ عام ، والآخر خاص ، والخاص يقضي على العام .
والعمل بالحديثين أولى من إهمال أحدهما . والقول بالنسخ إهمال لأحد الحديثين .

18= فَـرَّق العلماء بين التطيّب وبين وجود أثر الطيب
فَرْقٌ بين أن يتطيّب الإنسان بعد إحرامه ودخوله في النُّسُك ، وبين أن يَجِد أثر الطيب بعد ذلك ، أو يشمّ رائحته .
فالأول مممنوع ، والثاني لا بأس به .
ويَدلّ على الأول أمره صلى الله عليه وسلم للمُحرِم أن يغسل عنه أثر الطيب .
ففي الصحيحين من حديث يَعْلَى بن أمية مرفوعاً : اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات ، وانزع عنك الْجُبَّة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك .
زاد البخاري : قلت لعطاء : أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات ؟ قال : نعم .
أما شمّ الطيب من غير قصد ، أو وُجود أثر الطيب ، فهذا لا يضرّ .
قالت عائشة : كأني أنظر إلى وَبِيصِ الطِّيب في مَفرق النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحْرِم . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحْرِم يتطيّب بأطيب ما يَجِد ، ثم أرى وَبيص الدُّهن في رأسه ولحيته بعد ذلك .
ولذلك لم يأتِ منع الْمُحرِم من شُرب ما كان طيب الرائحة ، ولا مِن وَضْعِه في أكله ، مع كونه نُهي عنه في لباسه .
قال النووي في ذلك : ومنها ما يُطْلَبُ للأكل أو للتداوي غالبا ، كالقرنفل والدارصيني والفلفل والمصطكى والسنبل وسائر الفواكه ، كل هذا وشبهه ليس بِطِيب ، فيجوز أكله وشَمّه وصبغ الثوب به ، ولا فِدية فيه سواء قليلة وكثيره ، ولا خلاف في شيء من هذا إلا القرنفل ...
ثم قال : الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه ليس بِطيب - والله أعلم - .
قال : ومنها ما يَنبت بنفسه ولا يُراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح والمشمش والكمثرى والسفرجل وكالشيح والقيصوم وشقائق النعمان والإذخر والخزامى ، وسائر أزهار البراري ، فكل هذا ليس بطيب ، فيجوز أكله وشَمّه وصبغ الثوب به ، ولا فدية فيه بلا خلاف . اهـ .
والذي يظهر أن الزعفران في الأكل والشرب لا يُعتبر طيبا ولا يُراد به التطيّب ، بِقدر ما يُراد به طِيب نكهة الأكل والشراب .
قال النووي : ولو عَبَقَتْ رائحة الطيب دون عَينه ، بأن جلس في دكان عطار ، أو عند الكعبة وهي تُبَخَّر ، أو في بيت يُبَخَّر ساكنوه ؛ فلا فدية بلا خلاف ، ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة لم يكره . اهـ .

19= المقصود بالمخيط :
المقصود به ما كان يُلبس على البدن والأعضاء بِقَدْرِها .
قال ابن قدامة في شرح هذا الحديث : نَصّ النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأشياء ، وألْحَقَ بها أهل العلم ما في معناها مثل الجبة والدراعة والثياب وأشباه ذلك .
فليس للمحرم ستر بدنه بما عمل على قَدْرِه ، ولا ستر عضو من أعضائه بما عُمِل على قَدْرِه كالقميص للبدن، والسراويل لبعض البدن ، والقفازين لليدين ، والْخُفّين للرِّجْلِين ونحو ذلك .
وليس في هذا كله اختلاف .
قال ابن عبد البر : لا يجوز لباس شيء من المخيط عند جميع أهل العلم ، وأجمعوا على أن المراد بهذا الذكور دون النساء . اهـ .

20= يشتهر عند بعض الناس أن المراد بذلك كل مَخيط ، وهذا غير مُراد ولا وارد في النصوص .
ويُروى أن أول من نَصّ على المخيط بالنسبة للمحرِم هو إبراهيم النخعي ، وهو من علماء التابعين .
فللمُحْرِم أن يلبس ما فيه خياط كالنعال والأحزمة وليس في هذا محذور .

21= لو اشتمل بالمخيط .. بمعنى استعمل الثياب أو السراويل من غير لبس ، كأن يَتَّزِر بالثوب أو بالسراويل
فليس في هذا محذور .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : يجوز أن يَلْبَس كل ما كان من جنس الإزار و الرداء ، فَلَه أن يلتحف بالقباء والْجُبّة و القميص و نحو ذلك ، ويَتَغَطّى به باتفاق الأئمة عَرْضاً ، ويلبسه مقلوبا يجعل أسفله أعلاه ، ويتغطى باللحاف وغيره ، ولكن لا يُغَطِّي رأسه إلا لحاجة ، والنبىي صلى الله عليه وسلم نَهَى المحرِم أن يلبس القميص و البرنس و السراويل و الخف و العمامة ، ونهاهم أن يُغَطُّوا رأس المحرم بعد الموت .

22= هل يَقطع النعلين ؟
جمهور أهل العلم على أن الْمُحرِم الذي لا يَجِد النعلين يلبس الخفيّن بعد قطعهما أسفل الكعبين .
قال ابن عبد البر : وقال أكثر أهل العلم : إذا لم يَجِد الْمُحْرِم نعلين لبس الخفين بعد أن يقطعهما أسفل من الكعبين . اهـ .

23= هل للمرأة لبس الجوارب وما في معناها ؟
قال ابن عبد البر : وأجمعوا أن المراد بهذا الخطاب في اللباس المذكور الرجال دون النساء ، وأنه لا بأس للمرأة بلباس القميص والدِّرع والسراويل والْخُمُر والْخِفَاف . اهـ .

24= ما صُبِغ بما الورد أو بالزعفران أو كان مُطيّبا حَرُم على الْمُحرِم استعماله والجلوس عليه .
قال ابن عبد البر : فكل ما صُبِغَ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد أو بُخِّرَ بِعُود فليس للمُحْرِم لِبسه ولا الجلوس عليه ولا النوم عليه . نَصّ أحمد عليه وذلك لأنه استعمال له . اهـ .

25= تعظيم شعائر الله في اجتناب المحظورات حال الإحرام .

26=
حرص السَّلَف على أداء الحج رغم قِلّة ذات اليد .. فبعضهم لا يَجِد نعلين ، وبعضهم لا يَجِد سراويل ومع ذلك ما كانوا يتخلّفون عن الحجّ بمثل أعذار أهل هذا الزمان !

27=
لو لبس الجِزم أو الجوارب لِحاجة ، جاز له ذلك وعليه فِدية أذى ، يُخيَّر فيها بين أحد ثلاثة أمور :
1 – صيام ثلاثة أيام .
2 – إطعام سِتة مساكين .
3 – ذبح شاة تُوزّع على فقراء الحرم .
وهذه الثلاث دَلّ عليها حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه ، وهو مُخرّج في الصحيحين – وسيأتي – .

28=
في حديث ابن عباس وَرَد ذِكر " عرفات "
قال ابن الملقِّن : قِيل سُمِّيتْ بذلك :
1 – لأن آدم عرف حواء هناك
2 – لأن جبريل عرّف إبراهيم المناسك هناك
3 – لوجود الجبال ، والجبال هي الأعراف .
4 – لأن الناس يعترفون بذنوبهم فيها .

29= تُقطَع الْخِفاف دون السراويل .

30=
لو استطاع الاتِّزار بالسراويل لزِمه ذلك ، ولا فِدية عليه .
وكذلك لو اتَّزَر بِثوب ، فلا فِدية عليه ،لأن المحذور في المذكورات أن تُلبس على هيئتها التي اعتاد الناس لبسها عليه .

31=
التنبيه على ما تساهل فيه بعض من الناس من لبس ما يُشبه لباس النساء ( التنّورة ) وهو ما خِيط على هيئة إزار بمطاط في أعلاه ، بل وفي بعضها جيوب جانبية !
فهذا من المخيط ، وهو نوع من لباس العرب قديما يُسمّى ( النقبة ) ..
قال في لسان العرب : الـنُّقْبَـة : وهو السراويل بلا رجلين . اهـ .
ولشيخنا الشيخ إبراهيم الصبيحي – حفظه الله – مطوية في التنبيه على هذا اللباس .
فهو من لباس العرب قديما ..
ومن لبسه لزِمته الفدية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : و ليس له أن يلبس القميص لا بِكُم و لا بغير كُم ، وسواء أدخل فيه يديه أو لم يدخلهما ، وسواء كان سليما أو مخروقا ، وكذلك لا يلبس الجبة ولا القباء الذي يدخل يديه فيه ، وكذلك الدرع الذي يسمى " عرق جين " وأمثال ذلك باتفاق الأئمة .
وأما إذا طرح القباء على كتفيه من غير إدخال يديه ففيه نزاع ، وهذا معنى قول الفقهاء : لا يلبس ، والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو ، وكذلك لا يلبس ما كان في معنى الخف كالموق و الجورب نحو ذلك ، ولا يلبس ما كان في معنى السراويل كالتُّبّان و نحوه ، وله أن يعقد ما يحتاج إلى عقده كالإزار و هميان النفقة ... . اهـ .

32= في بعض طبعات العمدة زِيدَ في حديث ابن عباس : ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل [ أي ] للمُحْرِم
وهذه الزيادة ليست في الصحيح .
قال ابن حجر : في حديث ابن عباس : " ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل للمحرم " أي هذا الْحُكم للمُحْرِم لا الْحَلال ، فلا يتوقف جواز لبسه السراويل على فقد الإزار . اهـ .

والله تعالى أعلم .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 232 في صِفة التلبية ووقتها

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 232
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ, إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لا شَرِيكَ لَكَ .
قَالَ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَزِيدُ فِيهَا : " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ , وَسَعْدَيْكَ , وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ , وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ .

في الحديث مسائل :


1= أول الحديث مُتّفق عليه ، رواه البخاري ومسلم ، وأما الزيادة فهي من أفراد مُسلم .

2= في رواية لمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اسْتَوَتْ به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهَلّ ، فقال : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
قالوا : وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول : هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال نافع : كان عبد الله رضي الله عنه يزيد مع هذا : لبيك لبيك وسعديك ، والخير بيديك لبيك ، والرغباء إليك والعمل .

3= في حديث جابر في صِفة حجه عليه الصلاة والسلام : وأهَلّ الناس بهذا الذي يُهِلّون به ، فلم يَرُدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه .
مِن هذا الإهلال ما جاء عن ابن عمر وغيره من مثل هذه الزيادة .
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : فيه إشارة إلى ما رُوي من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذِّكْر ، كما روي في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد : لبيك ذا النعماء والفضل الْحَسَن ، لبيك مرهوبا منك ، ومرغوبا إليك . وعن ابن عمر رضي الله عنه : لبيك وسعديك والخير بيديك ، والرغباء إليك والعمل . وعن أنس رضي الله عنه : لبيك حقا تعبدا ورِقًّا . قال القاضي : قال أكثر العلماء : المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبه قال مالك والشافعي . [ نقله النووي ] .

4= معنى " لبيك " :
1 – أي إجابة لك بعد إجابة .
2 – اتِّجاهي وقصدي إليك .
3 – إخلاصي لك .
4 – مُقيم على طاعتك .

5= معنى " سَعْدَيْك " :
1 – أسعِدْنا سعادة بعد سعادة .
2 – مُساعدة لِطاعتك بعد مُساعَدة . [ ذَكَر ذلك كله ابن الملقِّن ] .

6= السُّـنَّة رفع الصوت بالتلبية بالنسبة للرِّجال .
عن أنس رضي الله عنه قال : صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، وسمعتهم يصرخون بهما جميعا . رواه البخاري .
قال ابن حجر : قوله : " وسمعتهم يَصرخون بهما جميعا " أي بالحج والعمرة ، ومراد أنس بذلك من نَوى منهم القِران ، ويحتمل أن يكون على سبيل التوزيع : أي بعضهم بالحج ، وبعضهم بالعمرة ، قاله الكرماني . ويُشْكِل عليه قوله في الطريق الأخرى ، يقول : لبيك بحجة وعمرة معا . اهـ .
وفي رواية للبخاري : قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى اسْتَوتْ به على البيداء حَمِد الله وسَبّح وكَبّر ، ثم أهَلّ بِحَج وعمرة ، وأهل الناس بهما .

وروى بن أبي شيبة عن بكر بن عبد الله المزني قال : كنت مع ابن عمر فَلَبّى حتى أسْمَعَ ما بين الجبلين .
قال ابن حجر : إسناده صحيح .
وأخرج أيضا من طريق المطلب بن عبد الله قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تُبَحّ أصواتهم . قال ابن حجر : إسناده صحيح .
وروى أيضا من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب عن خلاد بن السائب عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاءني جبريل فقال مُرْ أصحابك يرفعوا بالتلبية ، فإنها شِعار الحج .
وروى أيضا من طريق المسيب بن رافع قال : كان ابن الزبير يقول : التلبية زينة الحج .

قال ابن عبد البر :
وكان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية .
وقال ابن عباس : هي زينة الحاجّ .
وقال أبو حازم : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الرّوحاء حتى تُبَحّ حلوقهم من التلبية .
وأجمع أهل العلم أن السُّنة في المرأة أن لا ترفع صوتها ، وإنما عليها أن تُسْمِع نفسها ، فَخَرَجَتْ من جملة ظاهر الحديث ، وخُصَّتْ بذلك ، وبَقِي الحديث في الرجال ...
ذَكَر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم قال : كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية ، فلا يأت الروحاء حتى يَصْحَل صوته .
قال الخليل : صحل صوته يصحل صحلا ، فهو أصحل ، إذا كانت فيه بُحّـة اهـ .

7= متى يُلبي الحاج أو المعتمر ؟
في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : أهَلّ النبي صلى الله عليه وسلم حين اسْتَوتْ به راحلته قائمة .
وفي رواية : كان بن عمر رضي الله عنهما إذا صلى بالغداة بذي الحليفة أمَرَ براحلته فَرُحِّلَتْ ، ثم ركب فإذا اسْتَوتْ به استقبل القبلة قائما ثم يُلَبِّي حتى يبلغ الحرم ثم يمسك .
وفي صحيح مسلم عن سالم قال : كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قيل له الإحرام من البيداء . قال : البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ما أهَلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة ، حين قام به بعيره .

وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته . رواه البخاري .
وعند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في صِفة حجه عليه الصلاة والسلام : ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نَظَرْتُ إلى مَدّ بصري بين يديه من راكبٍ وماشٍ ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه يَنْزِل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عَمِلَ به من شيء عَمِلْنَا به ، فأهَلّ بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . وأهَلّ الناس بهذا الذي يُهِلّون به ، فلم يَرُدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما : فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهَلّ هو وأصحابه . رواه البخاري ومسلم .
وكذلك في حديث أنس رضي الله عنه : ثم ركب حتى اسْتَوتْ به على البيداء حَمِد الله وسَبّح وكَبّر ، ثم أهَلّ
وفي رواية عنه رضي الله عنه : فلما أصبح ركب راحلته ، فجعل يُهَلِّل ويُسبح ، فلما علا على البيداء لَـبّى بهما جميعا .

قال ابن حجر : وقد أزال الإشكال ما رواه أبو داود والحاكم من طريق سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله - فَذَكَرَ الحديث - وفيه : فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أوجَبَ من مجلسه ، فأهَلّ بالحج حين فرغ منها ، فَسَمِع منه قوم فحفظوه ، ثم رَكِبَ فلما اسْتَقَلَّتْ به راحلته أهَلّ ، وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوه في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك ، فقالوا : إنما أهَلّ حين اسْتَقَلَّتْ به راحلته ، ثم مضى فلما عَلا شَرَف البيداء أهَلّ ، وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه ، فَنَقَلَ كل أحدٍ ما سَمِع ، وإنما كان إهلاله في مصلاه - وأيم الله - ثم أهَلّ ثانيا وثالثا . وأخرجه الحاكم من وجه آخر من طريق عطاء عن ابن عباس نحوه دون القصة . فَعَلَى هذا فكان إنكار ابن عمر على من يَخُصّ الإهلال بالقيام على شرف البيداء . وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك ، وإنما الخلاف في الأفضل . اهـ .

8= متى يَقطع التلبية ؟
قال الإمام أحمد : يقطع المعتَمِر التلبية إذا استلم الركن .
قال ابن قدامة في المغني : وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون وطاوس والنخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي . وقال ابن عمر وعروة والحسن : يقطعها إذا دخل الحرم .
وحُكِي عن مالك أنه إن أحرم من الميقات قطع التلبية إذا وصل إلى الحرم ، وإن أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى البيت .
قال : ولنا ما روي عن ابن عباس - يرفع الحديث - كان يُمْسِك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عُمَر ، ولم يزل يُلَبّي حتى استلم الحجر .
ولأن التلبية إجابة على العبادة ، وإشعار للإقامة عليها ، وإنما يتركها إذا شَرَعَ فيما ينافيها ، وهو التحلل منها، والتحلل يحصل بالطواف والسعي ، فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل ، فينبغي أن يقطع التلبية ، كالحج إذا شَرَع في رمي جمرة العقبة لحصول التحلل بها ، أما قبل ذلك فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها . والله أعلم . اهـ .

قال ابن عبد البر : اخْتَلَف العلماء في قطع التلبية في العمرة .
فقال مالك - ما ذكره في موطئه على ما ذكرناه - وأضاف قوله ذلك إلى ابن عمر وعروة بن الزبير .
وقال الشافعي : يقطع المعتمر التلبية في العمرة إذا افتتح الطواف .
وقال مرة : يُلَبِّي المعتمر حتى يستلم الركن وهو شيء واحد .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يزال المعتمر يلبي حتى يفتتح الطواف .
قال أبو عمر : لأن التلبية استجابة لما ذكر إليه فرضا أو ندبا ، فإذا وصل إلى البيت قَطَع الاستجابة . والله أعلم . وهؤلاء كلهم لا يُفَرِّقُون بين الْمُهِلّ بالعمرة بعيد أو قريب . اهـ .
هذا بالنسبة لتلبية القادِم للحج أو العمرة .

9= قوله : " وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ " ، أي : بِيَدِك الخير كلّه .
كما في قوله تعالى : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وكما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك . رواه مسلم من حديث علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال ... –فَذَكَرَه – .
وأهل السنة يُثبِتون بمثل هذه النصوص صِفة " اليَد " لله عَزّ وجَلّ .

10= معنى " والرغباء إليك " :
قال النووي :
قال القاضي : قال المازري : يُرْوى بفتح الراء والمد ، وبضم الراء مع القصر ، ونظيره العلا والعلياء ، والنعمى والنعماء . قال القاضي : وحَكَى أبو علي فيه أيضا الفتح مع القصر الرَّغْبَى مثل سَكْرَى ، ومعناه هنا الطلب والمسألة إلى من بيده الخير ، وهو المقصود بالعمل الْمُسْتَحِقّ للعبادة . اهـ .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 233 في اشتراط الْمَحْرَم لِسَفر المرأة

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 233
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلاَّ وَمَعَهَا حُرْمَـةٌ .
وَفِي لَفْظِ للْبُخَارِيِّ : أن تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وليلة إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ .

في الحديث مسائل :


1=
لو أورَد المصنِّف رحمه الله حديث ابن عباس لكان أولى لعدّة اعتبارات :
الأول : أنه عام ليس فيه تحديد أيام ولا مسيرة .
الثاني : كونه نَصّ في الحجّ .
الثالث : أنه لم يأذن للرَّجُل أن يَخرج للغزو ويترك زوجته تخرج للحج من غير مَحرَم .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : لا يَخْلُونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم . فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خَرَجَتْ حَاجَّة ، وأني اكْتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا . قال : انطلق فَحُجّ مع امرأتك . رواه البخاري ومسلم واللفظ له .
وبّوب عليه الإمام البخاري : باب حج النساء .
ثم روى بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تُسَافِر المرأة إلا مع ذي محرم ، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم . فقال رجل : يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا ، وامرأتي تريد الحج . فقال : اخرج معها .

2= لا مفهوم للعدد في هذه الأحاديث .
لأنه جاء في بعضها : مسيرة يوم وليلة .
وفي بعضها : مَسِيرَة يَوْمٍ .
وفي بعضها : مسيرة ليلة .
وفي بعضها : لا تسافر المرأة يومين من الدهر .
وفي بعضها : سفرا فوق ثلاثة أيام .
وفي بعضها : مسيرة ثلاث ليال .
وفي بعضها : بريداً .
قال الإمام النووي :
قال العلماء : اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين ، واختلاف المواطن ، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد .
قال البيهقي كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تُسافر ثلاثا بغير محرم ، فقال : لا . وسُئل عن سفرها يومين بغير محرم ، فقال : لا . وسُئل عن سفرها يوما ، فقال : لا . وكذلك البريد ، فأدّى كل منهم ما سمعه ، وما جاء منها مختلفا عن رواية واحد فَسَمِعَه في مواطن ، فروى تارة هذا وتارة هذا ، وكله صحيح ، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر ، ولم يُرِد صلى الله عليه وسلم تحديد أقلّ ما يُسَمَّى سفرا ، فالحاصل أن كل ما يسمى سفرا تُنْهَى عنه المرأة بغير زوج أو محرم ، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوما أو بريدا أو غير ذلك ، لرواية بن عباس الْمُطْلَقَة ، وهي آخر روايات مسلم السابقة : " لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرا . والله أعلم . اهـ .

3= قوله رحمه الله : " وَفِي لَفْظِ للْبُخَارِيِّ : أن تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وليلة إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ "
الذي في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : " أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة "
ولعله أراد في لفظ لِمسلم ، فإنه عنده بِلفظ : " تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم "

4= هل وُجود الْمَحْرَم شرط وُجوب أو شرط صِحّـة ؟
هو شرط وُجوب ، فلا يَجب على المرأة الحج إلا إذا وُجِد الْمَحْرَم أو الزوج .
فإن حَجَّتْ بغير مَحرَم فهي عاصية وحجّها صحيح .
ولو ماتت المرأة ولم تَحُجّ لِعدم توفّر الْمَحْرَم فإنها تلقى الله بغير إثم فيما يتعلّق بالحج . بِخلاف ما لو حَجَّتْ من غير مَحرَم فإنها تلقى الله عاصية بسفرها ذلك .

5=
مَن هو الْمَحْرَم ؟
هو الزوج ومَن يَحرُم على المرأة على التأبيد ، أي لا يَحِلّ له نكاحها أبداً .
أما زوج الأخت ، أو أخو الزوج ، فلا يكون مَحْرَماً ، لأنه يَحرم إلى أمَد ، وليس إلى الأبد .

6=
شَرط الْمَحْرَم :
أن يكون عاقلا بالغاً .
قال ابن قدامة في المغني : ويُشْتَرَط في الْمَحْرَم أن يكون بالغا عاقلا . قيل لأحمد : فيكون الصبي مَحْرَماً ؟ قال: لا حتى يحتلم . لأنه لا يَقوم بنفسه ، فكيف يَخْرُج مع امرأة ، وذلك لأن المقصود بالْمَحْرَم حِفْظ المرأة ، ولا يحصل إلا من البالغ العاقل فاعتُبر ذلك . اهـ .

7=
قوله : " لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " إنما يُربَط مثل ذلك بالإيمان باليوم الآخر لأنه يوم الجزاء والحساب .
فإن الوليّ في الدنيا قد يَتساهل أو يُقصِّر ، أو لا يُوجَد وليّ ، فالتي تؤمن بالله واليوم الآخر ، والتي تَرجو لقاء الله ، فلا تُسافِر إلا مع ذي مَحْرَم .
لأنها إذا سافَرَتْ من غير مَحرَم كانت عاصية آثمة ، ولو كان ذلك لأداء فريضة الله التي فَرَض الله على عباده وإذا كانت عاصية فإنها تُعرِّض نفسها للعقوبة في اليوم الآخر ( يوم القيامة ) .

8=
التنبيه على سَفَر النساء لأغراض دنيوية .
إذا كان لا يجوز للمرأة أن تُسافِر لأداء فريضة الحج ، فغيرها أولى بالتحريم ، بل وأشد في الإثم .
فالمرأة التي تريد الحج لا يُؤذَن لها إلا مع وُجود مَحْرَم ، فكيف إذا كان سَفرها لِغرض دُنيوي ؟
وكيف إذا كان سفرها يُصاحِبه خلوة بسائق أجنبي ؟
لا شك أن الإثم فيه أعظَم .
وقد سألتني فتاة مؤمنة – أحسبها كذلك – عن سَفَرِها لأجل الوظيفة ، وهي تُسافِر مع مجموعة من النساء ، فأفتيتها بالتحريم . فعَلِمتُ أنها تَرَكتْ ذلك لله ، فعوّضها الله بوظيفة أخرى في بلدها بعد فترة قصيرة .

9=
قوله : " وَمَعَهَا حُرْمَـةٌ " المقصود به الْمَحْرَم .
ففي رواية لمسلم : إلاّ ومعها رجل ذو حُرمة منها .

10=
لا يُعارَض هذا الحديث بِفعل الصحابي .
قال الإمام البخاري : وقال لي أحمد بن محمد : حدثنا إبراهيم عن أبيه عن جده أذِن عمر رضي الله عنه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها ، فَبَعَثَ معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف .
وهذا فيه أمور :
أولاً : كونه فِعل صحابي ، وفِعل الصحابي لا حُجّة فيه إذا خالَف النصّ ، أو خالَفَه غيره ، وقد امتَنَعت سَودة رضي الله عنها فإنها لم تَخْرُج من بيتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه في حجة الوداع : هذه ، ثم ظُهور الْحُصُر . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
الثاني : أن عمر رضي الله عنه فَعَل هذا بأمهات المؤمنين خاصة ، لأنهن بمنْزِلة الأمهات ، وبَعَثَ معهنّ رجلين من خيار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
الثالث : أن عمر رضي الله عنه لم يأذن فيه لغير أمهات المؤمنين ، فلم يُعرَف عنه الترخّص في ذلك لغير أمهات المؤمنين .
الرابع : احتياط عمر رضي الله عنه مع ذلك .
وكان عثمان يُنادي : ألا لا يَدْنُو أحد منهن ، ولا ينظر إليهن وهُنّ في الهوادج على الإبل ، فإذا نَزَلْنَ أنْزَلَهن بصدر الشِّعب ، فلم يصعد إليهن أحد ، ونزل عبد الرحمن وعثمان بِذَنَبِ الشِّعب . وفي رواية لابن سعد : فكان عثمان يسير أمامهن ، وعبد الرحمن خلفهن . [ أفاده ابن حجر ] .

11=
هل يجوز أن تَحُجّ المرأة مع جماعة من النساء ؟
الجواب :
لا يجوز لهن ذلك إذا احتاج الحج لِسَفَر .
أما إذا كان لا يَحتاج إلى سَفَر – كأهل مكة – فيجوز لهن الخروج بشرط عدم الخلوة بأجنبي ، وأن يَكُنّ مجموعة من النساء .
ومع ذلك فَوجود الْمَحْرَم فيه حماية للمرأة ومصلحة لها ، ولو كان ذلك في الطواف .

روى وكيع في أخبار القُضَاة من طريق السندي بن شاهك قال : كنت قائماً على رأس المنصور وعنده الحسن بن عمارة ، فقال المنصور له : تَحَدَّث ? فقال : حدثني أبو أمير المؤمنين أنه حج مع أبيه عام حج عبد الملك بن مروان فإذا امرأة تطوف قد فَرَقَتِ النساء ، فَسَمَتْ إليها عيون الناس ، فلحق بها عمر ابن أبي ربيعة وأخبرها أنه عمر ، وأنه قد خامر قلبه منها شيء ! فزجرته فلم يَنْزَجر ، فقالتْ لِوَلِيّ لها : اخْرُج معي إذا خرجت من المسجد، فلما رآها عمر حَادَ عنها ، فأنشدت تسمعه :
تعدوا الذئاب على من لا كلاب له = وتتقي حوزة المستدفئ الحامـي
فقال المنصور : قد سمعت هذا من أبي ، ووددت أن ذوات الخدور جميعاً تسمعنه !
 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 234 في فِدية الأذى

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

بابُ الفِدْيَةِ

ح 234

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ : جَلَسْتُ إلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ . فَسَأَلَتْهُ عَنِ الْفِدْيَةِ ؟ فَقَالَ : نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً . وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً . حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي . فَقَالَ : مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى – أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى – أَتَجِدُ شَاةً ؟ فَقُلْتُ : لا . فَقَالَ : صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ , أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ , لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطْعِمَ فَرَقاً بَيْنَ سِتَّةٍ , أَوْ يُهْدِيَ شَاةً , أَوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ .

في الحديث مسائل :

1= قوله : " بابُ الفِدْيَةِ " المقصود بها فِدية خاصة ، وهي ما يُسميها العلماء " فِدية أذى " .
والأصل فيها قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) .

2= ما جاء في هذه الفِدية على التخيير ، لِما جاء في الآية السابقة .
وفي رواية للبخاري : قال : لعلك آذاك هوامك ؟ قال : نعم يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احلق رأسك ، وصُم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك بشاة .
فـ ( أو ) تُفيد التخيير .

3= كان ذلك عام الحديبية .
ففي رواية للبخاري ومسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وأنه يسقط على وجهه القمل ، فقال : أيؤذيك هوامك ؟ قال : نعم . فأمَرَه أن يَحْلِق وهو بالحديبية ، ولم يتبين لهم أنهم يُحِلّون بها ، وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطعم فَرَقَا بين ستة ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام .
وما فائدة معرفة ذلك ؟
فائدة معرفة كون ذك عام الحديبية ما يترتّب عليه من كون ذلك في عُمرة ، ثم كون كعب رضي الله عنه خارج حدود الحرم ، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية ولم يأمره أن تكون في الحرم .

4= وُجوب الفدية في فِعل محظور ، سواء كان ذلك في الحج أو في العمرة .

5= قوله : " حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي " .
في رواية لمسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم مَـرّ بِهِ وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة ، وهو محرم ، وهو يُوقِد تحت قِدْر ، والقمل يتهافتْ على وجهه ، فقال : أيؤذيك هوامك هذه ؟ قال : نعم .. الحديث .
قال العيني في عمدة القارئ : وفي لفظ له : " حُمِلْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي لفظ : " وَقَفَ عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية " وفي لفظ : " إنه صلى الله عليه وسلم رآه وأنه يَسْقُط على وجهه " وفي لفظ : " مَـرّ بِي النبي صلى الله عليه وسلم " وفي لفظ لمسلم قال : " فأتيته " قال : " أدْنُه " وفي لفظ له : مَـرّ به النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم " فإن قلت : ما الجمع بين اختلاف هذه الروايات والقصة واحدة ؟ قلت : لا تعارض في شيء من ذلك ؛ أما لفظ " لعلك آذاك " فَسَاكِت عن قيد ، وأما بقية الألفاظ فوجهها أنه مَرَّ به وهو محرم في أول الأمر ، وسأله عن ذلك ، ثم حُمِل إليه ثانيا بإرساله إليه ، وأما إتيانه فَبَعْد الإرسال ، وأما رُؤيته إياه فلا بُدّ منها في الكل . اهـ .

6= العِبرة بِعموم اللفظ لا بِخصوص السبب .
قال رضي الله عنه : نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً . وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً .

7= هذه الفدية في كل محظور من محظورات الإحرام عدا الجماع ، فإن كفارته مُغلّظة .
فإن فَعَل شيئا من المحظورات لِحاجة سَقَط الإثم ولَزِمَتْه الفِدية .
وإن فَعله لغير حاجة أثِمَ ولَزِمَتْه الفِدية .

فلو تَطيّب الْمُحرِم ، أو حَلَق شعر رأسه ، أو لبس الثياب ، أو غطَى رأسه ، فإنه تلزمه الكفارة ، وهو مُخيَّر فيها بين الثلاث الواردة في حديث الباب .

8= لو فَعَل شيئا من محظورات الإحرام ناسياً . فهل تلزمه فِدية ؟
المسألة مَحلّ خِلاف .
قال القاضي عياض : ومُعظَم العلماء على وُجوب الدم على الناسي .
وفَرّق العلماء بين محظورات الإحرام في النسيان .
قال ابن قدامة : المشهور في المذاهب أن المتطيّب أو اللابِس ناسيا أو جاهلا لا فِدية عليه ، وهو مذهب عطاء والثوري وإسحاق وابن المنذر .
وقال أحمد : قال سفيان : ثلاثة في الجهل والنسيان سواء : إذا أتى أهله ، وإذا أصاب صيدا ، وإذا حلق رأسه
قال أحمد : وإذا جامع أهله بَطَل حَجّه . لأنه شيء لا يقدر على رَدِّه . والصيد إذا قَتَلَه فقد ذهب لا يقدر على رده ، والشَّعر إذا حلقه فقد ذهب .
فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيها سواء ، وكل شيء من النسيان بعد الثلاثة فهو يَقْدِر على رَدّه ، مثل إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكر ألقاه عن رأسه
وليس عليه شيء
أو لبس خفا نزعه وليس عليه شيء وعنه رواية أخرى أن عليه الفدية في كل حال وهو مذهب مالك والليث والثوري وأبي حنيفة ؛ لأنه هَتَك حُرْمَة الإحرام . فاستوى عمده وسهوه كحلق الشعر وتقليم الأطفار .
ولنا عموم قوله عليه السلام : عُفِي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهوا عليه . وروى يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جُـبّة ، وعليه أثر خَلُوق - أو قال أثر صُفرة - فقال : يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال : اخلع عنك هذه الْجُـبّة ، واغسل عنك أثر هذا الخلوق - أو قال أثر الصفرة - واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك . متفق عليه
وفي لفظ : قال : يا رسول الله أحرمت بالعمرة وعليّ هذه الجبة . فلم يأمره بالفدية مع مسألته عما يَصْنَع ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز إجماعا .
دَلّ على أنه عُذر لجهله ، والجاهل والناسي واحد .
ولأن الحج عبادة يجب بإفسادها الكفارة ، فكان من محظوراته أنه ما يُفَرّق بين عمده وسهوه ، كالصوم ، فأما الحلق وقتل الصيد فهو إتلاف لا يمكن رَدّ تَلافِيه بإزالته .
إذا ثبت هذا فإن الناسي مَتَى ذَكَر فعليه غسل الطيب وخلع اللباس في الحال ، فإن أخَّرَ ذلك عن زمن الإمكان فعليه الفدية . اهـ .

وقال النووي : إذا فَعَل الْمُحْرِم محظورا من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلا ، فإن كان إتلافا كقتل الصيد والْحَلْق والقَلْم ، فالمذهب وجوب الفدية ، وفيه خلاف ضعيف سبق بيانه ، وإن كان استمتاعا مَحْضاً كالطيب واللباس ودَهن الرأس واللحية والقُبلة واللمس وسائر المباشَرَات بالشهوة - ما عدا الجماع - فلا فدية ، وإن كان جماعا فلا فدية في الأصح . والله أعلم .
وقال : قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا لَبِس أو تطيّب ناسيا لإحرامه أو جاهلا تحريمه فلا فدية ، وبه قال عطاء والثوري وإسحاق وداود .
وقال مالك وأبو حنيفة والمزني وأحمد - في أصح الروايتين عنه - عليه الفدية ، وقَاسُوه على قتل الصيد . ودليلنا ما ذَكَره المصنف . والفرق أن قتل الصيد إتلاف وأما إذا وطىء ناسيا أو جاهلا ، فقد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا يفسد نسكه ، ولا كفارة . وقال مالك وأبو حنيفة : يفسد ويلزمه القضاء والكفارة . اهـ .

9= لو رَكِب حاج أو مُعتَمِر طائرة ولم يَكن معه ملابس للإحرام ، فإنه إذا حاذى الميقات يُلبِّي ، ويتخفّف من الملابس ما استطاع ، فيُزيل غطاء الرأس ، والجوارب – إذا كان رجلا – والثوب ونحوه من غير كشف للعورة ، فإنه إذا فَعَل ذلك كان مُخيَّراً بين ثلاث ، وهي كفارة الأذى الواردة في هذا الحديث .
أما إذا أخَّـر الإحرام إلى المطار – وكان جاوز الميقات – فإنه يلْزَمه دم ( ذبح شاة ) توزّع على فقراء الحرم

10= قوله : " فَرَقاً بَيْنَ سِتَّةٍ " أي بين سِتّة مساكين .
والْفَرَق : ثلاثة آصع .
يعني يُفرِّق ثلاثة أصواع بين ستة مساكين ، فيكون لِكلّ مسكين نِصف صاع .

11= اختُلِف في الإطعام والذبح . هل يكون في الْحَرَم أو يجوز في غيره ؟
وهل يُذبَح في الْحِلّ ويُوزّع في الْحَرَم ؟
ليس في المسألة نَصّ ، إلا ما كان في جزاء الصيد ، فإنه منصوص عليه في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) .
قال القرطبي في التفسير : اخْتَلَف العلماء في موضع الفدية المذكورة ؛ فقال عطاء : ما كان من دم فَبِمَكّة ، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء ، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي . وعن الحسن أن الدم بمكة .
وقال طاووس والشافعي : الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة ، والصوم حيث شاء ، لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم . وقد قال الله سبحانه (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) رِفقاً لمساكين جيران بيته ، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام. والله أعلم .
وقال مالك : يفعل ذلك أين شاء . وهو الصحيح من القول ، وهو قول مجاهد . والذبح هنا عند مالك نُسُك وليس بهدي لِنَصّ القرآن والسنة ، والنُّسك يكون حيث شاء ، والهدي لا يكون إلا بمكة، ومن حُجّته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه ، وفيه : فأمَرَ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فَحُلِق ، ثم نَسَك عنه بالسّقيا ، فنحر عنه بعيرا . قال مالك : قال يحيى بن سعيد : وكان حسين خَرَج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة .
ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة .
وجائز عند مالك في الهدي إذا نُحِرَ في الحرم أن يُعْطَاه غير أهل الحرم ، لأن الـبُغية فيه إطعام مساكين المسلمين .
قال مالك : ولما جاز الصوم أن يُؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم .
ثم أن قوله تعالى : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا) الآية . أوضح الدلالة على ما قلناه ، فإنه تعالى لما قال : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) لم يَقُل في موضع دون موضع ، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه .
وقال : (أَوْ نُسُكٍ) فَسَمّى ما يُذبح نُسُكاً ، وقد سَمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ، ولم يُسَمِّه هَدياً، فلا يلزمنا أن نَرُدّه قياسا على الهدي ، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن عليّ .
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمَرَ كَعْباً بالفدية ما كان في الحرم ، فَصَحّ أن ذلك كله يكون خارج الحرم . وقد رُوي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد . اهـ .
وبِنحو هذا قال ابن عبد البر في الاستذكار .

وهذه أدلة قوية على أن الإطعام أو الدم إذا كان دم جُبران ، فإنه لا يَجب أن يكون بِمكّة .
إذ الوجوب مُتوقّف على الدليل ، ولا دليل خاص في المسألة .
والأدلة والتعليلات التي ذكروها قوية جدا .
وإلزام الناس بأمرٍ تَعبّدي ليس فيه دليل صحيح صريح فيه مَشَقّة على الناس ، وإيجاب ما ليس بِواجِب .

12=
نَصّ العلماء على أن كفارة الأذى لا بُدّ فيها من تمليك المساكين .
قال القرطبي في التفسير : ولا يجزى أن يُغَدِّي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يُعْطِي كل مسكين مُدَّين بِمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم . وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن . اهـ .

13= الشاة والإطعام في الفِدية لا يجوز أن يأكل منها صاحبها ، بِخلاف الهدي والأضاحي .

14= فائدة :
قوله صلى الله عليه وسلم : " مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى – أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى " قال ابن الملقِّن : " أُرى " الأولى والثالثة ، بِضمّ الهمزة ، أي أظُنّ . والثانية والرابعة بِفتحها ، أي أُشاهِد ببصري ، فهو من رؤية العين .
والله تعالى أعلم .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 235 في حُرمة مكة

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 235

بابُ حرمة مكةَ


عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ - خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو - الْخُزَاعِيِّ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه : أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ , حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ : أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ . فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً , وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ , وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ .
فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ : مَا قَالَ لَكَ ؟ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ ، إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً , وَلا فَارَّاً بِدَمٍ ، وَلا فَارَّاً بِخَرْبَةٍ .
الخَرَبَة : بالخاء المعجمة والراء المهملة . قيل: الخيانة ، وقيل: البليَّة ، وقيل : التهمة . وأصله من سرقة الإبل. قال الشاعر :
الخارِب اللِّصّ يُحِبّ الخارِبا .

في الحديث مسائل :


1
= قوله : " باب حُرمة مكة " أي تحريمها وتعظيم حُرمتها ، وذلك لوجود الْحَرم فيها ، وهذا تشريف لهذا البلد الأمين .
فإن الله أقسَم به (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) ، (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) ، وحَرَّمَـه ، كما في حديث الباب .
وإن كان تحريم مكة يوم خَلَق الله السماوات والأرض تعظيما لها ، وتنبيها لشأنها .

2=
تعظيم الحرم ، فالسيئة تَعظُم فيه ، بل نصّ العلماء على أن نيَّـة المعصية فيه تُكتب معصية ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)
قال القرطبي في التفسير :
والإلحاد في اللغة الميل ، إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد .
واخْتُلِف في الظلم ؛ فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال : الشرك .
وقال عطاء : الشرك والقتل .
وقيل : معناه صيد حمامه ، وقطع شَجَرِه ، ودخول غير مُحْرِم .
وقال ابن عمر : كُنا نَتَحَدَّث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان : لا والله ، وبلى والله ، وكَلاّ والله . ولذلك كان له فُسطاطان أحدهما في الْحِلّ والآخر في الْحَرَم ، فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم ، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الْحِلّ ، صيانة للحرم عن قولهم : كلا والله ، وبلى والله، حين عَظَّم الله الذنب فيه .
وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يُعَاتِبَ أهله عاتبهم في الْحِلّ ، وإذا أراد أن يُصلي صَلّى في الحرم . فقيل له في ذلك ، فقال : إنْ كُنا لنتحدث إن من الإلحاد في الحرم أن نقول : كلا والله ، وبلى والله .
والمعاصي تُضَاعَف بمكة كما تضاعف الحسنات ، فتكون المعصية معصيتين : إحداهما بِنَفْس المخالفة ، والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام . وهكذا الأشهر الحرم سواء ..
وقال : ذَهَبَ قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يُعَاقَب على ما ينويه من المعاصي بمكة ، وإن لم يعمله ، وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا : لو هَمَّ رجل بِقَتْلِ رجل بهذا البيت وهو بِعَدَنِ أبْيَن لَعَذَّبَه الله . قلت : هذا صحيح . اهـ .
وفي قوله تعالى : (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) قال أيضا : في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان ، لأنهم عَزَمُوا على أن يَفْعَلُوا فَعُوقِبوا قبل فِعلهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) . اهـ .

3=
إثبات صُحبة أبي شُريح العَدوي رضي الله عنه ، لأنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه وسَمِع منه .
لأنه قال : فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ , حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ .

4=
عمرو بن سعيد بن العاص :
قال العيني : عمرو بن سعيد بن العاص ابن أمية القرشي الأموي ، يُعْرَف بالأشدق ، ليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان !
وقال : كان قَتْله سنة سبعين من الهجرة .
وقال : المعروف بالأشدق ، لَطِيم الشيطان ، ليست له صُحبة ، وعُرِف بالأشدق لأنه صعد المنبر فبالغ في شَتْم عليّ رضي الله تعالى عنه ، فأصابه لقوة ، ولاّه يزيد بن معاوية المدينة ، وكان أحب الناس إلى أهل الشام ، وكانوا يسمعون له ويطيعونه ، وكتب إليه يزيد أن يُوجّه إلى عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه جيشا فوجهه واستعمل عليهم عمرو بن الزبير بن العوام .
وقال الطبري : كان قدوم عمرو بن سعيد واليا على المدينة من قِبَلِ يزيد بن معاوية في ذي القعدة سنة ستين . وقيل : قَدِمَها في رمضان منها ، وهي السنة التي ولي فيها يزيد الخلافة فامتنع ابن الزبير من بيعته ، وأقام بمكة ، فجهز إليه عمرو بن سعيد جيشا وأمَّـر عليهم عمرو بن الزبير ، وكان معاديا لأخيه عبد الله ، وكان عمرو بن سعيد قد ولاَّه شُرطته ، ثم أرسله إلى قتال أخيه ، فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد فنهاه ، فامتنع ، وجاءه أبو شريح فذكر القصة ، فلما نزل الجيش ذا طوى خَرَج إليهم جماعة من أهل مكة فهزموهم ، وأُسِرَ عمرو بن الزبير فسجنه أخوه بسجن عارِم . انتهى مِن عمدة القارئ .

5=
قوله : وهو يبعث البعوث إلى مكة . يعنى لِقتال ابن الزبير . قاله النووي .
وقد كان عمرو بن سعيد بن العاص والياً على المدينة .
والبُعُوث هم القوم الْمُرْسَلُون للقِتال ونحوه . قاله ابن الملقِّن .

6=
قوله : ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ . فيه التلطّف مع المخاطَب خاصة إذا كان له أمرٌ ونَهي ، لأنه أدْعَى للقبول .
قال ابن حجر : فيه حسن التلطّف في الإنكار على أمراء الجور ليكون أدْعى لقبولهم . اهـ .

7=
قوله : قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ .
أي أنه خَطَبَ في اليوم الثاني من فتح مكة . قاله ابن حجر .
قوله : " من يوم الفتح " المراد فتح مكة ، وكان في عشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة . قاله ابن الملقِّن .

8= قوله : سَمِعَتْه أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي . أراد بهذا كله المبالغة في تحقيق حفظه إياه وتيقنه زمانه ومكانه ولفظه . قاله النووي .
أي أنه ليس بِمُتَوَهِّم في سماع الحديث ، ولا هو مُجرّد ظَنّ ، بل هو يقين وحق وصِدق .

9=
قوله : حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كان يَفتَتِح الْخُطب بذلك ، سواء خُطب الجمعة أو مواعظه عليه الصلاة والسلام ، أو خُطبه في المناسبات ، كما هنا .
وعادة الرّواة يَطوون المقدِّمات اختصاراً ، للوصول إلى الفائدة والخلاصة .

10=
قوله : " إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ " المقصود : بعض الناس ، أو كثير من الناس .
لأن أهل الجاهلية كانوا يُعظِّمون الْحَرَم ، فإنه لما أرادوا قَتْل خبيب رضي الله عنه خَرَجوا به خارج حدود الْحَرَم !
قال ابن حجر : والمراد بِقوله : " ولم يُحَرّمها الناس " أن تحريمها ثابت بالشَّرْع لا مَدْخَل للعقل فيه ، أو المراد أنها من مُحَرَّمات الله ، فيجب امتثال ذلك ، وليس مِن مُحَرَّمات الناس ، يعني في الجاهلية ، كما حَرَّمُوا أشياء من عند أنفسهم ، فلا يَسُوغ الاجتهاد في تَرْكِه . وقيل : معناه أنّ حُرْمَتها مستمرة من أول الْخَلْق وليس مما اخْتَصَّتْ به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم .

11= قوله : " فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ "
سَبَقت الإشارة إلى تكرار هذا التذكير في الكتاب والسنة ، وذلك أن الذي يُؤمِن بالله واليوم الآخر يَعلَم أنه صائر إليه ، مَجْزيّ بِعمَلِه ، مُحاسَب عليه .
فيَحْمِله ذلك على الكَفّ والانتهاء عما أراد مما هو من معصية الله ، ومُخالَفة أمره أو أمر نبيِّـه صلى الله عليه وسلم . فـ

12=
قوله : " لا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً "
ليس له مفهوم ، فلا يَحِلّ سَفك الدم بمكة لا لِمن يؤمن بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، ولا لِمن لا يُؤمِن بالله وَلا بالْيَوْمِ الآخِرِ .

13=
قوله : " أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً "
فالذي يُؤمِن بالله واليوم الآخِر لا يَحِلّ له أن يسفِك بِمكةّ دماً .
وما المقصود بالدَّم ؟
هو الدم الحرام ، وهو ما يَكون في قِتال أو اعتداء ، ونحو ذلك .
واخْتُلِف في إقامة الحدود في مكة .
هل يُقَتل القاتِل ويُقام عليه الحدّ في الْحَرَم ؟
جوابه في المسألة التالية :

14=
إذا قَتَلَ قاتِل في الْحَرَم . هل يُقتَل ، أو يُضيّق عليه ليَخْرَج من الحرم ؟
قال القرطبي في قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) :
استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الْحَرَم على الْمُحْصَن ، والسارق إذا لجأ إليه ، وعضدوا ذلك بقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا) ، كأنه قال آمِنُوا مَن دَخَلَ البيت ، والصحيح إقامة الحدود في الحرم ، وأن ذلك من المنسوخ ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يُقْتَل في البيت ويُقْتَل خارج البيت ، وإنما الخلاف هل يُقْتَل في الْحَرَم أم لا ؟
والْحَرَم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة .
وقد أجمعوا أنه لو قَتَلَ في الحرم قُتِلَ به ، ولو أتَى حَدًّا أُقِيد منه فيه ، ولو حارَب فيه حُورِب وقُتِل مكانه .
وقال أبو حنيفة : من لجأ إلى الحرم لا يُقْتَل فيه ولا يُتَابَع ، ولا يزال يُضيّق عليه حتى يموت ، أو يَخْرُج ، فنحن نقتله بالسيف ، وهو يقتله بالجوع .

15=
قوله : " وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً "
سيأتي بيان هذا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو بعد هذا الحديث .

16=
قوله : " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ , وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ "
فيه التنبيه على إزالة الشُّبْهَة إذا تَوقّع العالم تعلّقها بالأذهان .
وفَرْق بين إزالة الشُّبْهَة وبين تلقين الناس إياها !
فالأول مطلوب والثاني ممنوع .

17=
إنما أُذِن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال عام الفتح ، وذلك لما تَرتّب على ذلك القِتال من مصالح عظيمة ، مِن فتح مكة ، وإعادتها إلى من هو أولى بها وأهلها ، وكونها أصبحت بعد ذلك دار إسلام ، وأمْن الناس فيها ، إلى غير ذلك من المصالِح .
أما قِتال غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس فيه مثل هذه المصالح التي تُحتَمَل لأجلها المفسدة ، وهي القِتال في مكة .
وتَقَدَّم قول القرطبي ونَقْله للإجماع ، حيث قال : " وقد أجمعوا أنه لو قَتَلَ في الحرم قُتِلَ به ، ولو أتَى حَدًّا أُقِيد منه فيه ، ولو حارَب فيه حُورِب وقُتِل مكانه " .
فعلى هذا يكون مَنْع القِتال فيها ابتداءً لا لِمن حارَب فيها .
وهذا المنع مُنطَبِق على حال عمرو بن سعيد بن العاص ، لأنه ابتدأ القِتال ، لا أنه حارَب مُحارِباً . فابن الزبير رضي الله عنه عَاذَ بالبيت ، ولم يبدأ بِقِتال .

18=
قوله : " فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ "
فأبو شُريح رضي الله عنه كان شَاهِداً حاضِراً ، وقد بَلَّغَ ما سَمِع إلى منَ غاب ، وهو عمرو بن سعيد بن العاص ، إلا أنه لم يَنتَفِع به !
بل أعْمَل عَقِلَه مُقابِل النصّ !
وقد ردّ عليه أبو شُريح رضي الله عنه ، كما في رواية الإمام أحمد أنه قال : قد كنتُ شاهدا وكنتَ غائبا ، وقد بَلّغت ، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبَلِّغ شاهدنا غائبنا ، وقد بَلّغْتك ، فأنت وشأنك !

19=
قوله : " إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً , وَلا فَارَّاً بِدَمٍ ، وَلا فَارَّاً بِخَرْبَةٍ "
وهو قَول مردود على قائله ، أعني في حقّ ابن الزبير رضي الله عنه ، كما تقدَّم .
قال ابن حجر :
وقد تَشَدَّق عمرو في الجواب ! وأتى بكلام ظاهره حق لكن أراد به الباطل ، فإن الصحابي أنكر عليه نَصْبَ الْحَرْب على مكة ، فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص ، وهو صحيح ، إلا أنّ ابن الزبير لم يرتكب أمراً يَجِب عليه فيه شيء من ذلك . اهـ .
وقال : وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الْحُكم مَساق الدليل ، وفي تخصيصه العموم بلا مستند . اهـ .

20=
قوله : فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ : مَا قَالَ لَكَ ؟ أي ما قال الأمير في ردّه عليك .

21=
قوله : " ولا فارًّا " بالفاء والراء المشددة ، أي هاربا عليه دم يعتصم بمكة كيلا يُقْتَصّ منه . قاله ابن حجر .

22=
قوله : " بِخَرْبَة " بفتح المعجمة وإسكان الراء ثم موحدة ، يعنى السرقة ، كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي . قال ابن بطال الخربة بالضم الفساد ، وبالفتح السرقة . أفاده ابن حجر .

23=
غَيْرة الله على مَحارِمـه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعوذ عائذ بالبيت فيُبعث إليه بَعْث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِفَ بهم . رواه مسلم – وسيأتي بتمامه – .
وقد قُتِل ذلك الأمير الذي سَيَّر الجيش وبَعَث البعوث للقتال في مكة . وقد تقدّمت الإشارة إليه .
قال العيني: كان قَتْله سنة سبعين من الهجرة .
وذُكِر في كيفية قَتْلِه أن عبد الملك هو الذي قَتَلَه ، وهذه سُنّة ربانية أن من أعان ظالما سلّطه الله عليه .

24=
جُرأة الأمير على صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم !
حيث ردّ عليه . وهو ردّ لِحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كما أن فيه تقديم العقل على النقل !
ثم هو استدلال في غير مَحلِّه .
فإن ابن الزبير رضي الله عنه لا تنطبق عليه تلك الأوصاف ، فإنه لم يَكن عاصيا ، ولا فارا بِدَم ، ولا فارا بخربة.
بل كان ابن الزبير خليفة المسلمين .

قال ابن كثير رحمه الله تحت عنوان : إمارة عبد الله بن الزبير . وعند ابن حزم وطائفة أنه أمير المؤمنين آنذاك .
ثم قال تحت هذا العنوان : قَد قَدّمْنا أنه لما مات يزيد أقلع الجيش عن مكة ، وهم الذين كانوا يُحاصِرون ابن الزبير ، وهو عائذ بالبيت ، فلما رجع حصين بن نمير السكوني بالجيش إلى الشام واستفحل أمْرُ ابن الزبير بالحجاز وما والاها ، وبايعه الناس بعد يزيد بيعة هناك ، واستناب على أهل المدينة أخاه عبيد الله بن الزبير ... ثم بَعَث أهلُ البصرة إلى ابن الزبير - بعد حروب جرت بينهم وفتن كثيرة يطول استقصاؤها - غير أنهم في أقل من ستة أشهر أقاموا عليهم نحوا من أربعة أمراء من بينهم ، ثم اضطربتْ أمورهم ، ثم بعثوا إلى ابن الزبير ... وبَعَث ابنُ الزبير إلى أهل الكوفة عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري على الصلاة ، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الْخَراج ، واسْتَوثَق له الْمِصْران جميعا ، وأرسل إلى أهل مصر فبايعوه ، واستناب عليها عبد الرحمن بن جحدر ، وأطاعت له الجزيرة ، وبَعَث على البصرة الحارث بن عبد الله بن ربيعة ، وبَعَث إلى اليمن فبايعوه ، وإلى خراسان فبايعوه ، وإلى الضحاك بن قيس بالشام فبايع . اهـ .
قال ابن بطال : وابن الزبير رضي الله عنهما عند علماء السنة أولى بالخلافة من يزيد وعبد الملك لأنه بويع لابن الزبير قبل هؤلاء ، وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم . وقد قال مالك : ابن الزبير أولى من عبد الملك نَقَله العيني .

فأنت ترى أن ولاية ابن الزبير لم تكن خروجا على الحجاج ، بل هي بيعة عامة ، وخلافة شملتْ الحجاز واليمن ومصر ، وأغلب بلاد الشام .
وقد خَشِي الناس أن يُخسَف بذلك الجيش الذي غَزا ابن الزبير .
روى مسلم من طريق عبيد الله بن القبطية قال : دَخَل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما على أم سلمة - أم المؤمنين - فسألاها عن الجيش الذي يُخْسَف به ، وكان ذلك في أيام ابن الزبير ، فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعوذ عائذ بالبيت فيُبعث إليه بَعْث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِفَ بهم. فقلت : يا رسول الله فكيف بمن كان كارِها ؟ قال : يُخْسَف به معهم ، ولكنه يبعث يوم القيامة على نِيَتِه . وقال أبو جعفر : هي بيداء المدينة .

25=
إعجاب ذلك الأمير بنفسه وبما عنده من العلم ، حيث ادّعى أنه أعلم من الصحابي بقوله : أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ !
وقد ذمّ الله أقواماً بإعجابهم بأنفسهم وبما عندهم من العلم ، فقال : (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)

والله تعالى أعلم .


 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 236 في حرمة صيد الحرم ولقطته وشوكه

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 236

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ – : لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ . وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا .
وَقَالَ : يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ؛ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ , وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ , وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ . فَقَالَ: إلاَّ الإِذْخِرَ .
القَينُ : الحَدَّاد .

في الحديث مسائل :

1=
قوله : " لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ "
هل يتعارض هذا مع قوله عليه الصلاة والسلام : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لمجاشع بن مسعود رضي الله عنه : مَضَتِ الهجرة لأهلها . رواه البخاري .
وفي رواية له : ذَهَبَ أهل الهجرة بما فيها .
لا تَعارُض بينهما ، لأن الأول بخصوص مكة ، أي لا هَجرَة بعد فتح مكة .
والثاني عام في بقاء حُكم الهجرة ، من بلد الكُفر إلى بلد الإسلام ، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة ، ومن بلد المعصية إلى بلد الطاعة .
قال ابن عبد البر : معناه لا هجرة تُبْتَدأ بعد الفتح مُفترضة ، لا على أهل مكة ولا على غيرهم . اهـ .
وقال النووي : قال أصحابنا وغيرهم من العلماء : الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة وتأوّلوا هذا الحديث تأويلين :
أحدهما : لا هجرة بعد الفتح من مكة ، لأنها صارت دار إسلام ، فلا تُتَصَوّر منها الهجرة .
والثاني : - وهو الأصح - أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمّة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ، ومَضَتْ لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة ، لأن الإسلام قوي وعَزّ بعد فتح مكة عزا ظاهرا ، بخلاف ما قبله . اهـ .
ويَعضد القول الثاني ما جاء في حديث مُجاشع بن مسعود رضي الله عنه ، وفيه : ذَهَبَ أهل الهجرة بما فيها .

2=
قوله : " وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ "
وهذا موافِق لِقوله عليه الصلاة والسلام لمجاشع بن مسعود رضي الله عنه .
روى البخاري من حديث مجاشع رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي ، فقلت : بَايِعْنَا على الهجرة . فقال : مَضَتِ الهجرة لأهلها . فقلت : عَلامَ تُبَايِعُنا ؟ قال : على الإسلام والجهاد . رواه البخاري .
قال النووي : " ولكن جهاد ونية " معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة ، ولكن حَصِّلُوه بالجهاد والنية الصالحة . وفى هذا الحثّ على نِيّـة الخير مُطلقا ، وأنه يثاب على الـنِّـيَّـة .

3=
قوله صلى الله عليه وسلم :" وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " معناه : إذا طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد فاخرجوا . وهذا دليل على أن الجهاد ليس فرض عين ، بل فرض كفاية إذا فعله من تحصل بهم الكفاية سَقَطَ الْحَرَج عن الباقين ، وإن تركوه كلهم أثِمُوا كلهم . قال أصحابنا : الجهاد اليوم فرض كفاية ، إلا أن يَنْزِل الكفار بِبَلَد المسلمين ، فَيَتَعَيّن عليهم الجهاد ، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وَجَبَ على من يليهم تَتْمِيم الكفاية . قاله النووي .

4=
في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ .
وفي حديث أبي شُريحٍ السابق " الْغَد مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ " .
فهل كانت خطبته صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح أو في اليوم الثاني ؟
لا تَعارُض بين الحديثين ، لأن فَتح مكة يُسمّى به اليوم الذي دَخَل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، وتُسمّى به تلك الأيام التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد الفتح ، ويُسمّى به العام ، ومنه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل عام الفتح وعلى رأسه المغفر . رواه البخاري ومسلم . وسيأتي شرحه .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يَخطُب أول يود دَخَل مكة ، وإنما خَطَب في اليوم الثاني من دخوله ، فأبو شُريح رضي الله عنه قاله على وجه الدقّة ، وابن عباس على وجه الإجمال .

5= هل تحريم مكة كان في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قبل ذلك ؟
تحريم مكة كان قبل ذلك – كما سيأتي – .
وقد يقول قائل : ما فائدة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لها مع كونها مُحرّمة من زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومع كون ذلك مُستَقِرّاً عند العرب قبل الإسلام ؟
فالجواب عنه : أن ذلك للتأكيد على حُرمة مكة ، وعلى حُرمة سَفك الدم فيها ، وقَطع شوكها ... - إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه - .
وتضمّن ذلك إزالة شُبهة ، وهي قد يقول قائل ، أو يَحتَجّ مُحتَجّ بِقتال النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح .

6=
هل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي حَرَّم مكة ؟
في الحديث : " أن إبراهيم حَرّم مكة " .
وفي الحديث أيضا : " إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ "
وفي التنْزِيل : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) .
كيف الجمع بينهما ؟
الجواب :
مِن الأحاديث الدّالة على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرّم مكة : حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم حَرّم مكة ، ودعا لها ، وحَرّمتُ المدينة كما حَرّم إبراهيم مكة ، ودعوت لها في مُدّها وصَاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة . رواه البخاري ومسلم .
ومِن الأحاديث التي تدلّ على أن الله حرّم مكة : حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه – حديث الباب –
وفي رواية للبخاري : إن الله حَرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر .

والجمع بين هذه الأحاديث ، والتوفيق بينها أن يُقال :
إن الله هو الذي حرّم مكة ، وجَعَلها حراماً إلى يوم القيامة .
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من بنى البيت ، كما هو معلوم ، فتكون من هذا الباب نسبة التحريم إليه، وإلاّ فمن المعلوم أن الأنبياء لا يُحرِّمون مِن قِبَل أنفسهم .
ويكون إبراهيم عليه السلام هو أول من أُوحِي إليه تحريم البيت ، أي بعد بنائه للبيت .
فتكون نسبة التحريم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
وأصل التحريم من الله تبارك وتعالى .
فإن من المعلوم بداهة أن التحليل والتحريم تشريع ، وهو من الله ابتداءً .
ويُقال مثل ذلك في اللعن .
فإن في بعض الأحاديث لعن الله ، وفي بعضها لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد يكون في الشيء الواحد ، كما في حديث ابن مسعود – المتّفقِ عليه – ، وفي أوله قال : لَعَنَ الله الواشمات ، والموتشمات ، والمتنمصات ، والمتفلِّجات للحُسن ، المغيرات خلق الله . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لَعَنْتَ كَيْتَ وكَيْت ؟ فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ الحديث .
فالشاهد من ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه نَسَب اللعن ابتداء إلى الله ، ثم لما رُوجِع قال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فابتداء التشريع من الله ، وقد يُنسب إلى مَن جاء به .
أو يُنسب إلى أول من عمِل به .
كما يُقال : فعل الأمير كذا .
وقد لا يكون للأمير إلا إصدار الأمر .
وهذا جائز في اللغة ، ولذا جاءت اللغة العربية بالتوكيد والمؤكِّدات .
فإذا قلت : جاء الأمير فيُحتمل أنك تريد رسوله أو أمره أو بعض حاشيته ، ونحو ذلك .
لكنك عندما تقول : جاء الأمير بنفسه ، فقد أكّدت قولك بأنك لا تعني سواه .
فعلى هذا لا يكون هناك إشكال في إضافة تحريم مكة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنه أول من جاء به وعمِل به .
ولا إشكال في إضافته لله لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أمَرَ به وشَرَعه .
كما تقول : ناقة الله ، وتقول : ناقة قوم صالح .

قال ابن عطية في تفسيره : ولا تعارُض بين الحديثين ، لأن الأول إخبار بسابِق علم الله فيها وقضائه وكون الْحُرْمَة مُدة آدم وأوقات عمارة القُطر بإيمان .
والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور .
وكل مقال من هذين الإخْبَارَين حسن في مقامه . عَظَّم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذَكَر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قِبَلِ الله تعالى ومْنْ نافِذ قضائه وسابِق علمه . اهـ .
وقول ابن عطية " بعد الدثور " أي بعد الاندثار .

وقال القرطبي في تفسير سورة البقرة : اخْتَلَف العلماء في مكة هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم ، أو كانت قبله كذلك ؟
على قولين :
أحدهما : أنها لم تزل حَرَماً من الجبابرة المسلطين ومن الخسوف والزلازل ، وسائر المثُلات التي تَحِلّ بالبلاد وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى ، ولقد جَعَل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شُوهِد من أمْرِ الصيد فيها ، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يُهَيّج الكلب الصيد ، ولا يَنْفُر منه ، حتى إذا خَرَجَا من الحرم عَدا الكلب عليه ، وعاد إلى النفور والهرب . وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها أمْناً من القحط والجدب والغارات وأن يرزق أهله من الثمرات ...
الثاني : أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد ، وأن بدعوته صارت حَرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنا بعد أن كانت حلالا .
احتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حَرّمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ...

وقال ابن كثير رحمه الله :
فإذا عُلِمَ هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حَرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حَرَّمها ؛ لأن إبراهيم بَلَّغَ عن الله حُكْمَه فيها ، وتحريمه إياها ، وأنها لم تَزَل بَلداً حَراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها . اهـ .

7=
قوله : " فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " تحريم مكة فيما ذُكِر ، من تحريم القِتال فيه ، وقطع شوكِه وشَجَره النابت بغير فِعل الإنسان ، وتنفير صيده ، واصطياد صيده . بالإضافة إلى تعظيم الْحَرَم .
وأما من قال : إن التحريم أن لا يَدخلها أحد إلا بإحرام فضعيف ، يُضعِّفَه فِعله عليه الصلاة والسلام وفِعل بعض أصحابه .
فالنبي صلى الله عليه وسلم دَخَل مكة عام الفتح وعلى رأسه الْمِغْفَر ، كما سيأتي في حديث أنس .
ومن أصحابه من دَخَل مكة بغير إحرام في حجة الوداع .
قال تعالى : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا)
قال ابن كثير : أي الذي إنما صَارَتْ حَرَاماً شَرْعاً وقَدَراً بتحريمه لها .

8=
قوله : " لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ " أي لا يجوز قطع شَوك الْحَرَم ، والمقصود الشجر النابت من غير فِعل الإنسان
والعضْد هو القَطْع ، ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه : ليتني شجرة تُعْضَد . رواه ابن أبي شيبة . وجاء مثله عن أبي بكر رضي الله عنه وعن أبي ذرّ رضي الله عنه .
قال ابن حجر : قال القرطبي : خَصّ الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما يُنبته الله تعالى من غير صنع آدمي . فأما ما يَنبت بمعالجة آدمي فاخْتُلِف فيه ، والجمهور على الجواز .
وقال الشوكاني : وقد ورد الترخيص في الإذخر ، وفي عَلَف الدواب منها ، فهذان الصِّنْفَان هما المستثنيان من النبات النابت في الْحَرَم ، وأما الشجر المؤذي فلم يَرِد دليل يدل على الترخيص فيه ، لكن إذا كان نَابِتاً في الطريق مثلا على وجه لا يمكن المرور إلا بحصول ضَرر منه ، فقواعد الشريعة تَدُلّ على جواز قطع ما كان ضارا، وقد جاز قتل الحيوان لِضَرَرِه ، فكيف لا يجوز قطع النبات ؟ وما ورد في رواية بلفظ لا يُعْضَد شوكها فمحمول على ما يمكن الْمُحْرِم تَجَنّبه إلا إذا ألَحَّتْ الضرورة إلى المرور عليه والوقوف فوقه ، فإنّ قَطْعَه لدفع ضرره أوْلى من تركه مع حصول الضرر منه ، وقد أَذِنَ صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة أن يحلق رأسه لضرر ما فيه من القمل . اهـ .
قال ابن حجر : وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤذى بطبعه ، فأشبه الفَواسق ، ومَنَعَه الجمهور . اهـ .

9=
قوله : " وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ "
في رواية البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حَرَّمَ مكة ولم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي ، وإنما حَلّتْ لي ساعة من نهار ، لا يْخْتَلى خلاها ، ولا يُعْضَد شجرها ، ولا يُنَفَّر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا لْمُعَرِّف . وقال عباس بن عبد المطلب : إلا الإذخر لصاغتنا ولِسُقُفِ بيوتنا . فقال : إلا الإذخر .
فقال عكرمة : هل تدري " ما يُنَفَّر صيدها " ؟ هو أن تُنَحِّيه من الظلّ وتَنْزِل مكانه .
قال عبد الوهاب : عن خالد : لصاغتنا وقبورنا .
وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي . وخالد هو الحذَّاء .
قيل نَـبّـه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف وسائر أنواع الأذى تنبيها بالأدنى على الأعلى ، وقد خالف عكرمة عطاء ومجاهد ، فقالا : لا بأس بِطَرْدِه ما لم يُفْضِ إلى قتله . أخرجه بن أبي شيبة .
وروى بن أبي شيبة أيضا من طريق الحكم عن شيخ من أهل مكة أن حَمَاماً كان على البيت فَذَرَق على يَدِ عمر فأشار عمر بيده فطار فوقع على بعض بيوت مكة ، فجاءت حية فأكلته ، فَحَكَم عمر على نفسه بِشَاة . وروى من طريق أخرى عن عثمان نحوه . أفاده ابن حجر .
وقال في التلخيص الحبير : حديث عمر أنه أوْجَبَ في الحمامة شاة ، وعن عثمان مثله : الشافعي من طريق نافع بن عبد الحارث قال : قَدِمَ عُمر مكة فدخل دار الندوة يوم الجمعة فألقى رداءه على واقف في البيت ، فوقع عليه طير فخشي أن يَسْلَح عليه فأطاره ، فوقع عليه ، فانتهرته حية فقتلته ، فلما صلى الجمعة دَخَلْتُ عليه أنا وعثمان فقال : احْكُما عليّ في شيء صنعته اليوم - فذكر لنا الْخَبَر - قال : فقلت لعثمان : كيف ترى في عَنْز ثنية عفراء ؟ قال : أرى ذلك ، فأمر بها عمر . إسناده حسن ، ورواه بن أبي شيبة عن غندر عن شعبة عن شيخ من أهل مكة أن عمر - فَذَكَره مُرْسَلا مُبْهَما . اهـ .
ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في السنن الكبرى .

10=
وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا "
قال ابن دقيق العيد : اللقطة - بإسكان القاف ، وقد يقال بِفتحها - الشيء الملتقط .
وذهب الشافعي إلى أن لقطة الْحَرَم لا تُؤخذ للتملك ، وإنما تؤخذ لِتُعَرّف لا غير .
وذهب مالك إلى أنها كغيرها في التعريف والتملك . ويُسْتَدَلّ للشافعي بهذا الحديث . اهـ .

11= وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ .
والخلى - بفتح الخاء والقصر - الحشيش إذا كان رطبا ، واختلاؤه قطعه . قاله ابن دقيق العيد .
وقال الكمال ابن الهمام في فتح القدير : فالْخَلى هو الرَّطب من الكلا ، وكذا الشجر اسم للقائم الذي بحيث ينمو ، فإذا جَفّ فهو حطب ، والشوك لا يعارضه ، لأنه أعَمّ يُقال على الرطب والجاف ، فليحمل على أحد نوعيه دفْعَاً للمعارَضة ، وأما الذي نَبَت من غير أن ينبته الناس وهو من جنس ما ينبتونه ، فلا أدرى ما المخرج له غير أن المصنف عَلّل إخراج أهل الإجماع ما يُنْبِته الناس بأن إنباتهم يقطع كَمَال النسبة إلى الْحَرَم . اهـ .

12=
فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ . فَقَال : إلاَّ الإِذْخِرَ "
قال ابن دقيق العيد : والإذخر نَبْتٌ معروف طيب الرائحة . اهـ .
وقال أيضا : وقوله : " فإنه لِقَيْنِهم " الْقَين الْحَدّاد ، لأنه يحتاج إليه في عمل النار . وبيوتهم تحتاج إليه في التسقيف .
وقوله عليه السلام : " إلا الإذخر " على الفور تَعَلّق به من يرى اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ، أو تفويض الحكم إليه من أهل الأصول .
وقيل : يجوز أن يكون يُوحى إليه في زمن يسير ، فإن الوحي إلقاء في خُفية ، وقد تظهر أماراته وقد لا تظهر . اهـ .

والله تعالى أعلم .


 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 237 ما يجوز قَتْلُه للمُحْرِم وفي الحرم

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 237
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ , يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ : الْغُرَابُ , وَالْحِدَأَةُ , وَالْعَقْرَبُ , وَالْفَأْرَةُ , وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ .
وَلِمُسْلِمٍ : بِقَتْل خَمْس فَوَاسِق فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ .
الحِدَأَةُ : بكسر الحاء وفتح الدالِ مَهْموز .

فيه مسائل :


1=
لَمّا ذَكَر حُرمة مكة ، وانه لا يُسفك فيها دَم ، ولا يُقطع فيها شجر ، ولا يُنفّر صيد الْحَرَم ، عَقَد هذا الباب ، وهو باب ما يجوز قَتْله ، وهو مُستثنى مما تقدّم من التحريم ، سواء كان ذلك في الْحَرَم ، أو كان في حقّ الْمُحْرِم .

2=
في رواية للبخاري : خمس فواسق يُقتلن في الحرم : الفأرة والعقرب والْحُدَيّا والغراب والكلب العقور .
وفي رواية له : خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ ...
وفي رواية لمسلم : خمس فواسق يُقتلن في الحلّ والحرم : الحية والغراب الأبقع والفارة والكلب العقور والحديا
وفي رواية له من طريق الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قال : سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُول : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَرْبَعٌ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ .
قَالَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مِقْسَمٍ : فَقُلْتُ لِلْقَاسِمِ : أَفَرَأَيْتَ الْحَيَّةَ ؟ قَالَ : تُقْتَلُ بِصُغْرٍ لَهَا .
للبخاري :

3=
الرواية التي ذَكَرها المصنف مُركبة من روايتين عند مسلم :
الأولى : من طريق عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري بهذا الإسناد قالت : أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقَتْل خمس فواسق في الْحِلّ والْحَرَم .
والثانية : من طريق يونس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خمس من الدواب كلها فواسق تُقتل في الْحَرَم : الغراب والحدأة والكلب العقور والعقرب والفارة .

4=
قوله : " خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ "
لا يقتضي الحصر في هذه الخمس ، ففي صحيح مسلم من طريق زيد بن جبير قال : سأل رجلٌ ابنَ عمر ما يَقْتُل الرجل من الدّواب وهو مُحْرِم ؟ قال : حدّثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمُر بِقَتْل الكَلْب العَقُور والفَأرَة والعَقْرَب والْحُدَيّا والغُرَاب والْحَيَّة . قال : وفي الصلاة أيضا . فَذَكَر سِتّا . إلاّ أن يُقال : الحية في معنى العقرب لِجَامع السُّمِّـيَّة بينهما .

5=
ألْحَق بها العلماء ما اشترك معها في العِلّة ؛ لأن الْحُكم يدور مع عِلّته وُجودا وعَدَمًا .
والقاعدة عند أهل العِلْم : الْمُؤذي طَبعا يُقتَل شَرْعًا .

ولذلك قال الإمام مالك : وكل شيء لا يَعْدو من السباع ، مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها ، فلا يقتله الْمُحْرِم ، وإن قتله وَدَاه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن في قتل السباع ، وإنما أذن في قتل الكلب العقور . قال : وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها الْمُحْرِم ، فإن قتلها فَدَاها ، وهي مثل فراخ الغربان أيذهب يصيدها ؟!
قال الخطابي : وإنما أباح قتلهن دَفعا لعاديتهن ؛ لأنهن كلهن مِن بَين عادٍ قتّال ، أو مؤذ ضرار .
وقال ابن بطال : فإذا أباح عليه السلام قتل الكلب العقور لخوف عقره وضرره ، فالسبع الذي يفترس ويقتل أعظم وأولى ؛ لأنه لا يجوز أن يمنع من قتله مع إباحة قتل ما هو دونه . اهـ .

قال ابن المنذر : أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على أن السبع إذا بَدأ الْمُحْرِم فقتله لا شيء عليه . قال ابن قدامة : ويُحتمل أنه أراد ما كان طبعة الأذى والعدوان وإن لم يوجد منه أذى في الحال .

وقال الْخِرقي : وله أن يقتل الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور ، وكل ما عدا عليه أو آذاه ، ولا فِداء عليه .
قال ابن قدامة : هذا قول أكثر أهل العلم .

وقال أيضا : يُباح لك ما فيه أذى للناس في أنفسهم أو في أموالهم مثل سباع البهائم كلها المحرَّم أكلها ، وجوارح الطير كالبازي والعقاب والصقر والشاهين ونحوها ، والحشرات المؤذية والزنبور والبقّ والبعوض والبراغيث والذباب ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أصحاب الرأي : يقتل ما جاء في الخبر والذئب قياسًا عليه .
واختار ابن قدامة " أن الخبر نَصّ من كل جنس على صورة من أدناه تنبيهًا على ما هو أعلى منها ودلالة على ما كان في معناها ، فَنَصّه على الحدأة والغراب تنبيه على البازي ونحوه ، وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات ، وعلى العقرب تنبيه على الْحَيَّات ، وعلى الكلب العقور َتنبيه على السِّباع التي هي أعلى منه ، ولأن ما لا يُضمن بمثله ولا بِقيمته لا يُضمن كالحشرات . اهـ .

وقال النووي : وَاتَّفَقَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز قَتْلهنَّ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم وَالإِحْرَام ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوز لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُل مَا فِي مَعْنَاهُنَّ . اهـ .

6=
قوله : " كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ " مِن الفِسْق اللغوي ، وهو الخروج .
قال الخطابي : أصل الفسق الخروج من الشيء ، ومنه قوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي : خَرَج . وسُمِّي الرجل فاسقا لانْسِلاخِه من الخير . ورَجّح أن الْمُراد بالفسق هو الخروج من الحرمة .
وقال القاضي عياض : أصل الفسق الخروج عن الشيء ، ومنه سُمِّي هؤلاء فواسق لخروجهم عن الانتفاع بهم ، أو السلامة منهم إلى الإضرار والأذى .
وقال ابن بطال : سَمّاهن فواسق لفسقهن وخروجهن لِمَا عليه سائر الحيوان ، لِمَا فيهن من الضرر . اهـ .

7=
قوله : " يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ " ، تقدّم أن في بعض روايات الصحيح : " في الْحِلّ والْحَرَم " ، والتنصيص على الْحَرَم يدل بِدلالة الأوْلَى أن يُقتَلْن في الْحِلّ ؛ لأن الْحَرَم أعظم حُرمة ، فإذا جاز قتلها في الْحَرَم فقَتْلُها في الْحِلّ أوْلى .

8=
لم يأت في حديث عائشة على أنه يَقتلهن الْمُحْرِم ، وإنما جاء فيه النصّ على أنهن يُقتَلْن في الْحَرَم ، وقد جاء صَريحا في حديث ابن عمر ، فقد رواه مسلم من طريق سالم عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خمس لا جناح على مَن قَتلهن في الحرم والإحرام : الفارة والعقرب والغراب والحدأة والكلب العقور .
وفي رواية له : خمس مَن قتلهن وهو حَرام فلا جناح عليه ...
فقوله : وهو حرام : يعني وهو مُحرِم . ففي رواية للبخاري : خمس من الدواب مَن قَتلهن وهو مُحْرِم فلا جناح عليه ...

قوله : " الْغُرَابُ " في رواية لمسلم : والغراب الأبقع .
قال القاضي عياض : وقوله : " الغراب الأبقع " كل ما فيه بياض وسواد فهو أبقع ، وأصله لون يخالف بعضه بعضا . اهـ .
وفي الْمُحْكَم : وغراب أبْقَع : في صَدره بياض ... وغراب أبقع : يُخالط سَواده بياض ، وهو أخبثها ، وبه يُضْرب المثل لكل خبيث .
قال ابن قدامة : والمراد بالغراب : الأبقع وغراب البين .
وقال ابن قدامة عن هذه الرواية : وهذا يُقيد المطلق في الحديث الآخر ، ولا يمكن حَمْله على العموم ، بدليل أن المباح من الغربان لا يَحِلّ قَتْله .
وقال العيني : الروايات الْمُطْلَقة محمولة على هذه الرواية الْمُقَيَّدة التي رواها مسلم ، وذلك لأن الغراب إنما أُبيح قتله لكونه يبتدئ بالأذى ، ولا يبتدئ بالأذى إلا الغراب الأبقع ، وأما الغراب غير الأبقع فلا يبتدئ بالأذى ، فلا يباح قتله ، كالعقعقق وغراب الزرع ، ويقال له الزاغ ، وأفتوا بجواز أكله ، فَبَقِي ما عداه من الغربان مُلْتَحِقًا بالأبقع . اهـ .

وفي معنى " الأبقع " الغراب الأسود الكبير .
وفي " المجموع وتكملته " : ويَحْرم الغُراب الأسود الكبير ؛ لأنه مُستخبث يأكل الجيف ، فهو كالأبقع .

وفي رواية لأحمد وأبي داود وابن ماجه : " ويَرمي الغراب ولا يَقتله " . قال الألباني : وقوله : " يرمي الغراب و لا يقتله " مُنْكَر . اهـ . والحديث المْنَكر من أقسام الحديث الضعيف .

9=
الحِدَأَةُ : - كما قال المصنف رحمه الله - : بكسر الحاء وفتح الدالِ مَهْموز .
وتقدّم في بعض الروايات تسميتها : الْحُديّا . وفي حديث آخر جاء تسميتها بـ " الْحُدَيَّاة "

وهي تنقضّ من السماء وتلتقط الطيور والأشياء الحمراء تحسبها لَحْمًا !
وفي حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ فَأَعْتَقُوهَا ، فَكَانَتْ مَعَهُمْ ، قَالَتْ : فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ ، قَالَتْ : فَوَضَعَتْهُ أَوْ وَقَعَ مِنْهَا ، فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاة وَهُوَ مُلْقًى فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطِفَتْهُ ! رواه البخاري .

10= قوله : " وَالْعَقْرَبُ " تقدّم أن في بعض الروايات جاء ذِكر الحيات ، وتقدّم قول ابن قدامة : وعلى العقرب تنبيه على الْحَيَّات ..

11=
قوله : " وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ "
قال الإمام مالك : الكلب العقور : ما عَقَر الناس وعدا عليهم ، مثل الأسد والنمر والفهد والذئب .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : تَقْتُل كل ما عَدا عليك وعقرك وآذاك ، ولا فدية عليك .

وتقدّم أن العلماء ألْحَقُوا به كل ما في حُكمه ومعناه .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالْكَلْبِ الْعَقُور ؛ فَقِيلَ : هُوَ الْكَلْب الْمَعْرُوف . وَقِيلَ : كُلّ مَا يَفْتَرِس ؛ لأَنَّ كُلّ مُفْتَرِس مِنْ السِّبَاع يُسَمَّى كَلْبًا عَقُورًا فِي اللُّغَة . قاله النووي .

والله أعلم .


 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 238 في دخول مكة من غير إحرام

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 238
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ , وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .

فيه مسائل :


1=
هذا الحديث حقّه التقديم في الباب الذي قبله ، أو ما قبله ، إلاّ أن يكون المصنف رحمه الله قصَد ما جاء في أوّل الحديث من دُخول مكة عام الفتح .

2=
تبويب المصنف رحمه يُقصد به كيفية دُخول مكة ، وهل يجوز دخولها من غير إحرام ؟

3= دخول النبي صلى الله عليه وسلم لمكة وعلى رأسه المغْفَر ، هذا يعني أنه دَخَل حلالاً من غير إحرام .

4=
جواز دُخول مكة من غير إحرام ، لأن العبرة بِعموم النص لا بخصوص السبب .

5=
جواز قَتْل المفسد والجاني . وتقدّم ما في المسألة من كلام في حديث أبي شريح رضي الله عنه .
قال ابن عبد البر : كان هذا كله من رسول الله بمكة في الساعة التي حُلّت له من ذلك النهار ، ثم هي حرام إلى يوم القيامة . اهـ .

6=
سبب قَتْل ابن خَطَل ؟
كان قد أسلَم وهاجر واستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كَفَر ولَحِق بِمكة .
وروى أنس أن ابن خطل كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشِّعْر . وضعّف ذلك ابن عبد البر ؛ فقال : ولو كانت العلة في قتله ... ما ترك منهم من كان يَسبه ، وما أظن أحدا منهم امتنع في حين كفره ومحاربته له مِن سَـبِّـه .
وذَكَر ابن عبد البر " أن ابن خطل كان قد قَتل رجلا من الأنصار مسلما ثم ارتد كذلك . ذكر أهل السير وهذا يُبيح دَمه عند الجميع " .
قال : أما قتل عبد الله بن خطل فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان عَهد فيه أن يَقتل وإن وُجد مُتعلقا بأستار الكعبة ؛ لأنه ارتدّ بعد إسلامه ، وكَفر بعد إيمانه ، وبعد قراءته القرآن ، وقتل النفس التي حرّم الله ، ثم لحق بدار الكفر بمكة ، واتخذ قَينتين يُغنيانه بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم . اهـ .
فلهذه الأسباب أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بِقتله ولو كان مُتعلِّقا بأستار الكعبة .
ونَقل عن ابن إسحاق قوله : وإنما أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ؛ لأنه بعثه مُصَّدِّقا ، وكان مسلما ، وبعث معه رجلا من الأنصار ، وكان معه مولى له يخدمه ، وكان مسلما ، فَنَزَل ابن خطل مَنْزِلاً وأمر المولى أن يذبح له تيسًا ، ويصنع له طعاما ، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا ، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركا . اهـ .

7=
قُتِل ابن خَطَل وقُتِل غيره ، فقد روى النسائي من حديث سَعْدٍ بن أبِي وقّاص رضي الله عنه ، قَال : لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ ، إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ ، وَامْرَأَتَيْنِ ، وَقَالَ : اقْتُلُوهُمْ ، وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ خَطَلٍ ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى السَّرْحِ .
فَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ خَطَلٍ ، فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا ، وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ ، فَقَتَلَهُ ، وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ ، فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِى السُّوقِ ، فَقَتَلُوهُ . وَأَمَّا عِكْرِمَةُ ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ ، فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ . فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ : أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لاَ تُغْنِى عَنْكُمْ شَيْئًا هَا هُنَا . فَقَالَ عِكْرِمَةُ : واللهِ لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِى مِنَ الْبَحْرِ إِلاَّ الإِخْلاَصُ لاَ يُنَجِّينِى فِى الْبَرِّ غَيْرُهُ ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَىَّ عَهْدًا ، إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِى مِمَّا أَنَا فِيهِ ، أَنْ آتِىَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَضَعَ يَدِى فِى يَدِهِ ، فَلأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا ، فَجَاءَ فَأَسْلَمَ ، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى السَّرْحِ ، فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ ، جَاءَ بِهِ ، حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، بَايِعْ عَبْدَ اللهِ . قَالَ : فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلاَثًا ، كُلَّ ذَلِكَ يَأْبَى ، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ، يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِى كَفَفْتُ يَدِى عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلَه ؟ فَقَالُوا : وَمَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَا فِى نَفْسِكَ ، هَلاَّ أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ . قَالَ : إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُنٍ .

8=
فإن قيل : في حديث أنس – حديث الباب – ذَكَر ابن خطل ، وفي حديث سَعْدٍ هذا ذَكَر أربعة رجال وَامْرَأَتَيْن . فكيف يُجمع بينهما ؟
يُقال : كُلّ حدّث بِما سَمِع ، فلعل أنسًا رضي الله عنه سمِع الأمر بِقتل ابن خطل ، وسعد سمع الأمر بِقتل الأربعة المرأتين .

9=
اسْتَدَلّ به من يرى حتمية قَتْل من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم .
ومنع منه ابن عبد البر ؛ لأن القياس لا يصح . حيث قال : وهذا لا يجوز عند أحدٍ علمته من العلماء أن يَقيس الذمي على الحربي ؛ لأن ابن خطل في دار حرب كان ولا ذِمّة له ، وقد حكم الله عز وجل في الحربي إذا قَدَر عليه بتخير الإمام فيه ، إن شاء قتله ، وإن شاء مَنّ عليه ، وإن شاء فدى به ، فلهذا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خطل وغيره ممن أراد منهم قَتله . اهـ .
قال ابن عبد البر : وقد اختلف الفقهاء في الذي يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ذَكَر الخلاف ، فليُراجَع في " التمهيد " . وفي " اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية بسْط للمسألة .

10=
الْمِغْفَر : ما يُلبس على الرأس لوقايته في الحرب . وتُسمّى " الْخُوذة " .
قال أبو عُبيد : سمي المغْفَر لأنه يَغفر الرأس - أي : يَلبسه ويُغطيه .
وقال ابن الأثير : هو ما يَلْبَسُه الدَّارِعُ على رأسه من الزَّرَدِ ونَحوه .

11=
وفي حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ . رواه مسلم . وفي رواية له : وعليه عمامة سوداء بغير إحرام . وَفِي رِوَايَة : خَطَبَ النَّاس وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء .
فكيف الْجَمْع بينهما ؟
قَالَ الْقَاضِي : وَجْه الْجَمْع بَيْنهمَا : أَنَّ أَوَّل دُخُوله كَانَ عَلَى رَأْسه الْمِغْفَر ، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كَانَ عَلَى رَأْسه الْعِمَامَة بَعْد إِزَالَة الْمِغْفَر ، بِدَلِيلِ قَوْله : " خَطَبَ النَّاس وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء " ؛ لأَنَّ الْخُطْبَة إِنَّمَا كَانَتْ عِنْد بَاب الْكَعْبَة بَعْد تَمَام فَتْح مَكَّة . ذَكَره النووي .
وقال ابن عبد البر : قد يُمكن أن يكون على رأسه عمامة سوداء وعليها المغفَر ، فلا يتعارض الحديثان . اهـ .
والقول الأول أقوى ، فقد جاء في حديث أنس : " وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، فَلَمَّا نَزَعَهُ ..." ، فهذا يدلّ على أنه لبس المغفر أولاً ثم نَزَعه .

12= جواز التمسّك بأستار الكعبة دون التمسّح بها ، وفَرْق بين الأمرين :

أما التمسّك بأستار الكعبة ، فهو كَحَال المستجير بِمن يخافه ، فيُمسك بأطراف أثوابه ، وكان التعلّق معروفاً ، وهو يدلّ على اللجوء والاستعاذة بالله .
ويدلّ عليه ما في هذا لحديث ؛ لأنه لو كان يُمنع من التمسّك بأستار الكعبة ، لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .

وأما التمسّح بها طلبا للبركة ، فلا يصح ؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه التمسّح به ، والـتَّبَرّك دِيانة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يُدعى ويُذكر عنده ، فإنه سبحانه يُستجار به هناك ، وقد يُستمسك بأستار الكعبة . اهـ .

13=
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي الْحَدِيث الآخَر :" مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِد فَهُوَ آمِن " ، فَكَيْف قَتَلَهُ وَهُوَ مُتَعَلِّق بِالأَسْتَارِ ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الأَمَان ، بَلْ اِسْتَثْنَاهُ هُوَ وَابْن أَبِي سَرَح وَالْقَيْنَتَيْنِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ، وَإِنْ وُجِدَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة ، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيث أُخَر ، وَقِيلَ : لأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ ، بَلْ قَاتَلَ بَعْد ذَلِكَ . قاله النووي .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 239 في دخول مكة

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 239
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ , مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ , وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى .

فيه مسائل :

1=
قوله : " دَخَلَ مَكَّةَ "
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم لَمّا جاء إلى مكة دخلها من أعلاها ، وخرج من أسفلها . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية للبخاري : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ ، وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ .
قال ابن عبد البر : هكذا يروون فيهما ، الأولى بالفتحة ، والثانية بالضمة . اهـ .

وكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ ،ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طِوًى ، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ . رواه البخاري ومسلم .

وحديث ابن عمر – هذا – أوْلَى أن يكون حديث الباب لِعلاقته بالحج أكثر من حديث عائشة ، إذ هو في دخول النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، كما جاء مُصرَّحًا به .

2= كداء
قال ابن بطال : وإذا فتحت الكاف من كَدَاء مُددت ، وإذا ضممتها قَصَرْت . وقد قيل : كدى بالضم هو أعلى مكة . وقيل : بل كَداء بفتح الكاف أعلى مكة ، وهو أصح .
قال الباجي : الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ هِيَ كَدَاءٌ بِفَتْحِ الْكَافِ ، وَاَلَّتِي بِأَسْفَلِ مَكَّةَ كُدًى بِضَمِّ الْكَافِ .
وقال ابن الأثير : وكداء بالفتح والمد الثنية العليا بمكة مما يلي المقابر ، وهو المعلا ، وكدى بالضم والقصر الثنية السفلى مما يلي باب العمرة . اهـ .
وذَكَر النووي أن كَداء هي الثنية التي بأعلى مكة ، وكدى وهي التي بأسفل مكة .
وقال : وَأَمَّا " كُدَيّ " بِضَمِّ الْكَاف وَتَشْدِيد الْيَاء فَهُوَ فِي طَرِيق الْخَارِج إِلَى الْيَمَن ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فِي شَيْء ، هَذَا قَوْل الْجُمْهُور .
وقال ابن رجب : وذو طوى : يُروى بضم الطاء وكسرها وفتحها ، وهو وادٍ معروف بمكة بين الثنيتين ، وتسمى أحداهما : ثنية المدنيين ، تشرف على مقبرة مكة ، وثنية تهبط على جبل يسمى : الحصحاص ، بحاء مهملة وصادين مهملين . اهـ .
وقال الزرقاني : كَداء بفتح الكاف والدال المهملة ممدود منوّن . وقيل : لا يُصرف على إدارة البقعة للعلمية والتأنيث

3=
اخْتُلِف في فعله صلى الله عليه وسلم ، هل هو مقصود ؟ وهل هو سُـنّـة ؟
قَالَت عَائِشَة : نُزُولُ الأَبْطَحِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ ، إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ إِذَا خَرَجَ . رواه مسلم .
وقَالَ أَبُو رَافِعٍ : لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَنْزِلَ الأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى ، وَلَكِنِّي جِئْتُ فَضَرَبْتُ فِيهِ قُبَّتَهُ ، فَجَاءَ فَنَزَلَ . رواه مسلم .
وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا مِنْ كَدَاءٍ وَكُدًا ، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ ، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ . رواه البخاري .

ويُفهَم من تبويب البخاري أنه يَرى سُنّيّته ، فقد عقد بابًا قال فيه : بَابٌ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ ؟ وقبله : بَابٌ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ ؟
قال المهلب : أما دخوله عليه السلام مرّة من أعلى مكة ومرّة من أسفلها ، فإنما فَعله ليُعَلِّم الناس السَّعة في ذلك ، وأن ما يمكن لهم منه فمجزئ عنهم ، والله أعلم .
قال ابن بطال : ألا ترى أن عروة كان يفعل ذلك ؟ . اهـ .

4=
هل يتقصّد الحاج خاصة الْمَشَقَّـة طلبا لِزيادة الأجر ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : " الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ " لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ عَلَى الإِطْلاق ... وَلَوْ قِيلَ : " الأَجْرُ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَفَائِدَتِهِ" ، لَكَانَ صَحِيحًا .
وقال : قَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْفَاضِلُ مُشِقًّا ، فَفَضْلُهُ لِمَعْنَى غَيْرِ مَشَقَّتِهِ ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَشَقَّةِ يَزِيدُ ثَوَابَهُ وَأَجْرَهُ ، فَيَزْدَادُ الثَّوَابُ بِالْمَشَقَّةِ ، كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ بُعْدُهُ عَنْ الْبَيْتِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَكْثَرَ : يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ مِنْ الْقَرِيبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي الْعُمْرَةِ : " أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك " ؛ لأَنَّ الأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ فِي بُعْدِ الْمَسَافَةِ ، وَبِالْبُعْدِ يَكْثُرُ النَّصَبُ ، فَيَكْثُرُ الأَجْرُ ، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ ... فَكَثِيرًا مَا يَكْثُرُ الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ ، لا لأَنَّ التَّعَبَ وَالْمَشَقَّةَ مَقْصُودٌ مِنْ الْعَمَلِ ؛ وَلَكِنْ لأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ . اهـ .

5=
" الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ " :
قال القاضي عياض : الثنية هي الطريق في الجبل .
قال النووي : وَأَصْل الثَّنِيَّة : الطَّرِيق بَيْن جَبَلَيْنِ .
وقال النووي في شرح حديث ابن عمر : قَوْله : " الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ " هِيَ بِالْمَدِّ ، وَيُقَال لَهَا الْبَطْحَاء وَالأَبْطَح ، وَهِيَ بِجَنْبِ الْمُحَصَّب ، وَهَذِهِ الثَّنِيَّة يَنْحَدِر مِنْهَا إِلَى مَقَابِر مَكَّة . اهـ .

6=
" وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى " تقدّم قول ابن الأثير : الثَّنيَّة السُّفلى ما يَلِي باب العُمْرة .
وفِعله صلى الله عليه وسلم ذلك قيل : إنه وقع اتِّفاقا . وقيل : لأنه أسمح في الخروج ، كما سبق .

و " قِيلَ : إِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمُخَالَفَة فِي طَرِيقه دَاخِلا وَخَارِجًا تَفَاؤُلا بِتَغَيُّرِ الْحَال إِلَى أَكْمَل مِنْهُ ، كَمَا فَعَلَ فِي الْعِيد ، وَلِيَشْهَد لَهُ الطَّرِيقَانِ ، وَلِيَتَبَرَّك بِهِ أَهْلهمَا . قاله النووي .
وقال العيني : وقيل : ليتبرك به كل من في طريقته ويدعو لهم . وقيل : ليغيظ المنافقين بظهور الدين وعزّ الإسلام . وقيل : ليري السعة في ذلك . وقيل : فَعَله تفاؤلا بتغير الأحوال إلى أكمل منه ، كما فعل في العيد ، وليشهد له الطريقان . اهـ .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 240 في الصلاة في الكعبة

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 240
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ , وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ , فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ ، فَلَمَّا فَتَحُوا : كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ ، فَلَقِيتُ بِلالاً , فَسَأَلَتْهُ : هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : نَعَمْ , بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ .

فيه مسائل :


1= المقصود بـ " البيت " هو الكعبة ، وسُمِّيَت بيت الله تشريفًا .

2=
عثمان بن طلحة رضي الله عنه يُـعرف بـ " الْحَجَبِيّ " ؛ لأن مفتاح الكعبة كان بِيده ، وأقرّه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه ، ويُعرفون بـ " الشَّيبِي " نسبة إلى ابنه ، وهو : شيبة بن عثمان بن طلحة .
وفي " لُب اللباب " للسيوطي : الشيبي : بالفتح والسكون إلى شيبة بن عثمان بن طلحة سادن الكعبة . اهـ .
ورجّح ابن كثير أن قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) نَزَل في شأن طلحة بن عثمان رضي الله عنه .
قال القرطبي في تفسيره : سورة النساء وهي مدنية إلاَّ آية واحدة نَزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي ، وهي قوله : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) .

3=
جواز دخول الكعبة ، وصلاة النافلة فيها دون الفريضة ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى النافلة داخل الكعبة ولم يُصلّ الفريضة .
ولأن استقبال الكعبة فَرْض في الفريضة ، فلم يَجُز استقبال بعضها واستدبار بعضها الآخر !
وأما في النافلة فلا يُشترط استقبال القبلة كما هو الحال في الفريضة . ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلّي النافلة في السفر على راحلته حيث توجّهت به ، وتقدّم هذا في شرح " كتاب الصلاة " ، باب استقبال القبلة .

4=
عدم كراهية استدبار الكعبة ، وذلك لأن الداخل فيها لا بدّ أن يستدبر أحد جهاتها .

5= قوله : " أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ " ، يعني : أوّل من دخل بعد فتح الباب .

6= لماذا رُفِع باب الكعبة ؟
ولذلك هَمّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل للكعبة بابَيْن ؛ باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه ، وأن يُلصِق الباب بالأرض .
قال عليه الصلاة والسلام : يَا عَائِشَةُ ، لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ ، لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ : بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا ، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيم . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لهما : قَال : إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قالتْ عائشة رضي الله عنها : قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا ؟ قَالَ : فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا ! وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا ! وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ ، أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ .
قال العيني : الْجَدْر : بفتح الجيم ، يعني : الْحِجْر بكسر الحاء ، ويُقال له : الحطيم أيضا .

7=
الْحِجْر من الكعبة ، فمن صلّى فيه كان كمن صلّى داخل الكعبة .
قالت عائشة رضي الله عنها : كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيدي فأدخلني الْحِجْر ، فقال : صلي في الحجر إن أردت دخول البيت ، فإنما هو قطعة من البيت ، ولكن قومك استقصروه حين بنوا الكعبة فأخْرَجُوه من البيت . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي . وصححه الألباني والأرنؤوط .
وفيه : جواز دخول المرأة للكعبة .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لو وَليت من البيت شيئا لأدخلت الحجر فيه كله . رواه عبد الرزاق .
قال ابن بطال : السنة إذا أراد النساء دخول البيت أن يخرج الرجال عنه .

8=
سُؤال من هو أعلم دون غضاضة ، فابن عمر رضي الله عنهما بادر بِسؤال بلال رضي الله عنه ؛ لأنه أعلم بِصلاة النبي صلى الله عليه وسلم .
وتقديم بلال على غيره في السؤال ، إما لكونه أوّل من لقيه ، أو لكونه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمؤذِّن أعرف بِحال الإمام !

9= قوله : " هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ " يعني : هل صلّى في البيت ، وهو الكعبة .

10= قوله : " قَالَ : نَعَمْ , بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ " ، هذا زيادة في الجواب لإفادة السائل ، وهي مشروعة ، جاءت بها السنة النبوية .

11= قوله : " بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ "
والمراد باليمانيين : ما يلي جهة الركن اليماني . ويدل عليه - أيضا - : حديث مجاهد ، عن ابن عمر ، أنه سأل بلالا : أصلى النبي في الكعبة ؟ قال : نعم ، بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخل . قاله ابن رجب رحمه الله .


 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 241 في تقبيل الحجر الأسود

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 241

عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ , فَقَبَّلَهُ ، وَقَالَ : إنِّي لأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ , لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ , وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ .

فيه مسائل :


1= لماذا سُمِّي الحجر بالحجر الأسود ؟
لأنه أسود اللون ، وفي الحديث : نَزَل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن ، فَسَوّدته خطايا بني آدم . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، وصححه الألباني .

2= مشروعية تقبيل الحجر الأسود ، ومسّه لمن لا يستطع تقبيله ولو بواسطة ، أو الإشارة إليه لِمن بَعُد عنه .
ففي الصحيحين من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ . وسيأتي شرحه – إن شاء الله – .
والمقصود بالرّكن هنا : الحجر الأسود .
قال النووي : وَفِي هَذَا الْحَدِيث : جَوَاز الطَّوَاف رَاكِبًا ، وَاسْتِحْبَاب اِسْتِلام الْحَجَر ، وَأَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنْ اِسْتِلامه بِيَدِهِ اِسْتَلَمَهُ بِعُودٍ . اهـ .

3= استلام الحجر وتقبيله من السُّـنَّـة .
قال سويد بن غفلة : رأيت عمر قَـبَّل الْحَجَر والْتَزَمه ، وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا . رواه البخاري .

4= لا يُشرع للمرأة استلام الحجر وتقبيله إلاّ إذا لم يكن فيه مُزاحمة للرجال .
قال ابن عبد البر : الاستلام للرجال دون النساء ، عن عائشة وعطاء وغيرهما وعليه جماعة الفقهاء . اهـ .

5= نفي النفع والضرّ عن الجمادات ، وإثبات النفع والضرّ لله عزَّ وَجَلّ .

6= عدم تعلّق الصحابة رضي الله عنهم بآثار النبي صلى الله عليه وسلم كَتَعلّق الْمُتأخِّرين ، ممن انحرف عن نهجهم ، وخالف سُنّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم .
روى ابن أبي شيبة من طريق أبي عمران الجوني عن أنس أنهم لَمَّا فتحوا تستر قال : كانوا يستظهرون ويستمطرون به ، فكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب عمر إنّ هذا نبي من الأنبياء ، والنار لا تأكل الأنبياء ، والأرض لا تأكل الأنبياء ، فكتب : أن انظر أنت وأصحابك - يعني أصحاب أبي موسى - فادفنوه في مكان لا يعلمه أحد غيركما . قال : فذهبت أنا وأبو موسى فَدَفَنَّاه .
قال ابن كثير في تفسيره : وقد رُوينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لَمَّا وَجَد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمَر أن يُخْفَى عن الناس ، وأن تُدْفَن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها .

وروى ابن أبي شيبة من طريق نافع قال : بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي بُويع تحتها . قال : فأمر بها فَقُطِعَتْ .
وهذه الشجرة التي بُويع تحتها بيعة الرضوان في غزوة الحديبية .
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي : أرْسَل عمر فَطَمَس موضع الشجرة التي بايَع تحتها أصحاب الشجرة .

وروى عبد الرزاق في " باب ما يقرأ في الصبح في السفر " من طريق المعرور بن سويد قال : كنت مع عمر بين مكة والمدينة فصلى بنا الفجر فقرأ (ألم تر كيف فعل ربك) و (لإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، ثم رأى أقواما يَنْزِلون فيُصَلُّون في مسجد ، فسأل عنهم ، فقالوا : مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا ، من مَرّ بشيء من المساجد فحضرت الصلاة فليُصَلّ ، وإلا فَلْيَمْضِ .
والآثار في هذا الباب كثيرة ، وهي دالّة على عدم تعلّق الصحابة رضي الله عنهم بالآثار ، وعدم الغلو فيها ، وعدم تعظيم ما لم يُعَظِّمه الله .

7= قوة فقه الصحابة رضي الله عنهم ، وذلك لأسباب منها :
مُصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم .
مُعايشة الـتَّنْزِيل .
عدم تأثّرهم بالعُجمة والفلسفة !

8= الْتِزَام الصحابة رضي الله عنهم السُّـنَّـة ، وعدم تقديم رأي أو قول أحدٍ عليها .
كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : اتَّبِعوا ولا تَبْتَدِعوا ؛ فقد كُفِيتم . رواه الدارمي .
وقال رضي الله عنه : إنا نَقْتَدِي ولا نَبْتَدِي ، ونَتَّبِع ولا نبتدع ، ولن نَضِلّ ما تَمَسَّكْنا بِالأثر . رواه اللالكائي .
9= الاستسلام والانقياد ، سواء عُرِفت الحكمة أم لم تُعرَف .
ودلّ على هذا قول عمر رضي الله عنه : وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ .

10= لا يستلزِم ذلك التهوين من السنة ، ولا من شأن شعائر الله ، ولا يجوز الاستخفاف بشعائر الله تحت تأثير بعض أفعال وتصرّفات الْجَهَلَة . كقول بعض الناس : هذه حَصَاة ! هذا حجر ! هذا جماد .. على سبيل التهوين من شأنه ، وإنما يُقال كما قال عمر رضي الله عنه .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 242 في أصل الرَّمَل

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 242

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ , وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ , وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا : إلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ .

فيه مسائل :


1= قوله : " لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ "
في رواية لمسلم : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه مكة .
وفي رواية للبخاري : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِهِ الَّذِي اسْتَأْمَنَ . أي : أن هذا كان في سنة 7 هـ ، وذلك في عُمرة القضاء .
قال العيني : قوله : " لِعَامِه الذي استأمن " وهو عام الحديبية . اهـ .
والمقصود العام الذي يليه ؛ لأنه صُدّ عن البيت عام الحديبية .

قوله : " ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ "
في رواية لمسلم : قال المشركون : إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ، ولَقُوا منها شِدّة ، فجلسوا مما يلي الْحِجْر . وأمرهم النبي صلى الله علي وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا ما بين الرُّكنين ، لِيَرَى المشركون جَلَدَهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتم ؟ هؤلاء أجْلَد من كذا وكذا !

2= وهَنَتْهم : أي : أضعفتهم .
قال الفراء وغيره : يُقال : وَهنته الحمى وغيرها وأوهنته ، لُغَتان . نقله النووي .

3= قوله : " أَنْ يَرْمُلُوا " بضم الميم .
الرَّمَل : الإسراع في المشي .
قال العلماء : الرَّمَل : هو أسرع المشي مع تقارب الْخُطَا ، وهو الخبب . أفاده النووي .
قال : فالرَّمَل والخبب بمعنى واحد ، وهو إسراع المشي مع تَقارب الْخُطا ، ولا يثب وثبا ، والرَّمَل مُستحب في الطوفات الثلاث الأوَل من السبع ، ولا يُسَنّ ذلك إلاَّ في طواف العمرة ، وفي طواف واحد في الحج . اهـ
قال ابن حجر : بفتح الراء والميم ، هو الإسراع . وقال ابن دُريد : هو شبيه بالهرولة ، وأصله أن يُحَرِّك الماشي منكبيه في مَشيه . اهـ .
ومن لم يستطع الرَّمَل من أجل الزحام فلا يُشرع له تحريك منكبيه .
قال النووي : لو لم يمكنه الرَّمَل بقرب الكعبة للزحمة وأمكنه إذا تباعد عنها ، فالأَوْلى أن يتباعد ويَرْمل ؛ لأن فضيلة الرَّمل هيئة للعبادة في نفسها ، والقرب من الكعبة هيئة في موضع العبادة لا في نفسها ، فكان تقديم ما تَعلّق بنفسها أولى . اهـ .

4= قوله : " الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ " يعني : مِن طواف القُدُوم . وهي التي يُشرع فيه الرَّمَل .
قال النووي في شرح حديث ابن عمر – الآتي – : تصريح بأن الرَّمل أوّل ما يشرع في طواف العمرة ، أو في طواف القدوم في الحج .

5= قوله " وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ " لأنهم لا يَظهرون حينئذ للمشركين ، وتقدّم أن في رواية لمسلم : فجلسوا مما يلي الْحِجْر . يعني : المشركين .
وفي رواية للبخاري : وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلِ قُعَيْقِعَانَ .
وقُعيقعان جبل .
والْحِجْر يقع شمال الكعبة ، وهو جُزء منها ، وهو الحائط المستدير إلى جانب الكعبة من جهة الميزاب ، إلاّ أن الجالس في جهته لا يَرى من هو بين الركنين : الركن اليماني والحجر الأسود .

6= مشروعية إرهاب العدوّ وإخافته .
قال ابن حجر : ويُؤخَذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم ، ولا يُعَدّ ذلك من الرياء المذموم . اهـ .
وإظهار قوّة الأبدان مع قوّة الإيمان . ومثله مشية الخيلاء في الحرب .
قال الشوكاني : واختيال الرجل بنفسه عند القتال من الخيلاء الذي يُحبه الله ، لِمَا في ذلك من الترهيب لأعداء الله ، والتنشيط لأوليائه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي دجانة لَمّا رآه يختال عند القتال : إن هذه مشية يبغضها الله ورسوله إلاَّ في هذا الموطن .

7= شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته عامة ، وبأصحابه خاصة .
و "الإبقاء" بكسر الهمزة وبالموحدة والقاف الرفق والشفقة . قاله ابن حجر .

8= هل يُشرع الرَّمَل ، وقد صارت مكة دار إسلام ؟
قال بن عباس رضي الله عنهما : إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة لِـيُري المشركين قوته . رواه البخاري ومسلم .
قال عمر رضي الله عنه : مَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ ؟ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ . رواه البخاري .
فالْحُكم باقٍ وإن ارتفعت عِلّته .
ومثله الهرولة بين العَلَمين في السعي بين الصفا والمروة . وأصله من سعي أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام .

9= قول : " يثرب "
جواز حكاية أقوال الكفار ، ولا يقتضي موافقتهم عليها .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 243 في مشروعية الرَّمَل

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 243

عَنْ عبد الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاثَة " أشواط " .

فيه مسائل :


1= في رواية للبخاري : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ .
وفي رواية للبخاري : سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط ، ومشى أربعة في الحج والعمرة .
وبوّب عليه البخاري : باب الرَّمَل في الحج والعمرة .

وفي رواية للشيخين : كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ يَخُبُّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ وَيَمْشِي أَرْبَعَةً وَأَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
في رواية لمسلم : كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يَقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ، ثم يمشي أربعة ، ثم يصلي سجدتين ، ثم يطوف بين الصفا والمروة .
2= فروايات الصحيحين " يَخُبُّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ" ، ليس فيهما " ثلاثة أشواط " .

وعلى هذا إما أن تكون هذه رواية وقف عليها المصنف في واحدة من روايات الصحيح ، وإما أن يكون اعتمد على " الْجَمْع بين الصحيحين " للحُميدي ، أو يكون من باب تلفيق الروايات .
والأول أرجح ؛ فإن ابن بطال ذكرها في شرحه للبخاري . والخلاف يسير .

3= قوله : " إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ " قال النووي : الاستلام هو المسح باليَدِ عليه . اهـ .
وفيه تسمية الْحَجَر الأسود بـ " الرُّكْن " وبـ " الركن الأسود " ، ويُقال له مع الركن اليماني : الرُّكْنَين اليمانيين " من باب التغليب .

4= هل يُشرع الرَّمَل في جميع الأشواط الثلاثة الأولى ، أو يمشي بين الركنين ، كما في حديث ابن عباس السابق ؟
في حديث جابر في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فَرَمَل ثلاثا ومشى أربعا " رواه مسلم . وفي رواية له : رَمَل الثلاثة أطواف مِنْ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ .
وفي رواية لحديث ابن عمر هذا : رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ ثَلاثًا ، وَمَشَى أَرْبَعًا . رواه مسلم .
قال النووي : فيه بيان أن الرَّمَل يُشرع في جميع المطاف من الْحَجَر إلى الْحَجَر ، وأما حديث ابن عباس ... قال : " وأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يَرْمُلوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا ما بين الرَّكنين " ؛ فمنسوخ بالحديث الأول ؛ لأن حديث ابن عباس كان في عُمرة القضاء سنة سبع ، قبل فتح مكة ، وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم ، وإنما رَملوا إظهارا للقوة ، واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الرَّكُنين اليمانيين ؛ لأن المشركين كانوا جلوسا في الْحِجْر ، وكانوا لا يرونهم بين هذين الركنين ، ويرونهم فيما سوى ذلك ، فلما حج النبي صلى الله عليه و سلم حجة الوداع سَنة عَشر رَمَل مِن الْحَجَر إلى الْحَجَر ، فوجب الأخذ بهذا المتأخر . اهـ .

5= قال النووي : فيه إثبات طواف القدوم ، واستحباب الرمل فيه ، وأن الرَّمَل هو الخبب .

6= قال ابن عبد البر : واختلفوا في أهل مكة إذا حَجوا هل عليهم رَمَل أم لا ؟ فكان ابن عمر لا يرى عليهم رَملا إذا طافوا بالبيت . اهـ .
وقال ابن قدامة : وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَرْمُلْ . اهـ .

والسبب أنه ليس لهم طواف قُدُوم ؛ لأنهم مِن " حاضري المسجد الحرام " .

7= لا يُشرع الرَّمَل للنساء .
قال النووي : اتفق العلماء على أن الرَّمَل لا يُشرع للنساء ، كما لا يُشرع لهن شِدّة السعي بين الصفا والمروة . ولو ترك الرَّجُل الرَّمَل حيث شُرع له فهو تارك سُنة ، ولا شيء عليه . اهـ .

8= ولا يُشرع الرَّمَل في طواف الإفاضة .
قال الإمام النسائي : ترك الرَّمَل في طواف الإفاضة .
ثم روى بإسناده إلى بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يَرمل في السبع الذي أفاض فيه .
والحديث رواه أبو داود وابن ماجه . وصححه الألباني .


9= إطلاق كلّ من وصفي " الطواف والسعي " على الطواف بالبيت وعلى السعي بين الصفا والمروة ، فتقول : سعيت بين الصفا والمروة ، أو طُفت بينهما ، وبالأول جاءت السنة ، وبالثاني جاء القرآن ، في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) .

10= هل يُشرع الرَّمَل ، وقد صارت مكة دار إسلام ؟
نعم ، ففي حديث ابن عمر في وصف حجة الوداع : " ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ , وَمَشَى أَرْبَعَةً "
قال بن عباس رضي الله عنهما : إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة لِـيُري المشركين قوته . رواه البخاري ومسلم .
قال عمر رضي الله عنه : مَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ ؟ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ . رواه البخاري .
فالْحُكم باقٍ وإن ارتفعت عِلّته .
ومثله الهرولة بين العَلَمين في السعي بين الصفا والمروة . وأصله من سعي أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 244 في الطواف راكبا

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 244

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ , يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ .
المِحْجَنُ : عصا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ .

فيه مسائل :


1= قوله : " طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ " قد يُشعر بأنه حجّ غير هذه الحجة بعد الهجرة ، أما قبل الهجرة فقد حجّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدلّ عليه ما في الصحيحين من حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ : أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ ، فَقُلْتُ : هَذَا وَاللَّهِ مِنْ الْحُمْسِ ! فَمَا شَأْنُهُ هَا هُنَا ؟
قال عُرْوَةُ بن الزبير : وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ ، وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ . رواه البخاري .
وفي رواية لمسلم : وَكَانَتْ الْحُمْسُ لا يَخْرُجُونَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَبْلُغُونَ عَرَفَاتٍ .
وزاد مسلم في رواية له : قَالَ هِشَامٌ : فَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : الْحُمْسُ هُمْ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) .

2= سبب ركوبه عليه الصلاة والسلام أثناء الطواف :
لِيَرَاهُ النَّاسُ
ولِيَكون بارزا
ولِيسألوه
ولئلا يُضرب الناس عنه
ففي حديث : جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال : طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ ، وَلِيُشْرِفَ ، وَلِيَسْأَلُوهُ فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ . رواه مسلم .
وفي حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَلَى بَعِيرِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُضْرَبَ عَنْهُ النَّاسُ . رواه مسلم .
قال النووي : قولها " كراهية أن يُضرب عنه الناس " هكذا هو في معظم النسخ " يُضْرَب " بالباء ، وفي بعضها " يُصْرَف " بالصاد المهملة والفاء ، وكلاهما صحيح . اهـ .

3= هل يُشرع الطواف راكبا من غير عِلّة ؟
أما مِن عِلّة فيجوز ، ودليله حديث أُمِّ سَلَمَة رضي الله عنها قَالَتْ : شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ : طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَة . قَالَتْ : فَطُفْتُ . رواه البخاري ومسلم .
قال ابن المنذر : وأجمع أهل العلم على جواز طواف المريض على الدابة ومَحمولا . اهـ .
وأما من غير عِلّة فاتّفقوا على أن المشي أفضل ؛ لأن الْخُطى تُحتَسب . واخْتَلَفوا في إجزاء الطواف للراكِب مِن غير عِلّة . فلإمام مالك يرى أن عليه الإعادة ما لم يرجع إلى بلَدِه ، فإن رجع إلى بلده لَزِمه دم .
وقال الشافعي : من طاف راكبا من غير علة فلا إعادة عليه ولا فدية . ولا أحب لمن طاف ماشيا أن يركب ، فإن طاف راكبا أو حاملا من عذر أو غيره فلا دم عليه . اهـ .
والرواية الثَّالِثَةُ عند الحنابلة : يُجْزِئُهُ ، وَلا شَيْءَ عَلَيْهِ .
قال ابن قدامة :
وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ رَاكِبًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لا قَوْلَ لأَحَدٍ مَعَ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا ، فَكَيْفَمَا أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ ، وَلا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ . اهـ .

وهو بِخلاف السعي بين الصفا والمروة .
قال ابن قدامة : فَأَمَّا السَّعْيُ رَاكِبًا ، فَيُجْزِئُهُ لِعُذْرٍ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ الطَّوَافَ رَاكِبًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ . اهـ .

4= التفريق بين طواف الرجال والنساء .
قال ابن عبد البر : وَأَمَّا طَوَافُ النِّسَاءِ مِنْ وَرَاءِ الرِّجَالِ فَهُوَ لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ : " طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ " وَلَمْ يَكُنْ لأَجْلِ الْبَعِيرِ ، فَقَدْ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اتِّصَالِهِ بِالْبَيْتِ لَكِنْ مَنْ طَافَ غَيْرُهُ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى بَعِيرٍ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِنْ خَافَ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا أَنْ يَبْعُدَ قَلِيلا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْبَيْتِ زِحَامٌ ، وَأَمِنَ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا فَلْيَقْرُبْ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِهَا أَنْ تَطُوفَ وَرَاءَ الرِّجَالِ ؛ لأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْبَيْتِ ، فَكَانَ مِنْ سُنَّةِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُنَّ وَرَاءَ الرِّجَالِ كَالصَّلاةِ .

قال المهلّب : ينبغي أن تخرج النساء إلى حواشي الطرق ، وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث طواف النساء بالبيت من وراء الرجال لِعِلّة التزاحم والتناطح .
قال ابن بطال : قال غيره : طواف النساء من وراء الرجال هي السنة ؛ لأن الطواف صلاة ، ومِن سُنة النساء في الصلاة أن يَكُنّ خَلف الرجال ، فكذلك الطواف . اهـ .
قال النووي : سُنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف .

5= جواز إدخال الدابة للمسجد من أجل الحاجة .
قال البخاري : بَاب إِدْخَالِ الْبَعِيرِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ . ثم روى بإسناده حديث ابن عباس هذا .
ومِن العلماء من يَرى التفريق بين ما يُؤكَل لحمه ، وما لا يُؤكَل لحمه ، من أجل التفريق بين حُكم أرواثها وأبوالها .
قال ابن رجب : وأما ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات ، فيُكْرَه إدخاله المسجد بغير خلاف . اهـ .

6= سبق معنى الاستلام . فإن لم يستطع استلمه بواسطة ، كما في استلامه عليه الصلاة والسلام الحجر بالمحجن ، فإن لم يستطع أشار إليه إشارة ، كما في رواية لحديث ابن عباس : كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ . رواه البخاري .
فإن قيل : كيف يُجمَع بين هذه الرواية وبين قوله في حديث الباب " يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ " ؟
فالجواب : أنه إذا قَرُب من الحجر استلمه بالمحجن وهو على البعير ، وإن بَعُد عنه أشار إليه إشارة ، وجائز أن يكون هذا في بعض الطواف و، وذاك في بعضه .

7= هل يُقبِّل الْمِحْجَن إذا استلَم به الحجر الأسود ؟
نعم ، ففي حديث أَبَا الطُّفَيْلِ رضي الله عنه قال : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ . رواه مسلم .
قال النووي : فيه دليل على استحباب استلام الحجر الأسود ، وأنه إذا عجز عن استلامه بيده بأن كان راكبا أو غيره استلمه بعصا ونحوها ، ثم قَـبَّل ما استلم به . اهـ .
روى ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله عن نافع قال : رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده وقَـبَّل يده ، وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله .
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة من طريق ابن جريج عن عطاء قال : رأيت ابن عمر وأبا هريرة إذا استلموا الرَّكن - يعني الْحَجَر - قَـبَّلُوا أيديهم . قال : قلت لعطاء : وابن عباس ؟ قال : وابن عباس .

قال ابن حجر : وبهذا قال الجمهور : أن السنة أن يَستلم الرَّكن ويُقَـبِّل يَده ، فإن لم يستطع أن يَستلمه بِيده استلمه بشيء في يده وقَـبَّل ذلك الشيء ، فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك . اهـ .

8= في الرواية التي أوردها المصنِّف فيه طوي تقبيل المحجن ، والإشارة إليه إن بَعُد عنه ، والتكبير .
ففي رواية للبخاري : كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ .
قال العيني : دَلّ هذا على استحباب التكبير عند الركن الأسود في كل طوفة .

9= قول المصنف : " المِحْجَنُ : عصا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ " هذا تفسير منه للمحجن .
قال القاضي عياض : والمحجن : عصا مُعقفة ، يتناول بها الراكب ما سَقط له ، ويُحَرِّك بطرفها بعيره للمشي .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 245 في الاقتصار على استلام الركنين

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 245

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : لَمْ أَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ إلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ .

فيه مسائل :


1= تقدّم معنى الاستلام ، وأنه المسح باليَدِ عليه .

2= الاستلام باليد للركنين : اليماني والحجر الأسود ، وينفرد الحجر الأسود بالتقبيل مباشرة ، أو تقبيل اليد ، أو ما يستلم به ، وتقدّم هذا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
وأما الركن اليماني فيُقتصر فيه على المسح باليد دون مسح الوجه بها ، ودون تقبيله ، أو تقبيل اليد بعد استلامه .
قال ابن عبد البر : إنما يُعرف تَقبيل الحجر الأسود ، ووضع الوجه عليه ، وما أعرف أحدا من أهل الفتوى يقول بتقبيل غير الأسود . اهـ .

3= تسمية الركن اليماني بهذا الاسم : تقدّم أن سبب ذلك لكونه جهة اليمن ، وهو يقع في الجهة الجنوبية الغربية من الكعبة .
بينما يُطلق على الركنين الشماليين : الركنان الشاميان ؛ لأنهما جهة الشام .

4= مشروعية استلام الركن اليماني ، دون تقبيل أو مسح للوجه .
قال ابن عمر رضي الله عنهما : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من أركان البيت إلاَّ الركن الأسود والذي يليه من نحو دور الجمحيين . رواه مسلم .
وروى مسلم أيضا من طريق نافع عن عبد الله ذَكَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلاَّ الحجر والركن اليماني .

وتقدّم قول ابن عبد البر : وما أعرف أحدا من أهل الفتوى يقول بتقبيل غير الأسود .

5= سبب عدم استلام بقية الأركان :
لأن بقية الأركان ليست على قواعد إبراهيم ، وسبق بيان ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصلاة في الكعبة .

ففي الصحيحين من طريق عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا . قَالَ : وَمَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ ؟ قَالَ : رَأَيْتُكَ لا تَمَسُّ مِنْ الأرْكَانِ إِلاّ الْيَمَانِيَّيْنِ ... قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ إِلاّ الْيَمَانِيَّيْنِ .
وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل قال : كنت مع معاوية وابن عباس وهما يطوفان حول البيت ، فكان ابن عباس يستلم الركنين ، وكان معاوية يستلم الأركان كلها ، فقال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَستلم إلاّ هَذين الركنين : اليماني والأسود ، فقال معاوية : ليس منها شيء مهجور .
وفي رواية للإمام أحمد : فقال ابن عباس : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، فقال معاوية : صَدَقْتَ .

قال ابن عبد البر : قوله : " رأيتك لا تَمَسّ من الأركان إلاّ اليمانيين " فالسنة التي عليها جمهور الفقهاء وأئمة الفتوى بالأمصار أن ذينك الركنين يُستلمان دون غيرهما .
وروينا عن ابن عمر أنه قال : ترك رسول الله استلام الركنين الذين يليان الْحِجْر أن البيت لم يَتمّ على قواعد إبراهيم . اهـ .
وقال أيضا : والصحيح عن ابن عباس أنه كان لا يَستلم إلاّ الركنين الأسود واليماني ، وهما المعروفان باليمانيين ، وهي السنة ، وعلى ذلك جماعة الفقهاء ، منهم : مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري ، وحجتهم حديث ابن عمر هذا ، وما كان مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك . اهـ .

6= ترجيح ما وافق السنة إذا وقع الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم .
ولا يُظنّ بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تقديم الأقوال أو الآراء على قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما يُظنّ بهم أنهم رأوا في الأمر سَعة ، أو الظنّ بالراوي أنه أتى بما قال مِن قِبَل نفسه .
وفي رواية أحمد ما يقطع هذا الاحتمال ، وهو تصديق معاوية لابن عباس رضي الله عنهم .

7= اختلاف الصحابة في فهم النصّ ، وخفاء بعض المسائل على بعض الصحابة .
ولابن القيم تفصيل جميل في هذه المسألة يُراجع في : " إعلام الموقعين عن رب العالمين " ، ونقله مع زيادة عليه: القاسمي في " محاسن التأويل " في تفسير قوله تعالى : (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) .
ويُنظر لذلك أيضا : أضواء البيان ، للشيخ الشنقيطي في تفسير قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) في سورة " محمد " .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 246 في التمتع في الحج ولزوم الهدي

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 246

عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ ، قَالَ : سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ ؟ فَأَمَرَنِي بِهَا , وَسَأَلَتْهُ عَنْ الْهَدْيِ ؟ فَقَالَ : فِيهِ جَزُورٌ , أَوْ بَقَرَةٌ , أَوْ شَاةٌ , أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ . قَالَ : وَكَأنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا , فَنِمْتُ ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ : كَأَنَّ إنْسَاناً يُنَادِي : حَجٌّ مَبْرُورٌ , وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ . فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثَتْهُ . فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم .

فيه مسائل :


1= قوله : " سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ " ، إطلاق المتعة ، وتقييده بالحال ، وفهم السلف ، وسياق النص دالّ على أن المقصود بها : مُتعة الحج .

2= سبب السؤال :
في رواية لمسلم : قال أبو جمرة الضبعي : تَمَتَّعْتُ فنهاني ناسٌ عن ذلك ، فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك فأمرني بها ، قال : ثم انطلقت إلى البيت فنمت فأتاني آت في منامي فقال : عُمرة مُتَقَبّلة وحَج مبرور ، قال : فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، سُـنّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم .

3= قوله : " وَسَأَلَتْهُ عَنْ الْهَدْي " ، أي : عن وُجوب الهدي على المتمتِّع وصِفته .

4= الجزور : الواحدة من الإبل ، يُطلق على الذكر والأنثى .
قال ابن الأثير : الجزور البعير ذَكَرًا كان أو أنثى ، إلاّ أن اللفظة مؤنثة ، تقول : هذه الجزور وإن أردت ذَكَرًا ، والْجَمْع جُزر وجزائر .

قوله : " أوْ شاة " قال الفيروز آبادي : والشَّاةُ : الواحِدَةُ من الغَنَمِ ، للذَّكَرِ والأُنْثَى ، أو يكونُ من الضَّأنِ والمَعَزِ والظِّباء والبَقَرِ والنَّعامِ وحُمُرِ الوَحْشِ ، والمرأةُ ، والجمع : شاءٌ . اهـ .
وتُجمع على : شِيَاه .
قال ابن حجر : وأجمعوا على أن الشاة لا يصح الاشتراك فيها . اهـ .
وسيأتي في " باب الهدي " ما يُشترط في أسنان الهدي وأوصافها .

وقوله بعد ذلك : " أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ " يعني : أو اشتراك في دم ، وهو جزء من سبعة أجزاء من الإبل أو من البقر .
وهذا يدلّ على أنه لو أتى بأكثر من المطلوب ، أجزأ ، كأن يجب عليه هدي ، فيذبح جَمَلاً أو بقرة .
قال ابن قدامة : وَالدَّمُ الْوَاجِبُ شَاةٌ ، أَوْ سُبْعُ بَقَرَةٍ ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ ، فَإِنْ نَحَرَ بَدَنَةً ، أَوْ ذَبَحَ بَقَرَةً ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا . وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .

5= إذا اشترك جماعة سبعة فأقَلّ في بدنة أو في بقرة ، أجزأ ، ولا يُجزئ عن أكثر من سبعة .
قَالَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ . رواه مسلم .
وأما حديث ابن عباس قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر النحر فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة . فقد رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه ، ومدار إسناده على الحسين بن واقد عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس .
و الحسين بن واقد : ثقة له أوهام . ولعل هذا من أوهامه .
وأكثر أهل العلم على القول بحديث جابر ، وأن البعير لا يُجزئ إلاّ عن سبعة .
قال الترمذي عن حديث جابر : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم ، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك و الشافعي وأحمد و إسحاق وقال إسحاق : يجزي أيضا البعير عن عشرة واحتج بحديث ابن عباس . اهـ .
وقال البيهقي : وحديث أبي الزبير عن جابر أصح من ذلك ، وقد شهد الحديبية وشهد الحج والعمرة ، وأخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم باشتراك سبعة في بَدَنة ، فهو أولى بالقبول .
وقال : وحديث عكرمة يتفرد به الحسين بن واقد عن علباء بن أحمر ، وحديث جابر أصحّ مِن جميع ذلك ، وأخبر باشتراكهم فيها في الحج والعمرة وبالحديبية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو أولى بالقبول . اهـ .
وقال ابن عبد البر : وضَعَّفُوا حديث الْمِسْوَر بن مخرمة ومروان بن الحكم الذي فيه ما يدل على أن البدنة نُحِرت يوم الحديبية عن عشرة أو أكثر مِن سبعة ، وقالوا : هو مُرْسَل ، خالفه ما هو أثبت وأصح منه .
والمسْوَر لم يشهد الحديبية ومروان لم يَرَ النبي عليه السلام .
وقال بهذا القول أكثر الصحابة - رضوان الله عنهم . اهـ .
قال الخرقي : وَتُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ . اهـ .

6= قوله : " وَكَأنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا " .
وفي رواية لمسلم : تَمَتَّعْتُ فنهاني ناسٌ عن ذلك .
قال ابن دقيق العيد : قَوْلُهُ " وَكَانَ نَاسٌ كَرِهُوهَا " وَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِيمَا كَرِهَهُ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ : هَلْ هِيَ الْمُتْعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوْ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ؟
وسيأتي ما يتعلق بهذه المسألة – إن شاء الله – في شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه .

7= ليس فيه التعلّق بالرؤى والمنامات ، إلاّ فيما وافق الشرع ، فابن عباس رضي الله عنهما لم يُعوِّل على الرؤيا ، وإنما استأنس بها ، وفَرْق بين الأمرين .
قال ابن دقيق العيد : فِيهِ : اسْتِئْنَاسٌ بِالرُّؤْيَا فِيمَا يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ ، لِمَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ مِنْ عِظَمِ قَدْرِهَا ، وَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ . وَهَذَا الِاسْتِئْنَاسُ وَالتَّرْجِيحُ لا يُنَافِي الأُصُولَ . وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ " اللَّهُ أَكْبَرُ . سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَأَيَّدَ بِالرُّؤْيَا وَاسْتَبْشَرَ بِهَا .

والرؤى مُبشِّرات ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، ومعنى هذا أنه يُستبشر بها غالبا ، وقد يكون فيها تنبيه وتحذير ، إلاّ أنه لا يُعوّل عليها ، ولا يُبنى عليها أحكام .

8= متى يكون الحاجّ مُتمتِّعًا ؟
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَهْلِ الآفَاقِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَقَدِمَ مَكَّةَ فَفَرَغَ مِنْهَا ، وَأَقَامَ بِهَا ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ، أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إنْ وَجَدَ ، وَإِلاّ فَالصِّيَامُ .
وقال ابن قدامة : فِي الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ الدَّمُ عَلَى مَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ، وَهِيَ خَمْسَةٌ :
الأَوَّلُ ، أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ، لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، سَوَاءٌ وَقَعَتْ أَفْعَالُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، أَوْ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
قَالَ الأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، سُئِلَ عَمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ قَدِمَ فِي شَوَّالٍ ، أَيَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ فِي شَوَّالٍ ، أَوْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؟ فَقَالَ : لا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا .
الثَّانِي ، أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ، فَإِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ ، بَلْ حَجَّ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ .
الثَّالِثُ ، أَنْ لا يُسَافِرَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ سَفَرًا بَعِيدًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلاةُ .
الرَّابِعُ ، أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ، فَإِنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ حِلِّهِ مِنْهَا ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِينَ كَانَ مَعَهُمْ الْهَدْيُ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَهَذَا يَصِيرُ قَارِنًا ، وَلا يَلْزَمُهُ دَمُ الْمُتْعَةِ .
الْخَامِسُ ، أَنْ لا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . وَلا خِلافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ لا يَجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . اهـ . باختصار .

وقال القرطبي في تفسيره : ورابطها ثمانية شروط :
الأول - أن يجمع بين الحج والعمرة .
الثاني - في سفر واحد .
الثالث - في عام واحد .
الرابع - في أشهر الحج .
الخامس - تقديم العمرة .
السادس - ألاَّ يمزجها ، بل يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة .
السابع: أن تكون العمرة والحج عن شخص واحد .
الثامن - أن يكون من غير أهل مكة . اهـ .

9= لم سُمِّي التمتّع تمتّعًا ؟
لسببين :
أ – لأنه تمتّع بِكُلّ ما لا يجوز للمحرم فِعْله مِن وقت حِلّه إلى وقت الحج .
قال ابن الأثير : يكون قد تمتع بالعمرة في أيام الحج ، أي : انتفع . اهـ .

ب – تمتّع بإسقاط أحد السفرين ؛ لأنه أتى بالحج والعمرة في سفر واحد .

10= الإجماع منعقد على جواز مُتعة الحج ، وإنما الخلاف في التفضيل بين الأنساك الثلاثة .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ : تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ عُرْوَةُ : نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَرَاهُمْ سَيَهْلَكُونَ ، أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَقُولُونَ نَهَى عَنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ .
وفي رواية قال ابن عباس رضي الله عنهما لِعروة بن الزبير : يا عروة سَل أمك ، أليس قد جاء أبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحَلّ ؟ رواه الإمام أحمد .
وفيه شِدّة الصحابة على من خالف السنة .

قال القاضي عياض : والمتعة مُقدّمة ، لكن اختلف العلماء والسلف قبلُ في تفضيل الأفراد والقِران عليها . اهـ .
وقال ابن عبد البر : التمتع والقِران والإفراد كل ذلك جائز بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ .
وقال ابن قدامة : وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إبَاحَةِ التَّمَتُّعِ فِي جَمِيعِ الأَعْصَارِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي فَضْلِهِ .
وقال القرطبي : لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز ، وأن الإفراد جائز ، وأن القران جائز، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهم، صلى الله عليه وسلم .
وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا في حجته ، وفي الأفضل من ذلك ، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك . اهـ .

11= كَرِه بعض السلف مُتعة الحج ، وسيأتي في شرح حديث عمران بن حُصين مزيد بيان حول هذه المسألة ، وسبب كراهية مَن كَرِه متعة الحج .

12= مشروعية الفَرَح بِمُوافقة الحق ، وفي صحيح مسلم خبر فَرحه عليه الصلاة والسلام بِخبر تميم الداري رضي الله عنه ، وفيه : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك ، فقال : ليلزم كل إنسان مصلاه ، ثم قال : أتدرون لم جمعتكم ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم ، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال .
فتكبير ابن عباس رضي الله عنهما وفرَحه بِمُوافقة الحق من هذا الباب ، وليس من باب الانتصار للنفس .
وفيه أن إصابة السُّـنَّـة مما يُفرَح به .

والله أعلم .


 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 247 في حجة النبي صلى الله عليه وسلم

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 247

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى . فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ . وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ , ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ , فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ , فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى , فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الْحُلَيْفَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ . فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلنَّاسِ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى , فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ , وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ , ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ , فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ . فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ . وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ , ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ , وَمَشَى أَرْبَعَةً , وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَأَتَى الصَّفَا ، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ , ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ , وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ . وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ , ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ , وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ .

فيه مسائل :


1= قوله : " تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " ليس المقصود أنه تمتّع بالعُمرة إلى الحج ؛ لأنه جاء في الحديث – وفي غيره – ما يُوضّح المقصود .
روى الإمام مسلم من طريق موسى بن نافع قال : قدمت مكة متمتعا بِعمرة قبل التروية بأربعة أيام ، فقال الناس : تصير حجتك الآن مكية ، فدخلت على عطاء بن أبي رباح فاستفتيته ، فقال عطاء : حدثني جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ساق الهدي معه ، وقد أهَلُّوا بالحج مُفْردا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحِلّوا مِن إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصِّروا وأقيموا حَلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهِلّوا بالحج ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة . قالوا : كيف نجعلها متعة وقد سَمَّيْنَا الحج ؟ قال : افعلوا ما آمركم به ، فإني لولا أني سُقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ، ولكن لا يحل مِنِّي حَرام حتى يبلغ الهدي محله ، ففعلوا .
وسيأتي في الحديث – حديث حفصة – الذي بعد هذا الحديث تأكيد هذا الأمر .
قال ابن عبد البر : ولا يصح عندي أن يكون متمتعًا إلاَّ تمتع قِران ؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَحِلّ من عمرته حين أمَر أصحابه أن يَحِلّوا ويَفسخوا حَجهم في عمرة ، فإنه أقام مُحْرِمًا من أجل هَديِه إلى محل الهدي يوم ينحر ، وهذا حُكم القَارِن لا حُكم المتمتع . اهـ .
وقال : يحتمل من قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقول من قال إفراد الحج ، أي : أمَرَ بِه وأجازه ، وجاز أن يُضاف ذلك إليه . اهـ .
قَالَ الْقَاضِي : قَوْله : " تَمَتَّعَ " هُوَ مَحْمُول عَلَى التَّمَتُّع اللُّغَوِيّ وَهُوَ الْقِرَان آخِرًا ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ أَوَّلاً بِالْحَجِّ مُفْرِدًا ، ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَصَارَ قَارِنًا فِي آخِر أَمْره . نقله النووي . ثم قال :
وَالْقَارِن هُوَ مُتَمَتِّع مِنْ حَيْثُ اللُّغَة ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لأَنَّهُ تَرَفُّه بِاتِّحَادِ الْمِيقَات وَالإِحْرَام وَالْفِعْل .

وقال ابن القيم : المعلوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يحل بعمرة في حجته ، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم ذلك . اهـ .
وقال ابن حجر : وحديث ابن عمر المذكور ناطق بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارِنا ، فإنه مع قوله فيه : " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وَصَف فِعل القِران ، حيث قال : "بدأ فأهَلّ بالعمرة ثم أهل بالحج " : وهذا مِن صُور القِران ، وغايته أنه سَمَّاه تَمَتُّعًا ؛ لأن الإحرام عنده بالعمرة في أشهر الحج كيف كان يسمى تمتعا . اهـ .

2= قوله : " فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ " مشروعية سياق الهدي ، وقد كان مجموع هَديه صلى الله عليه وسلم إلى البيت مائة من الإبل ، نَحَر منها عليه الصلاة والسلام ثلاثا وستّين ، وتولّى عليّ رضي الله عنه نحر ما بقي .
قال القاضي عياض : وَالظَّاهِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ الْبُدْن الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنْ الْمَدِينَة ، وَكَانَتْ ثَلاثًا وَسِتِّينَ ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ . اهـ .
وسيأتي مزيد بحث في " باب الهدي " .

3= ذو الْحُلَيْفَة : هو ميقات أهل المدينة ، وهو أبعد المواقيت عن مكة . ويُسمّى : آبار عليّ .
وهو مكان مُبارك .
ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ فِي بَطْنِ الْوَادِي ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ . رواه البخاري ومسلم .
وفي حديث عمر رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ : أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي ، فَقَالَ : صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ . رواه البخاري .
قال ابن رجب : ووادي العقيق مُتَّصِل بذي الحليفة .

4= قوله : " وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ , ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ "
قال النووي : هُوَ مَحْمُول عَلَى التَّلْبِيَة فِي أَثْنَاء الإِحْرَام ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ أَحْرَمَ فِي أَوَّل أَمْره بِعُمْرَةٍ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ، لأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى مُخَالَفَة الأَحَادِيث السَّابِقَة .
تقدم قول ابن حجر : وهذا مِن صُور القِران ، وغايته أنه سَمَّاه تَمَتُّعًا ؛ لأن الإحرام عنده بالعمرة في أشهر الحج كيف كان يُسمى تمتعا . اهـ .

5= الراجح في حجته عليه الصلاة والسلام أنه كان قارنًا . ويدلّ عليه هذا الحديث وحديث حفصة الآتي بعده ، وحديث جابر ، وغيرها من الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا ، وهذا ما رجحه ابن عبد البر وابن قدامة والنووي والقرطبي وغيرهم .

6= إرشاده عليه الصلاة والسلام أمته إلى الأفضل ، وامتناعه من فِعله لِكونه ساق الهدي ، وسيأتي هذا في حديث حفصة رضي الله عنها .
وقد قال عليه الصلاة والسلام : لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت ، مَا سُقْت الْهَدْيَ ، وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً .
قال ابن قدامة : قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالانْتِقَالِ إلَى الْمُتْعَةِ عَنْ الإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ ، وَلا يَأْمُرُهُمْ إلاَّ بِالانْتِقَالِ إلَى الأَفْضَلِ ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنْ الأَفْضَلِ إلَى الأَدْنَى ، وَهُوَ الدَّاعِي إلَى الْخَيْرِ ، الْهَادِي إلَى الْفَضْلِ ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِتَأَسُّفِهِ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ ، وَأَنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَى انْتِقَالِهِ وَحِلِّهِ ، لِسَوْقِهِ الْهَدْيَ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الدَّلالَةِ . اهـ .

7= شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته ، ورأفته بأصحابه ، ومراعاة أحوال الناس ، فإنه عليه الصلاة والسلام قال لِعليّ رضي الله عنه لَمَّا قَدِم من اليمن : " بِمَ أَهْلَلْتَ فَإِنَّ مَعَنَا أَهْلَكَ" .

8= التيسر على الناس فيما لهم فيه سَعة ، وليس فتح الباب على مصراعيه بِحُجّة توسعة النبي صلى الله عليه وسلم على الناس ، ولا بِحُجّة " افعل ولا حرج " ؛ لأن كل توسعة على الناس تحتاج إلى ضوابط وإلى فهم العلماء .

9= وجوب الهدي على المتمتِّع بالشروط السابقة .

10= فطاف واستلم ، الواو لا تقتضي الترتيب ؛ لأن الاستلام يكون قبل الطواف ، إلاّ أن يُراد بدأ بالطواف ثم استلم ، وهذا يمكن حمله على بعض الأشواط ، والأول أقوى .

11= واستلم الركن : تقدّم في شرح الأحاديث السابقة أن الركن يُطلَق على الحجر الأسود ، وهو المقصود هنا .

12= ثلاثة أطواف ، بمعنى : ثلاثة أشواط .

13= خبّ : سبق بأنها بمعنى الرَّمَل ، وكان ذلك في حجة الوداع ، ومكة بلد إسلام ، وكان عليه الصلاة والسلام آمن ما كان .

14= ركع حين قضى طوافه ، أي : صلّى ، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الْكُلّ ، ومثله : سَجَد سجدتين .

15= أين يُصلِّي ركعتي الطواف ؟
إن تيسّر خَلْف مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإلاّ صلى في الحرم .
قال ابن عبد البر : وأجمعوا أيضا على أن الطائف يصلي الركعتين حيث شاء من المسجد ، وحيث أمكنه ، وأنه إن لم يُصَلّ عند المقام أو خلف المقام فلا شيء عليه . اهـ .

16= حُكم ركعتي الطواف :
اخْتُلِف في حكم ركعتي الطواف .
قال ابن عبد البر : واختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف حتى خرج من الحرم أو رجع إلى بلاده ؟
فقال مالك : إن لم يركعهما حتى يرجع إلى بلده فعليه هَدي .
وقال الثوري : يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم .
وقال الشافعي وأبو حنيفة : يركعهما حيث ما ذَكَر مِن حِلّ أو حَرَم .
وحجة مالك في إيجاب الدم في ذلك قول ابن عباس : مَن نَسي مِن نُسكه شيئا فليهرق دمًا . وركعتا الطواف من النسك . اهـ .
وقال ابن قدامة : وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ . اهـ .
وقال النووي : ركعتا الطواف سنة على الأصح عندنا ، وبه قال مالك وأحمد وداود ، وقال أبو حنيفة : واجبتان . اهـ .
وكنت سألت شيخنا الشيخ عبد الكريم الخضير – وفقه الله – عن حُكم ركعتي الطواف ، فقال : حُكمهما حُكم الطواف ؛ لأنهما تَبَع للطواف ، فإن كان الطواف واجبا ، فهُما واجبتان ، وإن كان مسنونا ، فهما مسنونتان .

17= قوله : " فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ " أي : سبعة أشواط ، وفيه دليل على صِحّة تسمية السعي طواف .

18= ", ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ " دليل على بقاءه صلى الله عليه وسلم في حرامه ، وهذا دالّ على أن نُسكه صلى الله عليه وسلم هو القِرَان .
ومعنى " قضى حجَّه " : أي يوم العيد بالرمي والحلق والنحر والطواف .

19= قوله : وأفاض " فيه مشروعية تسمية طواف الحج بـ " الإفاضة " ، وهو معنى قول ابن عمر رضي الله عنهما : " أفاض يوم النحر " .

20= وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام طاف طواف الإفاضة بعد أن تحلل من إحرامه ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ : طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ . رواه البخاري ومسلم .

21= فيه دليل على أن التمتّع أفضل الأنساك ، لكون النبي صلى الله عليه وسلم أمَر أصحابه به ، ودلّهم عليه .
وسبق قول ابن قدامة : قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالانْتِقَالِ إلَى الْمُتْعَةِ عَنْ الإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ ، وَلا يَأْمُرُهُمْ إلاَّ بِالانْتِقَالِ إلَى الأَفْضَلِ ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنْ الأَفْضَلِ إلَى الأَدْنَى ، وَهُوَ الدَّاعِي إلَى الْخَيْرِ ، الْهَادِي إلَى الْفَضْلِ . اهـ .
قال الإمام أحمد : لا يُشك أن رسول الله كان قارِنا ، والتمتع أحب إليّ .

22= " حتى قضى حجّه " : أي : فَعَل ما يُجيز له التحلل ، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه تحلّل بعد الرمي والْحَلْق ، وتطيّب ، حيث طيّبته عائشة رضي الله عنها قبل أ ن يطوف ، وفي حديث الباب : " وأفاض فَطاف بالبيت " .
وفيه ردّ على من قال : يتحلل الحاج بِمجرّد الرمي يوم العيد . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلل يوم الحديبية من إحرامه إلاّ بعد أن حَلَق رأسه ، ففي خبر يوم الحديبية : " وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ " رواه البخاري .
وقال عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ وَنَحَرَ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ . رواه الإمام مالك في الموطأ .
وذَكَر ابن عبد البر في الاستذكار مذاهب العلماء في ذلك ، واختلافهم في جواز الطيب بعد التحلل الأول . وذَكَر القول الرابع : يَحلّ له كل شيء إلاَّ النساء خاصة .
قال : وهو قول الشافعي وسائر العلماء القائلين بجواز الطيب عند الإحرام وقبل الطواف بالبيت على حديث عائشة . اهـ .

23= " يوم النحر " هذا بالنسبة للحجاج ، وهو يوم العيد . وقد سماه الله " يوم الحج الأكبر " .

24= حجة الوداع كانت سنة 10 من الهجرة .

25= مَن أهدَى وساق الهدي فَعَل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي في حديث حفصة رضي الله عنها بيان ذلك .

26= أعمال القَارِن والمفرِد واحدة ، وتُميّز بينهما النية ، والقَارِن يجمع بين الحج والعمرة ، والمفرِد يُفرِد الحج وحده .

27= إذا سعى المفرد والقَارِن قبل الحج أجزأه عن سعي الحج ؛ لأنه لا يجب عليه إلاّ سعي واحد ، ويُشترط للسعي أن يسبقه طواف . فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قرِنًا ، وطاف وسَعى وبقي على إحرامه .
وفي حديث جابر : فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ . رواه مسلم .
وأما المتمتّع فيلزمه سَعْيان : سَعي للعمرة ، وسَعي للحج .

28= متى يصوم المتمتِّع الذي لا يجد هديا ؟
الجمهور : يصوم ثلاثة أيام في الحج ما بين أن يُهِلّ بالحج إلى يوم عرفة .
والسنة أن يُفطر يوم عرفة ، ويحرم صوم يوم العيد .

والله أعلم .

 
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 248 في بقاء إحرام من ساق الهدي

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

ح 248

عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ ؟ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي , وَقَلَّدْتُ هَدْيِي , فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَر .

فيه مسائل :

1= في رواية البخاري : مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ ؟ قَالَ : إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي ، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ .
وفي الصحيحين : مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ ؟
في رواية لمسلم : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ . قَالَتْ حَفْصَةُ : فَقُلْتُ : مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَحِلَّ ؟

2= فيه دليل على بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في إحرامه ، وأنه لم يَحلّ من عُمرته حتى نحر هديه يوم النحر ، وهو يوم العيد .
قال النووي : وَهَذَا دَلِيل لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيح الْمُخْتَار ... أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا فِي حَجَّة الْوَدَاع . فَقَوْلهَا : " مِنْ عُمْرَتك " أَيْ : الْعُمْرَة الْمَضْمُومَة إِلَى الْحَجّ . وَفِيهِ أَنَّ الْقَارِن لا يَتَحَلَّل بِالطَّوَافِ وَالسَّعْي ، وَلا بُدّ لَهُ فِي تَحَلُّله مِنْ الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ وَالرَّمْي وَالْحَلْق وَالطَّوَاف ، كَمَا فِي الْحَاجّ الْمُفْرِد . اهـ .
وقال ابن القيم : سائر الأحاديث الصحيحة المستفيضة من الوجوه المتعدِّدة كلها تَدُلّ على أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يَحِلَّ من إحرامه إلاَّ يوم النحر .

3= لا علاقة للنحر أو الذبح بالتحلل إلاّ في حق من ساق الهدي ؛ لأن التحلل الكامل يحصل بثلاثة أمور :
رمي جمرة العقبة ، والْحَلْق أو التقصير ، وطواف الإفاضة .
ويحصل التحلل الأصغر بِفعل اثنين من هذه الثلاثة .

4= مشروعية تلبيد الرأس حتى لا يُصيبه الشعث .
وأنّ مَن لـبّد رأسه جاز له أن يمسح عليه في الوضوء ، وفي حكمه ما تضعه النساء على رؤوسها للحاجة إذا كان يشقّ نزعه ، ومثله ما يُوضع من أجل التداوي .

5= معنى التلبيد :
قال الباجي : التَّلْبِيدُ : أَنْ يُضَفِّرَ رَأْسَهُ بِصَمْغٍ وَغَاسُولٍ يَلْصَقُ فَيَقْتُلُ قَمْلَهُ وَلا يَتَشَعَّثُ ، قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَغَيْرُهُ .
وقال ابن قتيبة : الْمُلَـبِّد الذي لَـبَّد رأسه شعره حتى لبد ، بِلزوق يجعله فيه .
وقال ابن بطال : التلبيد : أن يجعل الصمغ في الغسول ، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام ، ليمنعه ذلك من الشعث .
وقال النووي : قَالَ الْعُلَمَاء : التَّلْبِيد ضَفْر الرَّأْس بِالصَّمْغِ أَوْ الْخَطْمِيّ وَشَبَههمَا ، مِمَّا يَضُمّ الشَّعْر وَيَلْزَق بَعْضه بِبَعْضٍ ، وَيَمْنَعهُ التَّمَعُّط وَالْقَمْل ، فَيُسْتَحَبّ ؛ لِكَوْنِهِ أَرْفَق بِهِ .

وقال العيني : لـبّد شَعْره : جَعل فيه شيئا نحو الصمغ ليجتمع شَعْره لئلا يتشعّث في الإحرام ، أو يقع فيه القمل . اهـ .

6= استحباب التلبيد .
قال ابن بطال : التلبيد عند الإحرام مستحب ، فمن شاء فعله ، ومن شاء تركه .
وقال النووي باستحباب التلبيد .

7= هل يجب الْحَلق على من لَـبّد شعر رأسه ؟
روى ابن أبي شيبة أن ابن عمر قال : مَن ضفر أو لَـبّد أو عَقص فليحلق .
قال ابن بطال : وجمهور العلماء على أن مَن لَـبَّد رأسه فقد وَجَب عليه الْحِلاق ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك أمَر الناسَ عُمرُ بن الخطاب وابنُ عمر ، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبى ثور ، وكذلك لو ضفر شعره أو عقصه كان حكمه حكم التلبيد ؛ لأن الذي فعل سُنة التلبيد الذي أوجب النبي عليه السلام فيه الحلاق . اهـ .

8= تقليد الهدي : إلْبَاسه القِلادة مِن النعال ونحوها ليُعْلَم أنه هدي .
قال النووي : التقليد : هو تعليق شيء في عُنق الهدي ليُعلم أنه هدي .
وسيأتي في " باب الهدي " .

9= مَن أهدَى وساق الهدي فَعَل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه عليه الصلاة والسلام قال لِعليّ رضي الله عنه : بِمَ أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ ؟ قَالَ : بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : فَأَهْدِ ، وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية قال : لولا أنّ معي الهدي لأحْللتُ . وفي رواية : قَالَ فَأَمْسِكْ فَإِنَّ مَعَنَا هَدْيًا .
وفي حديث جابر : فَقَالَ : لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً . رواه البخاري ومسلم .

وأما من لم يَسُق الهدي فيجوز له التحلل .
قال أبو موسى رضي الله عنه : قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو منيخ بالبطحاء ، فقال : بِمَ أهللت ؟ قال : قلت : أهللتُ بإهلال النبي صلى الله عليه و سلم . قال : هل سُقْت مِن هدي ؟ قلت : لا . قال : فَطُف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلّ ، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة . رواه مسلم .

قال ابن عبد البر : وأما هَدي القِران فإنه مانع من الإحلال والفسخ عند جمهور السلف والخلف ، إلاّ ابن عباس ، وتابعته فرقة : إذا لم يَسق الهدي جاز له فسخ الحج في العمرة . اهـ .

وأما قول عائشة رضي الله عنها أنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ، فَمِنّا مَن أهَلّ بِعُمْرَة ، ومِنّا مَن أهَلّ بِحَجة وعُمرة ، ومِنّا مَن أهَلّ بالحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ، فأما مَن أهَلّ بالحج ، أو جَمَع الحج والعمرة ، فلم يَحِلُّوا حتى كان يوم النحر . رواه البخاري ومسلم .
فليس فيه أن من لم يسُق الهدي لم يتحلل بِعُمرة ؛ لأن ذِكر سياق الهدي مطويّ في هذا الحديث ، ومُصرّح به في أحاديث أُخَر .
وهو دالّ على أن من أفرد الحج لم يَحِلّ منه ، ومن جَمَع بين الحج والعمرة لم يحلّ منهما ، وهذا الأخير غير مُراد ، إلاّ أن يُقال في حقّ أُناس لم يتحللوا بِعُمرة ، وبَقوا على قِرانهم .

وسيأتي في حديث جابر في " باب فسخ الحج إلى العمرة " .

والله أعلم .
 
الوسوم
الحج كتاب
عودة
أعلى