سيرة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في حلقات

الحلقة الثامنة والسبعون : على مستوى العاملين في الشبكة العنكبوتية وأصحاب المواقع


1. تكوين مجموعات تتولى إبراز محاسن هذا الدين ونظرة الإسلام لجميع الأنبياء بنفس الدرجة من المحبة وغيره من الموضوعات ذات العلاقة.

2. إنشاء مواقع أو منتديات أو تخصيص نوافذ في المواقع القائمة تهتم بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتبرز رسالته العالمية.

3. المشاركة في حوارات هادئة مع غير المسلمين ودعوتهم لدراسة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم والدين الذي جاء به.

4. تضمين أو تذييل الرسائل الإلكترونية التي ترسل إلى القوائم البريدية الخاصة ببعض الأحاديث والمواعظ النبوية.

5. إعداد نشرة إلكترونية - من حين إلى آخر- عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته وخاصة في المناسبات والأحداث الطارئة.

6. الإعلان في محركات البحث المشهورة عن بعض الكتب أو المحاضرات التي تتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
 
الحلقة التاسعة والسبعون : على مستوى المثقفين والمفكرين والإعلاميين والصحفيين

1. إبراز شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وخصائص أمته من خلال نشر ذلك والتحدث عنه في المناسبات الإعلامية والثقافية.

2. عدم نشر أي موضوع ينتقص فيها من سنته صلى الله عليه وسلم .

3. التصدي للإعلام الغربي واليهودي المضاد والرد على ما يثيرونه من شبهات وأباطيل عن ديننا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

4. عقد اللقاءات الصحفية والإعلامية والثقافية مع المنصفين من غير المسلمين والتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته.

5. نشر ما ذكره المنصفون من غير المسلمين بشأنه صلى الله عليه وسلم .

6. عقد الندوات والمنتديات الثقافية لإبراز منهجه وسيرته وبيان مناسبة منهجه صلى الله عليه وسلم لكل زمان وكان .

7. إعداد المسابقات الإعلامية عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتخصيص الجوائز القيمة لها.

8. كتابة المقالات والقصص والكتيبات التي تتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

9. الاقتراح على رؤساء تحرير الصحف والمجلات لتخصيص زاوية يبين فيها الآيات والأحاديث التي تدل على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم وأن محبته مقدمة على الولد والوالد والناس أجمعين بل ومقدمة على النفس وأن هذه المحبة تقتضي تعظيمه وتوقيره وإتباعه وتقديم قوله على قول كل أحد من الخلق .

10. الاقتراح على مدراء القنوات الفضائية لإعداد برامج خاصة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيفية تعامله مع زوجاته وأبناءه وأصحابه وأعدائه وغير ذلك من صفاته الخلقية والخلقية.

11. حث مؤسسات الإنتاج الإعلامي على القيام بإنتاج أشرطة فيديو تعرض سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بطريقة احترافية شيقة.

12. حث المحطات التلفزيونية الأرضية والقنوات الفضائية على إنتاج وبث أفلام كرتونية للناشئة تحكي شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض القصص من السنة النبوية.
 
الحلقة الثمانون : على مستوى الأغنياء والحكومات الإسلامية

1. دعم النشاطات الدعوية المتعلقة بالسيرة النبوية الشريفة .

2. طباعة الملصقات التي تحمل بعض الأحاديث والمواعظ النبوية .

3. المساهمة في إنشاء القنوات الفضائية والإذاعات والمجلات التي تتحدث عن الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم باللغات المختلفة وبالأخص اللغة الإنجليزية.

4. استئجار دقائق في القنوات أو الإذاعات الأجنبية لعرض أطروحات عن الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.

5. إنشاء مراكز متخصصة لبحوث ودراسات السيرة النبوية والترجمة إلى اللغات العالمية.

6. إنشاء متاحف ومكتبات متخصصة في بالسيرة والتراث النبوي الشريف .

7. إنشاء مواقع على الإنترنت متخصصة في السيرة والسنة النبوية الشريفة.

8. طباعة ونشر الكتب والأشرطة والبرامج الإعلامية التي تبرز محاسن الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله بعدة لغات وخاصة اللغة الإنجليزية.

9. المساهمة في دعم المسابقات الدعوية التي تهتم بالسيرة النبوية ورصد مبالغ تشجيعية لها.



· الرقم 10 نتركه لك لتكمله وتبعث به إلينا على عنوان اللجنة.



أخي المسلم أختي المسلمة.. إن الواجب علينا جميعًا - كلٌ حسب استطاعته - أن ننصر نبينا وإمامنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك أعددنا هذه المذكرة حتى لا يبقى لأحد منا عذر، فلنعمل جميعًا على نشرها وتوزيعها، ودعوة الأهل وعموم الناس من خلال المجالس العائلية، والمكالمات الهاتفية، ورسائل الجوال، على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

 
الحلقة الحادية والثمانون : شبهات وردود (( 1 ))


الرد على شبهة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالدنيا والغنائم


الرد على شبهة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالدنيا والغنائم

الكاتب: الشبكة الإسلامية

من الشبه التي أثارها أعداء الإسلام، وروَّجوا لها بهدف تشويه شخصية محمدٍ صلى الله عليه وسلم، للوصول إلى الطعن في دعوته، وإبعاد الناس عنها، ما يدَّعونه من أنه كان صاحب مطامع دنيوية، لم يكن يظهرها في بداية دعوته في مكة، ولكنه بعد هجرته إلى المدينة بدأ يعمل على جمع الأموال والغنائم من خلال الحروب التي خاضها هو وأصحابه، ابتغاء تحصيل مكاسب مادية وفوائد معنوية.

وممن صرح بذلك "دافيد صمويل مرجليوت " المستشرق الإنجليزي اليهودي، حيث قال: "عاش محمد هذه السنين الست بعد هجرته إلى المدينة على التلصص والسلب والنهب.. وهذا يفسر لنا تلك الشهوة التي أثرت على نفس محمد، والتي دفعته إلى شن غارات متتابعة، كما سيطرت على نفس الإسكندر من قبل ونابليون من بعد ".

والحق، فإن الناظر في سيرته صلى الله عليه وسلم، والمتأمل في تاريخ دعوته، يعلم علم اليقين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يسعى من وراء كل ما قام به إلى تحقيق أي مكسب دنيوي، يسعى إليه طلاب الدنيا واللاهثون وراءها، وهذا رد إجمالي على هذه الشبهة، أما الرد التفصيلي فبيانه فيما يلي:

1-أن ما ذُكر في هذه الشبهة لا يوجد عليه دليلٌ في واقع حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان كما قيل لعاش عيش الملوك، في القصور والبيوت الفارهة، ولاتخذ من الخدم والحراس والحشم ما يكون على المستوى المتناسب مع تلك المطامع المزعومة، بينما الواقع يشهد بخلاف ذلك، إذ كان في شظف من العيش، مكتفياً بما يقيم أود الحياة، وكانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم منذ أن رأى نور الحياة إلى أن التحق بالرفيق الأعلى..، يشهد لهذا أنّ بيوته صلى الله عليه وسلم كانت عبارة عن غرف بسيطة لا تكاد تتسع له ولزوجاته.

وكذلك الحال بالنسبة لطعامه وشرابه، فقد كان يمر عليه الشهر والشهران لا توقد نارٌ في بيته، ولم يكن له من الطعام إلا الأسودان - التمر والماء-، فعن عائشة رضي الله عنها قالت لعروة: (ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ، فقلت: يا خالة ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء) متفق عليه. وسيرته صلى الله عليه وسلم حافلة بما يدل على خلاف ما يزعمه الزاعمون.

2-ثم إن هذه الشبهة تتناقض مع الزهد الذي عُرف به النبي صلى الله عليه وسلم، وحث عليه أصحابه، فقد صح عنه أنه قال: (إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) متفق عليه، وقرن في التحذير بين فتنة الدنيا وفتنة النساء، فقال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء) رواه مسلم.

3-ومما يدحض هذه الشبهة وينقضها من أساسها أن أهل مكة عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المال والملك والجاه من أجل أن يتخلى عن دعوته، فرفض ذلك كله، وفضل أن يبقى على شظف العيش مع الاستمرار في دعوته، ولو كان من الراغبين في الدنيا لما رفضها وقد أتته من غير عناء.

4-أنّ الوصايا التي كان يزود بها قواده تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن طالب مغنم ولا صاحب شهوة، بل كان هدفه الأوحد والوحيد إبلاغ دين الله للناس، وإزالة العوائق المعترضة سبيل الدعوة، فها هو يوصي معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن بقوله: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس ) رواه البخاري.



فهو صلى الله عليه وسلم لم يقاتل أحداً، قبل دعوته إلى الإسلام، الذي تصان به الدماء والحرمات.



5-ومما يُرد به على هذه الفرية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتحل من الدنيا ولم يكن له فيها إلا أقل القليل، ففي الصحيح عن عمرو بن الحارث قال : ( ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهماً، ولا ديناراً، ولا عبداً، ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة ) رواه البخاري، وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي) متفق عليه.

6-وكما قيل: فإن الحق ما شهدت به الأعداء، فقد أجرى الله على ألسنة بعض عقلاء القوم عبارات تكذب هذه الشبهة، من ذلك ما قاله "كارليل" : "أيزعم الكاذبون أن الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وأثاره، حمق وأيـم الله، وسخافة وهوس ".

ويقول: "لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه، ومأكله، ومشربه، وملبسه، وسائر أموره وأحواله.. فحبذا محمد من رجل خشن اللباس، خشن الطعام، مجتهد في الله، قائم النهار، ساهر الليل، دائباً في نشر دين الله، غير طامع إلى ما يطمع إليه أصاغر الرجال، من رتبة، أو دولة، أو سلطان، غير متطلع إلى ذكر أو شهوة ".

7-وما زعمه المستشرق اليهودي "مرجليوت" من أن انتقام رسول صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة كان لأسباب مصطنعة وغير كافية، فجوابه أن الواقع خلاف ذلك، إذ أبرم النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود معاهدة تقرهم على دينهم، وتؤمنهم في أنفسهم وأموالهم، بل تكفل لهم نصرة مظلومهم، وحمايتهم، ورعاية حقوقهم، ولم يكن في سياسته صلى الله عليه وسلم إبعادهم، ومصادرة أموالهم إلا بعد نقضهم العهود والمواثيق، ووقوعهم في الخيانة والمؤامرة.

وبعد: فلا حجة لمن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صاحب مطامع دنيوية، يحرص عليها، ويسعى في تحصيلها، وإنما هي دعوة صالحة نافعة، تعود بالخير على متبعيها في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.
 
الحلقة الثانية والثمانون : شبهات وردود (( 2 ))


شبهات وتهم ضد مقام النبوة(1)

قال الله تبارك وتعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابًا مهينًا) [الأحزاب : 57].

ما من نبي ولا رسول أرسله الله عز وجل إلا واجه أعداء يكذبونه ويشككون الناس في صدق نبوته وهذه سنة من سنن الله عز وجل قال تعالى: (كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) [الأنعام : 112].

ولم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم بدعاً بين الرسل فقد واجه ما واجهه إخوته من الأنبياء من التكذيب والعناد والقتال والتشريد والسجن والطرد والاستهزاء ولكن ذلك لم يثنه عن دعوته ولم يفلَّ في عزيمته بل كان ثابتاً كالطود الأشم فصبر وهانت عليه نفسه في سبيل الله عز وجل حتى نصره الله عز وجل ورفع له ذكره إلى يوم القيامة.

وقد اتهم نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه كاذب وقيل شهواني وقالوا عنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وأتهم بأنه عدواني ومتعصب وإرهابي وهذه التهم مجرد شبهات واهية تسقط عند أول وهلة من التعرف على شخصيته ودراسة سيرته وتتبع سنته صلى الله عليه وسلم.

وفيما يلي نستعرض كل شبهة أثيرت حول نبينا صلى الله عليه وسلم ونفندها بحجج منيرة كالشمس في رائعة النهار.

الشبهة الأولى: قولهم عنه: (كاذب):

الشبهة الثانية:قولهم عنه (ساحر، كاهن، مجنون):

الشبهة الثالثة: (قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا):

الشبهة الرابعة: وهي من شبه المستشرقين الحديثة وصفهم له صلى الله عليه وسلم بأنه (شهواني):

الشبهة الخامسة: من أعظم الشبه والافتراء: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (إرهابي دموي سفاك للدماء):

الشبهة الأولى: قولهم عنه: (كاذب):

هذه أضعف فرية افتريت على نبينا صلى الله عليه وسلم وأضعف شبهة يمكن أن يتشبث بها أحد قديماً أو حديثاً، وذلك لما اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم منذ طفولته من صدق الحديث وأمانة في الخلق حتى كانت من أوضح صفاته وأخلاقه التي تميز بها، حتى أنه كان يسمى في الجاهلية بالأمين لصدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم ومما يثبت ذلك ما جرى في قصة بناء قريش للكعبة قبل بعثته صلى الله عليه وسلم واختلافهم على وضع الحجر الأسود حتى كادوا يقتتلون بسبب إرادة كل قبيلة أن تفوز بشرف وضع الحجر الأسود في مكانه ولما اشتد الخلاف فيما بينهم وأصرت كل قبيلة على الفوز بهذا الشرف أراد أحد عقلائهم أن يضع حداً للخلاف فقال لهم حكموا بينكم أول داخل عليكم من باب الصفا فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوه مقبلاً قالوا: هذا محمد الأمين رضينا به حكماً. ففي هذه القصة وقد حدثت قبل البعثة أكبر دليل على اشتهاره بالصدق والأمانة فيما بينهم.

ومما يثبت اشتهاره بالصدق بين قريش وعدم شكهم في صدق حديثه حديث أبي سفيان مع هرقل وسؤال هرقل حينما سأل أبا سفيان: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا ثم رد هرقل في آخر الحديث بحكمة قل من يفطن لها إذ قال: وسألتك أتتهمونه بالكذب فقلت: لا فعلمت أنه لن يدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله تعالى و الحديث في صحيح البخاري..

ومما يثبت نفي الكذب عنه ما ورد في حديث ركانة بن عبد يزيد في السنن بإسناد فيه كلام. وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به فقال يوماً للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي بلغني عنك أمر ولست بكذاب فإن صرعتني علمت أنك صادق، لقد أثبت صدقه بنفي الكذب عنه مع شدة العداوة وكثرة استهزاءه بالنبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في السير. وقد روى الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به فأنزل الله تعالى فيهم: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [الأنعام : 33].

وقد اشتهر بين قريش صدقه صلى الله عليه وسلم حتى إن أبا طالب لما أخبره نبينا صلى الله عليه وسلم بخبر الصحيفة التي كتبتها قريش وأن الأرضة قد أكلتها ولم تترك فيها إلا كلمة واحدة هي (باسمك اللهم) قام أبو طالب يحاجّ قريش حتى فتحوا الكعبة وأخرجوا الصحيفة ووجدوها حقاً كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم فوبخهم أبو طالب بقوله شعراً في هذا:



وقد كان في أمر الصحيفة عبرة ***متى ما يخبر غائب القوم يُعجب

محا الله منها كفرهم وعقوقهم*** وما نقموا من ناطق الحق مُعرب

فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً*** ومن يختلق ما ليس بالحق يُكذب

وقد كانت علامات الصدق تلوح على محياه صلى الله عليه وسلم حتى قال عبد الله بن سلام الحبر اليهودي في قصة إسلامه أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ونظر في وجهه قال: فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب).(رواه ابن ماجه وغيره).

ولو لم تكن فيه آيات مبينة**** كانت بديهته تأتيك بالخبر
 
الحلقة الثالثة والثمانون : شبهات وردود (( 3 ))


شبهات وتهم ضد مقام النبوة(2)


الشبهة الثانية:قولهم عنه (ساحر، كاهن، مجنون):



وهذه الصفات التي وصفه بها كفار قريش لما جاءهم بالحق ولم يستطيعوا له رد فجنحوا إلى هذه التهم والأوصاف حتى يصدوا الناس عنه إذ أنه لا يجلس إليه أحد فيعرض عليه الإسلام ويقرأ القرآن على مسامعه إلا أخذ بلب جليسه وأسر قلبه فأراد المعاندون بإثارة هذه الشبهة أن يصدوا الناس عن الجلوس إليه وسماعه خاصة في المواسم التي يجتمع فيها الناس من أنحاء الجزيرة العربية.

هذا عتبة بن ربيعة جاء مندوباً لقريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يترك دعوته فيقول له: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، ثم عرض عليه المال والملك وعرض عليه ما استطاعه من الإغراء حتى إذا فرغ عتبة من كلامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إليه فقال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل. فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم:

بسم الله الرحمن الرحيم (حــم* تنزيل من الرحمن الرحيم). [فصلت 1 : 2].

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وقد ألقى عتبة يديه وراء ظهره معتمداً عليهما وهو يسمع منصتاً حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد، ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك) سيرة ابن هشام.!!

وعاد عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله قد جاءكم أبا الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، أطيعوني واجعلوها لي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقولـه الذي سمعت منه نبأ عظيم.

فهذا عتبة بن ربيعة وهو من صناديد قريش وسادتهم بعدما سمع القرآن وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينفي أن يكون شاعراً أو كاهناً أو ساحراً.

وهذا النضر بن الحارث سيد آخر من سادة قريش وكبير من كبرائهم ممن كفر حسداً وحقداً يقوم في قريش ذات يوم ويقول: يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، فقد كان فيكم محمد غلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب. وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. قلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل لكم أمر عظيم. فهذه شهادتين من أعدى أعداءه تثبت كذبهم وافتراءهم عليه سيرة ابن هشام..

الشبهة الثالثة: (قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا):

اتهم المشركون نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه جمع أساطير الأولين من الرواة الذين كانوا يتناقلونها ثم كتبها فهو يلقيها عليهم ليدعي بذلك الوحي.

وقد بيّن القرآن الكريم الرد على مثل هذه الشبهة ومفاده أنه كان صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب. وأنه لم يخرج من مكة ولم يسافر إلى البلاد التي تكثر فيها هذه القصص والأساطير التي ادعتها عليه قريش ثم إن ما جاءهم به محكم لا لبس فيه ولا اختلاف ولا عجمة ولا اعوجاج فيه على عكس ما كان يتناقل في عصرهم من أساطير يكذب بعضها بعضاً.

وتحداهم أن يأتوا بمثله فلما عجزوا تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة مثله فلما عجزوا تحداهم أن يأتوا بعشر آيات مثله، ولن يستطيعوا ولو اجتمع الجن كلهم والإنس على أن يأتوا بمثله، وما زال التحدي قائمًا ليفضح عجزهم وكذبهم وبهتانهم، وهذه الأمم وصلت في العصر الحديث إلى اقتحام الفضاء وتطويع الكائنات فهل يستطيعون ولو اجتمعوا أن يأتوا بآية مثله؟

(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا) [الإسراء : 88].

(أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [يونس : 38].

(أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [هود : 13].

وأنى لهم أن يأتوا بمثله وهو تنزيل من رب العالمين الحكيم العليم وهو القاهر فوق عباده وهو اللطيف الخبير.

الشبهة الرابعة: وهي من شبه المستشرقين الحديثة وصفهم له صلى الله عليه وسلم بأنه (شهواني):

حين تزوج إحدى عشرة امرأة بينما منع أتباعه من الزيادة على أربع نساء.

والجواب على هذه الشبهة:

أنه ينبغي أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً قط إلا عائشة – رضي الله عنها – كما أنه صلى الله عليه وسلم إبان شبابه وفتوته لم يتزوج سوى خديجة – رضي الله عنها – حين كان عمره خمساً وعشرين سنة وهي امرأة كبيرة فلو كان ذا شهوة لما اكتفى بها وهي المرأة الكبيرة في السن فلم يتزوج عليها حتى توفيت – رضي الله عنها.

وكان زواجه بعائشة – رضي الله عنها – إكراماً لصديقه وأحب الناس إليه وأوفاهم لـه وأكثرهم إخلاصاً له ولدعوته.

وكذلك كان زواجه بحفصة بنت عمر بن الخطاب إكراماً لأبيها ثاني رجل في الإسلام وثاني وزراءه وإذا لم يكرم عمر بن الخطاب فمن يكرم إذاً؟! وأما زواجه بأم حبيبة وأم سلمة وسودة وميمونة وأم المساكين وهن أرامل فكان إيواءً لهن لما فقدن أزواجهن ولما أصابهن من عذاب واضطهاد في ذات الله تعالى.

وزوّجه ربه تبارك وتعالى زينب بنت جحش وهو كاره لذلك خشية من قول الناس: «محمد تزوج امرأة ابنة زيد» الذي تبناه قبل الإسلام فأراد الله عز وجل أن يهدم قاعدة التبني التي كانت متأصلةً في المجتمع الجاهلي حيث كان للابن المتبنى عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء، فكان أقوى معول لهدم هذه القاعدة أن أمر الله عز وجل نبيه أن ينكح زوجة زيد بعدما طلقها وقد كان ابناً لـه بالتبني في الجاهلية ليستقر عند العرب عدم جواز التبني.

وكان زواجه لصفية وجويرية مسحاً لدموعها وإذهاباً لحزنهما لموت زوجيهما في معركة قتال دارت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين رجالهما.

كما أن من فوائد زواجه صلى الله عليه وسلم ما كان شائعاً عند العرب من احترام للمصاهرة إذ كانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار سبة وعاراً على أنفسهم. فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة المخزومية لم يقف خالد بن الوليد المخزومي من المسلمين موقفه الشديد الذي وقفه بأحد، وكذلك أبو سفيان قائد المشركين لم يواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة،وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية.

ومن أعظم وأجل مقاصد نكاحه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان مأموراً بتزكية وتعليم الناس ولما كان من المبادئ التي قام عليها بناء المجتمع المسلم ألا يختلط الرجال بالنساء كانت الحاجة داعية إلى وجود نساء مختلفات الأعمار والمواهب (وهن أمهات المؤمنين) فيزكيهن النبي صلى الله عليه وسلم ويربيهن ويعلمنهن ليقمن من بعده بتربية نساء المسلمين فيكفين مؤنة التبليغ في النساء، وقد كان لأمهات المؤمنين فضلٌ كبير في نقل أحواله صلى الله عليه وسلم المنزلية للناس.

أفترى رجلاً يدع الزواج في شبابه من النساء ويقتصر على امرأة كبيرة في السن كخديجة أو كسودة حتى يصل الخمسين من عمره ثم فجأة يجد في نفسه شهوة عارمة فيتزوج بمثل هذا العدد الكبير من النساء؟!.

اللهم إن هذا لا يقولـه إنسان عاقل بل لا يقوله إلا مكابر فاجر.


 
الشبهة الخامسة:من أعظم الشبه والافتراء: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (إرهابي دموي سفاك للدماء):

وهذه التهمة إنما يذيعها المستشرقون في العصر الحديث تشكيكاً في دعوته وصدق نبوته صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الحلم والاحتمال والعفو عند المقدرة والصبر على المكاره الشيء الكثير جداً.

وكل حليم عرفت منه زلة وحفظت عنه هفوة ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزدد مع كثرة الأذى إلا صبراً وعلى إسراف الجاهل إلا حلماً، قالت عائشة – رضي الله عنها: ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها أخرجه البخاري، وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضىً.

وقد كان من أعظم دلائل نبوته التي وردت في كتب أهل الكتاب. والتي آمن على مثلها من آمن منهم مثل عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما أن حلمه يسبق غضبه.

وقد كان العفو والصفح أحب إليه من الانتقام كما في القصص التالية:

* تصدى لـه غورث بن الحارث ليفتك به صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مطرح تحت شجرة وحده

قائلاً (من القيلولة وهو نوم وسط النهار) دون حرس، وأصحابه قائلون كذلك. وذلك في غزاة، فلم ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وغورث قائم على رأسه، والسيف مصلتٌ في يديه وقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الله». فسقط السيف من يد غورث، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «من يمنعك»؟ قال غورث: كن خير آخذ فتركه وعفا عنه. فعاد إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. (أخرجه الإمام أحمد وهو في البخاري مختصراً).

* لما دخل المسجد الحرام صبيحة الفتح ووجد رجالات قريش جالسين مطأطي الرؤوس ينتظرون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتح فيهم، فقال: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم»؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (حسن إسناده ابن حجر في فتح الباري) فعفا عنهم بعدما ارتكبوا من الجرائم ضده وضد أصحابه ما لا يقادر قدره، ولا يحصى عده، ومع هذا فقد عفا عنهم ولم يعنف ولم يضرب. ولم يقتل فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

* سحره لبيد بن الأعصم اليهودي (القصة في صحيح البخاري)، فعفا عنه ولم يؤاخذه. بل لم يثبت أنه لامه أو عاتبه مجرد لوم أو عتاب. فضلاً عن المؤاخذة والعقاب.

* تآمر عليه المنافقون وهو في طريق عودته من تبوك إلى المدينة تآمروا عليه ليقتلوه وعلم بهم وقيل له فيهم فعفا عنهم، وقال: (لا يُتحدث أن محمداً يقتل أصحابه) (القصة في صحيح البخاري).

* لم يذكر في غزوة من الغزوات أنه اعتدى على أحد أو غزا قوماً مسالمين بل كانت غزواته وسراياه موجهة إلى من بدأه بالعداوة وحاول الكيد للإسلام والمسلمين، وكان يأمر أمراءه إذا أرسلهم أن لا يقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا عجوزاً ولا راهباً معتزلاً في صومعته وكان ينهاهم عن التحريق بالنار وإفساد الزرع.

وقد غيّر النبي صلى الله عليه وسلم أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها في الجاهلية، فبينما كانت الحرب عبارة عن النهب والسلب والقتل والإغارة والظلم والبغي والعدوان وأخذ الثأر والفوز بالوتر وكبت الضعيف وتخريب العمران وتدمير البنيان وهتك حرمات النساء والقسوة على الضعيف والولائد والصبيان وإهلاك الحرث والنسل والعبث والفساد في الأرض في الجاهلية، إذ صارت هذه الحرب في الإسلام جهاداً في تحقيق أهداف نبيلة وأغراض سامية وغايات محمودة يعتز بها المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان وغدت الحرب جهاداً في تخليص الإنسان من نظام القهر والعدوان.

إن تحول المجتمع إلى نظام العدل والنصف بدلاً عن نظام يأكل فيه القوي الضعيف، حتى يصير المجتمع إلى نظام يصير فيه القوي ضعيفاً حتى يؤخذ الحق منه وصارت بذلك الحرب جهاداً لتخليص المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً. وصارت جهاداً في تطهير أرض الله من الغدر والخيانة والإثم والعدوان وغدت وسيلة لبسط الأمن والسلامة والرأفة والرحمة ومراعاة الحقوق والمروءة.

أومن قام بتبديل الحرب من شرٍّ محضٍ إلى خيرٍ محضٍ يكون إرهابياً أو سفاكٍ للدماء؟.

أفترى من يأمر بهذا العدل والإنصاف والرحمة والرأفة حتى مع العدو أثناء القتال يمكن أن يوصف بأنه إرهابي أو قاتل أو سفاك للدماء؟ سبحانك هذا بهتان عظيم!!

علماً بأن جميع البلاد التي فتحها بالسيف ظهر فيها الإسلام وانتشر وثبت أهلها على الإسلام، مما يؤكد أن انتشار الإسلام وثباته لصفاته الذاتية فيه وليس انتشاره عائداً إلى نشره بالقوة والسيف فقط كما أن أكثر بقاع الإسلام وبلاده مما فتح سلماً دون حرب أو قتال كما ثبت ذلك في دواوين السيرة وكتب التاريخ.

إن هذه الشبه والتهم التي يطلقها أعداء الإسلام على نبينا صلى الله عليه وسلم لم تكن يوماً لتوهي من عضد الرسالة أو الرسول الذي بعث بها: (يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) [التوبة : 32].

بل ربما كانت هذه الشبه فأل خير لهذا الدين إذ أنه ومنذ ظهور فجر النبوة المحمدية كانت هذه الشبه والاتهامات سبباً وباعثاً قوياً في إقبال الناس على دعوته صلى الله عليه وسلم فكلما زادت التهم زاد تحري الناس وسؤالهم عن الرسول والرسالة فيقودهم ذلك إلى الانبهار بأضواء النبوة حتى يسلمهم ذلك إلى الدخول في دين الله أفواجاً والحمد لله أولاً وآخراً.

وقولنا لمن يروج هذه الشبه والتهم هو ما قاله حسان ابن ثابت في المنافحة عن النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه وهو أجمل ما قيل في الذب عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستطع أحد أن يحلق إلى ما دون هذا فضلاً عن أن يساميه وأنّى لهم ذلك وهو المؤيد بروح القدس، يقول – رضي الله عنه:

هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه **** وعند الله في ذاك الجزاءُ

هجوت مباركاً براً حنيفاً **** أمين الله شيمته الوفاءُ

أتهجوه ولستَ له بكفء؟**** فشركما لخير كما الفداءُ

فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاءُ

وإذا كان هذا ما قاله مؤمن به، فإن ما ورد عن أعداءه من الثناء عليه كثيرٌ جداً – والحق ما شهدت به الأعداء – فهذا الدكتور مايكل هارت الذي ألف كتاب (المائة الأوائل) يضع في المقام الأول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويعلل ذلك بقوله: ((إن اختيار المؤلف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليكون في رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات، إن هذا الاختيار ربما أدهش الكثير من القراء (يقصد بهم القراء من غير المسلمين الذين ألف لهم الكتاب، وإلا فإن المسلمين يعتقدون عقيدة جازمة بأن محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الثقلين) إلى حد قد يثير بعض التساؤلات، ولكن في اعتقاد المؤلف أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي.

لقد أسس محمد صلى الله عليه وسلم ونشر أحد أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام. ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرناً تقريباً على وفاته، فإن تأثيره لا يزال قوياً وعارماً))*.

ــــــــــــــــــــــــــ


 
الحلقة الرابعة والثمانون : شبهات وردود (( 4 ))


تعدد زوجات النبي محمد صلى الله عليه وسلم



أ.د محمود حمدي زقزوق

قالوا إنه صلى الله عليه وسلم:

· تزوج زوجة ابنه بالتبني (زيد بن حارثة).

· أباح لنفسه الزواج من أي امرأة تهبه نفسها (الخلاصة أنه شهواني).

الرد على الشبهة:

الثابت المشهور من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يتزوج إلا بعد أن بلغ الخامسة والعشرين من العمر.

والثابت كذلك أن الزواج المبكر كان من أعراف المجتمع الجاهلي رغبة في الاستكثار من البنين خاصة ليكونوا للقبيلة عِزًّا ومنعة بين القبائل.

ومن الثابت كذلك في سيرته الشخصية صلى الله عليه وسلم اشتهاره بالاستقامة والتعفف عن الفاحشة والتصريف الشائن الحرام للشهوة، رغم امتلاء المجتمع الجاهلي بشرائح من الزانيات اللاتي كانت لهن بيوت يستقبلن فيها الزناة ويضعن عليها " رايات " ليعرفها طلاب المتع المحرمة.

ومع هذا كله ـ مع توفر أسباب الانحراف والسقوط في الفاحشة في مجتمع مكة ـ لم يُعرَف عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلا التعفف والطهارة بين جميع قرنائه؛ ذلك لأن عين السماء كانت تحرسه وتصرف عنه كيد الشيطان.

ويُرْوَى في ذلك أن بعض أترابه الشباب أخذوه ذات يوم إلى أحد مواقع المعازف واللهو فغشَّاه الله بالنوم فما أفاق منه إلا حين أيقظه أترابه للعودة إلى دورهم.
هذه واحدة..

أما الثانية فهي أنه حين بلغ الخامسة والعشرين ورغب في الزواج لم يبحث عن "البكر" التي تكون أحظى للقبول وأولى للباحثين عن مجرد المتعة. وإنما تزوج امرأة تكبره بحوالي خمسة عشر عامًا، ثم إنها ليست بكرًا بل هي ثيب، ولها أولاد كبار أعمار أحدهم يقترب من العشرين؛ وهي السيدة خديجة وفوق هذا كله فمشهور أنها هي التي اختارته بعد ما لمست بنفسها ـ من خلال مباشرته لتجارتها ـ من أمانته وعفته وطيب شمائله صلى الله عليه وسلم.

والثالثة أنه صلى الله عليه وسلم بعد زواجه منها دامت عشرته بها طيلة حياتها ولم يتزوج عليها حتى مضت عن دنياه إلى رحاب الله. وقضى معها - رضي الله عنها - زهرة شبابه وكان له منها أولاده جميعًا إلا إبراهيم الذي كانت أمه السيدة "مارية" القبطية.

والرابعة أنه صلى الله عليه وسلم عاش عمره بعد وفاتها - رضي الله عنها - محبًّا لها يحفظ لها أطيب الذكريات ويعدد مآثرها وهي مآثر لها خصوص في حياته وفي نجاح دعوته فيقول في بعض ما قال عنها: [ صدقتني إذ كذبني الناس وأعانتني بمالها ]. بل كان صلى الله عليه وسلم لا يكف عن الثناء عليها والوفاء لذكراها والترحيب بمن كن من صديقاتها، حتى أثار ذلك غيرة السيدة عائشة - رضي الله عنها.

أما تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم فكان كشأن غيره من الأنبياء له أسبابه منها:

أولاً: كان عُمْرُ محمد صلى الله عليه وسلم في أول زواج له صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة تجاوز الخمسين وهي السنّ التي تنطفئ فيها جذوة الشهوة وتنام الغرائز الحسية بدنيًّا، وتقل فيها الحاجة الجنسية إلى الأنثى وتعلو فيها الحاجة إلى من يؤنس الوحشة ويقوم بأمر الأولاد والبنات اللاتي تركتهم خديجة - رضي الله عنها -.

وفيما يلي بيان هذا الزواج وظروفه.

الزوجة الأولى: سودة بنت زمعة: كان رحيل السيدة خديجة - رضي الله عنها - مثير أحزان كبرى في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي محيط الصحابة - رضوان الله عليهم - إشفاقًا عليه من الوحدة وافتقاد من يرعى شئونه وشئون أولاده. ثم تصادف فقدانه صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب نصيره وظهيره وسُمِّىَ العام الذي رحل فيه نصيراه خديجة وأبو طالب عام الحزن.

في هذا المناخ.. مناخ الحزن والوحدة وافتقاد من يرعى شئون الرسول وشئون أولاده سعت إلى بيت الرسول واحدة من المسلمات تُسمى خولة بنت حكيم السلمية وقالت: له يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلّة لفقد خديجة فأجاب صلى الله عليه وسلم: [ أجل كانت أم العيال وربة البيت]، فقالت يا رسول الله: ألا أخطب عليك ؟.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ولكن – من بعد خديجة ؟! فذكرت له عائشة بنت أبى بكر فقال الرسول: لكنها ما تزال صغيره فقالت: تخطبها اليوم ثم تنتظر حتى تنضج.. قال الرسول ولكن من للبيت ومن لبنات الرسول يخدمهن ؟ فقالت خولة: إنها سودة بنت زمعة، وعرض الأمر على سودة ووالدها: فتم الزواج ودخل بها صلى الله عليه وسلم بمكة.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن سودة هذه كانت زوجة للسكران بن عمرو وتوفي عنها زوجها بمكة فلما حلّت تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت أول امرأة تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، وكان ذلك في رمضان سنة عشر من النبوة.

وعجب المجتمع المكي لهذا الزواج لأن "سودة" هذه ليست بذات جمال ولا حسب ولا تصلح أن تكون خلفًا لأم المؤمنين خديجة التي كانت عند زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها جميلة وضيئة وحسيبة تطمح إليها الأنظار.

وهنا أقول للمرجفين الحاقدين: هذه هي الزوجة الأولى للرسول بعد خديجة، فهي مؤمنة هاجرت الهجرة الأولى مع من فرّوا بدينهم إلى الحبشة وقد قَبِلَ الرسول زواجها حماية لها وجبرًا لخاطرها بعد وفاة زوجها إثر عودتهما من الحبشة.

وليس الزواج بها سعارَ شهوة للرسول ولكنه كان جبرًا لخاطر امرأة مؤمنة خرجت مع زوجها من أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة ولما عادا توفي زوجها وتركها امرأة تحتاج هي وبنوها إلى من يرعاهم.

 
الزوجة الثانية بعد خديجة: عائشة بنت أبى بكر الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من آمن الناس علىّ في ماله وصحبته أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام..".

ومعروف من هو أبو بكر الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم متحدثاً عن عطائه للدعوة " ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبى بكر "، وأم عائشة هي أم رومان بنت عامر الكناني من الصحابيات الجليلات، ولما توفيت نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبرها واستغفر لها وقال: "اللهم لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم"، وقال عنها يوم وفاتها:

"من سرّه أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان" ولم يدهش مكة نبأ المصاهرة بين أعز صاحبين؛ بل استقبلته كما تستقبل أمرًا متوقعاً؛ ولذا لم يجد أي رجل من المشركين في هذا الزواج أي مطعن - وهم الذين لم يتركوا مجالاً للطعن إلا سلكوه ولو كان زورًا وافتراء.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بفتاة بينه وبينها قرابة خمسين عامًا ليس بدعا ولا غريبًا لأن هذا الأمر كان مألوفًا في ذلك المجتمع. لكن المستشرقين ومن تحمل قلوبهم الحقد من بعض أهل الكتاب - على محمد صلى الله عليه وسلم - جعلوا من هذا الزواج اتهامًا للرسول وتشهيرًا به بأنه رجل شهواني غافلين بل عامدين إلى تجاهل ما كان واقعًا في ذلك المجتمع من زواج الكبار بالصغيرات كما في هذه النماذج:
- فقد تزوج عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم من هالة بنت عم آمنة التي تزوجها أصغر أبنائه عبد الله ـ والد الرسول صلى الله عليه وسلم.

- وتزوج عمر بن الخطاب ابنة على بن أبى طالب وهو أكبر سنًّا من أبيها.

- وعرض عمر على أبى بكر أن يتزوج ابنته الشابة " حفصة " وبينهما من فارق السن مثل الذي بين المصطفي صلى الله عليه وسلم وبين " عائشة " (1).
كان هذا واقع المجتمع الذي تزوج فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة. لكن المستشرقين والممتلئة قلوبهم حقدًا من بعض أهل الكتاب لم ترَ أعينهم إلا زواج محمد بعائشة والتي جعلوها حدث الأحداث - على حد مقولاتهم - أن يتزوج الرجل الكهل بالطفلة الغريرة العذراء (2).

قاتل الله الهوى حين يعمى الأبصار والبصائر!

الزوجة الثالثة: حفصة بنت عمر الأرملة الشابة: توفي عنها زوجها حنيس بن حذافة السهمي وهو صحابي جليل من أصحاب الهجرتين - إلى الحبشة ثم إلى المدينة - ذلك بعد جراحة أصابته في غزوة أُحد حيث فارق الحياة وأصبحت حفصة بنت عمر بن الخطاب أرملة وهي شابة.

وكان ترمّلها مثار ألم دائم لأبيها عمر بن الخطاب الذي كان يحزنه أن يرى جمال ابنته وحيويتها تخبو يومًا بعد يوم..

وبمشاعر الأبوة الحانية وطبيعة المجتمع الذي لا يتردد فيه الرجل من أن يخطب لابنته من يراه أهلاً لها..

بهذه المشاعر تحدث عمر إلى الصديق " أبى بكر " يعرض عليه الزواج من حفصة لكن أبا بكر يلتزم الصمت ولا يرد بالإيجاب أو بالسلب.

فيتركه عمر ويمضى إلى ذي النورين عثمان بن عفان فيعرض عليه الزواج من حفصة فيفاجئه عثمان بالرفض..

فتضيق به الدنيا ويمضى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بما حدث فيكون رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه هو قوله: [يتزوج حفصةَ خيرٌ من عثمان ويتزوج عثمان خيرًا من حفصة] (3).

وأدركها عمر - رضي الله عنه - بفطرته إذ معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما استشعره عمر هو أن من سيتزوج ابنته حفصة هو الرسول نفسه وسيتزوج عثمان إحدى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم.

وانطلق عمر إلى حفصة والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة وارتياح القلب إلى أن الله قد فرّج كرب ابنته.

الزوجة الرابعة: أم سلمة بنت زاد الراكب: من المهاجرين الأولين إلى الحبشة وكان زوجها (أبو سلمة) عبد الله ابن عبد الأسد المخزومي أول من هاجر إلى يثرب (المدينة) من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. جاءت إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم كزوجة بعد وفاة " أم المساكين زينب بنت خزيمة الهلالية " بزمن غير قصير.
سليلة بيت كريم، فأبوها أحد أجواد قريش المعروفين بلقب زاد الراكب؛ إذ كان لا يرافقه أحد في سفر إلا كفاه زاده.

وزوجها الذي مات عنها صحابي من بني مخزوم ابن عمة المصطفي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ذو الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة. وكانت هي و زوجها من السابقين إلى الإسلام. وكانت هجرتهما إلى المدينة معًا وقد حدث لها ولطفلها أحداث أليمة ومثيرة ذكرتها كتب السير. رضي الله عن أم سلمة..

ولا نامت أعين المرجفين.

الزوجة الخامسة: زينب بنت جحش: لم أرَ امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد تبديلا إلا لنفسها في العمل الذي تتصدق وتتقرب به إلى الله عز وجل؟(4).

هكذا تحدثت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها– عن " ضرّتها " زينب بنت جحش. أما المبطلون الحاقدون من بعض أهل الكتاب فقالوا: أُعْجِب محمد صلى الله عليه وسلم ـ وحاشا له - بزوجة متبناه " زيد بن حارثة " فطلقها منه وتزوجها.

ويرد الدكتور هيكل في كتابه "حياة محمد"(5) صلى الله عليه وسلم على هذا فيقول: إنها شهوة التبشير المكشوف تارة والتبشير باسم العلم تارة أخرى، والخصومة القديمة للإسلام تأصلت في النفوس منذ الحروب الصليبية هي التي تملى على هؤلاء جميعًا ما يكتبون.

والحق الذي كنا نود أن يلتفت إليه المبطلون الحاقدون على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم.. هو أن زواج محمد صلى الله عليه وسلم من زوجة ابنه بالتبني زيد بن حارثة إنما كان لحكمة تشريعية أرادها الإسلام لإبطال هذه العادة ـ عادة التبني ـ التي هي في الحقيقة تزييف لحقائق الأمور كان لها في واقع الناس والحياة آثار غير حميدة.

ولأن هذه العادة كانت قد تأصلت في مجتمع الجاهلية اختارت السماء بيت النبوة بل نبي الرسالة الخاتمة نفسه صلى الله عليه وسلم ليتم على يديه وفي بيته الإعلان العلمي عن إبطال هذه العادة.

وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة الآيات القرآنية التي جاءت إعلاناً عن هذا الحكم المخالف لعادات الجاهلية وتفسيرًا للتشريع الجديد في هذه ـ المسألة و في موضوع الزواج بزينب حيث تقول: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)(6).

(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم )(7).

(وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً)(8).
مرة أخرى نذكر بأن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب لم تكن وراءه أبدًا شهوة أو رغبة جنسية وإنما كان أمرًا من قدر الله وإرادته لإبطال عادة التبني من خلال تشريع يتردد صداه بأقوى قوة في المجتمع الجاهلي الذي كانت عادة التبني أصلاً من أصوله وتقليدًا مستقرًا فيه، فكان السبيل لأبطالها أن يتم التغيير في بيت النبوة وعلى يد الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم.

وقد فطنت السيدة " زينب بنت جحش " نفسها إلى هذا الأمر فكانت تباهي به ضراتها وتقول لهن:" زوجكن أهاليكن وزوجني ربي من فوق سبع سمَاوات"(9).

أما لماذا كان زيد بن حارثة نفسه يتردد على الرسول معربًا عن رغبته في تطليق زينب؛ فلم يكن - كما زعم المرجفون - أنه شعر أن الرسول يرغب فيها فأراد أن يتنازل عنها له..

ولكن لأن حياته معها لم تكن على الوفاق أو التواد المرغوب فيه؛ ذلك أن زينب بنت جحش لم تنس أبدًا ـ وهي الحسيبة الشريفة والجميلة أيضًا أنها أصبحت زوجًا لرجل كان رقيقًا عند بعض أهلها وأنه ـ عند الزواج بها ـ كان مولىً للرسول صلى الله عليه وسلم أعتقه بعد ما اشتراه ممن أسره من قريش وباعه بمكة.

فهو ـ وإن تبناه محمد وبات يسمى زيد بن محمد في عرف المجتمع المكي كله، لكنه عند العروس الحسيبة الشريفة والجميلة أيضا ما يزال ـ كما كان بالأمس - الأسير الرقيق الذي لا يمثل حُلم من تكون في مثل حالها من الحسب والجمال وليس هذا بغريب بل إنه من طبائع الأشياء.

ومن ثم لم تتوهج سعادتها بهذا الزواج، وانعكس الحال على زيد بن حارثة فانطفأ في نفسه توهج السعادة هو الآخر، وبات مهيأ النفس لفراقها بل لقد ذهب زيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو زينب إليه كما جاء في البخاري من حديث أنس قال: جاء زيد يشكو إلى الرسول فجعل صلى الله عليه وسلم يقول له: [أمسك عليك زوجك واتق الله](10) قال أنس: لو كان النبي كاتمًا شيئًا لكتم هذا الحديث.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول له كما حكته الآية: أمسك عليك زوجك ولا تسارع بتطليقها.

وزينب بنت جحش هي بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم - كما سبقت الإشارة – وهو الذي زوجها لمولاه "زيد" ولو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه؛ وخاصة أنه رآها كثيراً قبل فرض الحجاب، وكان النساء في المجتمع الجاهلي غير محجبات فما كان يمنعه – إذًا – من أن يتزوجها من البداية؟! ولكنه لم يفعل.

فالأمر كله ليس من عمل الإرادة البشرية لهم جميعًا: لا لزينب ولا لزيد ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه أمر قدري شاءته إرادة الله لإعلان حكم وتشريع جديدين في قضية إبطال عادة "التبني" التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك.

يؤكد هذا ويدل عليه مجموع الآيات الكريمة التي تعلقت بالموضوع في سورة الأحزاب.
أما الجملة التي وردت في قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)(11). فإن ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو كتم ما كان الله قد أخبره به من أن زينب ـ يومًا ما ـ ستكون زوجًا له؛ لكنه لم يصرح به خشية أن يقول الناس: إنه تزوج زوجة ابنه بالتبني(12).


 
الزوجة السادسة: جويرية بنت الحارث الخزاعية: الأميرة الحسناء التي لم تكن امرأة أعظم بركة على قومها منها فقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم بعد زواجه بها أهل مائة بيت من بني المصطلق (التي هي منهم).

كانت ممن وقع في الأسر بعد هزيمة بني المصطلق من اليهود في الغزوة المسماة باسمهم. وكاتبها من وقعت في أسره على مال فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أو خير من ذلك؟ قالت: وما هو؟ قال: أقضى عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: وقد أفاقت من مشاعر الهوان والحزن: نعم يا رسول الله. قال: قد فعلت"(13).

وذاع الخبر بين المسلمين: أن رسول صلى الله عليه وسلم قد تزوج بنت الحارث بن ضرار زعيم بني المصطلق وقائدهم في هذه الغزوة..

معنى هذا أن جميع من بأيديهم من أسرى بني المصطلق قد أصبحوا بعد هذا الزواج كأنهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا تيار من الوفاء والمجاملة من المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم تجسد في إطلاق المسلمين لكل من بأيديهم من أسرى بني المصطلق وهم يقولون: أصهار رسول الله، فلا نبقيهم أسرى.

ومع أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأسيرة بنت سيد قومها والذي جاءته ضارعة مذعورة مما يمكن أن تتعرض له من الذل من بعد عزة.. فإذا هو يرحمها بالزواج، ثم يتيح لها الفرصة لأن تعلن إسلامها وبذا تصبح واحدة من أمهات المؤمنين.
ويقولون: إنه نظر إليها.

وأقول: أما أنه نظر إليها فهذا لا يعيبه ـ وربما كان نظره إليها ضارعة مذعورة – هو الذي حرك في نفسه صلى الله عليه وسلم عاطفة الرحمة التي كان يأمر بها بمن في مثل حالتها ويقول: [ارحموا عزيز قوم ذل]، فرحمها وخيرها فاختارت ما يحميها من هوان الأسر ومذلة الأعزة من الناس.

على أن النظر شرعًا مأذون به عند الإقدام على الزواج - كما في هذه الحالة - وكما أمر به صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عند رغبته في الزواج - قائلاً له: [انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما](14).

وقد توفيت في دولة بنى أمية وصلى عليها عبد الملك بن مروان وهي في السبعين من العمر - رضي الله عنها.

الزوجة السابعة: صفية بنت حُيىّ ـ عقيلة بنى النضير: إحدى السبايا اللاتي وقعن في الأسر بعد هزيمة يهود بني النضير أمام المسلمين في الوقعة المسماة بهذا الاسم، كانت من نصيب النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها: فماذا في ذلك؟! ولم يكن عتقه إياها وتزوجها بدعًا في ذلك؛ وإنما كان موقفًا جانب الإنسانية فيه هو الأغلب والأسبق.
فلم يكن هذا الموقف إعجابًا بصفية وجمالها؛ ولكنه موقف الإنسانية النبيلة التي يعبر عنها السلوك النبيل بالعفو عند المقدرة والرحمة والرفق بمن أوقعتهن ظروف الهزيمة في الحرب في حالة الاستضعاف والمذلة, لا سيما وقد أسلمن وحسن إسلامهن.

فقد فعل ذلك مع "صفية بنت حُيىّ" بنت الحارس عقيلة بني النضير (اليهود) أمام المسلمين في الموقعة المعروفة باسم (غزوة بني قريظة) بعد انهزام الأحزاب وردّهم مدحورين من وقعة الخندق.

الزوجة الثامنة: أم حبيبة بنت أبى سفيان نجدة نبوية لمسلمة في محنة: إنها أم حبيبة "رملة" بنت أبى سفيان كبير مشركي مكة وأشد أهلها خصومة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه.

كانت زوجًا لعبيد الله بن جحش وخرجا معًا مهاجرين بإسلامهما في الهجرة الأولى إلى الحبشة، وكما هو معروف أن الحبشة في عهد النجاشي كانت هي المهجر الآمن للفارين بدينهم من المسلمين حتى يخلصوا من بطش المشركين بهم وعدوانهم عليهم؛ فإذا هم يجدون في – ظل النجاشي – رعاية وعناية لما كان يتمتع به من حس إيماني جعله يرحب بأتباع النبي الجديد الذي تم التبشير بمقدمه في كتبهم على لسان عيسى بن مريم– عليه السلام – كما تحدث القرآن عن ذلك في صورة الصف في قوله: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بنى إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد)(15).
لكن أم حبيبة بنت أبى سفيان كانت وحدها التي تعرضت لمحنة قاسية لم يتعرض لمثلها أحد من هؤلاء المهاجرين الأوائل إلى الحبشة؛ ذلك أن زوجها عبيد الله بن جحش قد أعلن ارتداده عن الإسلام ودخوله في النصرانية وما أصعب وأدق حال امرأة باتت في محنة مضاعفة: محنتها في زوجها الذي ارتد وخان..

ومحنتها السابقة مع أبيها الذي فارقته مغاضبة إياه في مكة منذ دخلت في دين الله (الإسلام)..

وفوق هاتين المحنتين كانت محنة الاغتراب حيث لا أهل ولا وطن ثم كانت محنة حملها بالوليدة التي كانت تنتظرها والتي رزقت بها من بعد وأسمتها "حبيبة".. كان هذا كله أكبر من عزم هذه المسلمة الممتحنة من كل ناحية والمبتلاة بالأب الغاضب والزوج الخائن!!
لكن عين الله ثم عين محمد صلى الله عليه وسلم سخرت لها من لطف الرعاية وسخائها ما يسّر العين ويهون الخطب، وعادت بنت أبى سفيان تحمل كنية جديدة، وبدل أن كانت " أم حبيبة " أصبحت " أم المؤمنين " وزوج سيد المسلمين - صلوات الله وسلامه عليه.
والحق أقول: لقد كان نجاشي الحبشة من خلّص النصارى فأكرم وفادة المهاجرين عامة وأم المؤمنين بنت أبى سفيان بصفة خاصة. فأنفذ في أمرها مما بعث به إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها له.

وكانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة بنت أبى سفيان نعم الإنقاذ والنجدة لهذه المسلمة المبتلاة في الغربة؛ عوضتها عن الزوج الخائن برعاية سيد البشر صلى الله عليه وسلم؛ وعوضتها عن غضب الأب "أبى سفيان" برعاية الزوج الحاني الكريم صلوات الله عليه.

كما كانت هذه الخطبة في مردودها السياسي ـ لطمة كبيرة لرأس الكفر في مكة أبى سفيان بن حرب الذي كان تعقيبه على زواج محمد لابنته هو قوله: "إن هذا الفحل لا يجدع أنفه"؛ كناية عن الاعتراف بأن محمدًا لن تنال منه الأيام ولن يقوى أهل مكة - وهو على رأسهم - على هزيمته والخلاص منه لأنه ينتقل كل يوم من نصر إلى نصر.

كان هذا الاعتراف من أبى سفيان بخطر محمد وقوته كأنه استشفاف لستر الغيب أو كما يقول المعاصرون: تنبؤ بالمستقبل القريب وتمام الفتح.

فما لبث أن قبل أبو سفيان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إياه إلى الإسلام وشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

وتقدم أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله قائلاً: " إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فهلا جعلت له ما يحل عقدته ويسكن حقده وغيظه، فقال صلوات الله وسلامه عليه في ضمن إعلانه التاريخي الحضاري العظيم لأهل مكة عند استسلامهم وخضوعهم بين يديه:

· من دخل داره فهو آمن.

· ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.

· ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن "(16).

وانتصر الإسلام وارتفع لواء التوحيد ودخل الناس في دين الله أفواجًا. وفي مناخ النصر العظيم.. كانت هي سيدة غمرتها السعادة الكبرى بانتصار الزوج ونجاة الأب والأهل من شر كان يوشك أن يحيط بهم.

تلكم هي أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبى سفيان التي أحاطتها النجدة النبوية من خيانة الزوج وبلاء الغربة ووضعتها في أعز مكان من بيت النبوة.

الزوجة التاسعة: ميمونة بنت الحارث الهلالية أرملة يسعدها أن يكون لها رجل: آخر أمهات المؤمنين.. توفي عنها زوجها أبو رهم بن عبد العزّى العامري؛ فانتهت ولاية أمرها إلى زوج أختها العباس الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث بنى بها الرسول ـ في " سرف " قرب " التنعيم" على مقربة من مكة حيث يكون بدء الإحرام للمعتمرين من أهل مكة والمقيمين بها.

وقيل: إنه لما جاءها الخاطب بالبشرى قفزت من فوق بعيرها وقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنها هي التي وهبت نفسها للنبي والتي نزل فيها قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين..)(17).

 
كانت آخر أمهات المؤمنين وآخر زوجاته صلوات الله وسلامه عليه.

----------------
(1) تراجم لسيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطئ: ص 250 وما بعدها.

(2) المصدر السابق.

(3) انظر سيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطئ ص 324 (4) صحيح مسلم كتاب الفضائل.

(5) حياة محمد ص 29.

(6) الأحزاب: 40.

(7) الأحزاب: 5.

(8) الأحزاب: 37.

(9) رواه البخاري (كتال التوحيد 6108).

(10) رواه البخاري (كتاب التوحيد).

(11) الأحزاب: 37.

(12) انظر فتح الباري 8 / 371 عن سيدات بيت النبوة لبنت الشاطئ ص 354.

(13) رواه البخاري: فتح الباري _ كتال النكاح باب 14.

(14) رواه البخاري: فتح الباري ـ كتاب النكاح باب 36.

(15) الصف: 6.

(16) رواه البخاري – فتح الباري – " كتاب المغازي ".

(17) الأحزاب: 50.
 
الحلقة الخامسة والثمانون : شبهات وردود (( 5 ))



حول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القرآن من العصمة

أ.د محمود حمدي زقزوق

هناك من لا يعترفون بأن الرسول معصوم عن الخطأ ، ويقدمون الأدلة على ذلك بسورة [عبس وتولى] وكذلك عندما جامل الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته، ونزلت الآية الكريمة التي تنهاه عن ذلك (انتهى).

الرد على الشبهة:

إن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك عصمة كل الرسل - عليهم السلام - يجب أن تفهم في نطاق مكانة الرسول.. ومهمة الرسالة.. فالرسول: بشر يُوحَى إليه.. أي أنه - مع بشريته - له خصوصية الاتصال بالسماء ، بواسطة الوحي.. ولذلك فإن هذه المهمة تقتضى صفات يصنعها الله على عينه فيمن يصطفيه ، كي تكون هناك مناسبة بين هذه الصفات وبين هذه المكانة والمهام الخاصة الموكولة إلى صاحبها.

والرسول مكلف بتبليغ الرسالة، والدعوة إليها، والجهاد في سبيل إقامتها وتطبيقها.. وله على الناس طاعة هي جزء من طاعة الله - سبحانه وتعالى-(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول), (قل أطيعوا الله والرسول), (من يطع الرسول فقد أطاع الله), (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ولذلك كانت عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ضرورة من ضرورات صدقهم والثقة في هذا البلاغ الإلهي الذي اختيروا ليقوموا به بين الناس.. وبداهة العقل - فضلاً عن النقل - تحكم بأن مُرْسِل الرسالة إذا لم يتخير الرسول الذي يضفى الصدق على رسالته ، كان عابثًا.. وهو ما يستحيل على الله، الذي يصطفى من الناس رسلاً تؤهلهم العصمة لإضفاء الثقة والصدق على البلاغ الإلهي.. والحُجة على الناس بصدق هذا الذي يبلغون.

وفى التعبير عن إجماع الأمة على ضرورة العصمة للرسول فيما يبلغ عن الله، يقول الشيخ محمد عبده عن عصمة الرسل - كل الرسل-: "... ومن لوازم ذلك بالضرورة: وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم، وصحة عقولهم، وصدقهم في أقوالهم، وأمانتهم في تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهي بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية.. إن من حكمة الصانع الحكيم - الذي أقام الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعدُّ لها، بمحض فضله، بعض مَنْ يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطرة السليمة، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم في الدنيا كأنهم ليسو من أهلها ، هم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها.. أما فيما عدا ذلك - [أي الاتصال بالسماء والتبليغ عنها] - فهم بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده ، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام ، ويمرضون وتمتد إليهم أيدي الظلمة ، وينالهم الاضطهاد ، وقد يقتلون".

فالعصمة - كالمعجزة - ضرورة من ضرورات صدق الرسالة ، ومن مقتضيات حكمة من أرسل الرسل - عليهم السلام -..

وإذا كان الرسول - كبشر - يجوز على جسده ما يجوز على أجساد البشر.. وإذا كان الرسول كمجتهد قد كان يمارس الاجتهاد والشورى وإعمال العقل والفكر والاختيار بين البدائل في مناطق وميادين الاجتهاد التي لم ينزل فيها وحى إلهي.. فإنه معصوم في مناطق وميادين التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - لأنه لو جاز عليه الخطأ أو السهو أو مجانبة الحق والصواب أو اختيار غير الأولى في مناطق وميادين التبليغ عن الله لتطرق الشك إلى صلب الرسالة والوحي والبلاغ ، بل وإلى حكمة من اصطفاه وأرسله ليكون حُجة على الناس.. كذلك كانت العصمة صفة أصيلة وشرطًا ضروريًا من شروط رسالة جميع الرسل - عليهم السلام -.. فالرسول في هذا النطاق - نطاق التبليغ عن الله - (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى). وبلاغة ما هو بقول بشر، ولذلك كانت طاعته فيه طاعة لله، وبغير العصمة لا يتأتى له هذا المقام.

أما اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا وحى فيه، والتي هي ثمرة لإعماله لعقله وقدراته وملكاته البشرية، فلقد كانت تصادف الصواب والأولى ، كما كان يجوز عليها غير ذلك.. ومن هنا رأينا كيف كان الصحابة، رضوان الله عليهم في كثير من المواطن وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه - قبل الإدلاء بمساهماتهم في الرأي - هذا السؤال الذي شاع في السُّنة والسيرة:
"يا رسول الله، أهو الوحي؟ أم الرأي والمشورة؟.." فإن قال: إنه الوحي. كان منهم السمع والطاعة له ، لأن طاعته هنا هي طاعة لله.. وهم يسلمون الوجه لله حتى ولو خفيت الحكمة من هذا الأمر عن عقولهم، لأن علم الله - مصدر الوحي - مطلق وكلى ومحيط، بينما علمهم نسبى، قد تخفى عليه الحكمة التي لا يعلمها إلا الله.. أما إن قال لهم الرسول - جوابًا عن سؤالهم -: إنه الرأي والمشورة.. فإنهم يجتهدون ، ويشيرون ، ويصوبون.. لأنه صلى الله عليه وسلم هنا ليس معصومًا ، وإنما هو واحد من المقدمين في الشورى والاجتهاد.. ووقائع نزوله عن اجتهاده إلى اجتهادات الصحابة كثيرة ومتناثرة في كتب السنة ومصادر السيرة النبوية - في مكان القتال يوم غزوة بدر.. وفى الموقف من أسراها.. وفى مكان القتال يوم موقعة أُحد.. وفى مصالحة بعض الأحزاب يوم الخندق.. إلخ.. إلخ.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد الله له أن يكون القدوة والأسوة للأمة: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا).

وحتى لا يقتدي الناس باجتهاد نبوي لم يصادف الأولى، كان نزول الوحي لتصويب اجتهاداته التي لم تصادف الأولى، بل وعتابه - أحيانًا - على بعض هذه الاجتهادات والاختيارات من مثل: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى). ومن مثل: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير). ومن مثل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
وغيرها من مواطن التصويب الإلهي للاجتهادات النبوية فيما لم يسبق فيه وحى، وذلك حتى لا يتأسى الناس بهذه الاجتهادات
 
المخالفة للأولى.

فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله شرط لازم لتحقيق الصدق والثقة في البلاغ الإلهي، وبدونها لا يكون هناك فارق بين الرسول وغيره من الحكماء والمصلحين، ومن ثم لا يكون هناك فارق بين الوحي المعصوم والمعجز وبين الفلسفات والإبداعات البشرية التي يجوز عليها الخطأ والصواب.. فبدون العصمة تصبح الرسالة والوحي والبلاغ قول بشر، بينما هي - بالعصمة - قول الله - سبحانه وتعالى - الذي بلغه وبينه المعصوم - عليه الصلاة والسلام -.. فعصمة المُبَلِّغ هي الشرط لعصمة البلاغ.. بل إنها - أيضًا - الشرط لنفى العبث وثبوت الحكمة لمن اصطفى الرسول وبعثه وأوحى إليه بهذا البلاغ.
 
الحلقة السادسة والثمانون : شبهات وردود (( 6 ))


دعوى: خلو الكتب السابقة من البشارة برسول الإسلام

أ.د محمود حمدي زقزوق

زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول. وبنوا هذا الزعم على أربع شعب هي:

1. إن العهد والنبوة والكتاب محصورة في نسل إسحق لا إسماعيل.؟!

2. إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يأت بمعجزات.؟!

3. إن القرآن من نوادر الأعمال الإنسانية ، فليس هو معجزاً(1)؟!

4. إن الكتب السابقة - التوراة وملحقاتها والأناجيل - خلت من البشارة برسول الإسلام؟!

الرد على الشبة:

ولكن قبل أن نواجهها مواجهة مباشرة أريد أن أقدم كلمة موجزة بين يدي هذه المواجهة ، رأيت أن تقديمها من أوجب الواجبات في هذا المجال.

وجود "البشارات" وعدمها سواء.. أجل: إن وجود البشارات وعدمها في الكتب المشار إليها آنفًا سواء، وجودها مثل عدمها، وعدمها مثل وجودها. فرسالة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليست في حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل "الخارجي" بطلت - لا سمح الله - تلك الرسالة؛ فهي رسالة دليلها فيها، ووجود البشارات بها في كتب متقدمة - زمنا - عليها لا يضيف إليها جديداً، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط.

فهي حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغني عما سواها. ودليلها قائم خالد صالح للفحص في كل زمان ومكان، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب، ظهر ولم يختف، قوى ولم يضعف. علا ولم يهبط، إنه دليل صدق الأنبياء كلهم. فكل الأنبياء مضوا ولم يبق من أدلة صدقهم إلا ما جاء في هذا الدليل "القرآن العظيم" حيث شهد لهم بالصدق والوفاء وأنهم رسل الله المكرمون..

فلا يظنن أحدُ أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن في حاجة إليها لإثبات صدق رسول الإسلام في دعواه الرسالة. فرسول الإسلام ليس في حاجة إلى "تلك البشارات" حتى ولو سلم لنا الخصوم بوجودها فله من أدلة الصدق ما لم يحظ به رسول غيره.

 
وستعالج البشارة به صلى الله عليه وسلم على قسمين:

1- بشاراته صلى الله عليه وسلم في التوراة.

2- بشاراته صلى الله عليه وسلم في الإنجيل.

أولاً: البشارات في التوراة تعددت البشارات برسول الإسلام في التوراة وملحقاتها، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح، وصيروها نصوصاً احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها "الأصلي" من حملها على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم لأن حملها على غيره متعذر أو متعسر أو محال.

فهي أشبه ما تكون برسالة مغلقة محي "عنوانها" ولكن صاحب الرسالة قادر - بعد فضها - أن يثبت اختصاصها به ، لأن الكلام " الداخلي " الذي فيها يقطع بأنها " له " دون سواه؛ لما فيها من "قرائن" وبينات واضحة ونعرض - فيما يلى - بعضاً منها:
"وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته".
فقال: "جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران"(2).

في هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات:

الأولى: نبوة موسى عليه السلام التي تلقاها على جبل سيناء.

الثانية: نبوة عيسى عليه السلام وساعير هي قرية مجاورة لبيت المقدس ، حيث تلقى عيسى عليه السلام أمر رسالته.

الثالثة: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبل فاران هو المكان الذي تلقى فيه - عليه الصلاة والسلام - أول ما نزل عليه من الوحي وفاران هي مكة المكرمة مولد ومنشأ ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذه العبارة - مرة أخرى - تضمنت خبراً وبشارتين:

فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً.

والبشارتان:

الأولى: خاصة بعيسى عليه السلام.

والثانية: خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وموقف اليهود منهما النفي: فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام.

أما موقف النصارى فإن النفي - عندهم - خاص ببشارة رسول الإسلام. ولهم في ذلك مغالطات عجيبة ، حيث قالوا إن "فاران" هي "إيلات" وليست مكة. وأجمع على هذا "الباطل" واضعو كتاب: قاموس الكتاب المقدس. وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن "فاران" هي مكة المكرمة ، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام ، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له!! أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس ، ولم يقتصر ورود ذكر "فاران" على هذا الموضع من كتب العهد القديم ، فقد ورد في قصة إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر حيث تقول التوراة: إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هي وابنها فنزلت وسكنت في "برية فاران"(3). على أنه يلزم من دعوى واضعي قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد في التوراة. لأنه لم يبعث نبي من "إيلات" حتى تكون البشارة صادقة. ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام ؛ لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات.

فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم ، وجبل فاران هو جبل " النور " الذي به غار حراء ، الذي تلقى فيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بدء الوحي.

وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة " فاران " أشهر من الشمس.
وترتيب الأحداث الثلاثة في العبارة المذكورة:

جاء من سيناء وأشرق من ساعير وتلألأ من فاران. هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران " تبشير قطعى برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض " النسخ " كانت العبارة: "واستعلن من جبل فاران" بدل "تلألأ".

وأياً كان اللفظ فإن "تلألأ" و"استعلن" أقوى دلالة من "جاء" و"أشرق" وقوة الدلالة هنا ترجع إلى "المدلولات " الثلاثة. فالإشراق جزء من مفهوم "المجيء" وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى (عليهما السلام).

أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام ، رسولا ورسالة وأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

هذه المغالطة (فاران هي إيلات) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجر أم إسماعيل عندما أجهدها العطش هي وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه "سارة" طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " في المكان المعروف الآن " ببئر سبع " ؟! وأنها سميت بذلك لذلك..؟! وكما كذبت فاران دعوى "إيلات" كذَّبت "زمزم الطهور" دعوى "بئر سبع"؟‍ وستظل فاران - مكة المكرمة - وزمزم الطهور "عملاقين" تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى.

ويجيء نص آخر في التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مهما غالط المغالطون.

وهو قول الله لموسى حسب ما تروى التوراة:

"أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه"(4).
حدث هذا حسب روايات التوراة وعداً من الله لموسى في آخر عهده بالرسالة ، وكان يهمه أمر بني إسرائيل من بعده ، فأعلمه الله - حسب هذه الرواية التوراتية - أنه سيبعث فيهم رسولا مثل موسى عليه السلام.

ولقوة دلالة النص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد وقف أهل الكتابين - اليهود والنصارى - موقفين مختلفين هدفهما واحد ، وهو أن النص ليس بشارة برسول الإسلام.


 
أما اليهود فلهم فيه رأيان:

الأول: أن العبارة نفسها ليست خبراً بل هي نفي ، ويقدرون قبل الفعل "أقيم" همزة استفهام يكون الاستفهام معها "إنكارياً" وتقدير النص عندهم هكذا " أأقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك؟!

بطلان هذا الرأي وهذا الرأي باطل ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها. وذلك ؛ لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكاري محذوفة هي في قوة المذكور لكان الكلام نفياً فعلاً.. ولو كان الكلام نفياً لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك:

"ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه " ؟! فهذا المقطع إثبات قطعاً فهو مرتب على إقامة النبي الذي وعد به المقطع الذي قبله. فدل هذا " العطف " على أن المقطع السابق وعد خبرى ثابت لا نفي. ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب إلى تقدير الاستفهام..؟!

الثاني: وقد أحس اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا لا مانع أن يكون النص خبراً ووعداً مثبتاً ، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم عليه السلام ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، بل المراد به نبى من أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى، أو صموئيل..؟!

موقف النصارى:

أما النصارى فيحملون البشارة في النص على عيسى عليه السلام وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وقد علمنا قبلا أن اليهود ينفون أن تكون لعيسى عليه السلام.

وللنصارى مغالطات عجيبة في ذلك إذ يقولون إن النبي الموعود به ليس من بنى إسماعيل بل من بنى إسرائيل. ومحمد إسماعيلي فكيف يرسل الله إلى بنى إسرائيل رجلاً ليس منهم.؟! كما قالوا إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون مثله. وقد رددنا على هذه الفرية فيما تقدم.

الحق الذي لا جدال فيه:

والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل. باطل. ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه. أما الحق الذي لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وإليكم البيان:
إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبي الموعود به فيه بشرطين:

أحدهما: أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل.

وثانيهما: أنه مثل موسى عليه السلام صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله وهذان الشرطان لا وجود لهما لا في يوشع بن نون ، ولا في صموئيل كما يدعى اليهود في أحد قوليهم.

ولا في عيسى عليه السلام كما يدعى النصارى.

أما انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بنى إسرائيل وليسو من وسط إخوة بنى إسرائيل.

ولو كان المراد واحداً منهم لقال في الوعد: أقيم لهم نبياً منهم.. ؟! هذا هو منهج الوحي في مثل هذه الأمور كما قال في شأن النبي صلى الله عليه وسلم:
(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم...)(5). وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم...)(6).
وأما انتفاء الشرط الثاني ، فلأن: لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل "موسى" عليه السلام.

فموسى كان صاحب شريعة ، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة ، وإنما كانوا على شريعة موسى عليه السلام.

وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هي الأصل. إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام !! فالمثلية بين هؤلاء - وهي أحد شرطيْ البشارة - وبين موسى عليه السلام لا وجود لها؟!

الشرطان متحققان في رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفي الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:

فهو من نسل إسماعيل ، وإسماعيل أخو إسحق ، الذي هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل. فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل - بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها. وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطيْ البشارة:

ومحمد - عليه الصلاة والسلام - صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها - جمعت فأوعت - مثلما كان موسى - أكبر رسل بنى إسرائيل - صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التي لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام.

وبهذا يتحقق الشرط الثاني من شرطى البشارة وهو " المثليه " بين موسى ومحمد (عليهما صلوات الله وسلامه) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم.
في المزامير المنسوبة إلى داود عليه السلام وردت كثير من العبارات التي لا يصح حمل معناها إلا على رسول الإسلام. ومن ذلك قول داود كما تروى التوراة:
" أنت أبرع جمالاً من بنى البشر. انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار ، جلالك وبهاؤك. وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة.. بتلك المسنونة في قلب أعداء الملك - يعنى الله - شعوب تحتك يسقطون.. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك " (7).
اسمعي يانيت وأميلي أذنك ، وانسي شعبك وبيت أبيك ، فيشتهي الملك الملك حسنك ؛ لأنه هو سيدك فاسجدي له. وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية. كلها مجد ابنة الملك في خدرها. منسوجة بذهب ملابسها مطرزة ، تحضر إلى الملك في إثرها عذارى صاحباتها مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك. عوضاً عن آبائك يكون بنوك نقيمهم رؤساء في كل الأرض اذكر اسمك في كل دور فدور من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والآبد " وقفة مع هذا الكلام في المقطع الأول (أ) لا تنطبق الأوصاف التي ذكرها داود إلا على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فهو الذي قاتل بسيفه في سبيل الله وسقطت أمامه شعوب عظيمة كالفرس والروم.
وهو الممسوح بالبركة أكثر من رفقائه الأنبياء ؛ لأنه خاتم النبيين ، ورسالته عامة خالدة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(8).

ولم يترك رسول هدى وبيانا مثلما ترك رسول الإسلام في القرآن الحكيم ، وفي أحاديثه وتوجيهاته ، التي بلغت مئات الآلاف ، وتعددت المصادر التي سجلتها ، وفيها من روائع البيان ، وصفاء الألفاظ ، وشرف المعاني ما ليس في غيرها.
أما المقطع الثاني (ب) فهو أوصاف للكعبة الشريفة. فهي التي تترضاها الأمم بالهدايا. وهي ذات الملابس المنسوجة بالذهب والمطرزة ، وهي التي يذكر اسمها في كل دور فدور وتأتيها قوافل" الحجيج " رجالاً ونساءً من كل مكان فيدخل الجميع في " قصر الملك " ويحمدها الناس إلى الأبد؛ لأن الرسالة المرتبطة بها رسالة عامة: لكل شعوب الأرض الإنس والجن. بل والملائكة. وفي مواسم الحج يأتيها القاصدون من جميع بقاع الأرض مسلمين، ورعايا مسلمين من بلاد ليست مسلمة. خالدة: لم ينته العمل بها بوفاة رسولها، كما هو الحال فيما تقدم. وإنما هي دين الله إلى الأبد الأبيد.

وأشعيا وسفره من أطول أسفار العهد القديم ملئ بالإشارات الواضحة التي تبشر برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولولا المنهج الذي أخذنا به هنا وهو عدم التطويل لذكرنا من ذلك الكثير؛ ولذا فإننا نكتفي بهذا المقطع لدلالته القوية على ما نقول:
" قومي استنيري؛ لأنه قد جاء نورك ، ومجد الرب أشرق عليك.. لأنه ها هي الظلمة تغطى الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب ، ومجده عليك يرى. فتسير الأمم في نورك ، والملوك في ضياء إشراقك.

ارفعي عينيك حوالي وانظري. قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك. يأتي بنوك من بعيد، وتحمل بناتك على الأيدي ، حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع ؛ لأنه تحول إليك ثروة البحر ، ويأتي إليك غنى الأمم تغطيك كثرة الجمال بكران مديان ، وعيفة كلها تأتي من شبا. تحمل ذهبًا ولبانًا ، وتبشر بتسابيح الرب. كل غنم قيدار تجتمع إليك. كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحي، وأزين بيت جمالي.
من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها. إن الجزائر تنتظرني وسفن ترشيش في الأول لتأتى من بعيد ، وفضتهم وذهبهم معهم لا سم الرب إلهك…(9).
وبنو الغريب يبنون أسوارك، وملوكهم يخدمونك.. وتفتح أبوابك دائما نهاراً وليلاً لا تغلق ، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم...(10).


 
دلالة هذه النصوص:

بلا أدنى ريب فإن هذا الكلام المنسوب إلى أشعيا وصف لمكة المكرمة وكعبتها الشامخة.

فالمقطع الأول إنما هو حديث عن موسم الحج المبارك فيه يجتمع بنوها حولها من كل مكان وفيه لمحة قوية جداًُ إلى نحر الهدى صبيحة العيد. ألم يشر النص إلى غنم قيدار، وقيدار هوولد إسماعيل عليه السلام الذي تشعبت منه قبائل العرب. ثم ألم ينص على المذبح الذي تنحر عليه الذبائح؟ كما أشار النص ثلاث إشارات تعد من أوضح الأدلة على أن المراد بهذا النص مكة المكرمة. وتلك الإشارات هي طرق حضور الحجاج إليها. ففي القديم كانت وسائل النقل: ركوب الجمال. ثم السفن. أما في العصر الحديث فقد جدت وسيلة النقل الجوى "الطائرات" وبشارة أشعيا تضمنت هذه الوسائل الثلاث على النحو الآتي:

1- الجمال ، قال فيها: تغطيك كثرة الجمال!!

2- السفن ، قال فيها: وسفن ترشيش تأتي ببنيك من بعيد!

3- النقل الجوى، وفيه يقول: من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها؟!!

أليس هذا أوضح من الشمس في كبد السماء.

على أن النص ملئ بعد ذلك بالدقائق والأسرار ، ومنها أن مكة مفتوحة الأبواب ليلاً ونهاراً لكل قادم في حج أو عمرة!!

ومنها أن خيرات الأمم تجبى إليها من كل مكان ، والقرآن يقرر هذا المعنى في قول الله تعالى: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء)(11).
ومنها أن بنى الغريب (يعنى غير العرب) يبنون أسوارها. وكم من الأيدي العاملة الآن، وذوي الخبرات يعملون فيها ويشيدون قلاعها فوق الأرض وتحت الأرض ومنها أنه ما من عاصمة من عواصم العالم إلا دخلت في محنة من أهلها أو من غير أهلها إلا هذه "العاصمة المقدسة", فظلت بمأمن من غارات الغائرين وكيد الكائدين، ومثلها المدينة المنورة.

ومنها كثرة الثروات التي مَنَّ الله بها عليها. أليس البترول من ثروات البحر العظمى التي تفجرت أرض الحجاز وشبه الجزيرة منه عيوناً دفاقة بمعدل لم تصل إليه أمة من الأمم. أضف إلى ذلك سبائك الذهب والفضة.

والحديث عن مكة المكرمة حديث عن رسول الإسلام ؛ لأن مجدها لم يأت إلا على يدي بعثته صلى الله عليه وسلم.

هذه الحقائق لا تقبل الجدل. ومع هذا فإن أهل الكتاب (وخاصة اليهود) يحملون هذه الأوصاف على مدينة "صهيون" ولهذا فإنهم عمدوا إلى النص وعدلوه ليصلح لهذا الزعم. ولكننا نضع الأمر بين يدي المنصفين من كل ملة. أهذه الأوصاف يمكن أن تطلق على مدينة "صهيون".

لقد خرب " بيت الرب " في القدس مراراً وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور. أما الكعبة الشريفة والمسجد الحرام فلم يصل أحد إليهما بسوء ، ثم أين ثروات البحر والبر التي تجبى إلى تلك المدينة وأهلها (إلى الآن) يعيشون عالة على صدقات الأمم.
وأين هي المواكب التي تأتى إليها براً وبحراً وجَوّاً ، وهل أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً ، وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها.

وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها. وأين هو التسبيح الذي يشق عنان السماء منها.. وأين.. وأين..؟‍ إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق ، ونحن يكفينا أن نقيم هذه الأدلة من كتبهم على صدق الدعوى ، ولا يهمنا أن يذعن القوم لما نقول فحسبك من خصمك أن تثبت باطل ما يدعيه أمام الحق الذي تدافع عنه.

والفاصل بيننا ـ في النهاية ـ هو الله الذي لا يُبدل القول لديه.

وتنسب التوراة إلى نبي يدعى "حبقوق" من أنبياء العهد القديم ، وله سفر صغير قوامه ثلاثة إصحاحات.

تنسب إليه التوراة نصوصاً كان يصلي بها. تضمنها الإصحاح الثالث من سفره. وهذا الإصحاح يكاد يكون كله بشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وإليكم مقاطع منه: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران ـ سلاه ـ جلاله غطى السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه وكان لمعان كالنور له من يديه شعاع ، وهناك استتار قدرته. قدامه ذهب الوبأ. وعند رجليه خرجت الحمى. وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القوم.

مسالك الأزل يسخط دست الأمم ، خرجت لخلاص شعبك... سحقت رأس بيت الشرير معرياً الأساس حتى العنق... سلكت البحر بخيلك..(12).

دلالات هذه الإشارات:

لا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات ومعاني التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فالجهتان المذكورتان في مطلع هذا المقطع وهما: تيمان: يعنى اليمن، وجبل فاران: يعنى جبل النور الذي بمكة المكرمة التي هي فاران. هاتان الجهتان عربيتان. وهما رمز لشبه الجزيرة العربية التي كانت مسرحاً أولياً لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

فليس المراد إذن نبياً من بنى إسرائيل؛ لأنه معلوم أن رسل بنى إسرائيل كانت تأتى من جهة الشام شمالاً. لا من جهة بلاد العرب. وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشـارة المماثلة ، التي تقدم ذكرها من سفر التثنية ، وقد ذكرت أن الله: تلألأ أو استعلن من جبل فاران.
بيد أن بشارة التثنية شملت الإخبار بمقدم موسى عليه السلام والتبشير بعيسى عليه السلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم أما بشـارة حبقوق فهي خاصة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولو لم يكن في كلام حبقوق إلا هذا "التحديد" لكان ذلك كافياً في اختصاص بشارته برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم, ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى:

· منها: الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض.. ؟!

· ومنها: دكه صلى الله عليه وسلم لعروش الظلم والطغيان وقهر الممالك الجائرة.

· ومنها: أن خيل جيوشه ركبت البحر ، وهذا لم يحدث إلا في ظل رسالة الإسلام.

على أن كلام حبقوق ملئ بالرمز والإشارات مما يفيدنا في هذا المجال ولكننا نتجاوزه لأمرين:

أحدهما: أن في الإشارات الصريحة غناء عنها.

وثانيهما: عدم التطويل ـ هنا ـ كما اتفقنا.

بشاراته صلى الله عليه وسلم في العهد الجديد أسفار العهد الجديد (الأناجيل والرسائل) حافلة بالنصوص التي يتعين أن تكون "بشارات" برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.

تلك البشـارات تعـلن أحياناً في صورة الوعـد بملكوت الله أو ملكوت السماوات. وأحيانا أخـرى بالـروح القـدس. ومرات باسـم المعـزى أو الفارقليط ، وهي كلمة يونانية سيأتي فيما بعد معناها ، تلك هي صورة البشارات في الأناجيل في صيغها المعروفة الآن.
ففي إنجيل متى وردت هذه العبارة مسـندة إلى يحيى عليه السلام المسمى في الأناجيل: يوحنا المعمدان. وفيها يقول: "توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات"(13).

فمن هو ملكوت السماوات الذي بشر به يحيى؟! هل هو عيسى عليه السلام ـ كما يقول النصارى؟!

هذا احتمال.. ولكن متَّى نفسه يدفعه حيث روى عن عيسى عليه السلام نفس العبارة: "توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات"(14).

فلـو كان المراد بملكـوت السماوات ـ هذه ـ عيسى عليه السلام لما وردت هذه "البشارة" على لسان عيسى؛ إذ كيف يبشر بنفسه ، وهو قائم موجود ، والبشـارة لا تكون إلا بشئ محـبوب سيأتي، كما أن الإنذار ـ قسيمه ـ لا يكون إلا بشيء "مكروه" قد يقع.

فكلاهما: التبشير والإنذار ـ أمران مستقبلان.

إن ورود هذه العبارة عن عيسى نفسه تخصيص لذلك العموم المستفاد من عبارة يحيى عليهما السلام.

فدل ذلك على أن المراد بملكوت السماوات رسول آخر غير عيسى. ولم يأت بعد عيسى ـ باعتراف الجميع ـ رسول غير رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.

فدل ذلك على أنه هو المراد بملكوت السماوات في عبارة عيسى عليه السلام ـ قولاً واحداً ـ وباحتمال أرجح في عبارة يحيى؛ إذ لا مانع عندنا ـ أن يكون يحيى عليه السلام قد بشر بها بعيسى عليه السلام.

أما بشارة عيسى فلا موضع لها إلا الحمل ـ القطعي ـ على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.

وفي صيغة الصلاة التي علمها المسيح لتلاميذه ـ كما يروي مَتَّى نفسه ـ بشارة أخرى بنبي الإسـلام. وهذا هو نص مَتَّى في هذا "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك"(15).

ووردت هذه الصيغة في إنجيل لوقا هكذا: "متى صليتم فقـولوا: أبانا الذي في السماوات ليتقـدس اسمك ليأت ملكوتك.."(16).

ويذكر لوقا أن المسيح جمع تلاميذه، وعلمهم كيف يقهرون الشياطين، ويشفـون الأمراض ثم قال: "وأرسلهم ليكرزوا ـ أي يبشروا ـ بملكوت الله"(17).

أما مرقس فيسند هذه البشارة إلى المسيح نفسه إذ يقول: "جاء يسوع إلى الجبل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله " (18).
فهـؤلاء ثلاثة من التلامذة يتفقـون على أن يحيى وعيسى (عليهما السلام) قد بشرا بملكوت الله الذي اقترب.

فمن المراد بملكوت الله إذا لم يكن هو رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم؟! وأكاد أجزم بأن عبارة "المسيح ، قد كمل الزمان" لا تعني سوى انتهاء عصر الرسالات الموقوتة وإقبال الرسالة الخالدة!!

أما يوحنا صاحب رابع الأناجيل. فإنه يذكر هذه البشارات في مواضع متعددة من إنجيله. ومن ذلك ما يرويه عن المسيح عليه السلام " الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للأب الذي أرسلني. بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزى (اسم فاعل من الفعل المضعف العين عزى)(19) الروح القدس، الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بما قلته لكم"(20).

كما يروي يوحنا قول المسيح ـ الآتي ـ مع تلاميذه: "إنه خير لكم أن انطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر وعلى دينونة"(21).

ويروي كذلك قول المسيح لتلاميذه: "وأما إذا جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه. بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية ".. ؟!(22).

فمن هو المعزى أو روح القدس أو روح الحق الذي بشر به المسيح عليه السلام حسبما يروى يوحنا؟!

إن المسيح يقول: إن ذلك المُعَرِّى أو الروح القدس لا يأتي إلا بعد ذهاب المسيح، والمسيح ـ نفسه ـ يُقـِرُّ بأن ذلك المُعَرِّى أو الروح أَجَلُّ منه شأنا، وأعم نفعاً وأبقى أثراً، ولذلك قال لتلاميذه: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَرِّى.
وكلمة "خير" أفعل تفضيل بمعنى أكثر خيراً لكم ذهابي ليأتيكم المعزى ولو كان "المُعَـزَّى" مسـاويًا للمسيح في الدرجة لكانا مستويين في الخيرية ولما ساغ للمسيح أن يقول خير لكم أن أنطلق.

ومن باب أولى لو كان "المعزَّى" أقل فضلاً من المسيح. فعبارة المسيح دليل قاطع على أنه بشر بمن هو أفضل منه ، لا مساوٍ له ولا أقل.

ثم يصف المسيح ذلك المُعَرَّى أو الروح بأوصـاف ليست موجـودة في المسيح نفسه عليه السلام.

ومن تلك الأوصاف:

أ ـ إنه يعلم الناس كل شيء. وهذا معناه شمول رسالته لكل مقومات الإصلاح في الدنيا والدين. وذلك هو الإسلام.

ب ـ إنه يبكت العالم على خطية. والشاهد هنا كلمة " العالم " وهذا معناه شمول الإسلام لكل أجـناس البشر ، عربا وعجماً ، في كل زمان ومكان. ولم توصف شريعة بهذين الوصفين إلا الإسلام.

جـ ـ إنه يخـبر بأمور آتية ، ويذكـر بما مضى. وقد تحقق هذا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

فأخبر بأمور آتية لم يخبر بها من سبقه أو أخبروا ولكن ليس على وجه التفصيل والتأكيد الذي كان على يديه صلى الله عليه وسلم فكم في القرآن من أمور أخبر بها قبل أن تقع فوقعت كما أخبر ، وكم فيه من الإخبار بما سيكون في الحياة الآخرة من أوصاف الجنة ، والنار ، والبعث ، وعلامات الساعة ، وتخاصم أهل النار ، وحوار أصحاب الجنة مع " رجال الأعراف " ، وندم من باعوا دينهم بدنياهم... إلخ.

وذكر بما مضى من أحوال الأمم ، وقيام الحضارات ثم سقوطها وأحوال المرسلين وما بلغوا به أقوامهم والشهادة لهم بالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء ، ومسلك بعض الأقوام من رسلهم والصراع الذي دار بين المحقين وأهل الباطل ، وعاقبة بعض المكذبين... إلخ.

ثم استوعبت رسالته الحياة كلها فأرست قواعد الاعتقاد الصحيح وسنت طرق العبادة المثمرة ، ووضعت أصول التشريع في كل ما هو متعلق بالحياة عاجلها وآجلها ، ووضحت العلاقة السليمة بين المخلوق والخالق ، وبين الناس بعضهم بعضاً. وحررت العقول ، وطهرت القلوب ورسمت طريق الهدى لكل نفس ولكل جماعة ولكل أمة. أي أنها أرشدت إلى كل شيء. وعلمت كل شيء مما يحتاج تعلمه إلى وحي وتوقيف..!

ذلك هو الإسلام ، ولا شيء غير الإسلام.

وشهدت ـ فيما شهدت ـ للمسيح عليه السلام بأنه رسول كريم أمين أدى رسالته وبشر وأنذر بنى إسرائيل, وأنه عبده ورسوله (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون)(23).
وشهادة رسول الإسلام لعيسى عليه السلام منصوص عليها في بشارات عيسى نفسه به (صلى الله عليه وسلم). فاسمع إلى يوحنا وهو يروى عن المسيح عليه السلام قوله الآتي: "ومتى جاء المعزَّى الذي سأرسله " أنا " إليكم من الأب روح الحق من عند الأب ينبثق فهـو يشهـد لي.. وتشهـدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء"(24).

روح القـدس هذا، أو المعزَّى ، أو روح الحق لا يمكن أن يكون عيسى ؛ لأن عـيسى لم يبشر بنفسـه ، وهو كان موجوداً ساعة قال هذا ولا يمكن أن يكون المراد به نبياً بعد عيسى غير محمد (صلى الله عليه وسلم) لأننا متفقون على أن عيسى لم يأت بعده نبي قبل رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.

فتعين أن يكون روح القدس ، أو المعزَّى ، أو روح الحق تبشيرا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ فيه تجتمع تلك الأوصاف ، كما يتحقق فيه معنى "الأفضلية" إذ هو خاتم النبيين، الذي جاء بشريعة خالدة عامة، وعلى هذا حملنا قبلا قول عيسى: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّى " وهذا إقرار من عيسى بأن المبشر به أفضل من المُبَشِّر وكفي بذلك شواهد.
أما البشارة باسم "الفارقليط" فقد خلت منها الترجمات العربية المعاصرة للكتاب المقـدس.

ومعـلوم أن الكتاب المقدس خضع للترجمات وطبعات متعددة ؛ لدرجة أن الترجمات العربية لتختلف من نسخة إلى أخرى اختلافا بيناً.

وتحت يدي ـ الآن ـ نسختان من الطبعـات العربية كلتاهما خاليتان من كلمة الفارقليط، وموضوع مكانها كلمة المعزى.

بيد أنني وجدت أن ابن القيم ، وابن تيمية ، كل منهما قد نقل عن نسخ خطية كانت معاصرة لهما نصوصاً فيها التصريح باسم "الفارقليط" كما أن الشيخ رحمت الله الهندي (رحمه الله) نقل في كتابه "إظهار الحق" نصوصاً "عن ترجمات عربية ترجع إلى أعوام: 1821 ـ 1831 ـ 1844م وتمت في لندن معنى "الفارقليط": كلمة يونانية معناها واحد مما يأتي:
الحامد ـ الحماد ـ المحمود ـ الأحمد. أو معناها كل ما تقدم. فمعنى "فارقليط" يدور حول الحمد وجميع مشتقاته المشار إليها.

وكل واحد منها يصح إطلاقه على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فهو الحامد والحمّاد والمحمود والأحمد ، والمحمد.

وفي الطبعات ـ اللندنية ـ المتقدم ذكرها ورد النص هكذا: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليط آخر، ليثبت معكم إلى الأبد".
"الفارقليط" روح القـدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم"(25).

ومقارنة هذين النصـين بالنص المقابل لهما الذي نقلناه آنفا عن إنجيل يوحنا من الطبعات العربية الحديثة تريك أن الطبعات الحديـثة حـذفت كلمة " الفارقليط " ووضعت مكانها كلمة " المعزى " كما تريك أن الطبعات الحديثة حذفت جملة: " ليثبت معـكم إلى الأبد " وهو نص على خلود الإسلام على أنهم عادوا واعترفوا بأن كلمة " المعزى " التي في الطبعات الحديثة للكتاب المقـدس أصلها مترجـم عن كلمة يونانية لفظاً ومعنى وهي " باراكليتس " ومعناها المعزى ، وليست " فارقليط " أو " بارقليط " التي معناها الحماد والحامد... والتي يتمسك بها المسلمون!

وهذه المحاولات مردودة لسببين:

أولهما: ليس نحن ـ المسلمين ـ الذين قاموا بعمل بالطبعات القديمة التي فيها " الفارقليط " وإنما طبعها النصارى قديماً. فعملهم حجة على الطبعات الحديثة, وهم غير متهمين في عملهم هذا.

وثانيهما: ولو كانت الكلمة "هي: الباراكليتس" فلماذا خلت منها الطبعات القديمة والنسخ المخطوطة؟!

بل ولماذا خلت منها الطبعات الحديثة؟!

وأيًا كان المدار: فارقليط ، أو باراكليتس ، أو المعزى ، أو الروح القدس فنحن لا نعول على الكلمة نفسها بقدر ما نعول على الأوصاف التي أجريت عليها. مثل يعلمكم كل شيء ـ يمكث معكم إلى الأبد.

فهـذه الأوصـاف هي لرسـول الإسـلام صلى الله عليه وسلم ومهما اجتهدتم في صرفها عنه فلن تنصرف.

ولهم " شبهة " أخرى يحلو لهم تردادها وهي: محمد صلى الله عليه وسلم عربي الجنس واللسان ، فكيف يرسله الله إلى أمم وأجناس غير عربية.. وكيف يكلف الله الناس برسالة لا يعرفون لغتها ولا عهد لهم بالتحدث معها. وكيف يستطيعون أن يفهموا القرآن ، وتوجيهات رسول الإسلام ، وهما باللغة العربية؟‍‍!


 
رد الشبهة:

نرد عليها من طريقين:

الأول: وهو مستمد من واقـع القـوم أنفسهم. فهم يدعون تبعاً لما قال "بولس" أن عيسى عليه السلام مرسل لخلاص العالم كله. وأنه أمر حوارييه أن يكرزوا كل العالم برسالة الخلاص ، وفي أيامنا هذه كثرت المنشورات التي تقول: المسيح مخلص العالم. وهنا نسأل القوم سؤالاً: أية لغة كانت لغة المسيـح عليه السلام وحوارييه ؟! هل هي العبرانية أم اليونانية؟! وأيا كان الجواب فإن المسيح كان يتكلم لغة واحدة. وأوحى إليه الإنجيل بلغة واحدة.. فعلى أي أساس إذن قلتم: إنه منقذ لكل العالم؟! هل كل العالم كان وما يزال يعرف لغة المسيح ؟! أم أن العالم أيام المسيح كان يتكلم بعدة لغات.. والآن يتكلم بمئات اللغات؟!

فإن كنتم قد ادعيتم أن المسيح هو منقذ كل العالم مع تسليمكم بأنه كان يتكلم بلغة واحدة فلماذا تنكرون على رسول الإسلام أن يكون مرسلاً لكل العالم.؟! وما الفرق بين رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام حتى تحظروا عليه ما استبحتموه للمسيح؟! أهذا عدل.. أهذا إنصاف!!

وإن تنازلتم عن عالمية المسيح فأنتم مدينون!!

الثاني: وهو مستمد من طبيعة الإسلام. ومن تاريخه الطويل الحافل بكل عجيب.
نعم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عربي اللسان ، والجنس ، والقرآن العظيم الذي جاء به عربي اللسان، عالمي التوجيه والتشريع والسلطان. ووحدة اللغة في الإسلام مثل وحدة العقيدة فيه. ولم يحل دون انتشار الإسلام بين الأمم والشعوب غير العربية أن لغة رسالته عربية ورسوله عربي ورواده الأوائل عرب. هذه الاعتبارات لم تحل دون نشر الإسلام لجميع شعوب الأرض باختلاف لغاتها وعقائدهـا وأجناسها.

وكان سلوك الدعوة إلى الإسلام حكيمًا، وهذه أبرز ملامحه:

أولاً: إن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم أرسل رسله يحملون رسائله وكتبه إلى كل رؤساء القبائل وملوك الأمم والشعوب ، وقد بدأت هذه الطريقة بعد وقوع صلح الحديبية ، وكل حامل رسالة أو كتاب إلى رئيس أو ملك كان على علم بلغة من هم المبعوث إليهم.

فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبي.
وأرسل إلى المقوقس عظيم القبـط بمصـر حاطب بن أبى بلتعة. وأرسل إلى كسرى عبد الله بن حذافة السهمي.

وأرسل إلى الحارث بن أبى شمر الغساني شجاع بن ذهب الأسدى. وكان هؤلاء الرسل عالمين بلغات من أرسلوا إليهم.

كما كان صلى الله عليه وسلم يحتفظ بمترجمين يترجمون له ما يرد من رسائل لغتها غير العربية.

ثانياً: إن الملوك والرؤساء كان لديهم مترجمون ـ كذلك ـ يترجمون لهم ما يرد من رسول الإسلام أو يقومون بالترجمة من العربية إلى غيرها ، ومن غير العربية إلى العربية في حالة ما إذا كان " المرسل " وفداً يحمل رسائل شفوية للتبليغ.

ثالثاً: إن اليهود وكثيراً من النصارى كانوا يعرفون اللسان العربي ، ومن النصارى من هم عـرب خلص كنصـارى نجـران ، كما أن العجم من الفرس والروم كان من بينهم عرب يعايشونهم ويقيمون بينهم.

رابعاً: كان صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على تعلم لغات الأمم ومما يروى عنه ـ عليه الصلاة السلام ـ قوله: من تعلم لغة قوم أمن غوائلهم.

خامساً: لما اجتازت الدعوة مرحلة الدعوة بالرسالة والكتاب والوفد ، والبعث ، ودخلت في مرحلة الفتح كان الجنود المسلمون ينشرون اللغة العربية كما ينشرون الإسلام نفسه. وما من أرض حل بها الإسلام إلا وقد حلت بها اللغة العربية تعضده ، وتؤازره في انسجام عجيب ، فقضت اللغة العربية على لغات الأمم والشعوب وحلت هي محلها. قضت على القبطية في مصر وعلى الفارسية في الشام وعلى البربرية في شمال غرب أفريقيا كما قضت على السريانية وغيرها من اللغات ، وأصبحت هي لغة الحياة والإدارة والكتابة والنشر والتأليف.

سادساً: قام العرب المسلمون بترجمة ما دعت إليه المصلحة من تراث الأمم المفتوحة ، ففتحوا نوافذ الفكر ، والثقافة ، والمعرفة لمن لا يعرف غير العربية من العرب المسلمين. كما ترجموا من الفكر الإسلامي ما يصلح ضرورة لغير العرب من المسلمين فنقلوه من العربية إلى غير العربية وفاءً بحق الدعوة والتبليغ.

سابعاً: أقبل غير العرب من الذين دخلوا الإسلام على تعلم العربية وتركوا لغاتهم الأصلية وأصبحوا عربي اللسان واللغة. ومن هـؤلاء أعلام لا يحصون كان لهم فضل عظيم في إنماء الفكر الإسلامي منهم اللغويون ، والنحويون ، والبيانيون ، والفقـهاء ، والأصوليون ، والمفسرون ، والمحدثون ، والمتكلمون ، والفلاسفة ، والمناطـقة ، والرياضيون ، والأطباء ، والفلكيون ، بل والشعراء والأدباء والرحالة والجغرافيون ، وغيرهم ، وغيرهم.
إن كل مجال من مجـالات النشـاط العلمي في الإسلام نبغ فيه كثير من غير العرب بعد تعلمهم اللغة العربية التي كانوا فيها مثل أنجب وأحذق وأمهر أبنائها. ولو رحنا نحصى هؤلاء لضاق بنا السهل والوعر ، فلتكن الإشارة إليهم نائباً عن ذلك التفصيل غير المستطاع.

إن وحدة اللغة في الإسلام لم تحل دون نشر الإسلام ، فلم يمض طويل من الزمن حتى بلغت الدعوة مشارق الأرض ومغاربها.

وصلت إلى الهند والصين في أقصى الشرق ، وإلى شواطئ المحيط الأطلسي في أقصى الغرب وإلى بلاد النوبة جنوباً وإلى جبال البرانس جنوبي فرنسا شمالاً. وتوطدت في قلب الكون:

الحجاز واليمن والشام وفارس وبلاد ما بين النهرين وما وراء النهرين ومصر وجنوب الوادي، وتركت اللغة العربية الواحدة آثارها في كل قطر أشرقت فيه شمس الإسلام ، وحتى ما فارقه الإسلام ـ كأسبانيا ـ ما تزال حضارة الإسلام وآثار العربية تغزو كل بيت فيها.

وكما استوعب الإسلام مناهج الإصلاح في كل مجالات الحياة الإنسـانية استوعـبت شقيقته الكبرى " اللغة العربية " كل أنماط التعبير ووسعت بسلطانها كل وسائل التسجيل والتدوين.. وامتلكت ناصية البيان الرائع الجميل ، فهي لغة علم ، ولغة فن ومشاعر ، ووجدان. وقانون وسلام وحرب ، ودين ودنيا.

إن أكثر من ألف مليون مسلم ينتشرون في ربوع الأرض الآن لم يعجز الكثير منهم من غير العرب عن حفظ كتاب الله " القرآن العظيم " ويتلونه كما أنزل بلسان عربي فصيح. فإذا عاد إلى حديثه اليومي لجأ إلى لغة أمه وأبيه وبيئته.

ومسلم غير عربي استطاع أن يحفظ أو يقرأ القرآن بلغته العربية الفصحى لهو قادر ـ لو أدى المسلمون العرب واجبهم نحو لغة التنزيل ـ أن يقرأ بها كتب الحديث، والفقه، والتشريع، والنحو، والصرف ، والبلاغة ، والأدب وسائر العلوم والفنون.

ولكنه ذنب العـرب المسـلمين لا ذنب اللغة. فهي مطواعة لمن يريد أن يتقنها إن وجد معلماً مخلصاً. والأمل كبير ـ الآن ـ في أن يلتقي كل المسلمين على لغة واحدة ، كما التقوا على عقيدة واحدة.

إن رسـول الإسـلام صلى الله عليه وسلم عالمي الدعوة وإن كان عربي اللسان والجنس.
وإن الإسلام الحنيف عالمي التوجيه والسلطان وإن كانت لغة تنزيله عربية ورسوله عربياً ، ورواده الأوائل عرباً.

------------------
(1) رددنا على هذه الادعاءات في " الإسلام في مواجهة الاستشراق في العالم " مرجع سبق ذكره.

(2) سفر التثنية: الإصحاح (33) الفقرات (1-2).

(3) سفر التكوين (21 - 21).

(4) سفر التثنية: الإصحاح (18) الفقرات (18 - 19).

ويكون المعنى عليه: كيف أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم ؟‍ أي لا أفعل هذا.

(5) الجمعة: 2.

(6) البقرة: 129.

(7) المزمور (45) الفقرات (2 - 17) مع الحذف اليسير. (8) الأنبياء: 107.

(9) مكان النقط هنا كلام لم نذكره هو " قدوس إسرائيل لأنه مجدك " ؟! وهذا مقطع مضاف بكل تأكيد والهدف منه صرف الكلام عن معناه الظاهر!!

(10) سفر أشعياء الأصحاح (60) الفقرات (4-12) مع حذف يسير.

(11) القصص: 57.

(12) (3 ـ3 ـ15) مع الحذف.

(13) الإصحاح (3) الفقرة (2).

(14) الإصحاح (4) الفقرة (17).

(15) الإصحاح (6) الفقرة (9ـ10).

(16) الإصحـاح (11) الفقـرة (2).

(17) الإصحاح (9) الفقرة (2).

(18) الإصحاح (1) الفقرة (14 ـ15).

(19) هذا إيضاح وليس من النص.

(20) الإصحاح (14) الفقرات (24 ـ 26).

(21) الإصحاح (16) الفقرتان (7 ـ8).

(22) الإصحاح (16) الفقرة (13).

(23) مريم: 34.

(24) الإصحاح (15) فقرتا (26 ـ 27).

(25) انظر كتاب " إظهار الحق " ص 528 للشيخ رحمت الله الهندي تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا. نشر دار التراث
 
الحلقة السابعة والثمانون : لماذا ندرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ ( 1 )


رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، ويمتنع أن تعرف دين الإسلام ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه.
لقد سالم وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش صلى الله عليه وسلم وحده، ولا غاب عن الناس يوماً واحداً، ولا سافر وحده.
وما أصيب المسلمون إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به صلى الله عليه وسلّم، والأخذ بهديه، واتباع سنته، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
حتى اكتفى بعض المسلمين من سيرته صلى الله عليه وسلّم بقراءتها في المنتديات والاحتفالات ولا يتجاوز ذلك إلى موضع الاهتداء والتطبيق.... وبعضهم بقراءتها للبركة أو للاطلاع على أحداثها ووقائعها أو حفظ غزواته وأيامه وبعوثه وسراياه.
وهذا راجع إما لجهل بأصل مبدأ الاتباع والاهتداء والاقتداء وعدم الإدراك بأن هذا من لوازم المحبة له صلى الله عليه وسلم، وإما لعدم إدراك مواضع الاقتداء من سيرته صلى الله عليه وسلم نظراً لضعف الملكة في الاستنباط أو لقلة العلم والاطلاع على كتب أهل العلم.
وهنا تأتي أهمية استخراج الدروس واستنباط الفوائد والعظات واستخلاص العبر من سيرته صلى الله عليه وسلم.
إن السيرة النبوية لا تدرس من أجل المتعة في التنقل بين أحداثها أو قصصها، ولا من أجل المعرفة التاريخية لحقبة زمنية من التاريخ مضت، ولا محبة وعشقاً في دراسة سير العظماء والأبطال، ذلك النوع من الدراسة السطحية إن أصبح مقصداً لغير المسلم من دراسة السيرة، فإن للمسلم مقاصد شتى من دراستها، ومنها:
أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو محل القدوة والأسوة، وهو المشرع الواجب طاعته واتباعه قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجٌو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21)، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54)، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} (النساء: 80)، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران: 31).
فهو التجسيد العملي والصورة التطيبقية للإسلام، وبدونها لا نعرف كيف نطيع الله تعالى ونعبده.

فسيرته صلى الله عليه وسلم يستقي منها الدعاة أساليب الدعوة ومراحلها، ويتعرفون على ذلك الجهد الكبير الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيف التصرف أمام العقبات والصعوبات والموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن.
ويستقي منها المربُّون طرق التربية ووسائلها.
ويستقي منها القادة نظام القيادة ومنهجها.
ويستقي منها الزهَّاد معنى الزهد ومقاصده.
ويستقي منها التجَّار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.
ويستقي منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات وتقوى عزائمهم على السير على منهجه والثقة التامة بالله عز وجل بأن العاقبة للمتقين.
ويستقي منها العلماء ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى، ويحصلون فيها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وأسباب النـزول وغيرها وغيرها من المعارف والعلوم.
وتستقي منها الأمة جميعاً الآداب والأخلاق والشمائل الحميدة.
ولهذا قال ابن كثير: «وهذا الفن مما ينبغي الاعتناء به، والاعتبار بأمره، والتهيؤ له، كما رواه محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عمر بن علي عن أبيه سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن. قال الواقدي: وسمعت محمد بن عبدالله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا» .
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعدها علينا، ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها».
وقال علي بن الحسين: «كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن»
لقد خلف التاريخ عظماء وملوكاً وقُوَّاداً، وشعراء، وفلاسفة، فمن منهم ترك سيرة وأسوة يؤتسى بها في العالمين؟ لقد طوى التاريخ ذكرهم فلم يبق منه شيء وإن بقيت بعض أسمائهم.
لقد أصبحت سير كثير من العظماء أضحوكة للبشر على مدار التاريخ كله
فأين نمرود الذي قال لإبراهيم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}؟! (البقرة: 258) وأين مقالة فرعون وشأنه الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24)، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}؟! (القصص: 38).
إن هؤلاء العظماء في زمانهم يسخر منهم اليوم الصغير والكبير والعالم والجاهل، فإن كانوا دلسوا على أقوامهم في زمنهم واستخفوا بهم فأطاعوهم؛ فقد افتضح أمرهم بعد هلاكهم، وأصبحوا محل السخرية على مدار الزمان.
إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بإخراج الناس من ظلمات الشرك والأخلاق وفساد العبادة والعمل إلى نور التوحيد والإيمان والعمل الصالح: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:45-46)
ثانياً: ندرس السيرة ليزداد إيماننا ويقيننا بصدقه، فالوقوف على معجزاته ودلائل نبوته مما يزيد في الإيمان واليقين في صدقه صلى الله عليه وسلم، فدراسة سيرته العطرة وما سطرته كتب السيرة من مواقف عظيمة، وحياة كاملة كريمة، تدل على كماله ورفعته وصدقه.
ثالثاً: ولينغرس في قلوبنا حبه، فما حملته سيرته من أخلاق فاضلة، ومعاملة كريمة، وحرصه العظيم على هداية الناس وصلاحهم وجلب الخير لهم، وبذل نفسه وماله في سبيل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، وما كان من حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته في إبعادها عما يشق عليها ويعنتها
 
الحلقة الثامنة والثمانون : لماذا ندرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ ( 2 )



فهو الوحيد في التاريخ الذي تقتدي به في كل شيء

- إذا كنت غنيا ثريا فاقتد بالرسول عندما كان تاجرا يسير بسلعه بين الحجاز و الشام ، و حين ملك خزائن البحرين ...
- و إن كنت فقيرا معدما فلتكن لك أسوة به و هو محصور في شعب أبي طالب، و حين قدم إلى المدينة مهاجرا إليهـا مـن وطنه و هو لا يحمل من حطام الدنيا شيئا ...
- و إن كنـت ملكـا فاقتـد بـسنته و أعمالـه حـين ملـك أمـر العـرب، و غلـب علـى آفـاقهم و دان لطاعتـه عظمـاؤهم، و ذووا أحلامهم ...
- و إن كنت رعية ضعيفة فلك في رسول الله أسوة حسنة، أيام كان محكوما بمكة في نظام المشركين ..
- و إن كنت فاتحا غالبا فلك من حياته نصيب أيام ظفره بعدوه في بدر و حنين و مكة ...
- و إن كنت منهزما لا قدر الله ذلك، فاعتبر به في يوم أحد و هو بين أصحابه القتلى و رفقائه المثخنين بالجراح ...
- و إن كنت معلما فانظر إليه و هو يعلم أصحابه في المسجد ...
- وإن كنت تلميذا متعلما فتصور مقعده بين يدي الروح الأمين جاثيا مسترشدا ...
- و إن كنت واعظا ناصحا و مرشدا أمينا فاستمع إليه و هو يعظ الناس على أعواد المسجد النبوي ...
- و إن كنت يتيما فوالده توفي قبل أن يولد ووالدته توفت و هو ابن ست سنوات ...
- و إن كنت صغير السن فانظر إلى ذلك الوليد العظيم حين أرضعته مرضعته الحنون حليمة السعدية ...
- و إن كنت شابا فاقرأ سير راعي مكة ...
- و إن كنت تاجرا مسافرا بالبضائع فلاحظ شؤون سيد القافلة التي قصدت بصرى ...
- و إن كنت قاضيا أو حكما فانظر إلى الحكم الذي قصد الكعبة قبل بزوغ الشمس ليضع الحجر الأسود في محلـه و قـد كـاد رؤساء مكة يقتتلون، ثم ارجع البصر إليه مرة أخرى وهو في فناء مسجد المدينة يقضي بين النـاس بالعـدل يـستوي عنـده منهم الفقير المعدم و الغني المثري ...
- و إن كنت زوجا فاقرأ السيرة الطاهرة و الحياة النزيهة لزوج خديجة و عائشة.و إن كنت أبا لأولاد فتعلم ما كـان عليـه والـد فاطمة الزهراء و جد الحسن و الحسين ...
و أيا من كنت، و في أي شأن كان، فإنك مهما أصبحت أو أمسيت و على أي حال بت أو أضحيت فلك في حياة محمد هداية حسنة وقدوة صالحة تضيء لك بضوئها ظلام العيش، فتصلح ما اضطرب من أمورك .
 
الوسوم
الرحمة الله حلقات سيرة صلى عليه في نبي وسلم
عودة
أعلى