كتاب :التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ( الإمام القرطبي

بسمه

الاعضاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة
الإمام القرطبي

كتاب في الوعظ والإرشاد جمع فيه ا آيات وأحاديث في ذكر الموت وأحوال الموتى وذكر الحشر والنشر والجنة والنار والفتن والأشراط، وقد رتب كتابه على الأبواب وجعل عقب كل باب فصلا أو فصولا يذكر فيها ما يحتاج إليه من بيان غريب أو فقه في حديث، أو إيضاح مشكل لتكمل فائدته ويعظم نفعه .

سأقوم بنقله كاملاً ان شاء الله

باب النهي عن تمني الموت و الدعاء به لضر نزل في المال و الجسد

روى مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد متمنياً فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي و توفني إذا كانت الوفاة خيراً لي أخرجه البخاري ، و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه ، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله ، و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً .
و قال البخاري : لا يتمنين أحدكم الموت : إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً ، و إما مسيئاً فلعله أن يستعتب .
البزار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد ، و إن من السعادة أن يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الإنابة .
فصل : قال العلماء : الموت ليس بعدم محض و لا فناء صرف و إنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن و مفارقته و حيلولة بينهما ، و تبدل حال و انتقال من دار إلى دار ، و هو من أعظم المصائب ، و قد سماه الله تعالى مصيبة ، و في قوله فأصابتكم مصيبة الموت فالموت هو المصيبة العظمى و الرزية الكبرى .
قال علماؤنا : و أعظم منه الغفلة عنه ، و الإعراض عن ذكره ، و قلة التفكر فيه ، و ترك العمل له ، و إن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر و فكرة لمن تفكر ، و في خبر يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم : لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلت منها سميناً .
و يروى أن إعرابياً كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتاً ، فنزل الأعرابي عنه و جعل يطوف به و يتفكر فيه و يقول : مالك لا تقوم ؟ مالك لا تنبعث ، هذه أعضاؤك كاملة و جوارحك سالمة . ما شأنك ؟ ما الذي كان يحملك ؟ ما الذي كان يبعثك ؟ ما الذي صرعك ؟ ما الذي عن الحركة منعك ؟ ثم تركه و انصرف متفكراً في شأنه . متعجباً من أمره . و أنشدوا في بعض الشجعان مات حتف أنفه :
جائته من قبل المنون إشارةً فهوى صريعاً لليدين و للفم
و رمى بمحكم درعه و برمحه و امتد ملقىً كالفتيق الأعظم
لا يستجيب لصارخ إن يدعه أبداً و لا يرجى لخطب معظم
ذهبت بسالته و مر غرامه لما رأى حبل المنية يرتمي
يا ويحه من فارس ما باله ذهبت مروته و لما يكلم
هذي يداه و هذه أعضاؤه ما منه من عضو غداً بمثلم
هيهات ما حبل الردى محتاجة للمشرفي و لا اللسان اللهذم
هي ويحكم أمر الإله و حكمه و الله يقضي بالقضاء المحكم
يا حسرتا لو كان يقدر قدرها و مصيبة عظمت و لما تعظم
خبر علمنا كلنا بمكانه و كأننا في حالنا لم نعلم
و روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول . حدثنا قتيبة بن سعيد و الخطيب بن سالم . عن عبد العزيز الماجشون . عن محمد بن المنكدر قال : مات ابن لآدم عليه السلام فقال يا حواء قد مات ابنك . فقالت : و ما الموت ؟ قال : لا يأكل و لا يشرب . و لا يقوم و لا يقعد . فرنت . فقال آدم عليه السلام : عليك الرنة و على بناتك أنا و بني منها برآء . فصل : قوله : فلعله أن يستعتب . الاستعتاب طلب العتبى . و هو الرضى و ذلك لا يحصل إلا بالتوبة و الرجوع عن الذنوب . قال الجوهري :
استعتب : طلب أن يعتب تقول : استعتبته فأعتبني . أي استرضيته . فأرضاني . و في التنزيل في حق الكافرين و إن يستعتبوا فما هم من المعتبين
و روى عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال : لا يتمنى أحدكم الموت إلا ثلاثة : رجل جاهد بما بعد الموت أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه . أو مشتاق محب للقاء الله عز و جل .
و روي أن ملك الموت عليه السلام جاء إلى إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن عز و جل ليقبض روحه . فقال إبراهيم : يا ملك الموت هل رأيت خليلاً يقبض روح خليله ؟ فعرج ملك الموت عليه السلام إلى ربه فقال قل له : هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله ؟ فرجع فقال اقبض روحي الساعة. و قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ما من مؤمن إلا و الموت خير له فمن لم يصدقني فأن الله تعالى يقول : و ما عند الله خير للأبرار و قال تعالى و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم و قال حيان بن الأسود : الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب .


باب جواز تمني الموت و الدعاء به خوف ذهاب الدين

قال الله عز و جل مخبراً عن يوسف عليه السلام : توفني مسلماً و ألحقني بالصالحين و عن مريم عليها السلام في قولها : يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسيا و عن مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يمر حتى بقبر الرجل فيقول فيقول : يا ليتني مكانه .
فصل : قلت : لا تعارض بين هذه الترجمة و التي قبلها لما نبينه . أما يوسف عليه السلام . فقال قتادة : لم يتمن الموت أحد : نبي و لا غيره إلا يوسف عليه السلام حين تكاملت عليه النعم و جمع له الشمل : اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل فقال : رب قد آتيتني من الملك و علمتني الآية . فاشتاق إلى لقاء ربه عز وجل ، و قيل إن يوسف عليه السلام لم يتمن الموت و إنما تمنى الموافاة على الإسلام . أي إذا جاء أجلي تو فني مسلماً . و هذا هو القول المختار في تأويل الآية عند أهل التأويل . و الله أعلم .
و أما مريم عليها السلام فإنما تمنت الموت لوجهين :
أحدهما : أنها خافت أن يظن بها السوء في دينها و تعير ، فيفتنها ذلك .
الثاني : لئلا يقع قوم بسببها في البهتان و الزور ، و النسبة إلى الزنا ، و ذلك مهلك لهم . و الله أعلم .
و قد قال الله تعالى عز و جل في حق من افترى على عائشة رضي الله عنها و الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم و قال : و تحسبونه هيناً و هو عند الله عظيم و قد اختلف في مريم عليها السلام : هل هي صديقة لقوله تعالى : و أمه صديقة أو نبية لقوله تعالى : فأرسلنا إليها روحنا . و قوله : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك الآية . و عليه فيكون الافتراء عليها عظيم أعظم و البهتان في حقها أشد . و فيه يكون الهلاك حقاً . فعلى هذا الحد الذي ذكرناه من التأويلين يكون تمني الموت في حقها جائز ، و الله أعلم .
و أما الحديث فإنما هو خبر : أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس ، من فساد الحال في الدين ، و ضعفه و خوف ذهابه ، لا لضر ينزل بالمرء في جسمه أو غير ذلك ، من ذهاب ماله مما يحط به عنه خطاياه . و مما يوضح هذا المعنى و يبينه قوله عليه السلام : اللهم إني أسألك فعل الخيرات و ترك المنكرات و حب المساكين و إذا أردت ـ و يروى أدرت ـ في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون . رواه مالك و مثل هذا قول عمر رضي الله عنه : اللهم قد ضعفت قوتي و كبرت سني و انتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع و لا مقصر فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض رحمه الله . رواه مالك أيضاً .
و ذكر أبو عمر بن عبد البر في التمهيد و الاستذكار من حديث زاذان أبي عمر عن عليم الكندي قال : كنت جالساً مع أبي العباس الغفاري على سطح فرأى ناساً يتحملون من الطاعون فقال : يا طاعون خذني إليك يقولها ثلاثاً فقال عليم : لم تقول هذا ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت فإنه عند ذلك انقطاع عمله و لا يرد فيسعتب فقال أبو عباس : أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : بادروا بالموت ستا : إمرة السفهاء ، و كثرة الشرط ، و بيع الحكم ، و استخفافاً بالدم ، و قطيعة الرحم ، و نشئاً يتخذون القرآن مزامير ، يقدمون الرجل ليغنيهم بالقرآن و إن كان أقلهم فقهاً . و سيأتي لهذا مزيد بيان في الفتن ـ إن شاء الله تعالى .

باب ذكر الموت و الاستعداد له

النسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا ذكر هادم اللذات يعني الموت . أخرجه ابن ماجه و الترمذي أيضاً . و خرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا من ذكر هادم اللذات قلنا يا رسول الله : و ما هادم اللذات ؟ قال : الموت .
ابن ماجه عن ابن عمر قال : كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل من الأنصاري فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : أي المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقاً قال : فأي المسلمين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكراً و أحسنهم لما بعدهم استعداداً أولئك الأكياس أخرجه مالك أيضاً . و سيأتي في الفتن ـ إن شاء الله تعالى .
الترمذي عن شداد بن أوس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : الكيس من دان نفسه ، و عمل لما بعد الموت . و العاجز من أتبع نفسه هواها ، و تمنى على الله .
و روي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا ذكر الموت . فإنه يمحص الذنوب ، و يزهد في الدنيا و روي عنه عليه السلام أنه قال : كفى بالموت واعظاً و كفى بالموت مفرقاً . و قيل له يا رسول الله : هل يحشر مع الشهداء أحد ؟ قال : نعم ، من يذكر الموت في اليوم و الليلة عشرين مرة . و قال السدي في قوله تعالى : الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً أي أكثركم للموت ذكراً ، و له أحسن استعداداً و منه أشد خوفاً و حذراً .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم . قوله عليه السلام : أكثروا ذكر هادم اللذات الموت كلام مختصر و جيز قد جمع التذكرة و أبلغ في الموعظة فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة ، و منعه من تمنيها في المستقبل و زهده فيما كان منها يؤمل ، و لكن النفوس الراكدة ، و القلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ ، و تزويق الألفاظ ، و إلا ففي قوله عليه الصلاة و السلام : أكثروا ذكر هادم اللذات مع قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت ما يكفي السامع له ، و يشغل الناظر فيه و كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات :
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله و يودي المال و الولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
و لا سليمان إذ تجري الرياح له و الإنس و الجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل أوب إليها وافد يفد ؟
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا
فصل : إذ ثبت ما ذكرناه . فاعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية ، و التوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية ، ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق و سعة ، و نعمة و محنة ، فإن كان في حال ضيق و محنة . فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه ، فإنه لا يدوم . و الموت أصعب منه ، أو في حال نعمة و سعة فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها ، و السكون إليها ، لقطعه عنها . و لقد أحسن من قال :
اذكر الموت هادم اللذات و تجهز لمصرع سوف يأتي
و قال غيره :
و اذكر الموت تجد راحة في إذكار الموت تقصير الآمل
و أجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ، و لا زمن معلوم ، و لا مرض معلوم . و ذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك ، مستعداً لذلك . و كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة : الرحيل . الرحيل . فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه . فقيل : إنه قد مات فقال :
ما زال يلهج بالرحيل و ذكره حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظاً متشمراً ذا أهبة لم تلهه الآمال
و كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه : و يحك يا يزيد ، من ذا يترضى عنك ربك الموت ؟ ثم يقول : أيها الناس ألا تبكون و تنوحون على أنفسكم باقي حياتكم ؟ من الموت طالبه و القبر بيته . و التراب فراشه . و الدود أنيسه . و هو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر يكون حاله ؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشياً عليه .
و قال التيمي : شيئان قطعا عني لذة الدنيا : ذكر الموت . و ذكر الموقف بين يدي الله تعالى . و كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يجمع العلماء فيتذاكرون الموت ، و القيامة ، و الآخرة ، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة .
و قال أبو نعيم : كان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياماً . فإن سئل عن شيء قال : لا أدري لا أدري . و قال أسباط : ذكر عند النبي صلى الله عليه و سلم رجل فأثنى عليه فقال عليه السلام : كيف ذكره للموت ؟ فلم يذكر ذلك عنه . فقال : ما هو كما تقولون .
و قال الدقاق : من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة و قناعة القلب ، و نشاط العبادة . و من نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة ، و ترك الرضى بالكفاف ، و التكاسل في العبادة ، فتفكر يا مغرور في الموت و سكرته ، و صعوبة كأسه و مرارته ، فيما للموت من وعد ما أصدقه ، و من حاكم ما أعدله ، كفى بالموت مقرحاً للقلوب ، و مبكياً للعيون ،و مفرقاً للجماعات ، و هادماً للذات ، و قاطعاً للأمنيات ، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك ، و انتقالك من موضعك ، و إذا نقلت من سعة إلى ضيق ، و خانك الصاحب و الرفيق ، و هجرك الأخ و الصديق ، و أخذت من فراشك و غطائك إلى عرر ، و غطوك من بعد لين لحافك بتراب و مدر ، فيا جامع المال ، و المجتهد في البنيان ليس لك و الله من مال إلا الأكفان ، بل هي و الله للخراب و الذهاب و جسمك للتراب و المآب . فأين الذي جمعته من المال ؟ فهل أنقذك من الأهوال ؟ كلا بل تركته إلى من لا يحمدك ، و قدمت بأوزارك على من لا يعذرك . و لقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى : و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة أي : اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا ، الدار الآخرة و هي الجنة ، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة ، لا في الطين و الماء و التجبر و البغي ، فكأنهم قالوا : لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن ، و نحو هذا قول الشاعر :
نصيبك مما تجمع الدهر كله : رداءان تلوى فيهما ، و حنوط
و قال آخر :
هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم و فيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن و الكفن ؟
فصل : و قوله عليه الصلاة و السلام : الكيس من دان نفسه دان حاسب . و قيل : ذل . قال أبو عبيد : دان نفسه : أي أذلها و استعبدها . يقال : دنته أدينه ، إذ ذللته فيذل نفسه في عبادة الله سبحانه و تعالى ، عملاً يعده لما بعد الموت ، و لقاء الله تعالى ، و كذلك يحاسب نفسه على ما فرط من عمره ، ويستعد لعاقبة أمره ، بصالح عمله ، و التنصل من سالف زلله ، و ذكر الله تعالى و طاعته في جميع أحواله . فهذا هو الزاد ليوم المعاد . و العاجز ضد الكيس . و الكيس : العاقل ، والعاجز : المقصر في الأمور ، فهو مع تقصيره في طاعة ربه ، و اتباع شهوات نفسه متمن على الله أن يغفر له . و هذا هو الاغترار فإن الله تعالى أمره و نهاه ، و قال الحسن البصري : [ إن قوماً آلهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا و ما لهم حسنة و يقول أحدهم : إني أحسن الظن بربي . و كذب لو أحسن الظن لأحسن العمل ] و تلا قوله تعالى : و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . و قال سعيد بن جبير : [ الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية ، و يتمنى على الله المغفرة ] . و قال بقية بن الوليد : كتب أبو عمير الصوري إلى بعض إخوانه :
أما بعد [ فإنك قد أصبحت تؤمل الدنيا بطول عمرك ، و تتمنى على الله الأماني بسوء فعلك . و إنما تضرب حديداً بارداً و السلام ] . و سيأتي لهذا مزيد بيان في باب ما جاء أن القبر أول منازل الآخرة . إن شاء الله تعالى .


يتبع
 
في أمور تذكر الموت و الأخرة و يزهد في الدنيا

مسلم عن أبي هريرة قال : زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى و أبكى من حوله فقال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي و استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي . فزوروا القبور فإنها تذكر الموت و عن ابن ماجه ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور . فزورها . فإنها تزهد في الدنيا و تذكر الآخرة . فصل : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء . أما الشواب فحرام عليهن الخروج . و أما القواعد فمباح لهن ذلك و جائز ذلك لجميعهن إذا انفردن بالخروج عن الرجال و لا يختلف في هذا إن شاء الله تعالى . و على هذا المعنى يكون قوله عليه الصلاة و السلام : زوروا القبور عاماً . و أما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال و النساء فلا يجوز و لا يحل ، فبينا الرجل يخرج ليعتبر فيقع بصره على امرأة فيفتتن ، و بالعكس فيرجع كل واحد من الرجال و النساء مأزوراً مأجوراً و هذا واضح . و الله أعلم .
و قد رأى بعض أهل العلم : أن لعن النبي صلى الله عليه و سلم زوارات القبور كان قبل أن يرخص في زيارة القبور ، فلما رخص دخل الرجال و النساء و ما ذكرناه لك أولاً أصح و الله أعلم .
و روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج إلى المقبرة فلما أشرف عليها قال : ياأهل القبور أخبرونا عنكم ، أو نخبركم . أما خبر من قبلنا : فالمال قد اقتسم ، و النساء قد تزوجن ، والمسكن قد سكنها قوم غيركم ، ثم قال : أما و الله لو استطاعو لقالوا : لم نر زاداً خيراً من التقوى .
و لقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول :
ياعجباً للناس لو فكروا و حاسبوا أنفسهم أبصروا
و عبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبر
لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشر
ليعلمن الناس أن التقي و البر كانا خير ما يدخر
عجبت للإنسان في فخره و هو غداً في قبره يقبر
ما بال من أوله نطفة و جيفة آخره يفجر
أصبح لا يملك تقديم ما يرجو و لا تأخير ما يحذر
و أصبح الأمر إلى غيره في كل ما يقضي و ما يقدر
فصل : قال العلماء رحمة الله عليهم : ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور و خاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور :
أحدها : الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر ، و التخويف و الترغيب ، و أخبار الصالحين . فإن ذلك مما يلين القلوب و ينجع فيها .
الثاني : ذكر الموت من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات و ميتم البنين و البنات كما تقدم في الباب قبل ، يروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها . فقالت لها : أكثري من ذكر الموت يرق قلبك . ففعلت ذلك فرق قلبها . فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها . قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي ، و يلين القلب القاسي ، و يذهب الفرح بالدنيا و يهون المصائب فيها .
الثالث : مشاهدة المحتضرين ، فإن في النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته ، و نزعاته ، و تأمل صورته بعد مماته ، ما يقطع عن النفوس لذاتها ، و يطرد عن القلوب مسراتها ، و يمنع الأجفان من النوم ، و الأبدان من الراحة ، ويبعث على العمل ، و يزيد في الاجتهاد و التعب .
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه ، و شدة ما نزل به ، فرجع إلى أهله ، بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له : الطعام يرحمك الله فقال : يا أهلاه عليكم بطعامكم و شرابكم . فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه .
فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسا قلبه ، و لزمه ذنبه ، أن يستعين بها على دواء دائه ، و يستصرخ بها على فتن الشيطان و إغوائه ، فإن انتفع بها فذاك ، و إن عظم عليه ران القلب ، و استحكمت فيه دواعي الذنب ، فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك مالا يبلغه الأول ، و الثاني ، و الثالث . و لذلك قال عليه السلام زوروا القبور فإنها تذكر الموت و الآخرة ، و تزهد في الدنيا ، فالأول : سماع بالأذن ، و الثاني : إخبار للقلب بما إليه المصير ، و قائم له مقام التخويف و التحذير في مشاهدة من احتضر ، و زيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ، فلذلك كانا أبلغ من الأول و الثاني .
قال صلى الله عليه و سلم : ليس الخبر كالمعاينة رواه ابن عباس و لم يروه أحد غيره إلا أن الاعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات . و قد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات ، و أما زيارة القبور : فوجودها أسرع ، و الانتفاع بها أليق و أجدر ، فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها ، و يحضر قلبه في إتيانها ، و لا يكون حظه منها الطواف على الأجداث فقط ، فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة و نعوذ بالله من ذلك . بل يقصد بزيارته : وجه الله تعالى ، و إصلاح فساد قلبه ، أو نفع الميت مما يتلوه عنده من القرآن . على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . و يجتنب المشي على المقابر ، و الجلوس عليها إذا دخل المقابر ، و يخلع نعليه . كما جاء في أحاديث ، و يسلم إذا دخل المقابر ، و يخاطبهم خطاب الحاضرين . فيقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، كذلك كان عليه الصلاة و السلام يقول ، و كنى بالدار عن عمارها و سكانها . و لذلك خاطبهم بالكاف و الميم لأن العرب تعبر بالمنزل عن أهله . و إذا وصل إلى قير ميته الذي يعرف سلم عليه أيضاً فييقول : عليك السلام .
روى الترمذي في جامعه : أن رجلاً دخل عبى النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : عليك السلام ، فقال صلى الله عليه و سلم : لا تقل عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الميت و ليأته من تلقاء وجهه في زيارته كمخاطبته حياً ، و لو خاطبة حياً لكان الأدب استقباله بوجهه . فكذلك ههنا . ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، و انقطع عن الأهل و الأحباب ، بعد أن قاد الجيوش و العساكر ، و نافس الأصحاب و العشائر ، و جمع الأموال و الذخائر ، فجاءه الموت على وقت لم يحتسبه ، و هول لم يرتقبه . فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ، و درج من أقرانه ، الذين بلغوا الآمال و جمعوا الأموال . كيف انقطعت آمالهم ، و لم تغن عنهم أموالهم ، و محا التراب محاسن وجوههم ، و افترقت في القبور أجزاؤهم ، و ترمل بعدهم نساؤهم ، و شمل ذل اليتم أولادهم ، و اقتسم غيرهم طريقهم و بلادهم .
و ليتذكر ترددهم في المآرب ، و حرصهم على نيل المطالب ، و انخداعهم لمؤاتاة الأسباب ، و ركونهم إلى الصحة و الشباب ، و ليعلم أن ميله إلى اللهو و اللعب كميلهم ، و غفلته عما بين يديه من الموت الفظيع و الهلاك السريع كغفلتهم ، و أنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، و ليحضر بقلبه ذكر من كان متردداً في أغراضه ، و كيف تهدمت رجلاه . و كان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله و قد سالت عيناه ، و يصول ببلاغة نطقه ، و قد أكل الدود لسانه ، و يضحك لمؤاتاة دهره و قد أبلى التراب أسنانه ، و ليتحقق أن حاله كحاله ، و مآله كمآله ، و عند هذا التذكر و الاعتبار ، يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية ، و يقبل على الأعمار الأخروية ، فيزهد في دنياه ، و يقبل على طاعة مولاه ، و يلين قلبه ، و يخشع جوارحه . و الله أعلم .
فصل : جاء في هذا الباب : حديث يعرض حديث هذا الباب . و هو ما خرجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب السابق و اللاحق ، و أبو حفص عمر بن شاهين في الناسخ و المنسوخ له في الحديث بإسناديهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : حج بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون و هو باك حزين ، مغتم فبكيت لبكائه صلى الله عليه و سلم ثم إنه طفر أي وثب فنزل فقال : يا حميراء استمسكي فاستندت إلى جنب البعير . فمكث عني طويلا ثم عاد إلي و هو فرح مبتسم فقلت له : بأبي أنت و أمي يا رسول الله . نزلت من عندي و أنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول الله ، ثم إنك عدت إلي و أنت فرح مبتسم فعن ماذا يا رسول الله ؟ فقال : مررت بقبر أمي آمنة فسألت الله ربي أن يحييها فأحياها فآمنت بي ـ أو قال ـ فآمنت و ردها الله عز و جل لفظ الخطيب . و قد ذكر السهيلي في الروض الأنف بإسناد فيه مجهولون [ أن الله تعالى أحيا له أباه و أمه و آمنا به ] .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و لا تعارض و الحمد لله ، لأن إحياءهما متأخر عن النهي بالاستغفار لهما . بدليل حديث عائشة رضي الله عنها : أن ذلك كان في حجة الوداع و كذلك جعله ابن شاهين ناسخاً لما ذكر من الأخبار .
قلت : و يبينه حديث مسلم عن أنس أن رجلاً قال يا رسول الله : أين أبي ؟ قال : في النار فلما قفا دعاه قال : إن أبي و أباك في النار و حديث سلمة بن يزيد الجعفي و فيه : فلما رأى ما دخل علينا قال : و أمي مع أمكما و هذا إن صح إحياؤهما . و قد سمعت : أن الله تعالى أحيا له عمه أبا طالب و آمن به . و الله أعلم .
و قد قيل : إن الحديث في إيمان أمه و أبيه موضوع يرده القرآن العظيم و الإجماع قال الله العظيم و لا الذين يموتون و هم كفار فمن مات كافراً لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة ، بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع فكيف بعد الإعادة ؟ و في التفسير أنه عليه السلام قال : ليت شعري ما فعل أبواي فنزل و لا تسأل عن أصحاب الجحيم .
قال المؤلف : ذكره الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية و فيه نظر ، و ذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه و سلم و خصائصه لم تزال تتوالى و تتابع إلى حين مماته ، فيكون هذا مما فضله الله تعالى و أكرمه به .
ليس إحياؤهما و إيمانهما بممتنع عقلاً و لا شرعاً . فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل و إخباره بقاتله ، و كان عيسى عليه السلام يحيى الموتى ، و كذلك نبينا عليه الصلاة و السلام أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى ، و إذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته و فضيلته مع ما ورد من الخبر في ذلك و يكون ذلك خصوصاً فيمن مات كافراً ، و قوله : فمن مات كافراً إلى آخر كلامه مردود بما روي في الخبر أن الله تعالى رد الشمس على نبيه عليه السلام بعد مغيبهما ، ذكر أبو جعفر الطحاوي و قال : إنه حديث ثابت فلو لم يكن رجوع الشمس نافعاً و أنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه ، فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه و سلم نافعاً لإيمانهما و تصديقهما بالنبي صلى الله عليه و سلم . و قد قبل الله إيمان قوم يونس و توبتهم مع تلبسهم بالعذاب فيما ذكر في بعض الأقوال و هو ظاهر القرآن . و أما الجواب عن الآية فيكون ذلك قبل إيمانهما و كونهما في العذاب . و الله بغيبه أعلم و أحكم .

باب منه ، و ما يقال عند دخول المقابر و جواز البكاء عندها

أبو داود عن بريدة بن خصيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها . فإن في زيارتها تذكرة ، و ذكر النسائي عن بريدة أيضاً عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أراد أن يزور قبراً فليزره ، و لا تقولوا هجراً بمعنى سوءاً ، و ذكر أبو عمر من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فسلم عليه ، إلا رد عليه السلام روي هكذا موقوفاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : فإن لم يعرفه و سلم : رد عليه السلام .
مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله : كيف أقول إذا دخلت المقابر ؟ قال : قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين و المسلمين ، و يرحم الله المستقدمين منا و المتأخرين . و إنا إن شاء الله بكم لاحقون خرجه مسلم من حديث بريدة أيضاً . و زاد : أسأل الله لنا و لكم العافية ، و في الصحيحين أنه عليه السلام مر بامرأة تبكي عند قبر لها فقال لها : اتقي الله و اصبري الحديث .
فصل : هذه الأحاديث تشتمل على فقه عظيم و هو جواز زيارة القبور للرجال و النساء و السلام عليها و ورد الميت السلام على من يسلم عليه و جواز بكاء النساء عند القبر ، و لو كان بكاؤهن و زيارتهن حراماً لنهى النبي صلى الله عليه و سلم المرأة و لزجرها زجراً يزجر مثله من أتى محرماً و ارتكب منهياً . و ما روي من نهي النساء عن زيارة القبور فغير صحيح . و الصحيح ما ذكرت لك من الإباحة إلا أن عمل النساء في خروجهن مما لا يجوز لهن من تبرج أو كلام أو غيره فلذلك المنهي عنه . و قد ذكرت لك في الباب قبل الفرق بين المتجالة و الشابة فتأمله ، و قد أبيح لك أن تبكي عند قبر ميتك حزناً عليه أو رحمة له مما بين يديه ، كما أبيح لك البكاء عند موته . و البكاء عند العرب يكون البكاء المعروف و تكون النياحة . و قد يكون معهما الصياح و ضرب الخدود و شق الجيوب . و هذا محرم بإجماع العلماء ، و هو الذي ورد فيه الوعيد من قوله عليه السلام : أنا بريء ممن حلق و سلق و خرق خرحه مسلم .
و أما البكاء من غير نياحة فقد ورد فيه الإباحة عند القبر ، و عند الموت ، و هو بكاء الرأفة و الرحمة التي لا يكاد يخلو منها إنسان . و قد بكى النبي صلى الله عليه و سلم لما مات ابنه إبراهيم . و قال عمر : دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة ] النقع : ارتفاع الصوت . و اللقلقة : تتابع ذلك . و قيل : النقع : وضع التراب على الرأس . و الله أعلم .
 
باب المؤمن يموت بعرق الجبين

ابن ماجه عن بريدة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المؤمن يموت بعرق الجبين خرجه الترمذي و قال فيه : حديث حسن .
و روى عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ارقبوا للميت عند موته ثلاثاً : إن رشح جبينه . و ذرفت عيناه . و انتشر منخراه . فهي رحمة من الله قد نزلت به . و إن غط غطيط البكر المخنوق . و خمد لونه . و ازبد شدقاه . فهو عذاب من الله تعالى قد حل به خرجه أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول له . و قال : قال عبد الله : إن المؤمن يبقى عليه خطايا من خطاياه فيجازف بها عند الموت أي يجازي فيعرق لذلك جبينه . و قال بعض العلماء : إنما يعرق جبينه حياء من ربه لما اقترف من مخالفته ، لأن ما سفل منه قد مات ، و إنما بقيت قوى الحياة و حركاتها فيما علا ، و الحياء في العينين و ذلك وقت الحياء و الكافر في عمى عن هذا كله ، و الموحد المعذب في شغل عن هذا بالعذاب الذي قد حل به . و إنما العرق الذي يظهر لمن حلت به الرحمة ، فإنه ليس من ولي و لا صديق و لا بر إلا و هو مستحي من ربه ، مع البشرى و التحف و الكرامات .
قلت : و قد تظهر العلامات الثلاث ، و قد تظهر واحدة و تظهر اثنتان ، و قد شاهدنا عرق الجبين وحده . و ذلك بحسب تفاوت الناس في الأعمال ، و الله أعلم .
و في حديث ابن مسعود : [ موت المؤمن بعرق الجبين تبقى عليه البقية من الذنوب فيجازف بها عند الموت ] أي يشدد لتمحص عنه ذنوبه .
باب منه في خروج نفس المؤمن و الكافر

خرج أبو نعيم من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن نفس المؤمن تخرج رشحاً ، و إن نفس الكافر تسل كما تسل نفس الحمار ، و إن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد عليه عند الموت ليكفر بها عنه . و إن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزى بها .

باب ما جاء أن للموت سكرات و في تسليم الأعضاء بعضها على بعض و فيما يصير الإنسان إليه
وصف الله سبحانه و تعالى شدة الموت في أربع آيات :
الأولى : قوله الحق : و جاءت سكرة الموت بالحق .
الثانية : قوله تعالى : و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت .
الثالثة : قوله تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم .
الرابعة : كلا إذا بلغت التراقي .
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء . فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه و يقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يديه فجعل يقول : في الرفيق الأعلى حتى قبض و مالت يده .
و خرج الترمذي عنها قالت : [ ما أغبط أحداً بهون موت . بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه و سلم ] .
و في البخاري عنها قالت : [ مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنه لبين حاقنتي و ذاقنتي . فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه و سلم ] الحاقنة : المطمئن بين الترقوة و الحلق ، و الذاقنة : نقره الذقن و قال الخطابي : الذاقنة : ما تناوله الذقن من الصدر .
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن جابر بن عبد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تحدثوا عن بني إسرائيل . فإنه كانت فيهم أعاجيب . ثم أنشأ يحدثنا قال : [ خرجت طائفة منهم فأتوا على مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين و دعونا الله يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت قال : ففعلوا . فبينما هم كذلك إذا طلع رجل رأسه بيضاء ، أسود اللون خلا شيء ، بين عينيه أثر السجود فقال يا هؤلاء ما أردتم إلي ؟ لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن . فادعوا الله أن يعيدني كما كنت ] .
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن العبد ليعالج كرب الموت و سكرات الموت و إن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول : عليك السلام تفارقني و أفارقك إلى يوم القيامة .
و ذكر المحاسبي في الرعاية : أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام : [ يا خليلي كيف وجدت الموت ؟ قال : كسفود محمى جعل في صوف رطب ، ثم جذب قال : [ أما إنا قد هونا عليك يا إبراهيم ] .
و روى أن موسى عليه السلام لما صار روحه إلى الله . قال له ربه : [ يا موسى كيف وجدت الموت ] ؟ قال : وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يقلى على المقلى لا يموت فيستريح و لا ينجو فيطير . و روى عنه أنه قال : وجدت نفسي كشاة تسلخ بيد القصاب و هي حية . و قال عيسى بن مريم عليه السلام :[ يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة ] يعني سكرات الموت .
و روي : أن الموت أشد من ضرب بالسيوف و نشر بالمناشير ، و قرض بالمقاريض .
و ذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب الحلية من حديث مكحول ، عن وائلة ابن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و الذي نفسي بيده لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف و سيأتي بكماله إن شاء الله تعالى .
و في الخبر من حديث حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الملائكة تكتنف العبد ، و تحبسه ، و لولا ذلك لكان يعدو في الصحاري و البراري من شدة سكرات الموت . و جاءت الرواية بأن ملك الموت عليه السلام إذا تولى الله قبض نفسه بعد موت الخلائق يقول : [ و عزتك لو علمت من سكرة الموت ما أعلم ما قبضت نفس مؤمن ] . ذكره القاضي أبو بكر بن العربي .
و عن شهر بن حوشب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الموت و شدته ؟ فقال : إن أهون الموت بمنزلة حسكة كانت في صوف . فهل تخرج الحسكة من الصوف إلا و معها الصوف ؟ قال شهر : و لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه يا أبتاه ؟ إنك لتقول لنا : ليتني كنت ألقى رجلاً عاقلاً لبيباً عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد . و أنت ذلك الرجل فصف لي الموت فقال : يا بني و الله كأن جنبي في تخت . و كأني أتنفس من سم إبرة . و كأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي . ثم أنشأ يقول :
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في تلال الجبال أرعى الوعولا
و عن أبي ميسرة رفعه قال : [ لو أن ألم شعرة من الميت وضع على أهل السماء و الأرض لماتوا جميعاً ] و أنشدوا :

أذكر الموت و لا أرهبه إن قلبي لغليظ كالحجر
أطلب الدنيا كأني خالد و ورائي الموت يقفو بالأثر
و كفى بالموت فاعلم واعظاً لمن الموت عليه قد قدر
و المنايا حوله ترصده ليس ينجي المرء منهن المفر
و قال آخر :
بينا الفتى مرح الخطا فرح بما يسع له إذ قيل : قد مرض الفتى
‌ إذ قيل : بات بليلة ما نامها إذ قيل : أصبح مثخناً ما يرتجى
إذ قيل : أصبح شاخصاً و موجها و معللاً . إذ قيل : أصبح قد قضى
فصل : أيها الناس : قد آن للنائم أن يستيقظ من نومه ، و حان للغافل أن يتنبه من غفلته قبل هجوم الموت بمرارة كأسه ، و قبل سكون حركاته ، و خمود أنفاسه ، و رحلته إلى قبره ، و مقامه بين أرماسه .
و روى عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أناس من أصحابه يوصيهم فكان فيما أوصاهم به أن كتب إليهم :
[ أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله العظيم ، و المراقبة له ، و اتخذوا التقوى و الورع زاداً . فإنكم في دار عما قريب تنقلب بأهلها ، و الله في عرضات القيامة و أهوالها . يسألكم عن الفتيل و النقير . فالله الله عباد الله . اذكروا الموت الذي لا بد منه ، و اسمعوا قول الله تعالى : كل نفس ذائقة الموت . و قوله عز و جل : كل من عليها فان . و قوله عز و جل : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم فقد بلغني ـ و الله أعلم ـ أنهم يضربون بسياط من نار . و قال جل ذكره : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون .
و قد بلغني ـ و الله أعلم و أحكم ـ أن ملك الموت رأسه في السماء و رجلاه في الأرض و أن الدنيا كلها في يد ملك الموت كالقصعة بين يدي أحدكم يأكل منها . و قد بلغني ـ و الله أعلم و أحكم ـ أن ملك الموت ينظر في وجه كل آدمي ثلاثمائة نظرة و ستاً و ستين نظرة . و بلغني أن ملك الموت ينظر في كل بيت تحت ظل السماء ستمائة مرة . و بلغني أن ملك الموت قائم وسط الدنيا فينظر الدنيا كلها برها و بحرها و جبالها و هي بين يديه كالبيضة بين رجلي أحدكم . و بلغني أن لملك الموت أعواناً الله أعلم بهم ليس منهم ملك إلا لو أذن له أن يلتقم السموات و الأرض في لقمة واحدة لفعل . و بلغني أن ملك الموت تفزغ منه الملائكة أشد من فزع أحدكم من السبع . و بلغني أن حملة العرش إذا قرب ملك الموت من أحدهم ذاب حتى يصير مثل الشعرة من الفزع منه و بلغني أن ملك الموت ينتزع روح بني آدم من تحت عضوه و ظفره و عروقه و شعره و لا تصل الروح من مفصل إلى مفصل إلا كان أشد عليه من ألف ضربة بالسيف . و بلغني أنه لو وضع وجع شعرة من الميت على السموات و الأرض لأذابها حتى إذا بلغت الحلقوم و لي القبض ملك الموت . و بلغني أن ملك الموت إذا قبض روج مؤمن جعلها في حريرة بيضاء و مسك أذفر . و إذا قبض روح الكافر جعلها في خرقة سوداء في فخار من نار أشد نتناً من الجيف .
و في الخبر إذا دنت منية المؤمن نزل عليه أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى و ملك يجذبها من قدمه اليسرى ، و النفس تنسل انسلال القطرة من السقاء و هم يجذبونها من أطراف البنان و رؤوس الأصابع . و الكافر تنسل روحه كالسفود من الصوف المبتل . ذكره أبو حامد في كشف علوم الآخرة فمثل نفسك يا مغرور و قد حلت بك السكرات ، و نزل بك الأنين و الغمرات فمن قائل يقول : إن فلاناً قد أوصى و ماله قد احصى ، و من قائل يقول : إن فلاناً ثقل لسانه ، فلا يعرف جيرانه ، و لا يكلم إخوانه ، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب ، و لا تقدر على رد الجواب ، ثم تبكي ابنتك و هي كالأسيرة ، و تتضرع و تقول : حبيبي أبي من ليتمي من بعدك ؟ و من لحاجتي ؟ و أنت و الله تسمع الكلام و لا تقدر على رد الجواب و أنشدوا :
و أقبلت الصغرى تمرغ خدها على وجنتي حيناً و حيناً على صدري
و تخمش خديها و تبكي بحرقة تنادي : أبي إني غلبت على الصبر
حبيبي أبي من لليتامى تركتهم كأفراخ زغب في بعيد من الوكر ؟
فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك ، إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل ، و ألبست الأكفان ، و أوحش منك الأهل و الجيران ، و بكت عليك الأصحاب و الإخوان ، و قال الغاسل أين زوجة فلان تحالله ؟ و أين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً ؟ و أنشدوا :
ألا أيها المغرور ما لك تلعب تؤمل آمالاً و موتك أقرب
و تعلم أن الحرص بحر مبعد سفينته الدنيا فإياك تعطب
و تعلم أن الموت ينقص مسرعاً عليك يقينا طعمه ليس يعذب
كأنك توصي و اليتامى تراهم و أمهم الثكلى تنوح و تندب
تغص بحزن ثم تلطم وجهها يراها رجال بعد ما هي تحجب
و أقبل بالأكفان نحوك قاصد و يحثى عليك الترب و العين تسكب
فصل : قول عائشة رضي الله عنها : كانت بين يديه ركوة أو علبة العلبة : قدح من خشب ضخم يحلب فيه ، قال ابن فارس في المجمل و قال الجوهري في الصحاح العلبة محلب من جلد ، و الجمع علب و علاب ، والمعلب الذي يتخذها . . .
قال الكميت يصف خيلاً :
سقينا دما القوم طوراً ، و تارة صبوحاً لإقتار الجلود المعلب
و قيل : أسفله جلد و أعلاه خشب مدور مثل إطار الغربال ، و هو الدائر به ، و قيل : هو عس يحلب فيه . و العس : القدح الضخم . و قال اللغوي أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري في كتاب التلخيص له : و العلبة : قدح للأعراب مثل العس ، و العس يتخذ من جنب جلد البعير و الجمع علاب ، و قوله : إن الموت سكرات أي شذائد و سكرة الموت شدته .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء و المرسلين و الأولين و المتقين فمالنا عن ذكره مشغولين ؟ و عن الاستعداد له متخلفين ؟ قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون قالوا : و ما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شدائد الموت و سكراته ، فله فائدتان .
إحداهما : أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت و أنه باطن و قد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة و لا قلقاً و يرى سهولة خروج روحه ، فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت و لا يعرف ما الميت فيه ؟ فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم : شدة ألمه ، مع كرامتهم على الله تعالى و تهونيه على بعضهم ، قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه و يقاسيه الميت مطلقاً لإخبار الصادقين عنه ، ما خلا الشهيد قتيل الكفار على ما يأتي ذكره .
الثانية : ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء : أحباب الله ، و أنبياؤه و رسله ، فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة ؟ و هو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين ، كما قال في قصة إبراهيم : أما إنا قد هونا عليك . فالجواب : أن أشد الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل كما قال نبينا عليه السلام .
خرجه البخاري و غيره ، فأحب الله أن يبتليهم تكميلاً لفضلاً لديه ، و رفعة لدرجاتهم عنده ، و ليس ذلك في حقهم نقصاً ، و لا عذاباً . بل هو كما قال ، كمال رفعة ، مع رضاهم بجميل ما يجزي الله عليهم ، فأراد الحق ، سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد ، مع إمكان التخفيف و التهوين عليهم ، ليرفع منازلهم ، و يعظم أجورهم قبل موتهم .
كما ابتلى إبراهيم بالنار ، و موسى بالخوف و الأسفار ، و عيسى بالصحارى و القفاز ، و نبينا محمداً صلى الله عليه و سلم بالفقر في الدنيا و مقاتلة الكفار ، كل ذلك لرفعة في أحوالهم ، و كمال في درجاتهم ، و لا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخلطين فإن ذلك عقوبة لهم ، و مؤاخذة على إجرامهم فلا نسبة بينه و بين هذا .
فصل : إن قال قائل : كل المخلوقات تجد هذه السكرات ؟ قيل له : قال بعض العلماء قد وجب بحكم القول الصدق ، و الكلمة الحق ، أن الكأس مر المذاق ، و إن قد ذيق و يذاق و لكن ثم فريقان ، و تقديرات و أوزان ، و إن الله سبحانه و تعالى لما انفرد بالبقاء وحده لا شريك له و أجرى سنة الهلاك و الفناء على الخلق دونه ، خالف في ذلك جل جلاله بين المخلوقات ، و فرق بين المحسوسات ، بحسب ما خالف بين المنازل و الدرجات ، فنوع أرضي حيواني . إنساني و غير إنساني و فوقه عالم روحاني و ملأ علواني رضواني ، كل يشرب من ذلك الكأس جرعته . و بغتص منه غصته ، قال الله تعالى : كل نفس ذائقة الموت .
قال أبوحامد في كتاب الكشف علوم الأخرة : و ثبت ذلك في ثلاثة مواضع من كتابه ، و إنما أراد سبحانه بالموتات الثلاث للعالمين : فالمتحيز إلى العالم الدنيوي يموت ، و المتحيز إلى العالم الملكوتي يموت ، و المتحيز إلى العالم الجبروتي يموت ، فالأول آدم و ذرتيه و جميع الحيوان على ضروبه ، و الملكوتي و هو الثاني أصناف الملائكة و الجن ، و أهل الجبروت هم المصطفون من الملائكة .
قال الله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلاً و من الناس فهم كروبيون و حملة العرش و أصحاب سر دقات الجلال كما وصفهم الله في كتابه و أثنى عليهم حيث يقول و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون * يسبحون الليل و النهار لا يفترون و هم أهل حضرة القدس المعنيون بقوله تعالى : لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين و هم يموتون على هذه المكانة من الله تعالى و القربة ، و ليس زلفاهم بمانع لهم من الموت . قال ابن قسي : و كما تفرقت الطرق بهذه العوالم كذلك تفرقت طرقت الإحساسات في اجتراع الغصص و المرارات فإحساس روحاني للروحانيات كما يجده النائم في سنته ، أو الغصة الوجيعة تغصه في نومته فيغص منها في حال رقدته و يتململ ذلك إلى حين يقتظه ، حتى إذا استيقظ لم يجده شيئاً و وجد الإنس عنده فأزال ألمه ، و وافاه أمانه و نعمه ، و إحساس علوي قدسي كما يجده الوسنان الروحانية . و هو ما لا يدركه العقل البشري إلا توهما ، و لا يبلغه التحصيل إلا تخيلاً و توسماً ، و إحساس بشري سفلي إنسي و جني ، و هو ما لا يكاد أن توصف شدائده ، و غصصه ، فكيف و قد قالوا بالغصة الواحدة منه كألف ضربة السيف فما عسى أن ينعت و يوصف و هذا الذي لا يمكن أن يعرف ؟ و الخلق أيضاً في هذا الإحساس فرق ، يختلفون باختلاف المنازل و الطرق ، فالفرقة الإسلامية في نفسها لا تجد منه غير الإسلامية ، ثم الإسلامية نفسها لا تجد منه النبوية ، كما تجد التبعية . ثم النبوية في ذاتها و مقاماتها إحساساتها تختلف على حكم الكلمة و صدق القيا باختلاف التقديم و التفضيل ، قال الله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، منهم من كلم الله ، و رفع بعضهم درجات الآية . و قد نبهت الخلة الذاتية عزت سبحاتها ، و تقدست صفاتها ، على صفة ذلك عن إبراهيم و أشارت إلى تهوين الأمر عليه ، و تبين ما خفف عنه ، صلوات الله و سلامه عليه ، فقال : أما إنا قد هونا عليك يا إبراهيم و ما وصفه الحق جل جلاله بالهون فلا أهون منه ، كما ما كبره و عظمه فلا أكبر و لا أعظم منه ، و لا فرق بين أن قال : موتاً هيناً و ملكاً عظيماً كبيراً ، و قال في نعيم الجنة و إذا رأيت ثم رأيت نعيماً و ملكاً كبيراً فكما أنه لا أكبر من ملك الجنة . كذلك لا هون من موت الخلة ، و الله أعلم .
فصل : إذا ثبت ما ذكرناه . فاعلم : أن الموت هو الخطب الأفظع ، و الأمر الأشنع و الكأس التي طعمها أكره و أبشع ، و أنه الحارث الأهذم للذات و الأقطع للراحات ، و الأجلب للكريهات ، فإن أمراً يقطع أوصالك ، و يفرق أعضاءك ، و يهدم أركانك ، لهو الأمر العظيم ، و الخطب الجسيم ، و إن يومه لهو اليوم العظيم .
و يحكى أن الرشيد لما اشتد مرضه أحضر طبيباً طوسياً فارسياً و أمر أن يعرض عليه ماؤه أي بوله مع مياه كثيرة لمرضى و أصحاء ، فجعل يستعرض القوارير حتى رأى قارورة الرشيد فقال : قولوا : لصاحب هذا الماء يوصي . فإنه قد انحلت قواه ، و تداعت بنيته ، و لما استعرض باقي المياه أقيم فذهب ، فيئس الرشيد من نفسه و أنشد :
إن الطيب بطبه و دوائه لا يستطيع دفاع نحب قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان أبرأ مثله فيما مضى
مات المداوي ، و المداوى ، و الذي جلب الدواء أو باعه ، و من اشترى
و بلغه أن الناس أرجفوا بموته . فاستدعى حماراً و أمر أن يحمل عليه فاسترحت فخذاه . فقال : أنزلوني صدق المرجفون ، و دعا بأكفان فتخير منها ما أعجبه و أمر فشق له قبر أمام فراشه ثم اطلع فيه فقال : ما أغنى عني مالية هلك عني سلطانية . فمات من ليلته ، فما ظنك ـ رحمك الله ـ بنازل ينزل بك فيذهب رونقك و بهاك و يغير منظرك و رؤياك ، و يمحو صورتك و جمالك ، و يمنع من اجتماعك و اتصالك ، و يردك بعد النعمة و النضرة ، و السطوة و القدرة ، و النخوة و العزة ، إلى حالة يبارد فيها أحب الناس إليك ، و أرحمهم بك ، و أعطفهم عليك ، فيقذفك في حفرة من الأرض قريبة أنحاؤها مظلمة أرجاؤها ، محكم عليك حجرها و صيدانها ، فتحكم فيك هوامها و ديدانها ، ثم بعد ذلك تمكن منك الأعدام و تختلط بالرغام ، و تصير تراباً توطأ بالأقدام ، و ربما ضرب منك الإناء فخار ، أو أحكم بك بناء جدار ، أو طلي بك محس ما ، أو موقد نار .
كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه يأتي بإناء ماء ليشرب منه فأخذه بيده و نظر إليه و قال : الله أعلم كم فيك من عين كحيل ، و خذ أسيل .
و يحكى أن رجلين تنازعاً و تخاصماً في أرض فأنطلق الله عزوجل لبنة من حائط من تلك الأرض فقالت : يا هذان فيم تتنازعان ؟ و فيم تتخاصمان ؟ إني كنت ملكاً من الملوك ملكت كذا و كذا سنة ثم مت و صرت تراباً . فبقيت كذلك ألف سنة ثم أخذني خزاف ـ يعني فخاراً فعمل مني إناء فاستعملت حتى تكسرت ، ثم عدت تراباً فبقيت ألف سنة . ثم أخذني رجل فضرب مني لبنة ، فجعلني في هذا الحائط . ففيم تنازعكما و فيم تخاصمكما ؟ .
قلت : و الحكايات في هذا المعنى و الوجود شاهد بتجديد ما دثر ، و تغيير ما غير و عن ذلك أن يكون الحفر و الإخراج ، و اتخاذ الأواني و بناء الأبراج ، و لقد كنت في زمن الشباب أنا و غيري ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج قرطبة و قد اختلط بعظام من هناك و عظمهم و لحومهم و شعورهم و أبشارهم إلى الذيم يصنعون القرمد للشقف .
قال علماؤنا رضوان الله عليهم : و هذا التغير إنما يحل بجسدك ، و ينزل ببدنك لا بروحك ، لأن الروح لها حكم آخر ، و ما مضى منك فغير مضاع ، و تفرقة لا تمنع من الاجتماع ، قال الله تعالى : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم و عندنا كتاب حفيظ و قال : فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى .
 
باب الموت كفارة لكل مسلم

أبو نعيم ، عن عاصم الأحول ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الموت كفارة لكل مسلم . ذكره القاضي أبو بكر ابن العربي في سراج المريدين له ، و قال : فيه حديث صحيح حسن .
فصل : إنما كان الموت كفارة ، لكل ما يلقاه الميت في مرضه من الآلام و الأوجاع ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : ما من مسلم يصيبه أذى ، من مرض فما سواه إلا حط به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها . خرجه مسلم .
و في الموطأ عن أبي هريرة : عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يرد الله به خيراً يصب منه . و في الخبر المأثور يقول الله تعالى : إني لا أخرج أحدا من الدنيا ، و أنا أريد أن أرحمه ، حتى أوفيه بكل خطيئة كان عملها : سقما في جسده . و مصيبة في أهله و ولده ، و ضيقاً في معاشه ، و إفتاراً في رزقه ، حتى أبلغ منه مثاقيل الذر فإن بقي عليه شيء شددت عليه الموت ، حتى يفضي إلى كيوم ولدته أمه .
قلت : و هذا بخلاف من لا يحبه و لا يرضاه كما في الخبر يقول الله تعالى : وعزتي و جلالي لا أخرج من الدنيا عبداً أريد أن أعذبه ، حتى أعذبه ، حتى أوفيه يكل حسنة عملها بصحة في جسده ، و سعة في رزقه ، و رغد في عيشه ، و أمن في سربه ، حتى أبلغ منه مثاقيل الذر ، فإن بقي له شيء هونت عليه الموت ، حتى يفضي إلي و ليس له حسنة يتقي بها النار .
قلت : و في مثل هذا المعنى ما خرجه أبو داود بسند صحيح فيما ذكر أبو الحسن بن الحصار عن عبيد بن خالد السلمي و كانت له صحبة عن النبي صلى الله عليه و سلم : موت الفجأة أخذة أسف للكافر ، و رواه أيضاً مرسلاً .
و روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها : إنها راحة للمؤمن و أخذه أسف للكافر .
و روى عن ابن عباس أن داود عليه السلام مات فجأة يوم السبت و عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ إذا بقي على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت و شدائده درجته من الجنة ، و إن الكافر إذا كان قد عمل معروفاً في الدنيا ، هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم يصير إلى النار ] . ذكره أبو محمد عبد الحق .
و خرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نفس المؤمن تخرج رشحاً ، و إن نفس الكافر تسل كما تسل نفس الحمار ، و إن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد بها عليه عند الموت ليكفر بها عنه . و إن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزي بها ذكره أبو محمد عبد الحق ، و ذكر ابن المبارك أن أبا الدرداء رضي الله عنه ـ قال : [ أحب الموت اشتياقاً إلى ربي ، و أحب المرض تكفيراً لخطيئتي ، و أحب الفقر تواضعاً لربي عز و جل ] .
باب لا يموت أحد و هو يحسن بالله الظن و في الخوف من الله تعالى

مسلم عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول قبل وفاته بثلاثة أيام : لا يموتن أحدكم إلا و هو يحسن الظن بالله أخرجه البخاري .
و ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله و زاد : فإن قوماً قد أرادهم سوء ظنهم بالله فقال لهم تبارك و تعالى : و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين .
ابن ماجه ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على شاب و هو في الموت فقال : كيف تجدك ؟ فقال : أرجو الله يا رسول الله و أخاف ذنوبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموطن إلا عطاء الله ما يرجو و أمنه مما يخاف . ذكره ابن أبي الدنيا أيضاً ، و خرجه الترمذي و قال : هذا حديث حسن غريب .
و قد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلاً .
و ذكر الترمذي الحكيم في الأصل السادس و الثمانين من نوادر الأصول : حدثنا يحيى بن حبيب عن عدي قال ، حدثنا بشر المفضل عن عوف عن الحسن أنه قال : بلغني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : قال ربكم عز و جل : لا أجمع على عبدي خوفين و لا أجمع له أمنين . فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة و من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة .
حدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يذكر من مناجاة موسى عليه السلام أنه قال : يا موسى إنه لن يلقاني عبد لي في حاضر القيامة إلا فتشته عما في يديه إلا ما كان من الورعين فإني أستحييهم و أجلهم فأكرمهم فأدخلهم الجنة بغير حساب فمن استحيى من الله تعالى في الدنيا مما صنع استحيى الله تعالى من تفتيشه و سؤاله . و لم يجمع عليه حياءين ، كما لا يجمع عليه خوفين .
فصل : حسن الظن بالله تعالى ، ينبغي أن يكون أغلب على العبد عند الموت منه في حال الصحة ، و هو أن الله تعالى يرحمه و يتجاوز عنه و يغفر له و ينبغي لجلسائه أن يذكروه بذلك حتى يدخل في قوله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء .
و روى حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يموتن أحدكم حتى يحسن الظن بالله . فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة
و روى عن ابن عمر أنه قال : [ عمود الدين و غاية مجده و ذروة سنامة : حسن الظن بالله . فمن مات منكم و هو يحسن الظن بالله : دخل الجنة مدلاً ] أي منبسطاً لا خوف عليه .
و قال عبد الله بن مسعود : [ و الله الذي لا إله إلا غيره . لا يحسن أحد الظن بالله إلا أعطاه الله ظنه و ذلك أن الخير بيده ] .
و ذكر ابن المبارك قال أخبر سفيان : أن ابن عباس قال : إذا رأيتم بالرجل الموت فبشروه ليلقي ربه و هو حسن الظن به ، و إذا كان حياً فخوفوه و قال الفضيل : الخوف أفضله من الرجاء . ما كان العبد صحيحاً فإذا نزل به الموت ، فالرجاء أفضل من الخوف .
و ذكر ابن أبي الدنيا : قال ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن البصري . قال حدثنا سوار بن عبد الله قال حدثنا المعتمر . قال : قال أبي حين حضرته الوفاة : يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله و أنا أحسن الظن به .
قال : و حدثنا عمرو بن محمد الناقد . قال : حدثنا خلف بن خليفة عن حصين عن إبراهيم قال : كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند الموت ، حتى يحسن ظنه بربه عز و جل .
و قال ثابت البناني : كان شاب به رهق فلما نزل به الموت انكبت عليه أمه و هي تقول : يا بني قد كنت أحذرك مصرعك هذا ، قال : يا أماه إن لي رباً كثير المعروف ، و إني لأرجو اليوم أن لا يعدمني بعض معروفه ، فقال ثابت : فرحمه الله يحسن ظنه بالله في حاله تلك .
و قال عمر بن ذر يوماً في كلامه ـ و عنده ابن أبي داود و أبو حنيفة ـ أتعذبنا و في أجوافنا التوحيد ؟ لا أراك تفعل . اللهم اغفر لمن لم يزل على مثل حال السحرة في الساعات التي غفرت لهم ، فإنهم قالوا : آمنا برب العالمين فقال أبو حنيفة : رحمك الله القصص بعدك حرام . و كان يحيى بن زكريا إذا لقي عيسى بن مريم عليهما السلام : عبس ، و إذا لقيه عيسى ، تبسم ، فقال له عيسى : تلقاني عابساً كأنك آيس ؟ فقال له يحيى : تلقائي ضاحكاً كأنك آمن ؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إليهما : إن أحبكما إلي أحسنكما ظناً بي ذكره الطبري .
و قال زيد بن أسلم : يؤتي بالرجل يوم القيامة ، فيقال : انطلقوا به إلى النار فيقول : يا رب فأين صلاتي و صيامي ؟ فيقول الله تعالى : اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي من رحمتي .
و في التنزيل : قال : و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون و سيأتي لهذا الباب مزيد بيان في باب سعة رحمة الله و عفوه يوم القيامة ، إن شاء الله تعالى .
 
باب تلقين الميت لا إله إلا الله
مسلم عن أبي سعيد الخدري . قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله . و ذكر ابن أبي الدنيا عن زيد بن أسلم قال : قال عثمان بن عفان : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا احتضر الميت فلقنوه لا إله إلا الله فإنه ما من عبد يختم له بها موته إلا كانت زاده إلى الجنة ، و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : احضروا موتاكم و لقنوهم : لا إله إلا الله و ذكروهم فإنهم يرون ما لا ترون .
و ذكر أبو نعيم من حديث مكحول عن إسماعيل بن عياش بن أبي معاذ عتبة ابن حميد عن مكحول عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : احضروا موتاكم و لقنوهم لا إله إلا الله و بشروهم بالجنة فإن الحكيم من الرجال يتحير عند ذلك المصرع و إن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع . و الذي نفسي بيده لمعانية ملك الموت أشد من ألف ضربة السيف ، و الذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألم كل عرق منه على حياله . غريب من حديث مكحول لم نكبته إلا من حديث إسماعيل .
فصل : قال علماؤنا : تلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عمل بها المسلمون . و ذلك ليكون آخر كلامهم لا إله إلا الله فيختم له بالسعادة ، و ليدخل في عموم قوله عليه السلام من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة . أخرجه أبو داود من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، صححه أبو محمد عبد الحق ، و لينبه المحتضر على ما يدفع به الشيطان ، فإنه يتعرض للمحتضر ليفسد عليه عقيدته ، على ما يأتي .
فإذا تلقهنا المحتضر و قالها مرة واحدة فلا تعاد عليه ليلاً بفجر ، و قد كره أهل العلم الإكثار من التلقين ، و الإلحاح عليه إذا هو تلقنها أو فهم ذلك عنه . قال ابن المبارك : لقنوا الميت لا إله إلا الله فإذا قالها فدعوه . قال أبو محمد عبد الحق : و إنما ذلك لأنه يخاف عليه إذا لج عليه بها أن يتبرم و يضجر ، و يثقلها الشيطان عليه ، فيكون سبباً لسوء الخاتمة . و كذلك أمر ابن المبارك أن يفعل به . قال الحسن بن عيسى : قال لي ابن المبارك : لقني ـ يعني الشهادة ـ و لا تعد علي إلا أن أتكلم بكلام ثان ، و المقصود أن يموت الرجل و ليس في قلبه إلا الله عز و جل لأن المدار على القلب ، و عمل القلب هو الذي ينظر فيه ، و تكون النجاة به . و أما حركة اللسان دون أن تكون ترجمة عما في القلب فلا فائدة فيها ، و لا عبر عندها .
قلت : و قد يكون التلقين بذكر الحديث عند الرجل العالم كما ذكر أبو نعيم أن أبا زرعة كان في السوق و عنده أبو حاتم ، و محمد بن سلمة . و المنذر بن شاذان و جماعات من العلماء ، فذكروا حديث التلقين فاستحيوا من أبي زرعة فقالوا : يا أصحابنا تعالوا نتذاكر الحديث . فقال محمد بن سلمة : حدثنا ضحاك بن مخلد ، حدثنا أبو عاصم ، قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب و لم يجاوزه . و قال أبو حاتم : حدثنا بندار ، حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي غريب و لم يجاوزه و الباقوت سكوت . فقال أبو زرعة و هو في السوق : حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب ، عن كثير بن مرة الحضرمي ، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة و في رواية حرمه الله على النار و توفي رحمه الله .
و يروى عن عبد الله بن شبرمة أنه قال : دخلت مع عامر الشعبي على مريض نعوده فوجدناه لما ، و رجل يلقنه الشهادة و يقول له : لا إله إلا الله و هو يكثر عليه فقال له الشعبي . ارفق به ، فكلم المريض و قال : إن تلقني أو لا تلقني . فإني لا أدعها ثم قرأ و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها فقال الشعبي الحمد لله الذي نجى صاحبنا هذا . و قيل للجنيد رحمه الله عند موته : قل لا إله إلا الله فقال ما نسيته فأذكره .
قلت : لا بد من تلقين الميت ، و تذكيره الشهادة ، و إن كان على غاية من التيقظ فقد ذكر أبو نعيم الحافظ من حديث مكحول عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : احضروا موتاكم و لقنوهم : لا غله إلا الله ، و بشروهم بالجنة ، فإن الحكيم من الرجال و النساء يتحير عند ذلك المصرع ، و إن الشيطان أقرب من ابن آدم عند ذلك المصرع و الذي نفسي بيده لمعانية ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف ، و الذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألم كل عضو منه على حياله .
و روي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : حضر ملك الموت رجلاً ، قال : فنظر في قلبه فلم يجد فيه شيئاً ، ففك لحييه فوجد طرف لسانه لاصقاً بحنكه يقول لا إله إلا الله فغفر له بكلمة الإخلاص .
ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين بإسناده . و خرجه الطبراني بمعناه و سيأتي في آخر أبواب الجنة إن شاء الله .

باب من حضر الميت فلا يلغو و ليتكلم بخير و كيف الدعاء للميت إذا مات و في تغميضه
مسلم عن أم سلمة رضي الله عنه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذ حضرتم المريض أو الميت فقولوا : خيراً . فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون . قالت : فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله : إن أبا سلمة قد مات فقال : قولي : اللهم اغفر لي و له و أعقبني منه عقبى حسنة قالت : فقلت . فأعقبني الله من هو خير منه : رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و عنها قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي سلمة و قد شق بصره فأغمضه ثم قال : إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله ، فقال : لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال : اللهم اغفر لأبي سلمة و ارفع درجته في المهديين ، و اخلفه في عقبه في الغابرين ، و اغفر لنا و له يا رب العالمين ، و افسح له في قبره ، و نور له فيه .
فصل : قال علماؤنا : قوله عليه السلام : إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً أمر ندب و تعليم بما يقال عند المريض أو الميت ، و إخبار بتأمين الملائكة على دعاء من هناك ، و لهذا استحب العلماء : أن يحضروا الميت الصالحون ، و أهل الخير حالة موته ليذكروه ، و يدعوا له و لمن يخلفه و يقولوا خيراً فيجتمع دعاؤهم و تأمين الملائكة فينتفع بذلك الميت و من يصاب به و من يخلفه .

باب منه و ما يقال عند التغميض
ابن ماجه . عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا حضرتم مؤتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح ، و قولوا خيراً فإن الملائكة تؤمن على ما قال أهل الميت . و ذكر الخرائطي أبو بكر محمد بن جعفر قال : حدثنا أبو موسى عمران بن موسى قال ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة . قال حدثنا إسماعيل ابن علية عن هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم الحسن قالت : كنت عند أم سلمة فجاءها إنسان فقال ، فلان بالموت فقالت لها انطلقي فإذا احتضر فقولي السلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين . و خرج من حديث سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن بكر ابن عبد الله المزني قال : إذا غمضت الميت فقل بسم الله و على ملة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سبح . ثم تلا سفيان و الملائكة يسبحون بحمد ربهم قال أبو داود : تغميض الميت إنما هو بعد خروج الروح . سمعت محمد ابن أحمد المقري قال سمعت أبا ميسرة ، و كان رجلاً عابداً يقول : غمضت جعفر المعلم و كان رجلاً عاقلاً في حالة الموت فرأيته في منامي يقول : أعظم ما كان علي تغميضك قبل أن أموت
 
باب ما جاء أن الميت يحضر الشيطان عند موته و جلساؤه في الدنيا و ما يخاف من سوء الخاتمة

روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن العبد إذا كان عند الموت قعد عنده شيطانان الواحد عن يمينه و الآخر عن شماله ، فالذي عن يمينه على صفة أبيه ، يقول له : يا بني إني كنت عليك شفيقاً و لك محباً ، و لكن مت على دين النصارى فهو خير الأديان ، و الذي على شماله على صفة أمه ، تقول له : يا بني إنه كان بطني لك وعاء ، و ثديي لك سقاء ، و فخذي لك وطاء ، و لكن مت على دين اليهود و هو خير الأديان ، ذكره أبو الحسن القابسي في شرح رسالة ابن أبي زيد له ، و ذكر معناه أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة ، و إن عند استقرار النفس في التراقي و الارتفاع تعرض عليه الفتن و ذلك أن إبليس قد أنفذ أعوانه إلى هذا الإنسان خاصة و استعملهم عليه و وكلهم به ، فيأتون المرء و هو على تلك الحال فيتمثلون له في صورة من سلف من الأحباب الميتين الباغين له النصح في دار الدنيا ، كالأب و الأم و الأخ و الأخت و الصديق الحميم ، فيقولون له : أنت تموت يا فلان و نحن قد سبقناك في هذا الشأن فمت يهودياً فهو الدين المقبول عند الله تعالى ، فإن انصرم عنهم و أبي ، جاءه آخرون و قالوا له : مت نصرانياً فإنه دين المسيح و قد نسخ الله به دين موسى و يذكرون له عقائد كل ملة ، فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه و هو معنى قوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة أي لا تزغ قلوبنا عند الموت و قد هديتنا من قبل هذا زماناً ، فإذا أراد الله بعبده هداية و تثبيتاً جاءته الرحمة ، و قيل : هو جبريل عليه السلام فيطرد عنه الشياطين و يمسح الشحوب عن وجهه فيبتسم الميت لا محالة ، و كثير من يرى متبسماً في هذا المقام فرحاً بالبشير الذي جاءه من الله تعالى فيقول : يا فلان أما تعرفني ؟ أنا جبريل و هؤلاء أعداؤك من الشياطين مت على الملة الحنيفية و الشريعة الجليلة . فما شيء أحب إلى الإنسان و أفرح منه بذلك الملك ، و هو قوله تعالى : و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ثم يقبض عند الطعنة على ما يأتي .
و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حضرت وفاة أبي أحمد ، و بيدي الخرقة لأشد لحييه ، فكان يغرق ثم يفيق و يقول بيده : لا بعد لا بعد . فعل هذا مراراً فقلت له : يا أبت أي شيء ما يبدو منك ؟ فقال : إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله يقول : يا أحمد فتني و أنا أقول لا . بعد لا . حتى أموت .
قلت : و قد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول : حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة و قد احتضر . فقيل له : قل : لا إله إلا الله ، فكان يقول : لا . لا . فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال : أتاني شيطانان عن يميني و عن شمالي . يقول أحدهما : مت يهودياً فإنه خير الأديان ، و الآخر يقول : مت نصرانياً فإنه خير الأديان فكنت أقول لهما : لا لا إلي تقولان هذا ؟ و قد كتبت بيدي في كتاب الترمذي و النسائي عن النبي صلى الله عليه و سلم إن الشيطان يأتي أحدكم عند موته فيقول : مت يهودياً مت نصرانياً فكان الجواب لهما لا لكما .
قلت : و مثل هذا عن الصالحين كثير يكون الجواب للشيطان لا لمن يلقنه الشهادة ، و قد تصفحت كتاب الترمذي أبي عيسى ، و سمعت جميعه ، فلم أقف على هذا الحديث فيه ، فإن كان في بعض النسخ فالله أعلم .
و أما كتاب النسائي فسمعت بعضه و كان عندي كثير منه . فلم أقف عليه و هو نسخ . فيحتمل أن يكون في بعضها . و الله أعلم .
و روى ابن المبارك و سفيان عن ليث عن مجاهد قال : ما من ميت إلا تعرض عليه أهل مجالسه الذين كان يجالس ، إن كان أهل لهو فأهل لهو ، و إن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر .
و قال الربيع بن شبرة بن معبد الجهني و كان عابداً بالبصرة : أدركت الناس بالشام و قيل لرجل : يا فلان قل : لا إله إلا الله قال : اشرب و اسقني ، و قيل لرجل بالأهواز يا فلان قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : ده يازده دوازده تفسيره : عشرة ، أحد عشرة ، اثنا عشر . كان هذا الرجل من أهل العمل و الديوان ، فغلب عليه الحساب و الميزان . ذكر هذا التفسير أبو محمد عبد الحق . قال الربيع : و قيل لرجل ها هنا بالبصرة يا فلان قل : لا إله إلا الله فجعل يقول :
يا رب قائلة يوماً و قد لغبت أين الطريق إلى حمام منجاب
قال الفقيه أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن النجاد : هذا رجل قد استدلته امرأة إلى الحمام ، فدلها إلى منزله فقاله عند الموت .
و ذكر أبو محمد عبد الحق هذه الحكاية ، في كتاب العاقبة له فقال : و هذا الكلام له قصة ، و ذلك أن رجلاً كان واقفاً بإزاء داره ، و كان بابه يشبه باب حمام فمرت به جارية لها منظر و هي تقول : أين الطريق إلى حمام منجاب ؟ فقال لها : هذا حمام منجاب . و أشار إلى داره فدخلت الدار و دخل وراءها ، فلما رأت نفسه معه في دار و ليس بحمام علمت أنه خدعها أظهرت له البشر و الفرح باجتماعها معه على تلك الخلوة و في تلك الدار و قالت له : يصلح معنا ما نطيب به عيشنا و تقر به أعيننا فقال لها : الساعة آتيك بكل ما تريدين و بكل ما تشتهين ، فخرج و تركها في الدار و لم يقفلها ، و تركها محلولة على حالها و مضى ، فأخذ ما يصلح لهما و رجع ، و دخل الدار فوجدها قد خرجت و ذهبت و لم يجد لها أثراً ، فهام الرجل بها و أكثر الذكر لها و الجزع عليها و جعل يمشي في الطرق و الأزقة و هو يقول :
يا رب قائلة يوماً قد لغبت أين الطريق إلى حمام منجاب
و إذا بجارية تجاوبه من طاق و هي تقول :
هلا جعلت لها لما ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب
فزاد هيمانه و اشتد هيجانه ، و لم يزل كذلك حتى كان من أمره ما ذكر . فنعوذ بالله من المحن و الفتن .
قلت : و مثل هذا في الناس كثير ممن غلب عليه الاشتغال بالدنيا و الهم بها أو سبب من أسبابها ، حتى لقد حكي لنا أن بعض السماسرة جاء عنده الموت فقيل له : قل : لا إله إلا الله . فجعل يقول : ثلاثة و نصف أربعة و نصف . غلبت عليه السمسرة .
و لقد رأيت بعض الحساب و هو في غاية المرض ، يعقد بأصابعه و يحسب . و قيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا و الجنان الفلاني اعملوا فيها كذا . و قيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : عقلك الحمارة و قيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : البقرة الصفراء ، غلب عليه حبها و الاشتغال بها . نسأل الله السلامة و الممات على الشهادة بمنه و كرمه .
و لقد حكى ابن ظفر في كتاب النصائح له قال : كان يونس بن عبيد [ رحمه الله تعالى ـ بزازاً ، و كان لا يبيع في طرفي النهار و لا في يوم غيم ، فأخذ يوماً ميزانه فرضه بين حجرين فقيل له : هلا أعطيته الصانع فأصلح فساده ؟ فقال : لو علمت فيه فساداً لما أبقيت من مالي قوت ليلة . قيل له : فلم كسرته ؟ قال : حضرت الساعة رجلاً احتضر فقلت له : قل : لا إله إلا الله فامتعض ، فألححت عليه فقال : ادع الله لي فقال : هذا لسان الميزان على لساني يمنعني من قولها . قلت : أفما يمنعك إلا من قولها ؟ فقال : نعم . قلت : و ما كان عملك به ؟ قال : ما أخذت و لا أعطيت به إلا حقاً في علمي ، غير أني كنت أقيم المدة لا أفتقده و لا أحتبره . فكان يونس بعد ذلك يشترط على من يبايعه أن يأتي بميزان و يزن بيده و إلا لم يبايعه .
باب ما جاء في سوء الخاتمة و ما جاء أن الأعمال بالخواتيم

مسلم عن أبي هريرة عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الرجل ليعمل الزمان الطويل يعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار ، و إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة .
و في البخاري عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن العبد ليعمل عمل أهل النار و إنه من أهل الجنة ، و يعمل عمل أهل الجنة و إنه من أهل النار ، و إنما الأعمال بالخواتيم .
قال أبو محمد عبد الحق : اعلم أن سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله منها ـ لا تكون لمن استقام ظاهره و صلح باطنه ، ما سمع بهذا و لا علم به ـ الحمد لله ـ و إنما تكون لمن كان له فساد في العقل ، أو إصرار على الكبائر ، و إقدام على العظائم . فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة ، و يختطفه عند تلك الدهشة ، و العياذ بالله ، ثم العياذ بالله ، أو يكون ممن كان مستقيماً ، ثم يتغير عن حاله و يخرج عن سننه ، و يأخذ في طريقه ، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمه و شؤم عاقبته ، كإبليس الذي عبد الله فيما يروى ثمانين ألف سنة ، و بلعام بن باعوراء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بخلوده إلى الأرض ، و اتباع هواه ، و برصيصا العابد الذي قال الله في حقه كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر .
و يروى : أنه كان بمصر رجل ملتزم مسجداً للأذان و الصلاة ، و عليه بهاء العبادة و أنوار الطاعة ، فرقي يوماً المنارة على عادته للأذان ، و كان تحت المنارة دار لنصراني ذمي ، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار ، فافتتن بها و ترك الأذان ، و نزل إليها و دخل الدار فقالت له : ما شأنك ما تريد ؟ فقال : أنت أريد . قالت : لماذا ؟ قال لها : قد سلبت لبي و أخذت بمجامع قلبي . قالت : لا أجيبك إلى ريبة . قال لها : أتزوجك . قالت له : أنت مسلم و أنا نصرانية و أبي لا يزوجني منك قال لها : أتنصر . قالت : إن فعلت أفعل . فتنصر ليتزوجها ، و أقام معها في الدار . فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقي إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات ، فلا هو بدينه و لا هو بها . فنعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سوء العاقبة و سوء الخاتمة .
و يروى أن رجلاً علق بشخص و أحبه ، فتمنع عنه و اشتد نفاره فاشتد كلف البائس إلى أن لزم الفراش ، فلم تزل الوسائط تمشي بينهما حتى وعد بأن يعود ، فأخبر بذلك ففرح و اشتد فرحه و سروره ، و انجلى عنه بعض ما كان يجده ، فلما كان في بعض الطريق رجع و قال : و الله لا أدخل مداخل الريب ، و لا أعرض بنفسي لمواقع التهم فأخبر بذلك البائس المسكين فسقط في يده ، و رجع إلى أسوأ ما كان به و بدت علامات الموت و أمارته عليه .
قال الراوي : فسمعته يقول و هو في تلك الحال :
سلام يا راحة العليل و برد ذل الدنف النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
قال : فقلت له : يا فلان اتق الله تعالى فقال : قد كان ما كان . فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت قد قامت عليه . فنعوذ بالله من سوء العاقبة و شؤم الخاتمة .
قال المؤلف رحمه الله : روى البخاري عن سالم عن عبد الله قال : كان كثيراً ما كان النبي يحلف : لا و مقلب القلوب و معناه يصرفها أسرع من مر الريح على اختلاف في القبول و الرد و الإرادة و الكراهية و غير ذلك من الأوصاف . و في التنزيل و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه قال مجاهد : المعنى يحول بين المرء و عقله حتى لا يدري ما يصنع . بيانه : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أي عقل ، و اختار الطبري أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى بأنه أملك لقلوب العباد منهم و أنه يحول بينهم و بينها إذا شاء ، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئة الله عز و جل .
 

و قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك فقلت : يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى ؟ قال : و ما يؤمنني يا عائشة و قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الجبار إذا أراد أن يقلب قلب عبده قلب .
قال العلماء : و إذا كانت الهداية إلى الله مصروفة ، و الإستقامة على مشيته موقوفة ، و العاقبة مغيبة ، و الإرادة غير مغالبة ، فلا تعجب بإيمانك و عملك و صلاتك و صومك و جميع قربك ، فإن ذلك و إن كان من كسبك فإنه من خلق ربك و فضله الدار عليك و خيره ، فمهما افتخرت بذلك ، كنت كالمفتخر بمتاع غيره ، و ربما سلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير ، فكم من روضة أمست و زهرها يانع عميم . فأصبحت و زهرها يابس هشيم ، إذ هبت عليها الريح العقيم . كذلك العبد يمسي و قلبه بطاعة الله مشرق سليم ، فيصبح و هو بمعصية مظلم سقيم . ذلك فعل العزيز الحكيم الخلاق العليم .
روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال : [ اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد ، فعلقت امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنا ندعوك للشهادة ، فانطلق مع جاريتها فطفقت الجارية كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضت إلى امرأة وضيئة أي جميلة عندها غلام و باطية خمر فقالت : إني و الله ما دعوتك للشهادة و لكن دعوتك لتقع علي ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً أو تقتل هذا الغلام قال فاسقني من هذه الخمر ؟ فسقته كأساً قال : زيدوني فلم يزل يشرب حتى وقع عليها و قتل الغلام . فاجتنبوا الخمر فإنه و الله لا يجتمع الإيمان و إدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ] .
و يروى أن رجلاً أسيراً مسلماً ، و كان حافظاً للقرآن ، خص بخدمة راهبين ، فحفظا منه آيات كثيرة لكثرة تلاوته فأسلم الرهبان و تنصر المسلم . و قيل له : ارجع إلى دينك فلا حاجة لنا فيمن لم يحفظ دينه . قال : لا أرجع إليه أبداً فقتل ، و في الخبر قصته ، و الحكايات كثيرة في هذا الباب نسأل الله السلامة و الممات على الشهادة .
و أنشد بعضهم :
قد جرت الأقلام في ذي الورى بالختم من أمر الحكيم العليم
فمن سعيد و شقي و من مثر من المال و عار عديم
و من عزيز رأسه في السها و من ذليل وجهه في التخوم
و من صحيح شيدت أركانه و آخر واهي المباني سقيم
كل على منهاجه سالك ذلك تقدير العزيز العليم
و قال الربيع : سئل الشافعي عن القدر فأنشأ يقول :
ما شئت كان و إن لم أشأ و ما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى و المسن
على ذا مننت و هذا خذلت و هذا أغنت و ذا لم تعن
فمنهم شقي و منهم سعيد و منهم قبيح و منهم حسن
و منهم غني و منهم فقير و كل بأعماله مرتهن

باب ما جاء في رسل ملك الموت قبل الوفاة

ورد في الخبر : أن بعض الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت عليه السلام : أمالك رسول تقدمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك ؟ قال : نعم لي و الله رسل كثيرة من الإعلال و الأمراض و الشيب و الهموم و تغير السمع و البصر ، فإذا لم يتذكر من نزل به و لم يتب ، فإذا قبضته ناديته : ألم أقدم إليك رسولاً بعد رسول و نذيراً بعد نذير ؟ فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول ، و أنا النذير الذي ليس بعدي نذير . فما من يوم تطلع فيه شمس و لا تغرب إلا و ملك الموت ينادي : يا أبناء الأربعين ، هذا وقت أخذ الزاد ، أذهانكم حاضرة و أعضاؤكم قوية شداد . يا أبناء الخمسين قد دنا و قت الأخذ و الحصاد . با ابناء الستين نسيتم العقاب و غفلتم عن رد الجواب فما لكم من نصير أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب روضة المشتاق و الطريق إلى الملك الخلاق .
و في البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : أعذر الله إلى امرىء أخر أجله حتى بلغ ستين سنة يقال أعذر في الأمر أي بالغ فيه أي اعذر غاية الإعذار بعبده و أكبر الأعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم ليتم حجته عليهم و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً و قال و جاءكم النذير قيل : هو القرآن . و قيل : هو الرسل إليهم . و عن ابن عباس و عكرمة و سفيان و وكيع و الحسين بن الفضل و الفراء و الطبري قالوا : هو الشيب فإنه يأتي في سن الاكتهال . فهو علامة لمفارقته سن الصبا الذي هو سن اللهو و اللعب قال :
رأيت الشيب من نذير المنايا لصاحبه و حسبك من نذير
و قال آخر :
تقول النفس غير لون هذا عساك تطيب في عمر يسير
فقلت لها المشيب نذير عمري و لست مسوداً وجه النذير
و قال آخر :
و قائلة : تخضب فالغواني نوافر عن معاينة النذير
و للقاضي منذر بن سعيد البلوطي رحمة الله تعالى عليه :
كم تصابي و قد علاك المشيب و تعامى جهلاً و أنت اللبيب
كيف تلهو و قد أتاك نذير و شباك الحمام منك قريب
يا مقيماً قد حان منه رحيل بعد ذاك الرحيل يوم عصيب
إن للموت سكرة فارتقبها لا يداويك إذا أتتك طبيب
ثم تثوى حتى تصير رهيناً ثم يأتيك دعوة فتجيب
بأمور المعاد أنت عليم فاعلمن جاهداً لها يا أريب
و تذكر يوماً تحاسب فيه إن من يذكر الممات ينيب
ليس في ساعة من الدهر إلا للمنايا عليك فيها رقيب
كل يوم ترميك منها بسهم إن يخطىء يوماً فسوف يصيب
و له أيضاً رضي الله عنه :
ثلاث و ستون قد جزتها فماذا تؤمل أو تنتظر
و حل عليك نذير المشيب فما ترعوي أو فما تزدجر
تمر الليالي مراً حثصيثاً و أنت على ما ألاى مستمر
فلو كنت تعقل ما ينقضي من العمر لاعتضت خيراً بشر
فما لك ـ ويحك ـ لا تستعد إذن لدار المقام و دار المقر
أترغب عن فجأة للمنون و تعلم أن ليس منها وزر
فإما إلى الجنة أزلفت و إما إلى سقر تستعر
و للفقيه أبي عبد الله محمد بن أبي ذمنين رحمة الله تعالى آمين :
الموت في كل حين ينشر الكفنا و نحن في غفلة عما يداوينا
لا تطمئن إلى الدنيا و بهجتها و إن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة و الجيران ما فعلوا أين الذين همو كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافية فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
و روي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال من أنت ؟ فقال من لا يهاب الملوك و لاتمنع منه القصور و لا يقبل الرشا ، قال : فإذا أنت ملك الموت قال : نعم . قال : أتيتني و لم أستعد بعد ؟ قال يا دواد أين فلان قريبك ؟ أين فلان جارك ؟ قال : مات ، قال أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد . و قيل : النذير الحمى . و منه قوله صلى الله عليه و سلم الحمى نذير الموت أي رائد الموت .
قال الأزهري معناه أن الحمى رسول الموت أي كأنها تشعر بقدومه و تنذر بمجيئه و قيل : موت الأهل و الأقارب و الأصحاب و الإخوان ، و ذلك إنذار الرحيل في كل وقت و أوان و حين و زمان .
قال :
و أراك تحملهم و لست تردهم و كأني بك قد حملت فلم ترد
و قيل : كمال العقل الذي تعرف به حقائق الأمور . و يفصل به بين الحسنات و السيئات ، فالعاقل يعمل لآخرته ، و يرغب فيما عند ربه ، فهو نذير ، و النذير بمعنى الإنذار و الإعذار قريب يعضه من بعض ، و أكبر الإعذار إلى بني آدم بعثه الرسل إليهم ثم الشيب أو غيره كما بينا . و جعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك المنيا و هو سن الإنابة و الخشوع و الاستسلام لله ، و ترقب المنية ، و لقاء الله ففيه إعذار بعد إعذار ، و إنذار بعد إنذار .
الأول : بالنبي صلى الله عليه و سلم .
و الثاني : بالشيب و ذلك عند كمال الأربعين ، قال الله تعالى : و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك فذكر عز و جل : أن من بلغ الأربعين فقط أن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه و على والديه و يشكرها .
قال مالك رحمه الله : أدركت أهل العلم ببلدنا و هم يطلبون الدنيا و يخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس .
تنبيه : هذا الباب هو الأصل في إعذار الحكام إلى المحكوم عليه مرة بعد أخرى ، و كان هذا لطفاً بالخلق و لتنفيذ القيام عليهم بالحق .
حكي عن بعض العلماء أنه كان يميل إلى الراحات و كثيراً و كان يخلو في بستان له بأصحابه فلا يأذن لأحد سواهم فبينما هو في البستان إذ رأى رجلاً يتخلل الشجر فغضب و قال : من أذن لهذا و جاء الرجل فجلس أمامه ، و قال : ما ترى في رجل ثبت عليه الحق فزعم أن له مدافعة تدفعه عنه ؟ فقال ينظره الحاكم بقدر ما يرى . قال السائل : قد ضرب له الحاكم أجلاً فلم يأت بمنفعة و لا أقلع عن اللدد و المدافعة : قال يقضي عليه . قال فإن الحاكم رفق به و أمهله أكثر من خمسين سنة فأطرق الفقيه و تحدر عرق و جهه و ذهب السائل ، ثم إن العالم أفاق من فكرته فسأل عن السائل فقال البواب : ما دخل أحد عليكم و لا خرج من عندكم أحد : فقال لأصحابه انصرفوا فما كان يرى بعد ذلك إلا مجلس يذكر فيه العلم .
فصل : و قد رأيت أن أصل بهذه الحكاية حكايات في الشيب على سبيل الوعظ و التذكير و التخويف و التحذير . حكي عن بعض المترفين أنه رفض ما كان فيه بغتة على غير تدريج ، فسئل عن السبب فقال ما معناه : كانت لي أمة لا يزيدني طول الاستمتاع منها إلا غراماً بها فقلبت شعرها يوماً فإذا فيه شعرتان بيضاوان فأخبرتها فارتاعت : و قالت أرني فأريتها : فقالت جاء الحق و زهق الباطل ثم نظرت إلي و قالت : أعلم أنه لو لم تفترض علي طاعتك لما أويت إليك فدع لي ليلي أو نهاري لأتزود فيه لآخرتي ، فقلت لا و لا كرامة .فغضبت و قالت : أتحول بيني و بين ربي و قد آذنني بلقائه ؟ اللهم بدل حبه لي بغضاً قال : فبت و ماشيء أحب إلي من بعدها عني و عرضتها للبيع فأتاني من أعطاني فيها ما أريد ، فلما عزمت على البيع بكت فقلت أنت أردت هذا ، فقالت : و الله ما اخترت عليك شيئاً من الدنيا هل لك إلى ما هو خير لك من ثمني ؟ قلت : و ما هو قالت : تعتقني لله عز وجل ، فإن أملك لك منك لي و أعود عليك منك علي ، فقلت : قد فعلت . فقالت : أمضى الله صفقتك و بلغك أضعاف أملك و تزهدت فبغضت إلى الدنيا و نعيمها .
و قال عبد الله بن أبي نوح : رأيت كهلاً بمسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزال يتفض الغبار عن جدرانه فسألت عنه فقيل إنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه و أن له أولاداً و موالي و نعمة موفورة ، و أنه اطلع في امرأته فصرخ و جن و لزم المسجد كما ترى . و إذا أراد أهله أن يأخذوه ليداووه و يصونه هرب منهم و عاذ بالقبر المكرم فتركوه ، فرقبته نهاراً فلم أرمنه اختلالا ، و رقبته ليلاً فلما ذهب جنح من الليل خرج من المسجد فتبعته حتى أتى البقيع ، فقام يصلي و يبكي حتى قرب طلوع الفجر ، فجلس يدعو و جاءت إليه دابة لا أدري أشاة أم ظبية أم غيرها فقامت عنده و تفاجت فالتقم ضرعها فشرب ثم مسح ظهرها و قال : اذهبي بارك الله فيك فولت تهرع فانسللت فسبقته إلى المسجد فأقمت ليالي أخرج بخروجه إلى البقيع و لا يشعر بي و سمعته يقول في مناجاته : اللهم إنك أرسلت إلي و لم تأذن لي فإن كنت قد رضيتني فائذن لي و إن لم ترضني فوفقني لما يرضيك قال : فلما حان رحيلي أتيته مودعاً فتهجمني فقلت : أنا صاحبك منذ ليال بالبقيع أصلي بصلاتك و أؤمن على دعائك قال : هل اطلعت على ذلك أحداً ؟ قلت : لا . قال : انصرف راشداً قلت : ما الرسول الذي أرسل إليك ؟ قال : اطلعت في المرآة فرأيت شيبة في و جهي . فعلمت أنها رسول الله إلي فقلت : ادع لي قال : ما أنا أهل لذلك ، ولكن تعال نتسول إلى الله برسوله فقمت معه تجاه القبر المكرم فقال ما حاجتك ؟ قلت : العفو فدعا دعاء خفيفاً فأمنت ، ثم مال على جدار القبر فإذا هو ميت فتنحيت عنه حتى فطن الناس له ، و جاء أولاده و مواليه فاحتملوه و جهزوه و صليت عليه فيمن صلى .
و يقال أن ملكاً من ملوك اليونان استعمل على ملبسه أمة أدبها بعض الحكماء فألبسته يوماً ثيابه و أرته المرآة فرأى في وجهه شعرة بيضاء فاستدعى بالمقراض و قصها فأخذتها الأمة فقبلتها و وضعتها على كفها و أصغت بأذنها إليها ، فقال لها الملك : إلى أي شيء تصغين ؟ فقالت : إنني أسمع هذه المبتلاة بفقد كرامة قرب الملك تقول قولاً عجيباً قال : ما هو ؟ فالت : لا يجترى لساني على النطق به . قال : قولي و أنت آمنة ما لزمته الحكمة . قالت ما معناه أنها تقول : أيها الملك المسلط إلى أمد قريب إني خفت بطشك بي فلم أظهر حتى عهدت إلى بناتي أن يأخذن بثأري ، و كأنك بهن قد خرجن عليك فإما أن يعجلن إلفتك بك و إما أن بنقصن شهوتك و قوتك و صحتك حتى تعد الموت غنماً فقال : اكتبي كلامك فكتبته فتدبره ، ثم نبذ ملكه في حديث ، و هذا المقصود منه و في معناه قيل :
و زائرة للشيب لاحت بمفرقي
فبادرتها خوفاً من الحتف بالنتف
فقالت : على ضعفي استطعت ، و وحدتي
رويدك حتى يلحق الجيش من خلفي و في الاسرائيليات أن إبراهيم الخليل لما رجع من تقريب ولده إلى ربه عز وجل رأت سارة في لحيته شعرة بيضاء ، و مان عليه السلام أول من شاب على وجه الأرض فأنكرتها و أرته إياها فجعل يتأملها و أعجبته و كرهتا سارة ، و طالبته بإزالتها فأبى ، فأتاه ملك الموت . فقال : السلام عليك يا إبراهيم و كان اسمه ابرام فزاده في اسمه هاء و الهاء في السريانية للتفخيم و التفظيم ، ففرح بذلك فقال : أشكر إلهي و إله كل شيء . فقال له الملك : إن الله قد صيرك معظماً في أهل السموات و أهل الأرض و قد و سمك بسمة أهل الوقار في اسمك و في خلقك . أم اسمك فإنك تدعى في أهل السماء و أهل الأرض إبراهيم ، و أما خلقك فقد أنزل وقاراً و نوراً على شعرك . فأخبر سارة بما قال له الملك و قال هذا الذي كرهتيه نور و وقار ، قالت : إني كارهة له . قال : لكني أحبه اللهم زدني نوراً و وقاراً فأصبح و قد ابيضت لحيته كلها .
و في الآثار النبوية : من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة .
و روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله ليستحي أن يعذب ذا شيبة ، و الأخبار في هذا الباب كثيرة . و كذلك الشعر اكتفينا منه بما ذكرنا و بالله توفيقنا .
و قال أعرابي في الشيب و الخضاب :
يا بؤس من فقد الشباب و غيرت منه مفارق رأسه بخضاب
يرجو غضارة وجهه بخضابه و مصير كل عمارة لخراب
شيئان لو بكت الدماء عليهما عيناي حتى يؤذنا بذهاب
إني وجدت أجل كل مصيبة فقد الشباب و فرقة الأحباب

باب متى تنقطع معرفة العبد من الناس و في التوبة و بيانها . و في التائب من هو ؟

ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم متى تنقطع معرفة العبد من الناس ؟ قال : إذا عاين .
فصل : قوله : إذا عاين يريد إذا عاين ملك الموت أو الملائكة و الله أعلم ، و هو معنى قوله عليه السلام في الحديث الآخر : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر خرجه الترمذي أي عند الغرغرة و بلوغ الروح الحلقوم يعاين ما يصير إليه من رحمة أو هوان و لا تنفع حينئذ توبة و لا إيمان ، كما قال تعالى في محكم البيان فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا و قال تعالى و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن فالتوبة مبسوطة للعبد حتى يعاين قابض الأرواح ، و ذلك عند غرغرته بالروح ، و إنما يغرغر به إذا قطع الوتين . فشخص من الصدر إلى الحلقوم . فعندها المعاينة ، و عندها حضور الموت فاعلم ذلك . فيجب على الإنسان أن يتوب قبل المعاينة و الغرغرة . و هو معنى قوله تعالى : ثم يتوبون من قريب .
و قال ابن عباس و السدي : من قريب : قبل المرض و الموت .
و قال أبو مجلز و الضحاك و عكرمة و ابن زيد و غيرهم : قبل المعاينة للملائكة و السوق و أن يغلب المرء على نفسه . و لقد أحسن محمود الوراق حيث قال : قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات و قبل حبس الألسن
بادر به غلق النفوس فإنها ذخر و غنم للمنيب المحسن
قال علماؤنا ـ رحمهم الله ـ و إنما صحت منه التوبة في هذا الوقت لأن الرجاء باق و يصح الندم و العزم على ترك الفعل . و قيل : المعنى : يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار . و المبادرة في الصحة أفضل و ألحق لأمله من العمل الصالح و البعد كل البعد الموت . و أما ما كان قبل الموت فهو قريب . عن الضحاك أيضاً .
و عن الحسن : لما هبط إبليس قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده . قال الله تعالى و عزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه .
و التوبة فرض على المؤمنين باتفاق المسلمين لقوله تعالى : و توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون و قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً .
و لها شروط أربعة : الندم بالقلب ، و ترك المعصية في الحال ، و العزم على أن لا يعود إلى مثلها ، و أن يكون ذلك حياء من الله تعالى و خوفاً منه لا من غيره فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة . و قد قيل : من شروطها : الاعتراف بالذنب و كثرة الإستغفار الذي يحل عقد الإصرار و يثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان . فأما من قال بلسانه : أستغفر الله و قلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار و صغيرته لا حقة بالكبائر .
و روي عن الحسن البصري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى استغفار .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : هذا مقوله في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكباً على الظلم حريصاً عليه لا يقلع و البحة في يده زاعماً أنه يستغفر من ذنبه و ذلك استهزاء منه و استخفاف . و هو ممن اتخذ آيات الله هزؤا و في التنزيل و لا تتخذوا آيات الله هزواً .
و روي عن علي رضي الله عنه أنه رأى رجلاً قد فرغ من صلاته و قال : اللهم إني أستغفرك و أتوب إليك سريعاً فقال له : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين و توبتك تحتاج إلى توبة . قال يا أمير المؤمنين : و ما التوبة ؟ قال : إسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب ، الندامة و لتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم إلى أهلها ، و إئاب النفس في الطاعة كما أذابتها في المعصية ، و إذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، و أن تزين نفسك في طاعة الله كما زينتها في معصية الله ، و البكاء بدل كل ضحك ضحكته .
و قال أبو بكر الوراق : التوبة أن تكون نصوحاً . و هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت ، و تضيق عليك نفسك كالثلاثة الذين خلفوا .
و قيل : التوبة النصوح هي رد المظالم و استحلال الخصوم و إدمان الطاعات .
و قيل : غير هذا ، و بالجملة فالذنوب التي يثاب منها إما كفر أو غيره ، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على سالف كفره و ليس مجرد الإيمان نفس التوبة ، و غير الكفر : إما حق الله و إما حق لغيره . فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك ، بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء ، كالصلاة و الصوم . و منها ما أضاف إليه كفارة كالحنث في الإيمان و غير ذلك . و أما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها فإن لم يوجدوا تصدق عنهم ، و من لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعساره فعفو الله مأمول و فضله مبذول . فكم ضمن من التبعات و بدل من السيئات بالحسنات . و عليه أن يكثر من الأعمال الصالحات و يستغفر لمن ظلمه من المؤمنين و المؤمنات فهذا الكلام في حقيقة التوبة .
و قد روي مرفوعاً في صفة التائب من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال و هو في جماعة من أصحابه أتدرون من التائب ؟ قالوا : اللهم لا . قال : إذا تاب العبد و لم يرض خصماؤه فليس بتائب ، و من تاب و لم يغير لباسه فليس بتائب ، و من تاب و لم يغير مجلسه فليس بتائب . و من تاب و لم يغير نفقته و زينته فليس بتائب ، و من تاب و لم يغير فراشه و وساده فليس بتائب ، ومن تاب و لم يوسع خلقه فليس بتائب ، و من تاب و لم يوسع قلبه و كفه فليس بتائب ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : فإذا تاب عن هذه الخصال فذلك تائب حقاً
قال العلماء : إرضاء الخصوم يكون بأن يرد عليهم ما غصبهم من مال أو خانهم أو غلهم أو اغتابهم أو خرق أعراضهم أو شتمهم أو سبهم فيرضيهم بما استطاع و يتحللهم من ذلك ، فإن انقرضوا فإن كان لهم قبله مال رده إلى الورثة ، و إن لم يعرف الورثة تصدق به عنهم و يستغفر لهم بعد الموت و يدعو : اللهم عوض الذم و الغيبة لا خلاف في هذا ، و أما تغيير اللباس فهو أن يستبدل ما عليه من الحرام بالحلال . و إن كانت ثياب كبر و خيلاء استبدلها بأطمار متوسطة ، و تغيير المجلس : هو بأن يترك مجالس اللهو و اللعب و الجهال و الأحداث . و يجالس العلماء و مجالس الذكر و الفقراء و الصالحين و يتقرب إلى قلوبهم بالخدمة و بما يستطيع و يصافحهم . و تغيير الطعام بأن يأكل الحلال و بجانب ما كان من شبهة أو شهوة . و يغير أوقات أكله ، و لا يقصد اللذيذ من الأطعمة . و تغيير النفقة هو بترك الحرام و كسب الحلال ، و تغيير الزينة بترك التزين في الأثاث و البناء و اللباس و الطعام و الشراب . و تغيير الفراش بالقيام بالليل عوض ما كان يشغله بالبطالة و الغفلة و المعصية كما قال الله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع . و تغيير الخلق هو بأن ينقلب خلقه من الشدة إلى اللين و من الضيق إلى السعة و من الشكاسة إلى السماحة . و توسيع القلب يكون بالإنفاق ثقة بالقيام على كل حال ، و توسيع الكف بالسخاء و الإيثار بالعطاء . هكذا يبدل كل ما كان فيه كشرب الخمر بكسره و سقي اللبن و العسل و الزنا بكفالة الأرملة و اليتيمة و تجهيزهما و يكون مع ذلك نادماً على ما سلف منه و متحسراً على ما ضيع من عمره . فإذا كملت التوبة به على هذه الخصال التي ذكرنا و الشروط التي بينا تقبلها الله بكرمه و أنسى حافظيه و بقاع الأرض خطاياه و ذنوبه . قال الله تعالى : و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحاً ثم اهتدى .
و الأصل في هذه الجملة : حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي قتل مائة نفس ثم سأل : هل له من توبة ؟ فقال له العالم : و من يحول بينك و بينها ، انطلق إلى أرض بني فلان فإن بها ناساً صالحين يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، و لا تعد إلى أرضك فإنها أرض سوء .
الحديث أخرجه مسلم في الصحيح و في مسند أبي داود الطيالسي : حدثنا زهير بن معاوية ، عن عبد الكريم الجزري ، عن زياد و ليس بابن أبي مريم ، عن عبد الله بن مغفل قال : كنت مع أبي و أنا إلى جنبه عند عبد الله بن مسعود فقال له أبي : أسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله عز و جل تاب الله عليه ؟ فقال : نعم سمعته يقول : الندم توبة .
و في صحيح مسلم و البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه .
و روى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له عن أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس على المنبر ثم قال : و الذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزيناً ليمين رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس و يصوم رمضان و يجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى أنها لتصفق . ثم تلا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : فدل القرآن على أن في الذنوب كبائر و صغائر ، خلافاً لمن قال : كلها كبائر ، حسب ما بيناه في سورة النساء ، و أن الصغائر كاللمسة و النظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعاً بوعده الصدق و قوله الحق ، لا أنه يجب عليه ذلك ، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب ، و هي إقامة الفرائض كما نص عليه الحديث . و مثله : ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر على هذا جماعة أهل التأويل و جماعة الفقهاء و هو الصحيح في الباب . و أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة منها و الإقلاع عنها كما بينا ، و قد اختلف في تعيينها ليس هذا موضع ذكرها ، و سيأتي في القصاص . و في أبواب النار جملة منها إن شاء الله تعالى
 
باب لا تخرج روح عبد مؤمن أو كافر حتى يبشر و أنه يصعد بها

ابن المبارك قال : أخبرنا حيوة قال : أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي قال : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال : السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرئك السلام ثم نزع بهذه الآية الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم .
و قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام .
و عن البراء بن عازب في قوله : تحيتهم يوم يلقونه سلام فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه ، لا يقبض روحه حتى يسلم عليه .
و قال مجاهد : إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه .
ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحاً قالوا : أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب . أخرجي حميدة وأبشري روح وريحان ورب راض غير غضبان . فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء ، فيفتح لها فيقال : من هذا ؟ فيقولون : فلان بن فلان فيقال : مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب . ادخلي حميدة و أبشري بروح و ريحان و رب راض غير غضبان . فلا يزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى . فإذا كان الرجل السوء قال : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث . أخرجي ذميمة و أبشري بجحيم وغساق لآخر من شكله أزواج . فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان . فيقال : لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث . ارجعي ذميمة فإنها لا تفتح لك أبواب السماء . فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر . خرجه عن أبي بكر بن أبي شبيبة .
قال : حدثنا شبابة بن يسار ، سوار عن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة و هذا إسناد صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري و مسلم ما عدا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده خرجه عبد بن حميد أيضاً عن ابن أبي ذئب قال محمد بن عمر ، فحدثني سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الميت تحضرة الملائكة ، فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها الروح الطيبة فذكره مسلم عن أبي هريرة قال : إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها .
قال حماد : فذكر من طيب ريحها و ذكر المسك : قال و يقول أهل السماء : روح طيبة جاءت من قبل الأرض . صلى الله عليك و على جسد كنت تعمرينه . فينطلق بها إلى ربه ثم يقول : انطلقوا بها إلى آخر الأجل ، و إن الكافر إذا خرجت روحه قال حماد : و ذكر من نتنها و ذكر لعناً . و يقول أهل السماء : روح خبيثة جاءت من قبل الأرض قال : فيقال : انطلقوا بها إلى آخر الآجل قال أبو هريرة : فرد رسول الله صلى الله عليه و سلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا .
البخاري . عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، و من كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فقالت عائشة ـ أو بعض أزواجه : إنا لنكره الموت فقال : ليس ذاك و لكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان من الله و كرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله و أحب الله لقاءه و إن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله و عقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله و كره الله لقاءه ، أخرجه مسلم و ابن ماجه من حديث عائشة و ابن المبارك من حديث أنس رضي الله عنه .
فصل : هذا الحديث . و إن كان مفسراً مبيناً . فقد روي عن عائشة رضي الله عنها في تفسير هذا الحديث أنها قالت لشريح بن هاني و قد سألها عما سمعه من أبي هريرة و ليس بالذي تذهب إليه ، و لكن إذا شخص البصر و حشرج الصدر و اقشعر الجلد تشنجت الأصابع فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، و من كره لقاء الله كره الله لقاءه . خرجه مسلم .
و روي عنها أيضاً في تفسيره أنها قالت إذا أراد الله بعبد خيراً قيض به قبل موته بعام ملكاً فسدده و وقفه حتى يقول الناس : مات فلان خير ما كان ، فإذا أحضر و رأى ثوابه تهوع نفسه أو قال تهوعت نفسه ، فذلك حين أحب لقاء الله و أحب الله لقاءه ، و إذا أراد الله بعبده شراً قيض له قبل موته بعام شيطاناً فأضله و فتنه حتى يقول الناس مات فلان شر ما كان فإذا أحضر و رأى ما ينزل به من العذاب تبلغ نفسه فذلك حين يكره لقاء الله و كره الله لقاءه .
و خرج الترمذي في أبواب القدر عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل إذا أراد بعبد خيراً استعمله . فقيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح قبل الموت . قال أبو عيسى هذا حديث صحيح .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله و منه الحديث الآخر : إذا أراد الله بعبده خيراً عسله . قالوا يا رسول الله و ما عسله ؟ قال : يفتح الله له عملاً صالحاً بين يدي موته متى يرضى عنه من حوله .
و عن قتادة في تفسير قوله تعالى : فروح و ريحان قال : الروح : الرحمة ، و الريحان : تتلقاه به الملائكة عند الموت .
و روى ابن جريج عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعائشة : في تفسير قوله تعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت قال : رب ارجعون إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى الدنيا ؟ فيقول إلى دار الهموم و الأحزان ؟ و يقول قدماً إلى الله عز و جل ، و أما الكافر فيقولون : نرجعك إلى الدنيا ؟ فيقول : ارجعون * لعلي أعمل صالحاً الآية و أما قوله في الحديث حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى فالمعنى أمر الله و حكمه و هي السماء السابعة التي عندها سدرة المنتهى التي إليها يصعد ما يعرج به من الأرض و منها يهبط ما ينزل به منها . كذا في صحيح مسلم من حديث الإسراء .
و في حديث البارء أنه ينتهي به إلى السماء و سيأتي إن شاء الله تعالى . و
قد كنت تكلمت مع بعض أصحابنا القضاة ممن له علم و نظر ، و معنا جماعة من أهل النظر فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر من قوله : الرحمن على العرش استوى فذكرت له هذا الحديث فما كان منه إلا أن بادر إلى عدم صحته و لعن رواته و بين أيدينا رطب نأكله ، فقلت له : الحديث صحيح خرجه ابن ماجه في السنن و لا ترد الأخبار بمثل هذا القول ، بل تتأول و تحمل على ما يليق من التأويل و الذين رووا لنا الصلوات الخمس و أحكامها ، فإن صدقوا هنا صدقوا هناك و إن كذبوا هناك و لا تحصل الثقة بأحد منهم فيما يرويه .
و قد خرج البزار في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك و ضبائر ريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين و يقال : يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضياً عنك إلى روح الله و كرامته ، فإذا خرجت روحه و ضعت على ذلك المسك و الريحان و طيت عليها الحريرة و ذهب بها إلى عليين و إن الكافر إذا احتضرا أتته الملائكة بمسح فيه جمرة ، فتنزع روحه انتزاعاً شديداً و يقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى هوان الله و عذابه ، فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة ، و يطوى عليها المسح و يذهب بها إلى سجين .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : فقوله في روح المؤمن : يذهب بها إلى عليين هو معنى ما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم إلى السماء التي فيها الله . و الأحاديث يقسر بعضها بعضاً و لا إشكال .
و ذكرته عند بعض من يتسم بالعلم و الفقه و القضاء فلم يكن منه إلا أن بادر بلعن من رواه و نقله . فظن منه التجسيم . فقلت له : الحديث صحيح و الذين رووه هم الذين جاءوا بالصلوات الخمس و غيرها من أمور الدين ، فإن كذبوا هنا كذبوا هنالك ، و إن صدقوا هنا صدقوا هنالك . و التأويل مزيل ما توهمته . و كان في ذلك كلام . و حضره جماعة من أهل الفقه و النظر فذكرت له ما ذكرناه ، و ذكرت له حديث التنزيل و قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى و ما تأوله العلماء في ذلك ، و سيأتي من ذلك في هذا الكتاب ما فيه كفاية لمن اهتدى و الحمد لله .
و أما قوله ، في حديث محمد بن كعب أول الباب ، إذا استنقعت نفس المؤمن ، فقال شمر لا أعرفه و سمعت الزهري يقول : يعني إذا اجتمعت في فيه حين تريد أن تخرج كما يستنقع الماء في قراره ، و النفس : الروح ها هنا حكاه الهروي .

باب ما جاء في تلاقي الأرواح في السماء و السؤال عن أهل الأرض و في عرض الأعمال

ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها أهل الرحمة من عباد الله تعالى كما يتلقون البشير في الدنيا ، فيقبلون عليه يسألونه فيقول بعضهم لبعض: انظروا أخاكم حتى يستريح ، فإنه كان في كرب شديد قال : فيقبلون عليه فيسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة هل تزوجت ؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول : إنه هلك فيقولون : إنا الله و إنا إليه راجعون . ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية قال : فتعرض عليهم أعماله فإن رأوا حسناً فرحوا و استبشروا و قالوا : اللهم هذه نعمتك على عبدك فأتمها . و إن رأوا شراً قالوا : اللهم راجع بعبدك .
قال ابن المبارك : و أخبرنا صفوان بن عمرو ، قال : حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفيلا أن أبا الدرداء كان يقول : إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون و يساؤن قال : يقول أبو الدرداء : اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملاً يخزى به عبد الله بن رواحة .
و في رواية : اللهم إني أعوذ بك من عمل يخزيني عند عبد الله بن رواحة .
أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الثقفي قال : أخبرني عثمان بن عبد الله بن أوس أن سعيد بن جبير قال له : أستأذن لي على ابنة أخي ، و هي زوجة عثمان و هي ابنة عمرو بن أوس ، فاستأذنت له فدخل عليها ثم قال : كيف يفعل بك زوجك ؟ قالت : إنه إلي لمحسن فيما استطاع . فالتفت إلي ثم قال : يا عثمان أحسن إليها فإنك لا تصنع بها شيئاً إلا جاء عمرو بن أوس فقلت : و هل تأتي الأموات أخبار الأحياء ؟ قال : نعم ما من أحد له حميم إلا و يأتيه أخبار أقاربه فإن كان خيراً سر به و فرح و هنئ به و إن كان شراً ابتأس و حزن به حتى إنهم ليسألون عن الرجل قد مات فيقال : أو لم يأتكم ؟ فيقولون : لا ، خولف به إلى أمه الهاوية .
و عن الحسن البصري رضي الله عنه قال : إذا قبض روح العبد المؤمن عرج به إلى السماء فتلقاه أرواح المؤمنين فيسألونه فيقولون: ما فعل فلان ؟ فيقول أو لم يأتكم ؟ فيقولون : لا و الله ما جاءنا و لا مر بنا فيقولون : سلك به إلى أمه الهاوية . . فبئست الأم و بئست المربية .
و قال وهب بن منبه : إن لله في السماء السابعة داراً يقال لها البيضاء ، تجتمع فيها أرواح المؤمنين فإذا مات الميت في أهل الدنيا ، تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسائل الغائب أهله إذا قدم إليهم ، ذكره أبو نعيم رحمه الله .
فصل : هذه الأخبار و إن كانت موقوفة فمثلها لا يقال من جهة الرأي .
و قد خرج النسائي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الحديث و فيه : فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ فيقولون : دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال : أو ما أتاكم ؟ قالوا : ذهب به إلى أمه الهاوية ، و ذكر الحديث و سيأتي بكماله إن شاء الله تعالى .
و خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال : حدثنا أبي رحمه الله قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبان بن أبي عياش ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أعمالكم تعرض على عشائركم و أقاربكم من الموتى فإن كان خيراً استبشروا و إن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم لما هديتنا .
و خرج من حديث عبد الغفور بن عبد العزيز عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تعرض الأعمال يوم الاثنين و يوم الخميس على الله ، و تعرض على الأنبياء و على الأباء و الأمهات يوم الجمعة ، فيفرحون بحسناتهم و تزداد وجوههم بياضاً و تشرق . فاتقوا الله عباد الله لا تؤذوا موتاكم بأعمالكم .
و روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أرواحكم تعرض إذا مات أحدكم على عشائركم و موتاكم ، فيقول بعضهم لبعضهم : دعوه يستريح فإنه كان في كرب . ثم يسألونه : ما عمل فلان ؟ و ما عملت فلانة ؟ فإن ذكر خيراً حمدوا الله و استبشروا ، و إن كان شراً قالوا : اللهم اغفر له حتى أنهم يسألون ، هل تزوج فلان ؟ هل تزوجت فلانة ؟ قال : فيسألونه عن رجل مات قبله فيقول : ذاك مات قبلي ؟ أما مر بكم ؟ فيقولون : لا و الله . فيقولون : إنا لله و إنا إليه راجعون . ذهب به إلى أمه الهاوية ، فبئست الأم و بئست المربية ، حتى إنهم ليسألونه عن هر البيت . ذكره الثعلبي رحمه الله .
و قد قيل في قوله عليه الصلاة و السلام : الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، و ما تناكر منها اختلف : إنه هذا التلاقي ، و قد قيل : تلاقي أرواح النيام و الموتى . و قيل غير هذا . و الله أعلم .
باب منه
روى من حديث ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته ، قيل يجوز أن يكون الميت يبلغ من أفعال الأحياء و أقوالهم ما يؤذيه في قبره ، بلطيفة يحدثها لهم : من ملك يبلغ ، أو علامة ، أو دليل ، أو ما شاء الله ، و هو القادر على ما يشاء .
و روي عن عروة قال : وقع رجل في علي رضي الله عنه عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه : ما لك قبحك الله : لقد آذيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في قبره .
قال علماؤنا : ففي هذا الحديث زجر عن سوء القول في الأموات .
و في الحديث : أنه نهى عن سب الأموات و زجر عن فعل ما كان يسؤوهم في حياتهم ، و فيه أيضاً زجر عن عقوق الآباء و الأمهات بعد موتهما بما يسؤوهما من فعل الحي .
فقد روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يهدي لصدائق خديجة صلة منه لها وبراً و إذا كان الفعل صلة وبراً كان ضده عقوبة و قطيعاً و عقوقاً . و قيل : يجوز أن يكو ن معنى الحديث : الميت يؤذيه في قبره من كان يؤذيه في بيته إذا كان حياً فيكون [ ما ] بمعنى [ من ] و يكون ذلك مضمراً في الكلام ن و الإشارة إلى الملك الموكل بالإنسان .
فقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الملك يتباعد عن الرجل عند الكذبة يكذبها ميلين من نتن ما جاء به و كذلك كل معصية لله تؤذي الملك الموكل به . فيجوز أن يموت العبد و هو مصر على معاصي الله غير تائب منها و لا مكفر عنه خطاياه فيكون تمحيصه و تطهيره فيما يلحقه من الأذى من تغليظ الملك إياه أو تفريعه له و الله سبحانه و تعالى أعلم .

باب في شأن الروح و أين تصير حين تخرج من الجسد ؟

قال أبو الحسن القابسي رحمه الله : الصحيح من المذهب ، و الذي عليه أهل السنة ، أنها ترفعها الملائكة حتى توقفها بين يدي الله تعالى فيسألها ، فإن كانت من أهل السعادة قال لهم : سيروا بها و أروها مقعدها من الجنة . فيسيرون به في الجنة على قدر ما يغسل الميت . فإذا غسل الميت و كفن ردت و أدرجت بين كفنه و جسده ، فإذا حمل على النعش فإنه يسمع كلام الناس ، من تكلم بخير و من تكلم بشر . فإذا وصل إلى قبره و صلي عليه ، ردت فيه الروح و أقعد ذا روح و جسد ، و دخل عليه الملكان الفتانان على ما يأتي .
و عن عمرو بن دينار قال : ما من ميت يموت إلا روحه في يد ملك ، ينظر إلى جسده كيف يغسل ، و كيف يكفن ، و كيف يمشي به فيجلس في قبره .
قال داود : و زاد في هذا الحديث . قال : يقال له و هو على سريره : اسمع ثناء الناس عليك . ذكره أبو نعيم الحافظ في باب عمرو .
و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة : فإذا قبض الملك النفس السعيدة ، تناولها ملكان حسان الوجوه ، عليهما أثواب حسنة ، ولهما رائحة طيبة ، فيلفونها في حرير من حرير الجنة ، و هي على قدر النحلة ، شخص إنساني ما فقد من عقله و لا من علمه المكتسب له في دار الدنيا ، فيعرجون بها في الهواء ، فلا يزال يمر بالأمم السالفة و القرون الخالية كأمثال الجراد المنتشر ، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا ، فيقرع الأمين الباب فيقال للأمين : من أنت ؟ فيقول : أنا صلصائيل ، و هذا فلان معي بأحسن أسمائه و أحبها إليه فيقول : نعم الرجل كان فلان ، و كانت عقيدته غير شاك . ثم ينتهي به إلى السماء الثانية ، فيقرع الباب . فيقال له : من أنت ؟ فيقول مقالته الأولى : فيقولون : أهلاً و سهلاً بفلان . كان محافظاً على صلاته بجميع فرائضها . ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الثالثة . فيقرع الباب فيقال له : من أنت ؟ فيقول الأمين مقالته الأولى و الثانية فيقال : مرحباً بفلان ، كان يراعي الله في حق ماله و لا يتمسك منه بشيء ، ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الرابعة ، فيقرع الباب . فيقال : من أنت ؟ فيقول : كدأبه في مقالته . فيقال : أهلاً بفلان كان يصوم فيحسن الصوم و يحفظه من أدران الرفث و حرام الطعام ، ثم ينتهي إلى السماء الخامسة فيقرع الباب . فيقال : من أنت ؟ فيقول كعادته . فيقال : أهلاً و سهلاً بفلان ، أدى حجة الله الواجبة من غير سمعاً و لا رياء ، ثم ينتهي إلى السماء السادسة فيقرع الباب . فيقال : من أنت ؟ فيقول الأمين كدأبه في مقالته . فيقال مرحباً بالرجل الصالح و النفس الطيبة كان كثير البر بوالديه فيفتح له الباب ، ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء السابعة فيقرع الباب . فيقال من أنت ؟ فيقول الأمين مقالته . فيقال : مرحباً بفلان كان كثير الاستغفار بالأسحار و يتصدق في السر و يكفل الأيتام ، ثم يفتح له فيمر حتى ينتهي إلى سرادقات الجلال فيقرع الباب فيقال له : من أنت ؟ فيقول الأمين مثل قوله فيقول : أهلاً و سهلاً بالعبد الصالح و النفس الطيبة . كان كثير الاستغفار ، و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، و يكرم المساكين ، و يمر بملأ من الملائكة كلهم يبشرونه بالخير و يصافحونه ، حتى ينتهي إلى سدرة المنتهي فيقرع الباب . فيقال : من أنت ؟ فيقول الأمين كدأبه في مقالته فيقال : أهلاً و سهلاً بفلان ، كان عمله عملاً صالحاً خالصاً لوجه الله عز و جل ، ثم يفتح له فيمر في بحر من نار ، ثم يمر في بحر من نور ، ثم يمر في بحر من ظلمة ، ثم يمر في بحر من ماء ، ثم يمر في بحر من ثلج ، ثم يمر به في بحر من برد ، طول كل بحر منها ألف عام . ثم يخترق الحجب المضروبة على عرش الرحمن ، و هي ثمانون ألفاً من السرادقات ، لها شراريف لكل سرادق ثمانون ألف شرافة على كل شرافة ثمانون ألف قمر ، يهللون لله و يسبحونه و يقدسونه لو برز منها قمر واحد إلى سماء الدنيا ، لعبد من دون الله و لأحرقها نوراً ، فحينئذ ينادي من الحضرة القدسية من وراء أولئك السرادقات : من هذه النفس التي جئتم بها ؟ فيقال : فلان ابن فلان فيقول الجليل جل جلاله : قربوه فنعم العبد كنت يا عبدي ، فإذا أوقفه بين يديه الكريمتين أخجله ببعض اللوم و المعاتبة حتى يظن أنه قد هلك ثم يعفو عنه .
كما روي عن يحيى بن أكثم القاضي و قد رئي في المنام بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : أوقفني بين يديه . ثم قال : يا شيخ السوء فعلت كذا و فعلت كذا فقلت : يا رب ما بهذا حدثت عنك . قال : فبم حدثت عني يا يحيى ؟ فقلت : حدثني الزهري عن معمر عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم عن جبريل عنك سبحانك أنك قلت : إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة في الإسلام فقال : يا يحيى صدقت و صدق الزهري و صدق معمر و صدق عروة و صدقت عائشة و صدق محمد و صدق جبريل و قد غفرت لك .
و عن ابن نباتة و قد رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : أوقفني بين الكريمين و قال : أنت الذي تخلص كلامك حتى يقال : ما أفصحه ! فقلت : سبحانك إني أصفك : قال : قل ما كنت تقول في دار الدنيا ، قلت : أبادهم الذي خلقهم ، و أسكنهم الذي أنطقهم و سيوجدهم كما أعدمهم ، و سيجمعهم كما فرقهم . قال لي صدقت اذهب فإني قد غفرت لك .
و عن منصور بن عمار أنه رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : أوقفني بين يديه و قال لي : بماذا جئتني يا منصور ؟ قلت : بست و ثلاثين حجة . قال : ما قبلت منها شيئاً و لا واحدة . ثم قال : بماذا جئتني يا منصور ؟ قلت : جئتك بثلاثمائة و ستين ختمة للقرآن قال : ما قبلت منها واحدة . ثم قال : فبماذا جئتني يا منصور ؟ قال : جئتك بك . قال سبحانه : الآن جئتني اذهب فقد غفرت لك . و من الناس من إذا انتهى إلى الكرسي سمع النداء : ردوه . فمنهم من يرد من الحجب ، و إنما يصل إلى الله عارفوه .
فصل : و أما الكافر فتؤخذ نفسه عنفاً ، فإذا وجهه كأكل الحنظل و الملك يقول : اخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث ، فإذا له صراخ أعظم ما يكون كصراخ الحمير ، فإذا قبضها عزرائيل ناولها زبانية قباح الوجوه ، سود الثياب منتني الرائحة ، بأيديهم مسوح من شعر ، فليفونها فيستحيل شخصاً إنسانياً على قدر الجرادة ، فإن الكافر أعظم جرماً من المؤمن ، يعني في الجسم في الآخرة ، و في الصحيح أن ضرس الكافر في النار ، مثل أحد ، فيعرج به حتى ينتهي إلى سماء الدنيا ، فيقرع الأمين باب ، فيقال : من أنت ؟ فيقول : أنا دقيائيل لأن اسم الملك الموكل على زبانية العذاب دقيائيل ، فيقال : من معك ؟ فيقول : فلان ابن فلان بأقبح أسمائه و أبغضها إليه في دار الدنيا ، لا أهلا ً و لا سهلاً ، و لا مرحباً ، لا تفتح لهم أبواب السماء ، و لا يدخلون الجنة الآية فإذا سمع الأمين هذه المقالة ، طرحه يده ، أو تهوي به الريح في مكان سحيق أي : بعيد ، و هو قوله عز و جل : و من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، فإذا انتهى إلى الأرض ابتدرته الزبانية ، و سارت به إلى سجين ، و هي صخرة عظيمة تأوي إليها أرواح الفجار . و أما النصارى و اليهود ، فمردودون من الكرسي إلى قبورهم . هذا من كان منهم على شريعته ، و يشاهد غسله و دفنه
و أما المشرك فلا يشاهد شيئاً من ذلك لأنه قد هوى به .
و أما المنافق فمثل الثاني يرد ممقوتاً مطروداً إلى هوى .
و أما المقصورن المؤمنون فتختلف أنواعهم ، فمنهم ترده صلاته ، لأن العبد من إذا قصر في صلاته سارقاً لها . تلف كما يلف الثوب الخلق ، و يضرب بها وجهه . ثم تعرح و تقول : ضيعك الله كما ضيعتني ، و منهم من ترده زكاته لأنه إنما يزكي ليقال : فلان متصدق ، و ربما وضعها عند النساء ، و لقد رأيناه عافانا الله مما حل به ، و من الناس من يرده صومه ، لأنه صام عن الطعام و لم يصم عن الكلام فهو رفث و خسران فيخرج الشهر و قد بهرجه ، و من الناس من يرده حجه ، لأنه إنما حج ليقال فلان حج ، أو يكون حج بمال خبيث ، و من الناس من يرده العقوق ، و سائر أحوال البر كلها ، لا يعرفها إلا العلماء بأسرار المعاملات ، و تخليص العمل الذي للملك الوهاب ، فكل هذه المعاني جاءت بها الآثار و الأخبار ، كالخبر الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه في رد الأعمال و غيره ، فإذا ردت النفس إلى الجسد و وجدته قد أخذ في غسله إن كان قد غسل فتقعد عند رأسه حتى يغسل ، فإذا أدرج الميت في أكفانه صارت ملتصقة بالصدر من خارج الصدر ، و لها خوار و عجيج تقول : أسرعوا بي ، إلى رحمة الله ، أي رحمة لو تعلمون ما أنتم حاملوني إليه ، و إن كان يبشر بالشقاء تقول : رويداً إلى أي عذاب لو تعلمون ما أنتم حاملوني إليه ، فإذا أدخل القبر وهيل عليه التراب ناداه القبر : كنت تفرح على ظهري ، فاليوم تحزن في بطني . كنت تأكل الألوان على ظهري ، فالآن يأكلك الدود في بطني ، و يكثر عليه مثل هذه الألفاظ الموبخة حتى يسوى عليه التراب ثم يناديه ملك يقال له رومان ، و هو أول ما يلقي الميت إذا دخل قبره على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . و الله أعلم بغيبه و أحكم .
 
باب كيفية التوفي للموتى ؟ و اختلاف أحوالهم في ذلك

ذكر الله التوفي في كتابه مجملاً و مفصلاً :
فقال الله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، و قال : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ، و قال : توفته رسلنا و هم لا يفرطون ، و قال : الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فهذا كله محمل ، و قد بينه رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما يأتي بيانه إن شاء تعالى ، و قال : و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ، و قال : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم ، و هذا مخصوص بمن قتل من الكفار يوم بدر باتفاق أهل التأويل ، فيما قاله بعض علمائنا ، و قد ذكر المهدوي و غيره في ذلك اختلافاً ، و أن الكفار حتى الآن يتوفون بالضرب و الهوان و الله أعلم .
و روى مسلم في حديث فيه طول قال أبو زميل : فحدثني ابن عباس ، قال : بينما رجل من المسلمين يومئذ ، يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه و صوت الفارس يقول : أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قدم خطم أنفه و شق وجهه لضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثانية ، فقتلوا يومئذ سبعين و أسروا سبعين . و ذكر الحديث .
و قال تعالى : لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أي بالعذاب أخرجوا أنفسكم إلى قوله يستكبرون . و قد زادت السنة هذا النوع بياناً على ما يأتي .
فصل : إن قال قائل : كيف الجمع بين هذه الآي و كيف يقبض ملك الموت في زمن واحد أرواح من يموت بالمشرق و المغرب ؟ قيل له : اعلم أن التوفي مأخوذ من توفيت الدين و استوفيته إذا قبضته و لم يدع منه شيئاً ، فتارة يضاف إلى ملك الموت لمباشرته ذلك ، و تارة إلى أعوانه من الملائكة ، لأنهم قد يتولون ذلك أيضاً ، و تارة إلى الله تعالى و هو المتوفي على الحقيقة كما قال عز و جل الله يتوفى الأنفس حين موتها و قال : و هو الذي أحياكم ثم يميتكم و قال : الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما يفعل بأمره .
و قال الكلبي : يقبض ملك الموت الروح من الجسد ، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمناً ، و إلى ملائكة العذاب إن كان كافراً ، و هذا المعنى منصوص في حديث البراء ، و سيأتي .
و في الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم إن ملك الموت ليهيب بالأروح كما يهيب أحدكم بفلوه أو فصيله ألا هلم ألا هلم ، يهيب : يدعو . يقال: أهاب الرجل بغنمه أي صاح بها لتقف أو لترجع ، و أهاب بالبعير .
قال طرفة يصف ناقته :

تريع إلى صوت المهيب و تتقي بذي خصل روعات أكلب ملبدي
تريع : معناه : تعود و ترجع .
و قال الشاعر :
طمعت بليلى إذ تريع و إنما تقطع أرقاب الرجال المطامع
و الخصل : أطراف الشجر المتدلية . و الروعات جمع روعة و هي الفزعة ، و أكلب الرجل إذا أكلبت إبله . و اتكلب شبيه بالجنون . و قال جميعه الجوهري .
و قال العتابي الكلابي :
أهابوا به فازداد بعد وصده عن القرب منهم ضوء برق و وابله
يعني نصل السهم .
فأخبر صلى الله عليه و سلم : أنه يدعو الأرواح التي يتوفاها الله و يقبضها .
و في الخبر أن ملك الموت جالس و بين يديه صحيفة يكتب فيها له ليلة النصف من شعبان ، و هي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم من الأرزاق و الآجال في قفول بعض العلماء عكرمة و غيره . و الصحيح أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة القدر من شهر رمضان ، و هو قول قتادة و الحسن و مجاهد و غيرهم ، يدل عليه قوله تعالى : حم * و الكتاب المبين * إنا أنزلناه يعني القرآن في ليلة مباركة يعني ليلة القدر ، و هذا بين .
و قال ابن عباس : إن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان و يسلمها إلى أربابها في ليلة القدر ، و كان هذا جمعاً بين القولين و الله أعلم . فإذا انقضى عمر ذلك الشخص الذي حان قبض روحه ، سقطت ورقة من سدرة المنتهى التي فيها اسمه على اسمه في الصحيفة ، فعرف أن قدر فرغ أجله و انقطع أكله .
و في الخبر أن ملك الموت تحت العرش يسقط عليه صحائف من يموت من تحت العرش ، الصحف هنا : ورق السدرة . و الله أعلم .
و كما في الخبر قبله : فإذا نظر إلى الإنسان ، قد نفذ رزقه و انقطع أكله ، ألقى عليه سكرات الموت ، فغشيته كرباته ، و أدركته سكراته .
و في خبر الإسراء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : مررت على ملك آخر جالس على كرسي ، إذا جميع الدنيا و من فيها بين ركبتيه ، و بيده لوح مكتوب ينظر فيه ، و لا يلتفت عنه يميناً و لا شمالاً فقلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا ملك الموت . قلت : يا ملك الموت كيف تقدر على قبض جميع أرواح من في الأرض برها و بحرها ؟ قال : ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي ، و جميع الخلائق بين عيني ، و يداي تبلغان المشرق و المغرب . فإذا نفذ أجل عبد نظرت إليه ، فإذا نظرت إليه عرف أعواني من الملائكة أنه مقبوض ، غدوا فبطشوا يعالجون نزع روحه ، فإذا بلغوا بالروح الحلقوم ، علمت ذلك فلم يخف علي شيء من أمره ، مددت يدي فأنزعه من جسده و ألى قبضه .
و في الخبر : أنه ينزل عليه أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى ، و ملك يجذبها من قدمه اليسرى ، و ملك يجذبها من يده اليمنى ، و ملك يجذبها من يده اليسرى . ذكره أبو حامد .
و قال : و ربما كشف للميت عن الأمر الملكوتي قبل أن يغرغر ، فيعاين الملائكة على حقيقة عمله ، على ما يتحيزون إليه من عالمهم ، فإنه كان لسانه منطلقاً حدث بوجودهم ، و ربما أعاد على نفسه الحديث بما رأى ، و ظن أن ذلك من فعل الشيطان به ، فيسكت حين يعقل لسانه و هم يجذبونها من أطراف البنان و رؤوس الأصابع ، و النفس تنسل انسلال القداة من السقا .
و الفاجر تسل روح كالسفود من الصوف المبلول . هكذا حكى صاحب الشرع عليه السلام ، و الميت يظن أن بطنه ملئت شوكاً ، كأنما نفسه تخرج من ثقب إبرة ، و كأن السماء انطبقت على الأرض و هو بينهما ، فإذا احتضرت نفسه إلى القلب ، مات لسانه عن النطق فما أحد ينطق ، و النفس مجموعة في صدره لسرين .
أحدهما : أن الأمر عظيم قد ضاق صدره بالنفس المجتمعة فيه ، ألا ترى أن الإنسان إذ أصابته ضربته في الصدر بقي مدهوشاً ، فتارة لا يقدر على الكلام ، و كل مطعون يطعن يصوت إلا مطعون الصدر فإنه يخر من غير تصويت .
و أما السر الآخر : فلأن الذي فيه حركة الصوت المندفعة من الحرارة الغريزية فصار نفسه متغير الحالتين ، حال الارتفاع و البرودة ، لأنه فقد الحرارة ، فعند هذا الحين تختلف أحوال الموتى ، فمنهم من يطعنه الملك حينئذ بحربة مسمومة قد سقيت سما من نار فتفر الروح ، و تفيض خارجة ، فيأخذ الملك في يده و هي ترعد أشبه شيء بالزئبق على قدر الجرادة شخصاً إنسانياً ، ثم يناولها الزبانية .
و من الموتى من تجذب نفسه رويداً حتى تنحصر في الحنجرة و ليس يبقى في الحنجرة إلا شعبة متصلة بالقلب فحينئذ يطعنها بتلك الحربة الموصوفة .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : لم أجد لهذه الحربة في الأخبار ذكر إلا ما ذكره أبو نعيم الحافظ .
قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمود قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا سلمة بن شبيب ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال : إن لملك الموت عليه السلام حربة تبلغ ما بين المشرق و المغرب ، فإذا انقضى أجل عبد من الدنيا ، ضرب رأسه بتلك الحربة و قال : الآن يزار بك عسكر الأموات .
و روى سليمان بن مهير الكلابي قال : حضرت مالك بن أنس و أتاه رجل فسأله : يا أبا عبد الله ، البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها ؟ فأطرق مالك طويلاً ثم قال : لها نفس ؟ قال : نعم ، قال : ملك الموت يقبض أرواحها الله يتوفى الأنفس حين موتها ذكره الخطيب أبو بكر رحمه الله .

باب ما جاء في صفة ملك الموت عن قبض روح المؤمن و الكافر
قال علماؤنا رحمهم الله : و أما مشاهدة ملك الموت عليه السلام و ما يدخل على القلب منه من الورع و الفزع ، فهو أمر لا يعبر عنه لعظم هوله و فظاعة رؤيته ، و لا يعلم حقيقة ذلك إلا الذي يبتدئ له و يطلع عليه ، و إنما هي أمثال تضرب و حكايات تروى . .
روى عن عكرمة أنه قال : رأيت في بعض صحف شيث أن آدم عليه السلام قال : يا رب أرني ملك الموت حتى أنظر إليه ، فأوحى الله تعالى إليه : إن له صفات لا تقدر على النظر إليها و سأنزله عليك في الصورة التي يأتي فيها الأنبياء و المصطفين ، فأنزل الله عليه جبريل و ميكائيل و أتاه ملك الموت في صورة كبش أملح قد نشر من أجنحته أربعة آلاف جناح ، منها جناح جاوز السموات و الأرض ، و جناح جاوز الأرضين ، و جناح جاوز أقصى المشرق ، و جناح جاوز أقصى المغرب ، و إذا بين يديه الأرض بما اشتملت عليه من الجبال و السهول و الغياض و الجن و الإنس و الدواب و ما أحاط بها من البحار و ما علاها من الأجواء في ثغرة نحرة كالخردلة في فلاة من الأرض ، و إذا عيون لا يفتحها إلا في مواضع فتحها ، و أجنحة لا ينشرها إلا في مواضع نشرها ، و أجنحة للبشرى ينشرها للمصطفين ، و أجنحة للكفار فيها سفافيد و كلاليب و مقاريض ، فصعق آدم صعقة لبث فيها إلى مثل تلك الساعة من اليوم السابع ، ثم أفاق و كان في عروفة الزعفران . ذكر هذا الخبر ابن ظفر الواعظ المكنى أبو هاشم محمد بن محمد في كتاب النصائح .
و روى عن ابن عباس أن إبراهيم خليل الرحمن سأل ملك الموت أن يريه كيف يقبض روح المؤمن فقال له : اصرف وجهك عني فصرف ، ثم نظر إليه فرآه في صورة شاب حسن الصورة حسن الثياب طيب الرائحة حسن البشر فقال له : و الله لو لم يلق المؤمن من السرور شيئاً سوى وجهك كفاه ثم قال له : أرني كيف تقبض روح الكافر فقال له : لا تطيق ذلك قال : بلى أرني ، قال : اصرف وجهك عني فصرف وجهه عنه ، ثم نظر إليه فإذا صورة إنسان أسود رجلاه في الأرض و رأسه في السماء كأقبح ما أنت راء من الصور ، تحت كل شعرة من جسده لهيب نار ، فقال له : و الله لو لم يلق الكافر سوى نظرة إلى شخصك لكفاه .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و سيأتي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه و سلم في الملائكة في حديث البراء و غيره إن شاء الله تعالى .
و قال ابن عباس أيضاً : كان إبراهيم عليه السلام رجلاً غيوراً ، و كان له بيت يتعبد فيه فإذا خرج أغلقه فرجع ذات يوم فإذا هو برجل في جوف البيت فقال : من أدخلك داري ؟ فقال : أدخلنيها ربها ، قال إبراهيم : أنا ربها ، قال : أدخلنيها من هو أملك بها منك ، قال : فمن أنت من الملائكة ؟ قال : أنا ملك الموت . قال : أتستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن ؟ قال : نعم ، ثم التفت إبراهيم فإذا هو بشاب فذكر من حسن وجهه و حسن ثيابه و طيب رائحته فقال : يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن عند الموت إلا صورتك لكان حسبه ، ثم قبض روحه صلى الله عليه و سلم .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا يتعحب من كون ملك الموت يرى على صورتين لشخصين ، فما ذلك إلا مثل ما يصيب الإنسان بتغير الخلقة في الصحة و المرض و الصغر و الكبر و الشباب و الهرم ، و كصفاء اللون بملازمة الحمام و شحوبة الوجه بتغير اللون بلفح الهواجر في السفر ، غير أن قضية الملائكة عليهم السلام يجري ذلك منهم في اليوم الواحدة ، و إن لم يجر هذا على الإنسان إلا في الأوقات المتباعدة و السنين المتطاولة ، و هذا بين فتأمله .
 
باب ما جاء أن ملك الموت عليه السلام هو القابض لأرواح الخلق و أنه يقف على كل بيت في كل يوم خميس مرات و على كل ذي روح كل ساعة و أنه ينظر في وجوه العباد كل يوم سبعين نظرة

قال الله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم .
و روي عن ابن عمر قال : إذا قبض ملك الموت روح المؤمن قام على عتبة الباب و لأهل البيت ضجة ، فمنهم الصاكة وجهها ، و منهم الناشرة شعرها ، و منهم الداعية بويلها ، فيقول ملك الموت عليه السلام : فيم هذا الجزع فو الله ما أنقصت لأحد منكم عمراً ، و لا ذهبت لأحد منكم برزق ، و لا ظلمت لأحد منكم شيئاً ، فإن كانت شكايتكم و سخطكم علي فإني و الله مأمور ، و إن كان ذلك على ميتكم فإنه في ذلك مقهور ، و إن كان ذلك على ربكم فأنتم به كفرة ، و إن لي فيكم عودة ثم عودة ، فلو أنهم يرون مكانه أو يسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم و لبكوا على أنفسهم : خرجه أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلؤيات له .
و روى معناه مرفوعاً في الخبر المشهور المروي في الأربعين عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من بيت إلا و ملك الموت يقف على بابه في كل يوم خمس مرات ، فإذا وجد الإنسان قد نفذ أكله و انقطع أجله ألقى عليه غمرات الموت ، فغشيته كرباته و غمرته غمراته ، فمن أهل بيته الناشرة شعرها و الضاربة وجهها و الباكية لشجوها و الصارخة بويلها ، فيقول ملك الموت عليه السلام : ويلكم مم الفزع و مم الجزع ؟ ما أذهبت لأحد منكم رزقاً و لا قربت له أجلاً و لا أتيته حتى أمرت ، و لا قبضت روحه حتى استأمرت و إن لي فيكم عودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحداً .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده لو يرون مكانه و يسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم و لبكوا على أنفسهم حتى إذا حمل الميت على النعش رفرفت روحه فوق النعش و هو ينادي : يا أهلي و يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال من حله و من غير حله ، ثم خلفته لغيري فالمهناة له و التبعة علي فاحذروا ما حل بي .
و روى جعفر بن محمد عن أبيه قال : نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ملك الموت عند رأس رجلاً من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ارفق بصاحبي فإنه مؤمن ، فقال ملك الموت : يا محمد طيب نفساً و قر عيناً فإني بكل مؤمن رفيق ، و اعلم أن ما من أهل بيت مدر و لا شعر في بر و لا بحر ، إلا و أنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم و كبيرهم منهم لأنفسهم ، و الله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها .
قال جعفر بن محمد : بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلاة ذكره الماوردي .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و في هذا الخبر ما يدل على أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح ، و أن تصرفه كله بأمر الله عز و جل و بخلقه و اختراعه .
قال ابن عطية : و روي في الحديث أن البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت كأنه يعدم حياتها قال : و كذلك الأمر في بني آدم إلا أنه نوع شرف يتصرف ملك الموت و ملائكة معه في قبض أرواحهم ، فخلق الله ملك الموت و خلق على يديه قبض الأرواح و انسلالها من الأجسام و إخراجها منه و خلق جنداً يكونون معه يعملون عمله بأمره .
فقال تعالى : و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة .
و قال تعالى : توفته رسلنا و الباري سبحانه خالق الكل الفاعل حقيقة لكل فعل .
قال الله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها و قال : الذي خلق الموت و الحياة و قال : يحيي و يميت فملك الموت يقبض الأرواح و الأعوان يعالجون ، و الله يزهق الروح . وهذا هو الجمع بين الآي و الحديث ، لكنه لما كان ملك الموت متولى ذلك بالوساطة و المباشرة أضيف التوفي إليه كما أضيف الخلق للملك .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : كما في حديث ابن مسعود قال : حدثنا عليه السلام صلى الله عليه و سلم و هو الصدق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح الحديث خرجه مالك و غيره .
قوله : يجمع خلقه في بطن أمه . قد جاء مفسراً عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه الأعمش عن خيثمة .
قال : قال عبد الله : إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله سبحانه أن يخلق منها بشراً طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر و شعر ، ثم تمكث أربعين ليلة ، ثم تنزل دماً في الرحم فذلك جمعها .
و في صحيح مسلم أيضاً : عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا مر بالنطفة إثنتان و أربعون بعث الله إليها ملكاً فصورها و خلق سمعها و بصرها و شعرها و جلدها و لحمها و عظامها . ثم يقول : أي رب أذكر أم أنثى ؟ و ذكر الحديث و ما قبله يفسره ويبينه ، لأن النطفة لا يبعث الملك إليها إلا بتمام اثنتين و أربعين ليلة فتأمله . و نسبه الخلق و التصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقة ، و إنما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عنه التصوير و التشكيل بقدرة الله تعالى و خلقه و اختراعه . ألا تراه سبحانه و تعالى قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية و قطع عنها نسب جميع الخليقة . فقال تعالى : و لقد خلقناكم ثم صورناكم إلى غير ذلك من الآيات مع ما دلت عليه قاطعات البراهين إذ لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين . و هكذا القول في قوله : ثم يرسل الملك فينفخ ففيه الروح أي أن النفخ فيه سبب يخلق الله فيه الروح و الحياة . و كذلك القول في سائر الأسباب المعتادة فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره فتأمل ذلك . هذا هو الأصل و تمسك به ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال و القائلين بالطبائع و غيرهم ، و أن الله هو القابض لأرواح جميع الخلق على الصحيح ، و أن ملك الموت و أعوانه وسائط . و قد سئل مالك بن أنس عن البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها ؟ فأطرق ملياً ثم قال : ألها نفس ؟ قال : نعم . قال : ملك الموت يقبض أرواحها الله يتوفى الأنفس حين موتها .
و في الخبر : أن ملك الموت و ملك الحياة تناظرا فقال ملك الموت : أنا أميت الأحياء و قال ملك الحياة : أنا أحيي الموتى . فأوحى الله إليهما : كونا على علمكما و ما سخرتما له من الصنع . و أنا المميت و المحيي لا مميت و لا محيي سواي . ذكره أبو حامد في الأحياء .
و ذكر أبو نعيم الحافظ عن ثابت البناني قال الليل و النهار أربع و عشرون ساعة ليس منه ساعة تأتي على ذي روح إلا ملك الموت قائم عليها ، فإن أمر بقبضها قبضها و إلا ذهب ، و هذا عام في كل ذي روح .
و في خبر الإسراء عن ابن عباس فقلت : يا ملك الموت كيف تقدر على قبض أرواح جميع من في الأرض برها و بحرها ، الحديث و قد تقدم .
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن ملك الموت لينظر في وجوه العباد كل يوم سبعين نظرة . قال : إذا ضحك العبد الذي بعث إليه قال : يقول عجباً بعثت إليه لأقبض روحه و هو يضحك و الله أعلم .

باب ما جاء في سبب قبض ملك الموت لأرواح الخلق

روى الزهري و وهب بن منبه و غيرهما ما معناه : إن الله أرسل جبريل عليه السلام ليأتيه من تربة الأرض فأتاها ليأخذ منها فاستعاذت بالله من ذلك فأعاذها ، فأرسل ميكائيل فاستعاذت منه فأعاذها ، فبعث عزرائيل فاستعاذت منه فلم يعذها فأخذ منها ، فقال الرب تبارك و تعالى : أما استعاذت بي منك ؟ قال : نعم . قال : فهلا رحمتها كما رحمها صاحباك ؟ قال : يا رب طاعتك أوجب علي من رحمتي إياها . قال الله عز و جل : اذهب فأنت ملك الموت سلطتك على قبض أرواحهم فبكى فقال ما يبكيك ؟ فقال : يا رب إنك تخلق من هذا الخلق أنبياء و أصفياء و مرسلين ، و إنك لم تخلق خلقاً أكره إليهم من الموت ، فإذا عرفوني أبغضوني و شتموني .
قال الله تعالى : [ إني سأجعل للموت عللاً و أسباباً ينسبون الموت إليها ولا يذكرونك معها ] ، فخلق الله الأوجاع و سائر الحتوف .
و قد روى هذا الخبر عن ابن عباس ، قال : رفعت تربة آدم من ستة أرضين و أكثرها من السادسة و لم يكن فيها من الأرض السابعة شيء ، لأن فيها نار جهنم قال : فلما أتى ملك الموت بالتربة قال له ربه : أما استعاذت بي منك ، الحديث بلفظه و معناه ذكره القتيبي و زاد فقالت الأرض : يا رب خلقت السماوات فلم تنقص منها شيئاً و خلقتني فنقصتني .
فقال لها الرب : و عزتي و جلالي لأعيدنهم إليك برهم و فاجرهم ، فقالت : و عز تك لأنتقمن ممن عصاك .
قال : ثم دعا بمياه الأرض مالحها و عذبها و حلوها و مرها و طيبها و منتنها فسقى منه تربة آدم ، فأقام يخمره أربعين صباحاً ، و قال آخرون : أربعين سنة لم ينفخ فيه الروح ، فكانت الملائكة تمر به فيقفون ينظرون إليه ، و يقول بعضهم لبعض : إن ربنا لم يخلق خلقاً أحسن من هذا و إنه خلق لأمر كائن و يمر به إبليس اللعين فيضرب بيده عليه فيسمع له صلصلة ، و هو الصلصال الفخار ، فقال إبليس : إن فضل هذا علي لم أطعه ، و إن فضلت عليه أهلكته ، هذا من طين و أنا من نار .
و قد قيل : إن الذي أتى بتربة الأرض إبليس و إن الله بعثه بعد ملكين ، فاستغاثت بالله منه ، فقالت : إني أعوذ بالله منك ، ثم أخذ منها و صعد إلى ربه فقال : ألم تستعذ بي منك ؟ فقال : بلى يا رب . فقال الله عز و جل : و عزتي لأخلقن مما جنت يداك خلقاً يسؤوك ، و الله أعلم .

باب ما جاء أن الروح إذا قبض تبعه البصر

ابن ماجه ، عن أم سلمة ، قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي سلمة ، و قد شق بصره فأغمضه ، ثم قال : إن الروح إذ قبض تبعه البصر . خرجه مسلم أكمل من هذا و قد تقدم .
و روى مسلم عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره ، قالوا : بلى ، قال : فذلك حين يتبع بصره نفسه ، و في غير الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم ، أن الميت أول ما يشق بصره لرؤية المعراج و هو سلم بين السماء و الأرض من زمردة خضراء أحسن ما رئي قط ، فذلك حين يمد بصره إليه .
فصل : في قوله عليه السلام : إن الروح إذا قبض تبعه البصر . قوله : فذلك حين يتبع بصره نفسه ما يستغنى به عن قول كل قائل في الروح و النفس ، و إنهما اسمان لمسمى واحد ، و سيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
باب ما جاء في تزاور الأموات في قبورهم و استحسان الكفن لذلك


مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه إن استطاع .
و خرج أبو نصر عبد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجستاني الحافظ في كتاب الإنابة على مذهب السلف الصالح في القرآن و إزالة شبه الزائغين بواضح البرهان .
أخبرنا هبة الله بن إبراهيم بن عمر قال : حدثنا علي بن الحسن بن بندار قال : حدثنا أبو عروة . قال حدثنا محمد بن المصفى قال : حدثنا معاوية: قال حدثنا إبراهيم أن معاوية عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتباهون و يتزاورون في قبورهم .
و قال ابن المبارك : أحب إلي أن يكفن في ثيابه التي كان يصلي فيها .

باب الإسراع بالجنازة و كلامها

البخاري عن أبي سعيد الخدري : كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : إذا وضعت الجنازة و احتملها الرجال على أعناقهم . فإن كان صالحة قالت : قدموني قدموني . و إن كانت غير صالحة قالت : يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان و لو سمعه لصعق . و قد تقدم من حديث أنس أنها تقول : يا أهلي و يا ولدي الحديث .
البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه . . و إن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم خرجه مسلم أيضاً . . .
فصل : صعق : مات . و الإسراع قيل معناه : الإسراع بحملها إلى قبرها في المشي و قيل : تجهيزها بعد موتها لئلا تتغير ، و الأول أظهر لما رواه النسائي . قال : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا خالد قال : حدثنا عيينة بن عبد الرحمن قال : حدثني أبي قال : شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة و خرج زياد يمشي بين يدي السرير ، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن و مواليهم يستقبلون السرير و يمشون على أعقابهم و يقولون : رويداً رويداً بارك الله فيكم . فكانوا يدبون حتى إذا كنا ببعض الطريق لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه يمشي على بغلة . فلما رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته و أهوى عليهم بالسوط . فقال : خلوا فو الذي كرم وجه أبي القاسم لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنا لنكاد نرمل بها رملاً . فانبسط القوم ، صححه أبو محمد عبد الحق .
و روى أبو داود من حديث أبي ماجدة عن ابن مسعود قال : سألنا نبيناً محمداً صلى الله عليه و سلم عن المشي في الجنازة . فقال : دون الخبب إن يكن خيراً تعجل إليه و إن يكن غير ذلك فبعداً لأهل النار . ذكره أبو عمر بن عبد البر .
و قال : و الذي عليه جماعة أهل العلم في ذلك الإسراع فوق السجية قليلاً ، و العجلة أحب إليهم من الإبطاء ، و يكره الإسراع الذي يشق على ضعفه من يتبعها . و قال إبراهيم النخعي : نصوا بها قليلاً و لا تدبوا دبيب اليهود و النصارى . السجية : العادة .

باب بسط الثوب على القبر عند الدفن

أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تبع جنازة ، فلما صلى عليها دعا بثوب فبسط على القبر و هو يقول : لا تتطلعوا في القبر فإنها أمانة فلعسى يحل العقدة فيرى حية سوداء متطوقة في عنقه فإنها أمانة و لعله يؤمر به فيستمع صوت السلسلة .
و ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن الشعبي عن رجل أن سعد بن مالك ، قال : أمر النبي صلى الله عليه و سلم بثوب فستر على القبر حين دفن سعد بن معاذ ، قال : و قال سعد : إن النبي صلى الله عليه و سلم نزل في قبر سعد بن معاذ و ستر على القبر بثوب فكنت فيمن أمسك الثوب .
فصل : اختلف العلماء في هذا الباب ، فكان عبد الله بن يزيد و شريح و أحمد بن حنبل يكرهون مد الثوب على الرجل ، و كان أحمد و إسحاق يختاران أن يفعل ذلك بقبر المرأة ، و كذلك قال أصحاب الرأي ، و لا يضر عندهم أن يفعلوا ذلك بقبر الرجل .
و قال أبو ثور : لا بأس بذلك في قبر الرجل و المرأة . و كذلك قال الإمام الشافعي و ستر المرأة عند ذلك آكد من ستر الرجل . ذكره ابن المنذر .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و يستر الرجل و المرأة للعلة التي جاءت في حديث أنس اقتداء بفعله عليه السلام في ستر سعد بن معاذ و الله أعلم .
و لقد أخبرني بعض أصحابنا : أنه سمع صوت جو السلسلة في قبر . و أخبرني صاحبنا الفقيه العالم شيخ الطريقة أبو عبد الله محمد بن أحمد القصري رحمه الله أنه توفي بعض الولاة بقسطنطينة فحفر له ، فلما فرغوا من الحفر و أرادوا أن يدخلوا الميت القبر إذا بحية سوداء داخل القبر ، فهابوا أن يدخلوه فيه فحفروا له قبراً آخراً ، فلما أرادوا أن يدخلوه إذ بتلك الحية فيه فحفروا له قبرا آخر فإذا بتلك الحية فلم يزالوا يحفرون له نحواً من ثلاثين قبراً و إذا بتلك الحية تتعرض لهم في القبر الذي يريدون أن يدفنوه فيه ، فلما أعياهم ذلك سألوا ما يصنعون ؟ فقيل لهم : ادفنوه معها . نسـأل الله السلامة و الستر في الدنيا و الآخرة .
 
باب ما جاء في قراءة القرآن عند القبر حالة الدفن و بعده و أنه يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ و يدعى و يستغفر له و يتصدق عليه

ذكره أبو حامد في كتاب الأحياء و أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقية له .
قال محمد بن أحمد المروروذي سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول : إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب و المعوذتين و قل هو الله أحد و اجعلوا ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم .
و قال علي بن موسى الحداد : كنت مع أحمد بن حنبل في جنازة و محمد بن قدامة الجوهري يقرأ . فلما دفنا الميت جاء رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد : يا هذا إن القراءة على القبر بدعة فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد : يا أبا عبد الله : ما تقول في مبشر بن إسماعيل ؟ قال : ثقة . قال : هل كتبت عنه شيئاً ؟ قال : نعم . قال : أخبرني مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء بن الحجاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة و خاتمتها ، و قال :سمعت ابن عمر يوصي بذلك .
قال أحمد : فارجع إلى الرجل فقل له يقرأ .
قلت : و قد استدل بعض علمائنا على قراءة القرآن على القبر بحديث العسيب الرطب الذي شقه النبي صلى الله عليه و سلم باثنين ثم غرس على هذا واحداً و على هذا واحداً ثم قال : لعله أن يخفف عنهما ما لم يبسا . خرجه البخاري و مسلم .
و في مسند أبي داود الطيالسي : فوضع على أحدهما نصفاً و على الآخر نصفاً و قال : إنه يهون عليهما ما دام فيهما من بلوتهما شيء ، قالوا : و يستفاد من هذا غرس الأشجار و قراءة القرآن على القبور و إذا خفف عنهم بالأشجار ، فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن .
و قد خرج السلفي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مر على المقابر و قرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات .
و روي من حديث أنس خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا قرأ المؤمن آية الكرسي ، و جعل ثوابها لأهل القبور ، أدخل الله تعالى في كل قبر مؤمن من المشرق إلى المغرب أربعين نوراً ، و وسع الله عز و جل عليهم مضاجعهم ، و أعطى الله للقارئ ثواب ستين نبياً ، و رفع له بكل ميت درجة ، و كتب له بكل ميت عشر حسنات .
و قال الحسن من دخل المقابر فقال : اللهم رب الأحساد البالية و العظام الناخرة خرجت من الدنيا و هي بك مؤمنة فأدخل عهليها روحاً منك و سلاماً مني إلا كتب بعددهم حسنات .
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث ابن عباس أنه ، قال خير الناس و خير من يمشي على جديد الأرض المعلمون ، كما أخلق الدين جدوده أعطوهم و لا تستأجروهم فتحرجوهم ، فإن المعلم إذا قال للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله للصبي و براءة للمعلم و براءة لأبويه من النار ذكره الثعلبي :
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : أصا هذا الباب الصدقة التي لا اختلاف فيها فكما يصل للميت ثوابها ، فكذلك تصل قراءة القرآن و الدعاء و الاستغفار إذ كل ذلك صدقة فإن الصدقة لا تختص المال .
و قال صلى الله عليه و سلم : و قد سئل عن قصر الصلاة في حالة الأمن فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته .
و قال عليه السلام : يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فإن كل تسبيحة صدقة ، و كل تلهيلة صدقة ، و كل تكبيرة صدقة ، و كل تحميدة صدقة ، و أمر بالمعروف صدقة ، و نهي عن المنكر صدقة ، و يجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ، و لهذا استحب العلماء زيارة القبور تحفة الميت من زائره .
روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ما الميت في قبره إلا كالغريق المغوث ينتظر دعوة تلحقه من أبيه أو أخيه أو صديق له ، فإذا لحقته كانت أحب إلي من الدنيا و ما فيها ، و إن هدايا الأحياء للأموات الدعاء و الاستغفار .
و قد حكي أن امرأة جاءت إلى الحسن البصري رحمه الله فقالت : : إن ابنتي ماتت و قد أحببت أن أراها في المنام ، فعلمني صلاة أصليها لعلي أراها فعلمها صلاة فرأت ابنتها و عليها لباس القطران و الغل في عنقها و القيد في رجلها فارتاعت لذلك فأعلمت الحسن فاغتم عليها ، فلم تمض مدة حتى رآها الحسن في المنام و هي في الجنة على سرير و على رأسها تاج . فقالت له يا شيخ : أما تعرفني ؟ قال : لا ، قالت له : أنا تلك المرأة التي علمت أمي الصلاة فرأتني في المنام ، قال لها : فما سبب أمرك ؟ قالت : مر بمقبرتنا رجل فصلى على النبي صلى الله عليه و سلم و كان في المقبرة خمسمائة و ستون إنساناً في العذاب فنودي : ارفعوا العذاب عنهم ببركة صلاة هذا الرجل عن النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال بعضهم : مات أخ لي فرأيته في المنام فقلت : ما كان حالك حين وضعت في قبرك ؟ قالت : أتاني آت بشهاب من نار فلولا أن داعياً دعا لي لرأيت أنه سيضربني به . و الحكايات عن الصالحين بهذا المعنى كثيرة ، ذكرها أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له . و قد ذكر في هذا المعنى أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة رضي الله عنه في كتاب عيون الأخبار له حكاية فيها طول ، رأينا ذكرها لاشتمالها على وعظ و تذكير و تخويف و تحذير و تضرع و ابتهال و دعاء بالموت و الانتقال .
روي عن الحارث بن نبهان أنه قال : كنت أخرج إلى الجبانات فأرحم على أهل القبور و أتفكر و أعتبر و أنظر إليهم سكوتاً لا يتكلمون و جيراناً لا يتزاورون ، و قد صار لهم من بطن الأرض وطاء و من ظهرها غطاء و أنادي : يا أهل القبور محيت من الدنيا آثاركم ، وما محيت عنكم أوزاركم ، و سكنتم دار البلاء فتورمت أقدامكم قال : ثم يبكي بكاء شديداً ثم يميل إلى قبة فيها فينام في ظلها .
قال : فبينما أنا نائم إلى جانب القبر إذ أنا بحس مقمعة يضرب بها صاحب القبر و أنا أنظر إليه و السلسلة في عنقه ، و قد ازرقت عيناه و اسود وجهه و هو يقول : يا و يلي ما ذا حل بي لو رآني أهل الدنيا ما ركبوا معاصي الله أبداً . طولبت و الله باللذات فأوبقتني و بالخطايا فأغرقتني فهل من شافع لي أو مخبر أهلي بأمري ؟ !
قال الحارث : فاستيقظت مرعوباً و كاد أن يخرج قلبي من هول ما رأيت ، فمضيت إلى داري و بت ليلتي و أنا متفكر فيما رأيت ، فما أصبحت قلت دعني أعود إلى الموضع الذي كنت فيه لعلي أجد به أحداً من زوار القبور فأعلمه بالذي رأيت ، قال : فمضيت إلى المكان الذي كنت فيه بالأمس فلم أر أحداً فأخذني النوم فنمت ، فإذا أنا بصاحب القبر و هو يسحب على وجهه و يقول : يا ويلتاه ماذا حل بي . ساء في الدنيا عملي و طال فيها أجلي حتى غضب علي رب الأرباب . فالويل لي إن لم يرحمني ربي .
قال الحارث : فاستيقظت و قد توله عقلي بما رأيت و سمعت ، فمشيت إلى داري و بت ليلتي ، فلما أصبحت أتيت القبر لعلي أجد أحداً من زوار القبور فأعلمه بما رأيت ثم نمت ، فإذا أنا بصاحب القبر قد قرن بين قدميه و هو يقول : ما أغفل أهل الدنيا عني ، ضوعف علي العذاب و تقطعت عني الحيل و الأسباب و غضب علي رب الأرباب و غلق في وجهي كل باب ، فالويل لي إن لم يرحمني ربي العزيز الوهاب .
قال الحارث : فاستيقظت من منامي مرعوباً و هممت بالانصراف ، فإذا بثلاث جوار قد أقبلن فتباعدت لهن عن القبر و تواريت لكي أسمع كلامهن ، فتقدمت الصغرى و وقفت على القبر و قالت : السلام عليك يا أبتاه كيف هدوؤك في مضجعك و كيف قرارك في موضعك ذهبت عنا بودك و انقطع عنا سؤالك فما أشد حسرتنا عليك ، ثم بكت بكاءً شديداً . ثم تقدمت ابنتان فسلمتا على القبر ، ثم قالتا : هذا قبر أبينا الشفيق علينا و الرحيم بنا أنسك الله بملائكة رحمته و صرف عنك عذابه و نقمته ، يا أبتاه جرت بعدك أمور لو عاينتها لأوهمتك و لو اطلعت عليها لأحزنتك ، كشف الرجال وجوهنا و قد كنت أنت سترها .
قال الحارث : فبكيت لما سمعت كلامهن . ثم قمت مسرعاً إليهن ، فسلمت عليهن و قلت لهن : أيتها الجواري إن الأعمال ربما قبلت و ربما ردت على صاحبها فما كان عمل أبيكن المخلد في هذا القبر الذي عاينت من أمره ما أحزنني و اطلعت من حاله على ما آلمني ؟ .
قال الحارث : فلما سمعن كلامي كشفن وجوههن و قلن : أيها العبد الصالح . و ما الذي رأيت ؟ قلت لهن : لي ثلاثة أيام و أنا أختلف إلى هذا القبر أسمع صوت المقمعة و السلسلة فيه ، قال : فلما سمعن ذلك مني قلن لي : بشارة ما أضرها و مصيبة ما أحزنها ، نحن نفضي الأوطار و نعمر الديار و أبونا يحرق بالنار ، فو الله لا قر بنا قرار و لا ضمتنا للذة العيش دار أو نتضرع للجبار فلعله أن يعتق أبانا و ينقذه من النار . ثم مضين يتعثرن في أذيالهن .
قال الحارث : فمضيت إلى داري فبت ليلتي ، فلما أصبحت أتيت القبر فجلست عنده فغلبني النوم فنمت ، فإذا أنا بصاحب القبر له حسن و جمال و في رجليه نعل من ذهب و معه حور و غلمان .
قال الحارث : فسلمت عليه و قلت له : رحمك الله من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي عاينت من أمري ما أحزنك و اطلعت منه على ما أفجعك فجزاك الله خيراً فما أيمن طلعتك علي فقلت له : و كيف حالك ؟ فقال لي : لما اطلعت علي و أخبرت بناتي بالأمس بحالي أعرين أبدانهن و أسبلن شعورهن و تضرعن لمولاهن ، و مرغن خدودهن في التراب ، و أهملن دموعهن بالانسكاب ، و استوهبوني من العزيز الوهاب ، فغفر لي الذنوب و الأوزار ، و استنقذني من النار ، و أسكنني دار القرار بجوار محمد المختار ، فإذا رأيت بناتي فأعلمهن بأمري و ما كان من قصتي ليزول عنهن روعهن و يفارقهن حزنهن ، و تعلمهن إني قد صرت إلى جنات و حور و مسك و كافور و عندي غلمان و سرور ، و قد عفا عني العزيز الغفور .
قال الحارث : فاسيقظت فرحاً مسروراً لما رأيت و سمعت ، ثم مضيت إلى داري و بت ليلتي ، فما أصبحت أتيت القبر فوجدتهن حافيات الأقدام فسلمت عليهن و قلت لهن : أبشرن فقد رأيت أباكن في خير عظيم و ملك مقيم ، و قد أعلمني أن الله تعالى أجاب دعاءكن و لم يخيب مسعاكن ، و قد وهب لكن أباكن فاشكرنه على ما أولاكن .
قال : فقالت الصغرى : اللهم يا مؤنس القلوب و يا ساتر العيوب و يا كاشف الكروب و يا غافر الذنوب و يا عالم الغيوب و يا مبلغ الأمل المطلوب ، قد علمت ما كان من مسألتي و رغبتي و اعتذاري في خلوتي و استقالتي من ذلتي و تنصلي من خطيئتي ، و أنت اللهم تعلم همتي و المطلع على نيتي و العالم بطويتي و مالك رقبتي و الآخذ بناصيتي و غايتي في طلبتي ، و رجائي عند شدتي ، و مؤنسي في وحدتي ، و راحم عبرتي ، و مقيل عثرتي ، و مجيب دعوتي ، فإن كنت قصرت عما أمرتني و ركبت إلى ما عنه نهيتني فبحلمك حملتني و بسترك سترتني ، فبأي لسان أذكرك و على أي نعمك أشكرك ضاق بكثرتها ذرعي ، فيا أكرم الأكرمين و منتهى غاية الطالبين و مالك يوم الدين الذي يعلم ما أخفي في الضمير و يدبر أمر الصغير و الكبير ، فإن كنت قضيت الحاجة بفضلك و شفعتني في عبدك فاقبضني إليك و أنت على كل شيء قدير ، ثم صرخت صرخة فارقت الدنيا رحمة الله عليها .
قال : ثم قامت الثانية فنادت بأعلى صوتها : يا رب فرج كربي و خلص من الشك قلبي . يا من أقامني من صرعتي و أقالني من عثرتي و دلني من حيرتي و أعانني في شدتي إن كنت قبلت دعوتي و قضيت حاجتي و أنجحت طلبتي ، فألحقني بأختي ثم صاحت صيحة فارقت الدنيا رحمة الله عليها .
قال : ثم قامت الثالثة : فنادت بأعلى صوتها يا أيها الجبار الأعظم و الملك الأكرم العالم بمن سكت و تكلم ، لك الفضل العظيم و الملك القديم و الوجه الكريم ، العزيز من أعززته ، و الذليل من أذللته ، و الشريف من شرفته ، و السعيد من أسعدته ، و الشقي من أشقيته ، و القريب من أدنيته و البعيد من أبعدته و المحروم من حرمته ، و الرابح من أوهبته و الخاسر من عذبته ، أسألك باسمك العظيم و وجهك الكريم و علمك المكنون الذي بعد عن إدراك الأفهام و غمض عن مناولة الأوهام باسمك الذي جعلته على الليل فدجى و على النهار فأضاء ، و على الجبال فدكدكت ، و على الرياح فتناثرت ، و على السموات فارتفعت ، و على الأصوات فخشعت ، و على الملائكة فسجدت . اللهم إني أسألك إن كنت قضيت حاجتي و أنجحت طلبتي فألحقني بصواحباتي ، ثم صاحت صيحة فارقت الدنيا رحمة الله علينا و عليهم و على جميع المسلمين أجمعين . آخر الحكاية و الحمد لله رب العالمين .
و روي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم و كان له بعدد من فيها حسنات .
و يروى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة .
و قد روى إباحة قراءة القرآن عند القبر عن العلاء بن عبد الرحمن ، و ذكر النسائي و غيره من حديث معقل بن يسار المدني عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اقرأوا يس عند موتاكم ، و هذا يحتمل أن تكون القراءة عند الميت في حال موته و يحتمل أن تكون عند قبره .
قال أبو محمد عبد الحق : حدثني أبو الوليد إسماعيل بن أحمد عرف بابن أفرند و كان هو و أبوه صالحين معروفين . قال : مات أبي رحمه الله فحدثني بعض إخوانه ممن يوثق بحديثه قال لي : زرت قبر أبيك فقرأت عليه حزباً من القرآن ثم قلت يا فلان هذا قد أهديته لك فماذا لي ؟ قال : فهبت علي نفحة مسك غشيتني و أقامت معي ساعة ثم انصرفت و هي معي فما فارقتني إلا و قد مشيت نصف الطريق .
قال أبو محمد : و رأيت لبعض من يوثق به قال : ماتت لي امرأة فقرأت في بعض الليالي آيات من القرآن فأهديتها لها و دعوت الله عز و جل و استغفرت لها و سألت ، فما كان في اليوم الثاني حدثتني امرأة تعرفها قالت لي : رأيت البارحة فلانة في النوم ـ تعني الميتة المذكورة ـ في مجلس حسن في دار حسنة ، و قد أخرجت لنا أطباقاً من تحت سرير كان في البيت ، و الأطباق مملوءة قوارير أنوار فقالت لي : هذا أهداه لي صاحب بيتي قال : و ما كنت أعلمت بذلك أحداً .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و في هذا المعنى حديث مرفوع من حديث أنس يأتي في باب ما يتبع الميت إلى قبره و قد قيل : إن ثواب القراءة للقارئ . و للميت : ثواب الاستماع و لذلك تلحقه الرحمة . قال تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون .
قلت : و لا يبعد في كرم الله تعالى أن يلحقه ثواب القراءة و الاستماع جميعاً ، و يلحقه ثواب ما يهدى إليه من قراءة القرآن ، و إن لم يسمعه كالصدقة و الدعاء و الاسغفار لما ذكرنا ، و لأن القرآن دعاء و استغفار و تضرع و ابتهال ، و ما يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل القرآن .
قال صلى الله عليه و سلم : يقول الرب تبارك و تعالى : من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته ما أعطي السائلين رواه الترمذي ، و قال فيه حديث حسن غريب .
و قال عليه السلام : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له و القراءة في معنى الدعاء و ذلك صدقة من الولد ، و من الصاحب و الصديق و المؤمنين . حسب ما ذكرنا و بالله التوفيق .
فإن قيل : فقد قال الله تعالى و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و هذا يدل على أنه لا ينفع أحداً عمل أحد . قيل له : هذه آية اختلف في تأويلها أهل التأويل .
فروي عن ابن عباس : أنها منسوخة بقوله تعالى : و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم فيجعل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه و يشفع الله تعالى الآباء في الأبناء و الأبناء في الآباء . يدل على ذلك قوله تعالى : آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً و قال الربيع بن أنس : و أن ليس للإنسان إلا ما سعى يعني : الكافر . و أما المؤمن فله ما سعى ، و ما سعى له غيره .
قلت : و كثير من الأحاديث تدل على هذا القول . و يشهد له . و أن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره .
و في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : من مات و عليه صيام صام له وليه .
و قال عليه السلام للرجل الذي حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه : حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة .
و روي أن عائشة رضي الله عنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته و أعتقت عنه ، و قال سعد للنبي صلى الله عليه و سلم : إن أمي توفيت ، افأتصدق عنها ؟ قال : نعم قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : سقي الماء . و في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته ، أنها حدثته عن جدته أنها جعلت على نفسها مشياً إلى مسجد قباء ، فماتت و لم تقضه ، فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها .
قلت : و يحتمل أن يكون قوله تعالى : و أن ليس للإنسان إلا ما سعى خاصاً في السيئة بدليل ما في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : قال الله عز وجل : إذا هم عبدي بحسنة و لم يعملها كتبتها له حسنة ، فإن عملها كتبتها له عشراً إلى سبعمائة ضعف ، و إذا هم بسيئة و لم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة و القرآن دال على هذا . قال الله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و قال تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة الآية ، و قال في الآية الأخرى : كمثل جنة بربوة و قال : من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرةً و هذا كله تفضل من الله تعالى ، و طريق العدل : أن ليس للإنسان إلا ما سعى ، إلا أن الله عز و جل يتفضل عليه بما لم يجب له كما أن زيادة الأضعاف فضل منه كتب لهم بالحسنة الواحدة : عشراً إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة .
كما قيل لأبي هريرة : أسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، يقول : أن الله ليجزي عن الحسنة الواحدة : ألف ألف حسنة فقال : سمعته يقول : إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة : ألفي ألف حسنة فها تفضل ، و قد تفضل الله على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل فما ظنك بعمل المؤمن عن نفسه أو عن غيره ؟ .
و قد ذكر الخرائطي في كتاب القبور ، قال : سنة في الأنصار إذا حملوا الميت أن يقرأوا معه سورة البقرة . و لقد أحسن من قال :
زر والديك و قف على قبريهما فكأنني بك قد حملت إليهما
و في أبيات يقول في آخرها :
و قر أت من آي الكتاب بقدر ما تسطيع و قد بعثت ذاك إليهما
و إنما طولنا النفس في هذا الباب ، لأن الشيخ الفقيه القاضي الإمام مفتي الأنام عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله كان يفتي بأنه لا يصل للميت ثواب ما يقرأ ، و يحتج بقوله تعالى : و أن ليس للإنسان إلا ما سعى ، فلما توفي رحمه الله ، رآه بعض أصحابه ممن كان يجالسه و سأله عن ذلك ، فقال له : إنك كنت تقول : إنه لا يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ و يهدي إليه ، فكيف الأمر ؟ فقال له : إني كنت أقول ذلك في دار الدنيا، و الآن فقد رجعت عنه لما رأيت من كرم الله تعالى في ذلك . و أنه يصل إليه ذلك
 
باب يدفن العبد في الأرض التي خلق منها
أبو عيسى الترمذي ، عن مطر بن عكامش ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة أو قال : بها حاجة .
قال أبو عيسى : و في الباب عن أبي عزة ، و هذا حديث غريب ، و لا يعرف لمطر بن عكامش عن النبي غير هذا الحديث .
و عن أبي عزة ، قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض ، جعل له إليها حاجة ، أو قال : بها حاجة قال : هذا حديث حسن صحيح ، و أبو عزة له صحبة ، و اسمه يسار بن عبيد ، و أنشدوا :
إذا ما حمام المرء كان ببلدة دعته إليها حاجة فيطير
و روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول ، عن أبي هريرة ، قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم : يطوف ببعض نواحي المدينة ، و إذا بقبر يحفر ، فأقبل حتى وقف عليه ، فقال : لمن هذا ؟ قيل لرجل من الحبشة ، فقال : لا إله إلا الله سيق من أرضه و سمائه حتى دفن في الأرض التي خلق منها و عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان العبد بأرض أوثبته الحاجة إليها حتى إذابلغ أقصى أثره قبضه الله فتقول الأرض يوم القيامة : رب ، هذا ما استودعتني خرجه ابن ماجه أيضاً .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فائدة هذا الباب تنبيه العبد على التيقظ للموت و الاستعداد له بحسن الطاعة و الخروج عن المظلمة ، و قضاء الدين ، و إتيان الوصية بماله أو عليه في الحضر ، فضلاً عن أوان الخروج عن و طنه إلى سفر ، فإنه لا يدري أين كتبت منيته من بقاع الأرض .
و أنشد بعضهم :
مشيناها خطى كتبت علينا و من كتبت عليه خطى مشاها
و أرزاق لنا متفرقات فمن لم تأته منا أتاها
و من كتبت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها
و قد روي في الآثار القديمة : أن سليمان عليه السلام كان عنده رجل يقول : يا نبي الله : إن لي حاجة بأرض الهند . فأسألك أن تأمر الريح أن يحملني إليها في هذه الساعة ، فنظر سليمان إلى ملك الموت عليه السلام ، فرأه يبتسم ، فقال : مم تتبسم ؟ قال : تعجباً ـ : إني أمرت بقبض روح هذا الرجل في بقية هذه الساعة بالهند ، و أنا أراه عندك ، فروي أن الريح حملته في تلك الساعة إلى الهند ، فقبض روحه بها . و الله أعلم .

باب ما جاء أن كل عبد يذر عليه من تراب حفرته و في الرزق و الأجل ، و بيان قوله تعالى مخلقةً و غير مخلقة

أبو نعيم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مولود إلا و قد ذر عليه من تراب حفرته .
قال أبو عاصم النبيل ما نجد لأبي بكر و عمر رضي الله عنهما فضيلة مثل هذه لأن طينتهما طينة رسول الله صلى الله عليه و سلم . أخرجه في باب ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، و قال : هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل ، أحد الثقات الأعلام من أهل البصرة .
و روى مرة ، عن ابن مسعود ، أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة من الرحم فيضعها على كفه ، ثم يقول : يا رب ، مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال مخلقة ، قال : يا رب ما الرزق ؟ ما الأثر ؟ ما الأجل ؟ فيقول : انظر في أم الكتاب ، فينظر في اللوح المحفوظ ، فيجد فيه رزقه ، و أثره ، و أجله ، و عمله ، و يأخذ التراب الذي يدفن في بقعته و يعجن به نطفته .
فذلك قوله تعالى : منها خلقناكم و فيها نعيدكم ، خرجه الترمذي الحكيم ، أبو عبد الله في نوادر الأصول .
و ذكر عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها الملك بكفه ، فقال : أي رب أمخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة لم تكن نسمة و قذفنها الأرحام دماً ، و إن قال : مخلقة ، قال : أي رب أذكر ، أم أنثى ؟ أشقي ، أم سعيد ؟ ماالأجل ؟ و ما الأثر ؟ و ما الرزق ؟ و بأي أرض تموت ؟ فيقول : اذهب إلى أم الكتاب ، فإنك ستجد هذه النطفة فيها ، فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله .
فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله ، فتخلق ، فتعيش في أجلها ، وتأكل رزقها ، و تطأ أثرها ، فإذا جاء أجلها ماتت ، فدفنت في ذلك المكان ، فالآثر : هو التراب الذي يؤخذ فيعجن به ماؤه .
و قال محمد بن سيرين لو حلفت حلفت صادقاً باراً ، غير شاك و لا مستثن ، أن الله ما خلق نبيه محمداً صلى الله عليه و سلم ، و لا أبا بكر ، و لا عمر ، إلا من طينة واحدة ثم ردهم إلى تلك الطينة .
قلت : و ممن خلق من تلك التربة : عيسى بن مريم عليه السلام على ما يأتي بيانه آخر الكتاب إن شاء الله تعالى ، و هذا الباب يبين لك معنى قوله تعالى : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب . و قوله : هو الذي خلقكم من طين .
و قوله : ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين و لا تعارض في شيء من ذلك على ما بينا في كتاب الجامع لأحكام القرآن ، و المبين لما تضمن من السنة و آي الفرقان و هذا الباب يجمع لك كله فتأمله .

باب مايتبع الميت إلى قبره و بعد موته و ما يبقى معه فيه

مسلك عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يتبع الميت ثلاث . فيرجع اثنان و يبقى واحد : يتبعه أهله و ماله و عمله فيرجع أهله و ماله و يبقى عمله .
و روى أبو نعيم من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع يجري أجرها للعبد بعد موته و هو في قبره : من علم علماً أو أجرى نهراً أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته هذا حديث غريب من حديث قتادة تفرد به أبو نعيم عبد الرحمن بن هانئ النخعي عن العزرمي محمد بن عبد الله عن قتادة . و خرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه من حديث الزهري .
حدثني أبو عبد الله الأغر ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد موته : علماً علمه و نشره ، أو ولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه ، أو مسجداً بناه ، أو بيتاً لابن السبيل بناه ، أو نهراً أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته تلحقه بعد موته .
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك لتصدق عن ميتك بصدقة فيجيء بها ملك من الملائكة في أطباق من نور ، فيقوم على رأس القبر فينادي : يا صاحب القبر الغريب : أهلك قد أهدوا إليك هذه الهدية فأقبلها . قال : فيدخلها إليه في قبره و يفسح له في مداخله و ينور له فيه فيقول : جزى الله أهلي عني خير الجزاء قال : فيقول لزيق ذلك القبر أنا لم أخلف لي ولداً و لا أحداً يذكرني بشيء فهو مهموم و الآخر يفرح بالصدقة .
و قال بشار بن غالب : رأيت رابعة العدوية ـ يعني العابدة ـ في المنام ، و كنت كثير الدعاء له . فقالت لي : يا بشار هديتك تأتينا في أطباق من نور ، عليها مناديل الحرير ، و هكذا يا بشار دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا لإخوانهم الموتى فاستجيب لهم يقال : هذه هدية فلان إليك : و قد تقدم لهذا الباب ما فيه كفاية ، والحمد لله . و قال إسماعيل بن رافع : ما من ذي رحم أوصل لذي رحمه ، من رجل أتبع ذا رحم بحج أو عتق أو صدقة .

باب ما جاء في هول المطلع

تقدم من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لاتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد الحديث . و لما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل : إني لأرجو أن لا تمس جلدك النار فنظر إليه ثم قال : إن من غررتموه لمغرور . و الله لو أن لي ما على الأرض لافتديت به من هول المطلع .
و قال أبو الدرداء رضي الله عنه : أضحكني ثلاث و أبكاني ثلاث . أضحكني مؤمل دنيا و الموت يطلبه ، و غافل ليس بمغفول عنه ، و ضاحك بملء فيه لا يدري أأرضى الله أم أسخطه ؟ و أبكاني : فراق الأحبة محمد صلى الله عليه و سلم و حزبه ، و أحزنني هول المطلع عند غمرات الموت ، و الوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية ثم لايدري إلى الجنة أو إلى النار . أخرجه ابن المبارك . قال أخبرنا غير واحد عن معاوية بن قرة قال : قال أبو الدرداء : فذكره .
قال : وأخبرنا محمد ، بلغ به أنس بن مالك قال : ألا أحدثكم بيومين و ليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن : أول يوم يجيئك من الله تعالى ، إما برضاه و إما بسخطه و يوم تعرض فيه على ربك آخذاً كتابك ، و إما بيمينك و إما بشمالك و ليلة تستأنف فيها المبيت في القبور و لم تبت فيها قط . و ليلة تمخض صبيحتها يوم القيامة.

باب ماجاء أن القبر أول منازل الآخرة و في البكاء عنده ، و في حكمه و الاستعداد له
ابن ماجه عن هانىء بن عثمان قال : كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له : تذكر الجنة و النار و لاتبكي و تبكي من هذا ؟ قال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن القبر أول منازل الآخرة . فإن نجا منه أحد فما بعده أيسر منه و إن لم ينج منه فما بعد أشد منه .
قال قال يا رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما رأيت منظراً قط إلا و القبر أفظع منه أخرجه الترمذي و زاد رزين قال : و سمعت عثمان ينشد على قبر شعراً :
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة و إلا فإني لا إخالك ناجياً
ابن ماجه عن البراء قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة . فجلس على شفير القبر فبكى و أبكى حتى بل الثرى ثم قال : يا إخواني لمثل هذا فأعدوا .
فصل : القبر واحد القبور في الكثرة و أقبر في القلة و يقال للمدفن : مقبر .
قال الشاعر :
لكل أناس مقبر بفنائهم و هم ينقصون و القبور تزيد
و اختلف في أول من سن القبر ؟ : الغراب لما قتل قابيل هابيل . و قيل بنو إسرائيل ، و ليس بشيء . و قد قيل : كان قابيل يعلم الدفن و لكن ترك أخاه بالعراء استخفافاً به ، فبعث الله غراباً يبحث التراب على هابيل ليدفنه . فقال عند ذلك يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قبض الله الغراب له حتى واراه . و لم يكن ذلك ندم توبة . و قيل : ندمه إنما كان على فقده . لا على قتله .
قال ابن عباس : و لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة . و يقال : إنه لما قتله قعد يبكي عند رأسه . إذ أقبل غرابان فاقتتلا . فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه ، ففعل القاتل بأخيه كذلك . فبقي ذلك سنة لازمة في بني آدم . و في التنزيل ثم أماته فأقبره أي جعل له قبراً يواري فيه إكراماً له و لم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله الطير و العوافي . قاله الفراء .
و قال أبو عبيدة : جعل له قبراً و أمر أن يقبر . قال أبو عبيدة : و لما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبد الرحمن قالت بنو تميم ، و دخلوا عليه : أقبرنا صالحاً . فقال : دونكموه . و حكم القبر : أن يكون مسنماً . مرفوعاً على وجه الأرض قليلاً غير مبني بالطين و الحجارة و الجص فإن ذلك منهى عنه .
و روى مسلم عن جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجصص القبر و أن يقعد عليه و أن يبنى عليه . و خرجه الترمذي أيضاً عن جابر ، قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تجصص القبور و أن يكتب عليها و أن يبنى عليها و أن توطأ ، قال أبو عيسى هذا حديث صحيح .
قال علماؤنا رحمهم الله : و كره مالك تجصيص القبور ، لأن ذلك من المباهاة و زينة الحياة الدنيا و تلك منازل الآخرة ، و ليس بموضع المباهاة ، و إنما يزين الميت في قبره عمله ، و أنشدوا :
و إذا وليت أمور قوم ليلة فاعلم بأنك بعدها مسؤول
و إذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمول
ياصاحب القبر المنقش سطحه و لعله من تحته مغلول
و في صحيح مسلم ، عن أبي الهياج الأسدي قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ألا تدع تمثال إلا طمسته ، و لا قبراً مشرفاً إلا سويته .
و قال أبو داود في المراسيل ، عن عاصم بن أبي صالح : رأيت قبر النبي صلى الله عليه و سلم شبراً أونحواً من شبر يعني في الارتفاع .
قال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ : بسنم القبر ليعرف كي يحترم و يمنع من الارتفاع الكثير الذي كانت الجاهلية تفعله ، فإنها كانت تعلى عليها ، و تبني فوقها تفخيماً لها وتعظيماً ، و أنشدوا :
أرى أهل القصور إذا أميتوا بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة و فخراً على الفقراء حتى في القبور
لعمرك لو كشفت الترب عنهم فما تدري الغني من الفقير
و لا الجلد المباشر ثوب صوف من الجلد المباشر للحرير
إذا أكل الثرى هذا و هذا فما فضل الغني على الفقير ؟
يا هذا أين الذي جمعته من الأموال ، و أعددته للشدائد و الأهوال ، لقد أصبحت كفك منه عند الموت خالية صفراً ، و بدلت من بعد غناك و عزك ذلاً و فقراً ، فكيف أصبحت يا رهين أوزاره و يا من سلب من أهله و دياره ؟ ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد ، و أقل اهتمامك لحمل الزاد ، إلى سفرك البعيد ، و موقفك الصعب الشديد ، أو ما علمت يا مغرور : أن لا بد من الارتحال ، إلى يوم شديد الأهوال ، و ليس ينفعك ثم قيل و لا قال ، بل يعد عليك بين يدي الملك الديان ، ما بطشت اليدان ، و مشت القدمان و نطق به اللسان ، و عملت الجوارح و الأركان ، فإن رحمك فإلى الجنان ، و إن كانت الأخرى فإلى النيران ، يا غافلاً عن هذه الأحوال . إلى كم هذه الغفلة و التوان ، أتحسب أن الأمر صغير . و تزعم أن الخطب يسير ؟ و تظن أن سينفعك حالك ، إذا آن ارتحالك ، أو ينقذك مالك ، حين توبقك أعمالك ، أو يغني عنك ندمك ، إذا زلت بك قدمك ، أو يعطف عليك معشرك ، حين يضمك محشرمك ، كلا و الله ساء ما تتوهم و لا بد لك أن ستعلم . لا بالكفاف تقنع ، و لا من الحرام تشبع ، ولا للعظاة تستمع ، و لا بالوعيد ترتدع ، دأبك أن تنقلب مع الأهواء ، و تخبط خبط العشواء ، يعجبك التكاثر بما لديك ، و لا تذكر ما بين يديك ، يا نائماً في غفلة و في خبطة يقظان ، إلى كم هذه الغفلة و التوان ، أتزعم أن سترك سدى ، و أن لا تحاسب غداً ، أم تحسب أن الموت يقبل الرشا ، أم تميز بين الأسد و الرشا ، كلا و الله لن يدفع عنك الموت مال ولا بنون ، و لا ينفع أهل القبور إلا العمل المبرور ، فطوبى لمن سمع و وعى ، و حقق ما ادعى ، و نهى النفس عن الهوى ، و علم أن الفائز من ارعوى ، و أن ليس للإنسان إلا ما سعى * و أن سعيه سوف يرى فانتبه من هذه الرقدة ، و اجعل العمل الصالح لك عدة ، ولا تتمن منازل الأبرار ، و أنت مقيم على الأوزار عامل بعمل الفجار ، بل أكثر من الأعمال الصالحات ، و راقب الله في الخلوات . رب الأرض و السموات ، ولا يغرنك الأمل ، فتزهد عن العمل ، أو ماسمعت الرسول حيث يقول ، لما جلس على القبور : يا إخواني ، لمثل هذا فأعدوا ، أو ما سمعت الذي خلقك فسواك ، يقول : وتزودوا ، فإن خير الزاد التقوى .
و أنشدوا :
تزود من معاشك للمعاد و قم لله و اعمل خير زاد
و لا تجمع من الدنيا كثيراً فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد ؟
و قال آخر :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى و لاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله و أنك لم ترصد كما كان أرصدا
و قال آخر :
الموت بحر طافح موجه تذهب فيه حيلة السابح
يانفس إني قائل فاسمعي مقالة من مشفق ناصح
لا ينفع الإنسان في قبره غير التقى و العمل الصالح
و قال آخر :
أسلمني الأهل ببطن الثرى و انصرفوا عني فيا وحشتا
و غادروني معدماً يائساً ما بيدي اليوم إلا البكا
و كل ما كان كأن لم يكن و كل ما حذرته قد أتى
و ذا كم المجموع و المقتنى قد صار في كفي مثل الهبا
و لم أجد لي مؤنساً ها هنا غير فجور موبق أو بقا
فلو تراني و ترى حالتي بكيت لي يا صاح مما ترى
و قال آخر :
و لدتك إذ ولدتك أمك باكياً و القوم حولك يضحكون سروراً
فاعمل ليوم أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
و روي عن محمد القرشي قال : سمعت شيخنا يقول : أيها الناس : إني لكم ناصح ، و عليكم شفيق ، فاعملوا في ظلمة الليل لظلمة القبر . و صوموا في الحر قبل يوم النشور ، و حجوا يحط عنكم عظائم الأمور ، و تصدقوا مخافة يوم عسير .
و كان يزيد الرقاشي يقول في كلامه : أيها المقبور في حفرته ، المتخلى في القبر بوحدته ، المستأنس في بطن الأرض بأعماله ، ليت شعري بأي أعمالك استبشرت و بأي أحوالك اغتبطت ، ثم يبكي حتى يبل عمامته ، و يقول : استبشر ـ و الله ـ بأعماله الصالحة ، و اغتبط ـ و الله ـ بإخوانه المعاونين له على طاعة الله ، و كان إذا نظر إلى القبر صرخ كما يصرخ الثور . و سيأتي أن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه ، و ما فيه من الموعظة إن شاء الله تعالى .

باب ما جاء في اختيار البقعة للدفن
أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي ، قال : حدثني رجل من آل عمر ، عن عمر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، يقول : من زار قبري ـ أو قال : من زارني ـ كنت له شهيداً أو شفيعاً ، و من مات بأحد الحرمين بعثه الله عز و جل في الآمنين يوم القيامة . و خرجه الدارقطني عن حاطب . قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من زارني بعد موتي فكأنما زارني حياً في حياتي ، و من مات بأحد الحرمين ، بعث من الآمنين يوم القيامة .
و خرج البخاري و مسلم ، عن أبي هريرة ، قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام ، فلما جاء صكه ففقأ عينه. فرجع إلى ربه ، فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : فرد الله إليه عينه ، و قال : ارجع إليه ، و قل له : يضه يده على متن جلد ثور ، فله بما غطت يده كل شعرة سنة ، قال : أي رب ، ثم مه ؟ قال : ثم الموت ، قال : فالآن . فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية حجر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر .
و في رواية ، قال : جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام ، فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عين الملك ففقأها ، و ذكر نحوه .
قال الترمذي ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها ، فإني أشفع لمن مات بها صححه أبو محمد عبد الحق .
و في الموطأ أن عمر رضي الله عنه ، كان يقول : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك و وفاة في بلد نبيك .
و كان سعد بن أبي وقاص ، و سعيد بن زيد ، قد عهدا أن يحملا من العقيق إلى البقيع مقبرة المدينة فيدفنا بها ، و الله أعلم لفضل علموه هناك ، قال : فإن فضل المدينة غير منكور و لا مجهول ، و لو لم يكن إلا مجاورة الصالحين و الفضلاء من الشهداء و غيرها لكفى .
و روى عن كعب الأحبار أنه قال لبعض أهل مصر ، لما قال له : هل لك من حاجة ؟ فقال : نعم ، جراب من تراب سفح المقطم ، يعني : جبل مصر ، قال : فقلت له : يرحمك الله ، و ما تريد منه ؟ قال : أضعه في قبري ، قال له : تقول هذا و أنت بالمدينة و قد قيل في البقيع ما قيل ، قال : إنا نجد في الكتاب الأول أنه مقدس ما بين القصير إلى اليحموم . .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : البقاع لا تقدس أحداً و لا تطهره ، و إنما الذي يقدسه من وضر الذنوب و دنسها التوبة النصوح مع الأعمال الصالحة ، أما إنه قد يتعلق بالبقعة تقديس ما ، و هو إذا عمل العبد فيها عملاً صالحاً ضوعف له بشرف البقعة مضاعفة تكفر سيئاته ، و ترجح ميزانه ، و تدخله الجنة ، و كذلك تقديسه إذا مات على معنى التتبع لصالح ، لا أنها توجب التقديس ابتداء .
و قد روى مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : ما أحب أن أدفن بالبقيع ، لأن أدفن في غيره أحب إلي . ثم بين العلة ، فقال : مخافة أن تنبش لي عظام رجل صالح ، أو نجاور فاجراً ، و هذا تستوي فيه سائر البقاع ، فدل على أن الدفن بالأرض المقدسة ليس بالمجمع عليه ، و قد يستحسن الإنسان أن يدفن بموضع قرابته و إخوانه و جيرانه ، لا لفضل و لا لدرجة .
فصل : إن قال قائل : كيف جاز لموسى عليه السلام أ ن يقدم على ضرب ملك الموت حتى فقأ عينه ؟ فالجواب من وجوه ستة :
الأول : أنها كانت عيناً متخيلة ، لا حقيقة لها ، و هذا القول باطل . لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء . من صور الملائكة لا حقيقة لها ، و هذا مذهب السالمية .
الثاني : أنها كانت عيناً معنوية فقأها بالحجة ، و هذا مجاز لا حقيقة له .
الثالث : أنه لم يعرفه ، و ظنه رجلاً دخل منزله بغير إذنه ، يريد نفسه فدافع عنها ، فلطمه : ففقأ عينه ، و تجب المدافعة في مثل هذا بكل ممكن ، و هذا وجه حسن ، لأنه حقيقة في العين و الصك ، قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة إلا أنه اعترض بما في الحديث نفسه ، و هو أن ملك الموت عليه السلام لما رجع إلى الله تعالى ، قال : يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، فلو لم يعرفه موسى لما صدر هذا القول من ملك الموت .
الرابع : أن موسى عليه السلام كان سريع الغضب ، و سرعة غضبه كانت سبباً لصكه ملك الموت ، قاله ابن العربي في الأحكام ، و هذا فاسد ، لأن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا و الغضب .
الخامس : ما قاله ابن مهدي رحمه الله : أن عينه المستعارة ذهبت لأجل أنه جعل له أن يتصور بما شاء ، فكأن موسى عليه السلام لطمه و هو متصور بصورة غيره بدلالة أنه رأى بعد ذلك معه عينه .
السادس : و هو أصحها إن شاء الله ، و ذلك أن موسى عليه السلام كان عنده ما أخبر تبيناً عليه السلام من أن الله تعالى لا يقبض روحه حتى يخيره ـ خرجه البخاري و غيره ـ فلما جاءه ملك الموت على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته و قوة نفسه إلى أدبه . فلطمت ففقئت عينه امتحاناً لملك الموت . إذ لم يصرح له بالتخير ، و مما يدل على صحة هذا : أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة و الموت . اختار الموت و استسلم ، و الله بغيبه أعلم و أحكم ، و ذكره ابن العربي في قبسه بمعناه و الحمد لله .
و قد ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كان ملك الموت عليه السلام يأتي الناس عياناً حتى أتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه الحديث بمعناه . و في آخره فكان يأتي الناس بعد ذلك في خفية .
 
باب يختار للميت قوم صالحون يكون معهم
خرج أبو سعيد الماليني في كتاب المؤتلف و المختلف ، و أبو بكر الخرائطي في كتاب القبور ، من حديث سفيان الثوري ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن ابن الحنفية ، عن علي رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ندفن موتانا وسط قوم صالحين . فإن الموتى يتأذون بالجار السوء كما يتأذى به الأحياء .
و عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا مات لأحدكم الميت فحسنوا كفنه ، و عجلوا إنجاز وصيته ، و أعمقوا له في قبره و جنبوه جار السوء قيل : يا رسول الله : و هل ينفع الجار الصالح في الآخرة ؟ قال : هل ينفع في الدنيا قالوا : نعم . قال : كذلك ينفع في الآخرة . ذكره الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار .
و خرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس عن عمه نافع بن مالك ، عن أبيه عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أدفنوا موتاكم وسط قوم صالحين . فإن الميت يتأذى بالجار السوء .
فصل قال علماؤنا : و يستحب لك ـ رحمك الله ـ أن تقصد بميتك قبور الصالحين . و مدافن أهل الخير . فندفنه معهم ، و تنزله بإزائهم ، و تسكنه في جوارهم ، تبركا بهم ، و توسلاً إلى الله عز و جل بقربهم ، و أن تجتنب به قبور من سواهم ، ممن يخاف التأذي بمجاورته ، و التألم بمشاهدة حاله حسب ما جاء في الحديث .
يروى أن امرأة دفنت بقرطبة ـ أعادها الله ـ فأتت أهلها في النوم فجعلت تعتهم و تشكوهم و تقول : ما وجدتم أن تدفنوني إلا إلى فرن الجير ؟ فلما أصبحوا نظروا فلم يروا في ذلك الموضع كله و لا بقربه فرن جير . فبحثوا و سألوا عن من كان مدفوناً بإزائها ؟ فوجدوه رجلاً سيافاً كان لابن عامر و قبره إلى قبرها . فأخرجوها من جواره . ذكر هذا أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له .
و عن أعرابي أنه قال لوالده : ما فعل الله بك ؟ قال : ما ضرني إلا أني دفنت بإزاء فلان ، و كان فاسقاً قد روعني ما يعذب به من أنواع العذاب .
و روى أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له و حدثني أبو الوليد رباح بن الوليد الموصلي . قال : و حدثت عن عبد الملك بن عبد العزيز عن طاووس بن ذكوان اليماني ، أنه أخبرهم أنه قدم حاجاً فمر بالأبطح عند المقابر مع رفقاء له فقال : بينما أنا أصلي في جوف الليل و علي برد لي أحرش أخذته باليمن بسبعين ديناراً و قبر قريب مني محفور . إذ رأيت شمعاً قد أقبل به مع جنازة . فإذا قائل يقول في قبر قريب من القبر المحفور : اللهم إني أعوذ بك من الجار السوء . قال : فركعت ثم سجدت و سلمت . ثم خرجت حتى لقيت أصحاب الجنازة فسلمت و قلت : لا تقربونا و تنحوا عنا ـ عافاكم الله ـ قالوا : ما نستطيع ذلك . و قد حفرنا قبرنا هذا . و لا نستطيع أن نذهب إلى غيره . فقلت : من أولى بالجنازة ؟ فقالوا : هذا ابنه . فقلت له : هل لك أن تتنحى عنا و تناولني ثوبك هذا الذي عليك فألبسه و أعطيك بردي هذا ، فإني قد أخذته باليمن بسبعين ديناراً و هو ها هنا خير من سبعين ؟ فإن كان على أبيك دين قضيته عنه . و إن لم يكن ، انتفع بذلك الورثة . و تكف عنا ما نكره . قال : فأنكر القوم قولي أن يكون على رجل برد يلتف به ثمنه سبعون ديناراً . فاحتجت إلى أن أخبرهم من أنا ؟ فقلت : تعرفون طاووس اليماني ؟ قالوا : نعم . قلت : فأنا طاووس اليماني و ما قلت في البرد إلا حقاً . فناولني الرجل رداءه و أخذ ردائي و انصرف عنا ، و أقبلت حتى وقفت على صاحب القبر . فقلت : ما كان لك ليجاورك جار تكرهه و أنا أستطيع رده . ثم عدت إلى صلاتي .

باب ما جاء أن الموتى يتزاورون في قبورهم و استحسان الكفن لذلك
الترمذي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه خرج الحافظ أبو نصر عبد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجستاني في كتاب الإبانة له . حدثنا هبة الله بن إبراهيم بن عمر قال : حدثنا علي بن الحسين بن بندار . قال : حدثنا محمد بن الصفار ، قال : حدثنا معاوية . قال : حدثنا زهير بن معاوية ، عن أبي الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حسنوا أكفان موتاكم ، فإنهم يتباهون و يتزاورون في قبورهم . و في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه .
باب ما جاء في كلام القبر كل يوم وكلامه للعبد إذا وضع فيه

الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مصلاه فرأى ناساً يكشرون ، فقال : أما أنكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى ـ يعني الموت ـ فأكثروا ذكر هاذم اللذات : الموت . فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه . فيقول : أنا بيت الغربة ، و أنا بيت الوحدة ، و أنا بيت التراب ، و أنا بيت الدود . فإذا دفن العبد المؤمن . قال له القبر : مرحباً و أهلاً أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي ، فإذا وليتك اليوم و صرت إلي فسترى صنيعي بك فيتسع له مد بصره ، و يفتح له باب الجنة . و إذا دفن العبد الفاجرأو الكافر قال له القبر : لا مرحباً و لا أهلاً . أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي . فإذ وليتك اليوم و صرت إلي فسترى صنيعي بك قال : فيلتئم عليه حتى يلتقي و تختلف أضلاعه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بأصابعه فأدخل بعضها جوف بعض . قال : و يقيض الله له تسعين تنيناً أو تسعة و تسعين لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا ، فتنهشه حتى يفضى به إلى الحساب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار قال أبو عيسى : هذا حديث غريب .
و خرج هناد بن السرى قال : حدثنا حسن الجعفي ، عن مالك بن مغول ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : يجعل الله للقبر لساناً ينطق به فيقول : ابن آدمن كيف نسيتني ؟ أما علمت أني بيت الدود ، و بيت الوحدة ، و بيت الوحشة .
قال : و حدثنا وكيع ، عن مالك بن مغول ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : إن القبر ليبكي و يقول في بكائه : أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الوحدة ، أنا بيت الدود .
و ذكر أبو عمر بن عبد البر ، روى يحيى بن جابر الطائي ، عن ابن عائذ الأزدي عن غضيف بن الحارث قال : أتيت بيت المقدس أنا و عبد الله بن عبيد بن عمير قال : فجلسنا إلى عبد الله بن عمر بن العاص فسمعته يقول : إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول : يا ابن آدم ما غرك بي ؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة ؟ ألم تعلم أني بيت الظلمة ؟ ألم تعلم أني بيت الحق ؟ يا ابن آدم ما غرك بي ؟ ! لقد كنت تمشي حولي فداداً . قال ابن عائذ : قلت لغضيف : ما الفداد يا أبا اسماعيل ؟ قال : كبعض مشيتك يا ابن أخي . قال غضيف : فقال لصاحبي ـ و كان أكبر مني ـ لعبد الله بن عمرو : فإن كان مؤمناً فماذا له ؟ قال : يوسع له في قبره و يجعل منزله أخضر و يعرج بروحه إلى السماء . ذكره في كتاب التمهيد .
و ذكره أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له ، عن أبي الحجاج الثمالي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول القبر للميت إذا وضع فيه : ويحك يا ابن آدم ما غرك بي ؟ ألم تعلم أني بيت الفتنة . و بيت الظلمة . و بيت الدود ؟ ما غرك إذ كنت تمر بي فداداً ؟ قال : فإنا كان صالحاً أجاب عنه مجيب القبر . فيقول : أرأيت إن كان ممن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ؟ قال فيقول القبر : فإني أعود عليه خضراً و يعود جسده نوراً . و تصعد روحه إلى رب العالمين . ذكر هذا الحديث أبو أحمد الحاكم في كتاب الكنى ، و ذكره أيضاً قاسم بن أضبع قال : قيل لأبي الحجاج ما الفداد ؟ قال : الذي يقدم رجلاً و يؤخر أخرى . يعني الذي يمشي مشية المتبخر .
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا داود بن ناقد قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول : بلغني أن الميت يقعد في حفرته و هو يسمع وخط مشيعيه و لا يكلمه شيء أول من حفرته فتقول : ويحك يا ابن آدم قد حذرتني و حذرت ضيقي و ظلماتي . و نتني و هولي . هذا ما أعددت لك فما أعددت لي ؟
الوخط و الوخد : سرعة السير في المشي .
و قال سفيان الثوري : من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة . و من غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار .
و قال أحمد بن حرب تتعجب الأرض ممن يمهد مضجعه ، و يسوي فراشه لنوم . و تقول : يا ابن آدم ألا تذكر طول رقادك في جوفي ، و ما بيني و بينك شيء ؟ .
و قيل لبعض الزهاد : ما أبلغ العظات ؟ قال : النظر إلى محلة الأموات . و لقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول :
وعظتك أجداث صمت و نعتك أزمنة خفت
و تكلمت عن أوجه تبلى و عن صور سبت
و أرتك نفسك في القبور و أنت حي لم تمت
و روي عن الحسن البصري أنه قال : كنت خلف جنازة فاتبعتها ، حتى وصلوا بها إلى حفرتها ، فنادت امرأة فقالت : يا أهل القبور لو عرفتم من نقل إليكم لأعززتموه ؟ قال الحسن : فسمعت صوتاً من الحفرة و هو يقول : قد و الله نقل إلينا بأوزار كالجبال و قد أذن لي أن آكله حتى يعود رميماً . قال : فاضطربت الجنازة فوق النعش . و خر الحسن مغشياً عليه .
باب ما جاء في ضغط القبر على صاحبه و إن كان صالحاً

النسائي عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : هذا الذي تحرك له عرش الرحمن و فتحت له أبواب السماء ، و شهده سبعون ألفاً من الملائكة ، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه قال أبو عبد الرحمن النسائي يعني سعد بن معاذ .
و من حديث شعبة بن الحجاج بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ .
و ذكر هناد بن السرى ، حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن أبي ملكية قال : ما أجير من ضغطة القبر أحد . و لا سعد بن معاذ . الذي منديل من مناديله خير من الدنيا و ما فيها . قال : و حدثنا عبدة بن عبيد الله بن عمر عن نافع قال : و لقد بلغني أنه شهد جنازة سعد بن معاذ سبعون ألف ملك . لم ينزلوا إلى الأرض قط .
و لقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لقد ضم صاحبكم في القبر ضمة .
و خرج علي بن معبد في كتاب الطاعة و المعصية عن نافع قال : أتينا صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر و هي فزعة . فقلنا : ما شأنك ؟ قالت : جئت من عند بعض نساء النبي صلى الله عليه و سلم ، فحدثتني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن كنت لأرى أن أحداً لو أعفي من عذاب القبر ، لأعفي منه سعد بن معاذ لقد ضم فيه ضمة .
و خرج أيضاً عن زاذان أن أبي عمر قال : لما دفن رسول الله صلى الله عليه و سلم ابنته زينب جلس عند القبر فتربد وجهه ، ثم سرى عنه فقال له أصحابه : رأينا وجهك يا رسول الله تربد آنفاً ، ثم سرى عنك . فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ذكرت ابنتي و ضعفها ، و عذاب القبر فدعوت الله ففرج عنها ، و أيم الله لقد ضمت ضمة سمعها ما بين الخافقين .
و خرج أيضاً بسنده عن إبراهيم الغنوي عن رجل . قال : كنت عند عائشة فمرت جنازة صبي صغير فبكت . فقلت لها : ما يبكيك يا أم المؤمنين ؟ فقالت : هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر .
قلت : و هذا الخبر ، و إن كان موقوفاً على عائشة رضي الله عنه . فمثله لا يقال من جهة الرأي .
و قد روى عمر بن شبة في كتاب المدينة ـ على سكانها السلام ـ في ذكر وفاة فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : بينما هو صلى الله عليه و سلم في أصحابه أتاه آت . فقال : إن أم علي و جعفر و عقيل قد ماتت . فقال : قوموا بنا إلى أمي قال : فقمنا كأن على رؤوسنا الطير . فلما انتهينا إلى الباب نزع قنيصه و قال : إذا كفنتموها فأشعروه إياه تحت أكفانها فلما خرجوا بها جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم مرة يحمل ، و مرة يتقدم . و مرة يتأخر حتى انتهينا بها إلى القبر فتمعك في اللحد . ثم خرج و قال : أدخلوها بسم الله . و على اسم الله فلما دفنوها قام قائماً و قال : جزاك الله من أم . و ربيبة خيراً و سألناه عن نزع قميصه ، و تمعكه في اللحد ؟ فقال : أردت أن لا تمسها النار أبداً . إن شاء الله تعالى . و أن يوسع الله عليها قبرها و قال : ما عفى أحد من ضغطة القبر ، إلا فاطمة بنت أسد قيل يا رسول الله : و لا القاسم ابنك ؟ قال : و لا إبراهيم و كان أصغرهما ، و رواه أبو نعيم الحافظ عن عاصم الأحول عن أنس بمعناه . و ليس فيه السؤال بتمعكه إلى آخره .
قال أنس : لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فجلس عند رأسها . فقال : رحمك الله يا أمي . كنت أمي بعد أمي . تجوعين و تشبعينني . و تعرين و تكسونني . و تمنعين نفسك طيب الطعام . و تطعمينني . تريدين بذلك وجه الله و الدار الآخرة . ثم أمر أن تغسل ثلاثاً فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده ، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه و سلم قميصه و ألبسها إياه و كفنها فوقه . ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم : أسامة بن زيد و أبا أيوب الأنصاري ، و عمر بن الخطاب و غلاماً أسود يحفرون قبرها ، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أخرج ترابه بيده ، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاضطجع فيه ثم قال : الحمد لله الذي يحيي و يميت ، و هو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد و لقنها حجتها و وسع عليها مدخلها بحق نبيك و الأنبياء الذين من قبلي إنك أرحم الراحمين و كبر عليها أربعاً و أدخلها اللحد هو و العباس و أبو بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين .


باب منه و ما جاء أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه و هم من شر الناس له
روى أبو هدبة قال إبراهيم بن هدبة ، قال : حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن العبد الميت إذا وضع في قبره ، و أقعد . قال : يقول أهله : وا سيداه وا شريفاه وا أميراه قال : يقول الملك : اسمع ما يقولون . أنت كنت سيداً ؟ أنت كنت أميراً . أنت كنت شريفاً ؟ قال : يقول الميت : يا ليتهم يسكتون قال : فيضعط ضغطة تختلف فيها أضلاعه .
فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم : قال بعض العلماء أو أكثرهم : إنما يعذب الميت ببكاء الحي . إذا كان البكاء من سنة الميت و اختياره ، كما قال :
إذا مت فانعيني بما أنا أهله و شقي علي الجيب يا ابنة معبد
و كذلك إذا وصى به . و قد روى ما يدل على أن الميت يصيبه عذاب ببكاء الحي عليه و إن لم يكن من سنته و لا من اختياره و لا مما أوصى به . و استدلوا بحديث أنس المذكور . و بما روى من حديث قيلة بنت مخرمة . و ذكرت عند النبي صلى الله عليه و سلم ولداً لها مات ثم بكت . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيغلب أحيدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفاً . فإذا حال بينه و بينه من هو أولى به منه استرجع ؟ ثم قال : اللهم أثبني فيما أمضيت ، و أعني على ما أبقيت . فو الذي نفس محمد بيده إن أحيدكم ليبكي فيستعبر له صويحبه . يا عباد الله لا تعذبوا موتاكم ذكره ابن أبي خيثمة ، و أبو بكر بن أبي شيبة و غيرهما . و هو حديث معروف إسناده لا بأس به و سياقه يدل على أن بكاء هذه لم يكن من اختيار لابنها لأن ابنها صاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم . و لا كان هذا البكاء المعروف في الجاهلية الذي كان من اختيار الميت و مما يوصي به .
و ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الميت يعذب ببكاء الحي عليه . إذا قالت النائحة وا عضده وا ناصراه وا كاسياه جبذ الميت و قيل له : أنت ناصرها ؟ أنت كاسيها .
و ذكر البخاري من حديث النعمان بن بشير قال : أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلتلا أخته عمرة تبكي و تقول : و اجبلاه . واكذا . واكذا . تعدد عليه فقال حينت أفاق : ما قلت شيئاً إلا قيل لي : أأنت كذلك ؟ فلما مات لم تبك عليه . و هذا أيضاً لم يكن من سنة عبد الله بن رواحة ، و لا من اختياره ، و لا مما أوصى به ، فصابه في الدين أجل و أرفع من أن كان يأمر بهذا أو يوصي به .
و روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث منصور بن زاذان ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله ليعذب الميت بصياح أهله عليه فقال له رجل : يموت بخراسان و يناح عليه ها هنا ؟ فقال عمران : صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم . و كذبت .
قال المؤلف رضي الله عنه : و هذا بظاهره أن بنفس الصياح يقع التعذيب و ليس كذلك . و إنما هو محمول على ما ذكرناه . و الله أعلم .
و قال الحسن : إن من شر الناس للميت : أهله يبكون عليه ، و لا يقضون دينه .
 
باب ما ينجي من ضغطة و فتنته

روى أبو نعيم من حديث أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره . و أمن من ضغطة القبر . و حملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة قال : هذا حديث غريب من حديث يزيد تفرد به نصر بن حماد البجلي .
باب ما يقال عند وضع الميت في قبره و في اللحد في القبر
اللحد : هو أن يحفر للميت في جانب القبر ، إن كان الأرض صلبة ، و هو أفضل من الشق . فإنه الذي اختاره الله لنبيه صلى الله عليه و سلم .
روى ابن ماجه عن ابن عباس قال : لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، بعثوا إلى أبي عبيدة ، و كان يضرح كضريح أهل مكة ، و بعثوا إلى أبي طلحة و كان هو الذي يحفر لأهل المدينة . و كان يلحد . فبعثوا إليهما رسولين ، قالوا : اللهم خر لرسولك . فوجدوا أبا طلحة فجيء به ، و لم يوجد أبو عبيدة فلحد لرسول الله صلى الله عليه و سلم .
و روى أبو داود عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللحد لنا . و الشق لغيرنا خرجه ابن ماجه و الترمذي و قال : حديث حسن غريب ، و أنشدوا :
ضعوا خجي على لحدي ضعوه و من عفر التراب فوسدوه
و شقوا عنه أكفاناً رقاقاً و في الرمس البعيد فغيبوه
فلو أبصرتموه إذا تقضت صبيحة ثالث أنكرتموه
و قد سالت نواظر مقلتيه على وجناته و انفض فوه
و ناداه البلا : هذا فلان هلموه فانظروا هل تعروفه
حبيبكم و جاركم المفدى تقادم عهده فنسيتموه
و قال آخر :
و ألحدوا محبوبهم و انثنوا و همهم تحصيل ما خلفا
و غادروه مسلماً مفرداً في رمسه رهناً بما أسلفا
و لم يزود من جميع الذي باع به أخراه إلا لفا
و خرج أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول . عن سعيد بن المسيب قال : حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال : بسم الله و في سبيل الله ، فلما أخذ في تسوية اللحد . قال : اللهم أجرها من الشيطان . ومن عذاب القبر فلما سوى الكثيب عليها ، قام جانب القبر ثم قال : اللهم جاف الأرض عن جنبيها ، و صعد روحها ، و لقها منك رضواناً . فقلت لابن عمر : شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم : أم شيئاً قلته من رأيك ؟ قال : إني إذا لقادر على القول . بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم . خرجه ابن ماجه أيضاً في سننه .
و قال أبو عبد الله الترمذي رحمه الله : حدثني أبي رحمه الله . قال : حدثنا الفضل بن ذكين عن سفيان عن الأعمش عن عمرو بن مرة . قال : كانوا يستحبون إذا وضع الميت في اللحد أن يقولوا : اللهم أعذه من الشيطان الرجيم .
و روي عن سفيان الثوري أنه قال : إذا سئل الميت : من ربك ؟ تراءى له الشيطان في صورة فيشير إلى نفسه : إني أنا ربك ، قال أبو عبد الله : فهذه فتنة عظيمة . و لذلك كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو بالثبات ، فيقول : اللهم ثبت عند أحدهما منطقه . و افتح أبواب السماء لروحه فلو لم يكن للشيطان هناك سبيل ما كان ليدعو له رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجبره من الشيطان . فهذا تحقيق لما روى عن سفيان . ذكره في الأصل التاسع و الأربعين و المائتين .
باب الوقوف عن القبر قليلاً بعد الدفن و الدعاء بالتثبيت له
مسلم عن بن شماسة المهري ، قال : حضرنا عمرو بن العاص و هو في سياقة الموت ، الحديث : و فيه : فإذا دفنتموني فشنوا على التراب شناً ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر و يقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم ، و أنظر ماذا أرجع به رسل ربي عز و جل ؟ أخرجه ابن المبارك بمعنى مسلم من حديث ابن لهيعة .
قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه و قال فيه و شدوا على إزاري فإني مخاصم . و شنوا على التراب شناً . فإن جنبي الأيمن ليس أحق بالتراب من جنبي الأيسر ، ولا تجعلن في قبري خشبة و لا حجراً ، و إذا و اريتموني فاقعدوا عند قبري قدر نحر جزور و تقطعيها . استأنس بكم .
أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه و قال : استغفروا لأخيكم و اسألوا له بالتثبيت فإنه الآن يسأل .
و أخرج أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دفن ميتاً وقف و سأل له التثبيت ، و كان يقول : ما يستقبل المؤمن من هول الآخرة إلا و القبر أفظع منه .
و خرج أبو نعيم في باب عطاء بن ميسرة الخراساني إلى عثمان رضي الله عنه ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقف على قبر رجل من أصحابه حين فرغ منه فقال : إنا و الله و إنا إليه راجعون ، اللهم نزل بك . و أنت من خير منزول به ، جاف الأرض عن جنبيه ، و افتح أبواب السماء لروحه ، و أقبله منك بقبول حسن . و ثبت عند المسائل منطقه غريب من حديث عطاء .
فصل قال الآجري أبو بكر ، محمد بن الحسين في كتاب النصيحة : يستحب الوقوف بعد الدفن قليلاً ، و الدعاء للميت مستقبل وجهه بالثبات ، فيقال : اللهم هذا عبدك و أنت أعلم به منا . و لانعلم منه إلا خيراً ، و قد أجلسته لتسأله ، اللهم فثبته بالقول الثابت في الآخرة ، كما ثبته في الحياة الدنيا ، اللهم ارحمه و ألحقنه بنبيه محمد صلى الله عليه و سلم ، و لا تضلنا بعده و لا تحرمنا أجره . و حدثنا أبو عبد الله الترمذي : فالوقوف على القبر و سؤال التثبيت في وقت دفنه مدد للميت بعد الصلاة ، لأن الصلاة بجماعة المؤمنين كالعسكر له قد اجتمعوا بباب الملك يشفعون له ، و الوقوف على القبر لسؤال التثبيت مدد للعسكر و تلك ساعة شغل للميت . و لأنه يستقبله هول المطلع و سؤال و فتنة فتاني القبر ـ على ما يأتي ـ و الجزور بفتح الجيم من الإبل .
و الجزرة من الضأن و المعز خاصة . قاله في الصحاح .
فصل قول عمرو بن العاص رضي الله عنه ، فإذا أنا مت فلا تصبحبني نائحة و لا نارة . توصية منه باجتناب هذين الأمرين ، لأنهما من عمل الجاهلية ، و لنهي النبي صلى الله عليه و سلم .
قال العلماء : و من ذلك الضجيج بذكر الله سبحانه وتعالى أو بغير ذلك حول الجنائز و البناء على المقابر ، و الاجتماع في الجبانات و المساجد للقراءة و غيرها لأجل الموتى ، و كذلك الاجتماع إلى أهل الميت ، وضيعة الطعام ، و المبيت عندهم . كل ذلك من أمر الجاهلية و نحو منه الطعام الذي يصنعه أهل الميت اليوم في يوم السابع . فيجتمع له الناس يريدون بذلك القربة للميت و الترحم عليه ، و هذا محدث لم يكن فيما تقدم ، و لا هو مما يحمده العلماء . قالوا : و ليس ينبغي للمسلمين أن يقتدوا بأهل الكفر ، و ينهى كل إنسان أهله عن الحضور لمثل هذا و شبهه من لطم الخدود ، و نشر الشعور ، و شق الجيوب ، و استماع النوح ، و كذلك الطعام الذي يصنعه أهل الميت ـ كما ذكرنا ـ فيجتمع عليه النساء و الرجال من فعل قوم لا خلاق لهم .
و قال أحمد بن حنبل : هوز من فعل الجاهلية ، قيل له : أليس قد قال النبي صلى الله عليه و سلم اصنعوا لآل جعفر طعاماً ؟ فقال : لم يكونوا هم اتخذوا . إنما اتخذ لهم فهذا كله واجب على الرجل أن يمنع أهله منه . و لا يرخص لهم ، فمن أباح ذلك لأهله فقد عصى الله عز و جل ، و أعانها على الإثم و العدوان ، و الله تعالى يقول : قوا أنفسكم و أهليكم ناراً قال العلماء : معناه أدبوهم و علموهم .
و روى ابن ماجه في سننه عن جرير بن عبد الله البجلي ، قال : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت و صنعة الطعام من النياحة . و في حديث شجاع بن مخلد قال : كانوا يرون أن إسناده صحيح . و ذكر الخرائطي عن هلال بن خباب ، قال : الطعام على الميت من أمر الجاهلية .
و خرج الآجري عن أبي موسى قال : ماتت أخت لعبد الله بن عمر . فقلت لامرأتي : اذهبي فعزيهم . و بيتي عندهم ، فقد كان بيننا و بين آل عمر الذي كان ، فجاءت فقال : ألم أمرك أن تبيتي عندهم ؟ فقالت : أردت أن أبيت ، فجاء ابن عمر فأخرجنا . و قال : اخرجن لا تبتين أختي بالعذاب . و عن أبي البختري قال : بيتونة الناس عند أهل الميت ليست إلا من أمر الجاهلية .
قال المؤلف رحمه الله : و هذه الأمور كلها قد صارت عند الناس الآن سنة و تركها بدعة ، فانقلب الحال و تغيرت الأحوال . قال ابن عباس رضي الله عنه : لا يأتي على الناس عام إلا أماتوا فيه سنة . و أحيوا فيه بدعة . حتى تموت السنن و تحيا البدع ، و لن يعمل بالسنن و ينكر البدع إلا من هون الله عليه إسخاط الناس بمخالفتهم فيما أرادوا ، و نهيهم عما اعتادوا و من يسر لذلك أحسن الله تعويضه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك لن تدع شيئاً إلا عوضك الله خيراً منه ، و قال صلى الله عليه و سلم : لا يزال في هذه الأمة عصابة يقاتلون على أمر الله لا يضرهم جدال من جادلهم و لا عداوة من عاداهم .
فصل : و من هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس منا من لطم الخدود و شق الجيوب . و دعا بدعوى الجاهلية و فيهما أيضاً عن أبي بردة بن أبي موسى قال : وجع أبو موسى وجعاً فغشي عليه و رأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله ، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً فلما أفاق قال : أنا برىء مما برىء منه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم برىء من الصالقة و الحالقة و الشاقة .
و في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد و أبي بردة بن أبي موسى قالا : أغمي على أبي موسى و أقبلت امرأته تصيح برنة ، قالا : ثم أفاق ، قال : ألم تعلمي ـ و كان يحدثها ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أنا بريء ممن حلق و سلق و خرق ؟ .
ابن ماجه عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن الخامشة وجهها ، و الشاقة جيبها ، و الداعية بالويل و الثبور ، إسناده صحيح . و قال حاتم الأصم : إذا رأيت صاحب المصيبة قد خرق ثوبه ، و أظهر حزنه ، فعزيته فقد أشركته في إثمه و إنما هو صاحب منكر ، يحتاج أن تنهاه . و قال أبو سعيد البلخي : من أصيب بمصيبة فمزق ثوباً ، أو ضرب صدراً ، فكأنما أخذ رمحاً يريد أن يقاتل به ربه عز و جل و أنشدوا :
عجبت لجازع ، باك مصاب بأهل ، أو حميم ذي اكتئاب
شقيق الجيب ، داعي الويل ، جهلاً كأن الموت كالشيء العجاب
و سوى الله فيه الخلق حتى نبي الله منه لم يحاب
له ملك ينادي كل يوم : لدوا للموت و ابنوا للخراب
باب ما جاء في تلقين الإنسان بعد موته شهادة الإخلاص في لحده
ذكر أبو محمد عبد الحق يروي عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب . فليقم أحدكم على رأس قبره ، ثم يقول : يا فلان ابن فلانة فإنه يسمع و لا يجيب ، ثم ليقل : يا فلان ابن فلانة الثانية فإنه يستوي قاعداً ، ثم يقول : يا فلان ابن فلانة الثالثة فإنه يقول : أرشدنا رحمك الله ، و لكنكم لا تسمعون . فيقول : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله ، و أن محمداً رسول الله ، و أنك رضيت بالله رباً ، و بالإسلام ديناً ، و بمحمد صلى الله عليه و سلم نبياً ، و بالقرآن إماماً ، فإن منكراً و نكيراً يتأخر كل واحد منهما . و يقول : انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا ، و قد لقن حجته ، و يكون الله حجيجهما دونه . فقال رجل : يا رسول الله فإن لم تعرف أمه ؟ قال : ينسبه إلى أمه حواء .
قلت : هكذا ذكره أبو محمد في كتاب العاقبة لم يسنده إلى كتاب و لا إلى إمام ، و عادته في كتبه نسبة ما يذكره من الحديث إلى الأئمة ، و هذا و الله أعلم ، نقله من إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد فنقله كما وجد و لم يزد عليه . و هو حديث غريب . خرجه الثقفي في الأربعين له ، أنبأناه الشيخ المسن الحاج الرواية : أبو محمد عبد الوهاب بن ظافر بن علي بن فتوح بن أبي الحسن القرشي ـ عرف بابن رواح ـ بمسجده بثغر الإسكندرية حماه الله ، و الشيخ الفقيه الإمام مفتي الأنام أبو الحسن علي بن هبة الله الشافعي بمنية ابن خصيب . على ظهر النيل بها قالا جميعاً : حدثنا الشيخ الإمام الحافظ أبو ظاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني قالا : أخبرنا الرئيس أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد بن محمود الثقفي بأصبهان . أخبرنا أبو علي الحسين بن عبد الرحمن بن محمد بن عبدان التاجر بنيسابور ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا أبو الدرداء هاشم بن يعلى الأنصاري ، حدثنا عتبة بن السكن الفزاري الحمصي ، عن أبي زكريا ، عن حماد بن زيد ، عن سعيد الأزدي قال : دخلت على أبي أمامة الباهلي و هو في النزع فقال لي : يا سعيد إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نصنع بموتانا . فقال : إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل : يا فلان ابن فلانة فإنه سيسمع . فليقل يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعداً . فليقل يا فلان ابن فلانة فإنه سيقول : أرشدنا يرحمك الله فلقيل : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله ، و أن محمداً عبده و رسوله ، و أن الساعة آتية لا ريب فيها ، و أن الله باعث من في القبور ، فإن منكر و نكيراً عند
ذلك يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه و يقول : ما نصنع عند رجل لقن حجته فيكون الله حجيجهما دونه . حديث أبي أمامة في النزع غريب من حديث حماد بن زيد ما كتبناه إلا من حديث سعيد الأزدي .
قال أبو محمد عبد الحق : و قال شيبة بن أبي شيبة : أوصتني أمي عند موتها . فقالت لي : يا بني إذا دفنتني فقم عند قبري ، و قل يا أم شيبة ، قولي : لا إله إلا الله . ثم انصرف ، فلما كان من الليل رأيتها في المنام فقالت لي : يا بني لقد كدت أن أهلك . لولا أن تداركتني لا إله إلا الله . فلقد حفظتني في وصيتي يا بني .
قال المؤلف : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي : ينبغي أن يرشد الميت في قبره حيث يوضع فيه إلى جواب السؤال ، و يذكر بذلك فيقال له : قل الله ربي . و الإسلام ديني . و محمد رسولي فإنه عن ذلك يسأل . كما جاءت به الأخبار على ما يأتي إن شاء الله . و قد جرى العمل عندنا بقرطبة كذلك . فيقال : قل هو محمد رسول الله و ذلك عند هيل التراب و لا يعارض هذا بقوله تعالى : و ما أنت بمسمع من في القبور . و قوله : إنك لا تسمع الموتى لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد نادى أهل القليب و أسمعهم و قال : ما أنتم بأسمع . و لكنهم لا يستطيعون جواباً ، و قد قال في الميت : إنه ليسمع قرع نعالهم . و أن هذا يكون في حال دون حال و وقت دون وقت . وسيأتي استيفاء هذا المعنى في باب : ما جاء أن الميت يسمع ما يقال : إن شاء الله .
باب في نسيان أهل الميت ميتهم و في الأمل و الغفلة
أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن مشيعي الجنازة قد وكل بهم ملك فهم مهتمون محزنون حتى إذا أسلموه في ذلك القبر ، و رجعوا راجعين أخذ كفاً من تراب فرمى به و هو يقول : ارجعوا إلى دياركم أنساكم الله موتاكم فينسون ميتهم و يأخذون في شرائهم و بيعهم كأنهم لم يكونوا منه و لم يكن منهم .
و يروى أن الله عز و جل لما مسح على ظهر آدم عليه السلام فاستخرج ذريته قالت الملائكة : رب لا تسعهم الأرض قال الله تعالى : إني جاعل موتاً : قالت : رب لا يهنيهم العيش . قال : إني جاعل أملاً : فالأمل رحمة من الله تعالى ينتظم به أسباب المعاش . و يستحكم به أمور الدنيا . و يتقوى به الصانع على صنعته . و العابد على عبادته ، و إنما يدم من الأمل ما امتد و طال ، حتى أنسى العاقبة ، و ثبط عن صالح الأعمال . قال الحسن : الغفلة و الأمل : نعمتان عظيمتان على ابن آدم . و لولاهما ما مشى المسلمون في الطرق . يريد لو كانوا من التيقظ و قصر الأمل و خوف الموت بحيث لا ينظرون إلى معاشهم . و ما يكون سبباً لحياتهم . لهلكوا . و نحوه . قال مطرف بن عبد الله : لو علمت متى أجلي ؟ لخشيت ذهاب عقلي . و لكن الله سبحانه من على عباده بالغفلة عن الموت . و لولا الغفلة ما تهنوا بعيش و لا قامت بينهم الأسواق .
باب في رحمة الله بعبده إذا أدخل في قبره
قال عطاء الخراساني : أرحم ما يكون الرب بعبده . إذا دخل في قبره و تفرق الناس عنه و أهله . و روي عن ابن عباس مرفوعاً . و قال أبو غالب : كنت أختلف إلى أبي أمامة الباهلي بالشام ، فدخلت يوماً على فتى مريض من جيران أبي أمامة و عنده عم له و هو يقول : يا عدو الله ، ألم آمرك ؟ ألم أنهك ؟ فقال الفتى : يا عماه لو أن الله دفعني إلى والدتي : كيف كنت صانعة بي ؟ قال : تدخلك الجنة . قال : الله أرحم بي من والدتي ، و قبض الفتى ، فدخلت القبر مع عمه ، فلما أن سواه صاح و فزع . قلت له مالك ؟ قال : فسح له في قبره ، و ملئ نوراً .
و كان أبو سليمان الداراني يقول في دعائه : يا من لا يأنس بشيء أبقاه ، و لا يستوحش من شيء أفناه ، و يا أنيس كل غريب ، ارحم في القبر غربتي ، و يا ثاني كل وحيد ، آنس في القبر وحدتي . و لقد أحسن أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مفاوز السلمي الكاتب أحد البلغاء بشرق الأندلس حيث يقول :
أيها الواقف اعتباراً بقبري استمع فيه قول عظمي الرميم
أودعوني بطن الصريح و خافوا من ذنوبي و آيسوا من نعيم
قلت : لا تجزعوا علي فإني حسن الظن بالرؤوف الرحيم
و دعوني بما اكتسبت رهيناً غلق الرهن عند مولى كريم
باب متى يرتفع ملك الموت عن العبد ؟ و بيان قوله تعالى : و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد و قوله تعالى : لتركبن طبقاً عن طبق
أبو نعيم عن أبي جعفر محمد بن علي ، عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز و جل إن الله ـ لا إله غيره إذا أراد خلقه ـ قال للملك : اكتب رزقه و أثره و أجله ، و اكتب شقياً أو سعيداً ، ثم يرتفع ذلك الملك و يبعث الله ملكاً آخر فيحفظه حتى يدرك ، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته و سيئاته ، فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك المكان ، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام ، فيقبض روحه ، فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده ، ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ، ثم يرتفعان ، فإذا قامت الساعة ، انحط عليه ملك الحسنات و ملك السيئات فأنشطا كتاباً معقوداً في عنقه ، ثم حضرا معه : واحد سائق و الآخر شهيد ، ثم قال الله عز و جل : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في : لتركبن طبقاً عن طبق قال : حالاً بعد حال .
ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن قدامكم أمر عظيم . فاستعينوا بالله العظيم . قال أبو نعيم : هذا حديث غريب من حديث أبي جعفر و حديث جابر تفرد به عنه جابر ابن يزيد الجعفي و عنه المفضل .
قلت : جابر بن يزيد الجعفي متروك لا يحتج بحديثه في الأحكام . و وجد بمدينة قرطبة على قبر الوزير الكبير أبي عامر بن شهيد مكتوباً ، و هو مدفون بإزاء صاحبه الوزير أبي مروان الزجاجي ، و كأنه يخاطبه و دفنا في بستان كانا كثيراً ما يجتمعان فيه :
يا صاحبي قم فقد أطلنا أنحن طول المدى هجود ؟
فقال لي : لن تقوم منها ما دام من فوقنا الصعيد
نذكر كم ليلة نعمنا في ظلها و الزمان عيد
و كم ينير همى علينا سحابة ثرة بجود
كل كأن لم يكن تقضى و شؤمه حاضر عتيد
حصله كاتب حفيظ و ضمه صادق شهيد
يا حسرتا إن تنكبتنا رحمة من بطشه شديد
يا رب عفواً فأنت مولى قصر في حقه العبيد
 
باب في سؤال الملكين للعبد و في التعوذ من عذاب القبر و عذاب النار
البخاري عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن العبد إذا وضع في قبره ، و تولى عنه أصحابه . إنه ليسمع قرع نعالهم أتام ملكان فيقعد أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه و سلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله و رسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً . قال قتادة : و ذكر لنا أنه يفسح له في قبره أربعون ذراعاً . و قال مسلم : سبعون ذراعاً . و يملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون ثم رجع إلى حديث أنس قال : و أما المنافق و الكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس . فيقال : لا دريت و لا تليت . و يضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين .
قلت : ليس عند مسلم ، ثم رجع إلى حديث أنس إلى آخره و إنما هو عند البخاري . فحديثه أكمل . و قول الملكين : و لا تليت :
قال النحويون : الأصل في هذه الكلمة : الواو . أي و لا تلوت إلا أنها قلبت ياء ليتبع بها دريت . و قد جاء من حديث البراء : [ لا دريت و لا تلوث ] على ما رواه الإمام أحمد بن حنبل : أي لم تدر و لم تتل القرآن . فلم تنتفع بدرايتك و لا تلاوتك .
ابن ماجه ، عن أبي هريرة عن النبي قال : إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع و لا مشغوف ، ثم يقال له : فيم كنت ؟ فيقول : كنت في الإسلام ! فيقال : ما هذا الرجل ؟ فيقول : محمد رسول الله ، جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه . فيقال له : هل رأيت الله ؟ فيقول : لا ، ما ينبغي لأحد أن يرى الله ! فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً ، فيقال له : انظر إلى ما وقاك الله ، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها و ما فيها ، فيقال له : هذا مقعدك .
و يقال له : على اليقين كنت . و عليه مت . و عليه تبعث إن شاء الله تعالى ، و يجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مرعوباً فيقال له : فيما كنت ؟ فيقول : لا أدري . فيقال له : ما هذا الرجل ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون قولاً فقلته . فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظروا إلى زهرتها و ما فيها . فيقال له انظر إلى ما صرفه الله عنك ، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً ، فيقال : هذا مقعدك على الشك كنت . و عليه مت . و عليه تبعث إن شاء الله تعالى .
الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أقبر الميت ـ أو قال أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر . و للآخر النكير .
فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول ما كان يقول فيه : هو عبد الله و رسوله أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً عبده و رسوله ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم . فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان : ثم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك . و إن كان منافقاً قال : سمعت الناس يقولون قولاً . فقلت مثله : لا أدري . فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض : التئمي عليه . فتختلق أضلاعه . فلا يزال فيها فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك قال حديث حسن غريب .
أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخلاً نخلاً لبني النجار ، فسمع صوتاً ففزع ، فقال : من أصحاب هذه القبور ؟ قالوا : يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية ، فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر . و من فتنة الدجال قالوا : و مم ذاك يا رسول الله ؟ قال : إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك ، فيقول له : ما كنت .
تعبد ؟ فإن هداه الله . قال : كنت أعتبد الله فيقال : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول هو عبد الله و رسوله . فما يسأل عن شيء غيرها . فينطلق به إلى بيت كان له في النار . فيقال له : هذا بيتك كان في النار ، و لكن عصمك و رحمك فأبدلك بيتاً في الجنة فيقول دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي فيقال له : اسكن .
و إن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره و يقول : ما كنت تعبد ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول كما يقول الناس . فيضرب بمطارق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين .
و خرج أبو داود أيضاً عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار . فانتهينا إلى القبر و لما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم و جلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير و في يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ، قال : و إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له : من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ قال : و يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله ، فيقولان له : و ما يدريك ؟ قال : قرأت كتاب الله فآمنت و صدقت قال : فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة . و ألبسوه من الجنة . و افتحوا له باباً إلى الجنة قال : فيأتيه من روحها و طيبها قال : و يفسح له مد بصره .
قال : و إن الكافر فذكر موته قال : و تعاد روحه في جسده و يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه . لا أدري . فيقولان : ما هذا الرسول الذي بعث فيكم ؟ فيقول هاه هاه . لا أدري . قال : فينادي مناد : أن كذب عبدي . فأفرشوه من النار ، و ألبسوه من النار ، و افتحوا له باباً إلى النار قال : فيأتيه من حرها و سمومها قال : و يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه زاد في حديث جرير قال : ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً قال : فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق و المغرب إلا الثقلين فيصير تراباً ، ثم تعاد فيه الروح .
فصل : ذكره أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : و قد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله : ما أول ما يلقى الميت إذا دخل قبره ؟ قال : يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت . فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول : يا عبد الله اكتب عملك . فيقول : ليس معي دواة و لا قرطاس فيقول : هيهات كفنك قرطاسك ، و مدادك ريقك ، و قلمك إصبعك . فيقطع له قطعة من كفنه . ثم يجعل العبد يكتب ، و إن كان غير كاتب في الدنيا . فيذكر حينئذ حسناته و سيئاته كيوم واحد ، ثم يطوى الملك القطعة و يعلقها في عنقه .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قوله تعالى : و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه أي : عمله ، فإذا فرغ من ذلك دخل عليه فتانا القبر ، و هما ملكان أسودان ، يخرقان الأرض بأنيابهما ، لهما شعور مسدولة يجرانها على الأرض ، كلامها كالرعد القاصف ، و أعينهما كالبراق الخاطف ، و نفسهما كالريح العاصف ، بيد كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلان ما رفعاه ، لو ضرب به أعظم جبل لجعله دكاً ، فإذا أبصرتهما النفس ارتعدت ، و ولت هاربة فتدخل في منخر الميت فيحيا الميت من الصدر و يكون كهيأته عند الغرغرة ، و لا يقدر على حراك ، غير أنمه يسمع و ينظر قال : فيقعدانه فيبتدئانه بعنف و ينتهرانه بجفاء و قد صار التراب له كالماء حيثما تحرك انفسح فيه و وجد فرجة فيقولان له : من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ و ما قبلتك ؟ فمن وفقه الله و ثبته بالقول الثابت قال : و من و كلكما علي ؟ و من أرسلكما إلي ؟ و هذا لا يقوله إلا العلماء الأخيار . فيقول أحدهما للآخر : صدق . كفي سرنا ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة ، و يفتحان له بابا إلى الجنة من تلقاء يمينه ، ثم يفرشان له من حريرها و ريحانها و يدخل عليه من نسيمها و روحها و ريحانها و يأتيه عمله في صورة أحب الأشخاص إليه ، يؤنسه و يحدثه و يملأ قبره نوراً ، و لا يزال في فرح و سرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة ، و يسأل : متى تقوم الساعة ؟ فليس شيء أحب إليه من قيامها .
و دونه في المنزلة المؤمن العامل الخير ليس معه حظ من العلم و لا من أسرار الملكوت يلج عليه عمله عقيب رومان في أحسن صورة طيب الريح ، حسن الثياب ، فيقول له : أما تعرفني ؟ فيقول : من أنت الذي من الله علي بك في غربتي ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فلا تحزن و لا توجل فعما قليل يلج عليك منكر و نكير يسألانك فلا تدهش ، ثم يلقنه حجته فبينما هو كذلك ، إذ دخلا عليه فينتهرانه و يقعدانه مستنداً و يقولان : من ربك ؟ ـ نسق الأول ـ فيقول : الله ربي ، و محمد نبيي ، و القرآن إمامي ، و الكعبة قبلتي ، و إبراهيم أبي ، و ملته ملتي ، غير مستعجم ، فيقولان له : صدقت ، و يفعلان به كالأول إلا أنهما يفتحان له باباً إلى النار فينظر إلى حياتها و عقاربها و سلاسلها و أغلالها و حميمها و جميع غمومها و صديدها و زقومها فيفزع فيقولان له : لا عليك سوء . هذا موضعك قد أبدله الله تعالى بموضعك هذا من الجنة . نم سعيداً ثم يغلقان عنه باب هذا النار و لم يدر ما مر عليه من الشهور و الأعوام و الدهور . و من الناس من يحجم في مسألته . فإن كانت عقيدته مختلفة امتنع أن يقول : الله ربي و أخذ غيرها من الألفاظ فيضربانه ضربة يشتعل منها قبره ناراً ثم تطفأ عنه أياماً . ثم تشتعل عليه أيضاً . هذا دأبه ما بقيت الدنيا . و من الناس من يعتاص عليه و يعسر أن يقول : الإسلام ديني لشك كان يتوهمه ، أو فتنة تقع به عند الموت فيضربانه ضربة واحدة فيشتعل عليه قبره ناراً كالأول ، و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : القرآن إمامي . لأنه كان يتلوه و لا يتعظ به . و لا يعمل بأوامره و لا ينتهي بنواهيه يطوف عليه دهره و لا يعطي منه نفسه خيره فيفعل له ما يفعل بالأولين ، و من الناس من يستحيل عمله جرواً يعذب في قبره على قدر جرمه .
و في الأخبار : أن في الناس من يستحيل عمله خنوصاً ـ و هو ولد الخنزير ـ و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : نبيي محمد لأنه كان ناسياً لسنته ، و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : الكعبة قبلتي لقلة تحريه في صلاته ، أو فساده في وضوئه ، أو التفات في صلاته ، أو اختلال في ركوعه و سجوده ، و يكفيك ما روي في فضائلها ، أن الله لا يقبل صلاة من عليه صلاة ، و من عليه ثوب حرام ، و من الناس من يعتاص عليه أن يقول : إبراهيم أبي لأن سمع كلاماً يوماً أو همه أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً . فإذا هو شاك مرتاب ، فيفعل به ما يفعل بالآخرين . و قال أبو حامد : و كل هذه الأنواع كشفناها في كتاب الأحياء .
و أما الفاجر فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : لا أدري ! فيقولان له : لا دريت و لا عرفت ثم يضربانه بتلك المقامع حتى يتلجلج في الأرض السابعة ، ثم تنقضه الأرض في قبره . ثم يضربانه سبع مرات . ثم تفترق أحوالهم . فمنهم من يستحيل عمله كلباً ينهشه حتى تقوم الساعة ، و هم الخوارج ، و منهم من يستحيل خنزيراً يعذب به في قبره و هم المرتابون ، و هم أنواع و أصله أن الرجل إنما يعذب في قبره بالشيء الذي كان يخافه في الدنيا . فمن الناس من يخاف من الجرو أكثر من الأسد و طبائع الخلق متفرقة نسأل الله السلامة و الغفران . قبل الندامة .
فصل : جاء في حديث البخاري و مسلم : سؤال الملكين ، و كذلك في حديث الترمذي و نص على اسميهما و نعتها . و جاء في حديث أبي داود : سؤال ملك واحد ، و في حديثه الآخر : سؤال ملكين و لا تعارض في ذلك و الحمد لله : بل كان ذلك صحيح المعني بالنسبة إلى الأشخاص قرب شخص يأتيانه جميعاً و يسألانه جميعاً في حال واحد عند انصراف الناس ليكون السؤال عليه أهون و الفتنة في حقه أشد و أعظم و ذلك بحسب ما اقترف من الآثام و اجترح من سيء الأعمال و آخر يأتيه قبل انصراف الناس عنه و آخر يأتيه أحدهما على الانفراد فيكون ذلك أخف في السؤال و أقل في المراجعة و العتاب لما عمله من صالح الأعمال .
و قد يحتمل حديث أبي داود وجهاً آخر و هو : أن الملكين يأتيان جميعاً و يكون السائل أحدهما ، و إن تشاركا في الإتيان فيكون الراوي اقتصر على الملك السائل و ترك غيره لأنه لم يقل في الحديث أنه لا يأتيه إلى قبره إلا ملك واحد ، و لو قاله هكذا صريحاً لكان الجواب عنه ما قدمناه من أحوال الناس . و الله أعلم ، و قد يكون من الناس من يوقى فتنتهما و لا يأتيه أحد منهما على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
و اختلفت الأحاديث أيضاً في كيفية السؤال و الجواب . و ذلك بحسب اختلاف أحوال الناس ، فمنهم من يقتصر على سؤاله عن بعض اعتقاداته ، و منهم من يسأل عن كلها فلا تناقص . و وجه آخر هو : أن يكون بعض الرواة اقتصر على بعض السؤال و أتى به غيره على الكمال . فيكون الإنسان مسؤولاً عن الجميع . كما جاء في حديث البراء المذكور و الله أعلم . و قول المسؤول : هاه هاه هي حكاية صوت المبهور من تعب أو جري أو حمل ثقيل .
باب ذكر حديث البراء المشهور الجامع لأحوال الموتى عند قبض أرواحهم و في قبورهم
أخرجه أبو داود الطيالسي و عبد بن حميد في مسنديهما و علي بن معبد في كتاب الطاعة و المعصية . و هناد بن السرى في زهده . و أحمد بن حنبل في مسنده و غيرهم .
و هو حديث صحيح له طرق كثيرة تهمم بتخريج طرقه علي بن معبد . فأما أبو داود الطيالسي فقال : حدثنا أبو عوانة عن الأعمش . و قال هناد و أحمد : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن عمرو ، و قال : أبو داود : حدثنا عمرو بن ثابت سمعه من المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء ـ يعني ابن عازب ـ و حديث أبي عوانة أتمهما ، قال البراء : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ، و لما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم و جلسنا حوله ، كأنما على رؤوسنا الطير ، قال عمر بن ثابت : وقع و لم يقله أبو عوانة ، فجعل يرع بصره و ينظر إلى السماء و يخفض بصره و ينظر إلى الأرض ، ثم قال : أعوذ بالله من عذاب القبر قالها مراراً ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة و انقطاع من الدنيا ، جاءه ملك فجلس عند رأسه فيقول اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى مغفرة من الله و رضوان فتخرج نفسه فتسيل كما يسيل قطر السقا قال : عمرو في حديثه ، و لم يقله أبو عوانة و إن كنتم ترون غير ذلك . و تنزل ملائكة من الجنة بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم أكفان من أكفان الجنة ، و حنوط من حنوطها . فيجلسون منه مد البصر فإذا قبضها الملك لم يدعوها في يده طرفة عين قال : فذلك قوله تعالى : توفته رسلنا و هم لا يفرطون قال : فتخرج نفسه كأطيب ريج وجدت ، فتعرج به الملائكة فلا يأتون على جند بين السماء و الأرض إلا قالوا : ما هذه الروح ؟ فيقال : فلان ، بأحسن أسمائه حتى ينتهوا به أبواب سماء الدنيا فيفتح له ، و يشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى السماء السابعة ، فيقال : اكتبوا كتابه في عليين و ما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون فيكتب كتابه في عليين . ثم يقال : ردوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلفتهم ، و فيها نعيدهم ، و منها نخرجهم تارة أخرى ، قال : فيرد إلى الأرض ، و تعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه و يجلسانه ، فيقولان من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ فيقول ربي الله و ديني الإسلام ، فيقولان : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله . فيقولان : و ما يدريك ؟ فيقول : جاءنا بالبينات من ربنا فآمنت به و صدقت قال : و ذلك قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة قال : و ينادي منادي السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة و ألبسوه من الجنة و أروه منزله منها و يفسح له مد بصره . و يمثل عمله له في صورة رجل حسن الوجه طيب الرائحة حسن الثياب فيقول : أبشر بما أعد الله لك ابشر برضوان من الله و جنات فيها نعيم مقيم فينقول : بشرك الله بخير ، من أنت فوجهك الوجه الذي جاء بالخير ؟ فيقول : هذا يومك الذي كنت توعد ، أو الأمر الذي كنت توعد أنا عملك الصالح فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله بطيئاً عن معصية الله فجزاك الله خيراً . فيقول يا رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي و مالي قال : فإن كان فاجراً و كان في إقبال من الدنيا و انقطاع من الآخرة جاء ملك ، فجلس عند رأسه فقال : اخرجي أيتها النفس الخبيثة أبشري بسخط من الله وغضبه ، فتنزل الملائكة سود الوجوه معهم مسوح من نار فإذا قبضها الملك قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين ، قال : فتفرق في جسده فيستخرجها ، تقطع منها العروق و العصب كالسفود الكثير الشعب في الصوف المبتل ، فتؤخذ من الملك فتخرج كأنتن جيفة وجدت فلا تمر على جند فيما بين السماء و الأرض ، إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون : هذا فلان بأسوأ أسمائه حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فلا يفتح لهم ، فيقولون : ردوه إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم و فيها نعيدهم ، و منها نخرجهم تارة أخرى قال : فيرمي به من السماء . قال : و تلا هذه الآية و من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق . قال : فيعاد إلى الأرض و تعاد فيه روحه ، و يأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهزانه و يجلسانه فيقولون : من ربك ؟ و ما دينك ؟ فيقول : لا أردي . فيقولون : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فلا يهتدي لاسمه فيقال : محمد ، فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون ذلك قال : فيقال : لا دريت ، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه . و يمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب ، فيقول : أبشر بعذاب الله و سخطه ، فيقول : من أنت فوجهك الذي جاء بالشر ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث فو الله ما عملتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله سريعاً إلى معصية الله .
قال عمرو في حديثه عن المنهال عن زاذان عن البراء عن النبي صلى الله عليه و سلم : فيقيض له أصم أبكم بيده مرزبه ضرب بها جبل صار تراباً أو قال : رميما فيضربه به ضربة تسمعها الخلائق إلا الثقلين ، ثم تعاد فيه الروح فيضرب ضربة أخرى لفظ أبي داود الطيالسي و خرجه علي بن معبد الجهني من عدة طرق بمعناه : و زاد فيه : ثم يقيض له اعمى أصم معه مرزبة من حديد فيضربه فيدق بها من ذؤابته إلى خصره ثم يعاد فيضربه ضربة فيدق بها من ذؤابته إلى خصره و زاد في بعض طرقه عند قوله مرزبة من حديد : لو اجتمع عليه الثقلان لم ينقلوها . فيضرب بها ضربة فيصير تراباً ثم تعاد فيه الروح ، و يضرب بها ضربة يسمعها من على الأرض غير الثقلين ، ثم يقال : افرشوا له لوحين من نار و افتحوا له باباً إلى النار ، فيفرش له لوحان من نار و يفتح له باب إلى النار و زاد فيه عند قوله : و انقطاع من الدنيا : نزلت به ملائكة غلاظ شداد معهم حنوط من نار و سرابيل من قطران يحتوشونه فتنتزع نفسه كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل يقطع معه عروقها ، فإذا خرجت نفسه لعنه كل ملك في السماء و كل ملك في الأرض و خرج أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن حرب ، صاحب ابن المبارك في رقائقه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول : [ إذا قتل العبد في سبيل الله كان أول قطرة تقطر من دمه ، إلى الأرض كفارة للخطايا ثم يرسل الله عز و جل بربطة من الجنة فيقبض فيها روحه . و صورة من صور الجنة فيركب فيها روحه ثم يعرج مع الملائكة كأن معهم و الملائكة على أرجاء السماء ، فيقولان : قد جاء روح من الأرض طيبة ، و نسمة طيبة ، فلا تمر بباب إلا فتح لها ، و لا ملك إلا صلى عليها و دعا لها : و يشيعها ، حتى يؤتى بها الرحمن . فيقولون : يا ربنا هذا عبدك توفيته في سبيلك فيسجد قبل الملائكة ، ثم تسجد الملائكة بعد ثم يطهر و يغفر له ثم يؤمر فيذهب به إلى الشهداء فيجدهم في قباب من حرير في رياض خضر عندهم حوت و ثور يظل الحوت يسبح في أنهار الجنة يأكل من كل رائحة في أنهار الجنة ، فإذا أمسى و كزه الثور بقرنه فيذكيه فيأكلون لحمه فيجدون في لحمه طعم كل رائحة و يبيت الثور في أفناء الجنة فإذا أصبح غداً عليه الحوت فوكزه بذنبه فيذكيه فيأكلون فيجدون في لحمه طعم كل رائحة في الجنة ثم يعودون و ينظرون إلى منازلهم من الجنة ، و يدعون الله عز و جل أن تقوم الساعة ، فإذا توفي العبد المؤمن بعث الله عز و جل إليه ملكين و أرسل إليه بخرقة من الجنة ، فقال : اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح و ريحان و رب عنك غير غضبان ، فتخرج كأطيب ريح من مسك ما وجدها أحد بأنفه قط ، و الملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من قبل الأرض روح طيبة و نسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها و لا بملك إلا دعا لها و صلى عليها ، حتى يؤتى بها الرحمن فتسجد الملائكة ثم يقولون : هذا عبدك فلان قد توفيته و كان يعبدك لا يشرك بك شيئاً ، فيقول مروه فليسجد فتسجد النسمة ، ثم يدعى ميكائيل فيقول : اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعين ذراعاً عرضه و سبعين ذراعاً طوله ، و ينبذ له فيه الرياحين و يستر بالحرير ، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره . و إن لم يكن معه جعل له في قبره نور مثل نور الشمس . و يكون مثله كمثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، قال : فيقوم من نومه كأنه لم يشبع من نومته ، و إذا توفي العبد الفاجر أرسل الله إليه ملكين و أرسل بقطعة من نجاد أنتن من كل نتن و أخشن من كل خشن ، فقالا : أخرجي أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى حميم و عذاب ، و رب عليك غضبان أخرجي و ساء ما قدمت لنفسك ، فتخرج كأنتن رائحة وجدها أحد بأنفه قط و على أرجاء السماء ملائكة يقولون : قد جاءت من الأرض روح خبيثة ، و نسمة خبيثة فتغلق دونها أبواب السماء ، و لا تصعد إلى السماء ثم يؤمر فيضيق عليه قبره و يرسل عليه حيات أمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى لا تذر على عظمه لحماً ، و يرسل عليه ملائكة صم عمي يضربونه بفطاطيس من حديد لا يسمعون صوته فيرحموه ، و لا يبصرونه فيرحموه ، و لا يخطئون حتى يضربونه ، و يعرض عليه مقعده من النار بكرة و عشيا يدعو بأن يدوم ذلك و لا يخلص إلى النار .
و خرج أبو عبد الرحمن النسائي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا احتضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : أخرجي راضية مرضياً عنك إلى روح و ريحان و رب راض غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى يأتوا به باب السماء فيقولون : ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض ؟ فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ فيقولون : دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال : ما أتاكم ؟ قالوا : ذهب به إلى أمه الهاوية و إن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون : اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله فيخرج كأنتن ريح خبيثة حتى يأتوا به باب الأرض فيقولون : ما أنتن هذه الريح ؟ حتى يأتوا به أرواح الكفار .
و خرج أبو داود الطيالسي قال : حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن أبي الجوزاء ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا قبض العبد المؤمن جاءته ملائكة الرحمة فتسلم تسل نفسه في حريرة بيضاء فيقولون : ما وجدنا ريحاً أطيب من هذه . فيسألونه فيقولون : ارفقوا به فإنه خرج من غمم الدنيا . فيقولون : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ قال : و أما الطافر فتخرج نفسه فتقول خزنة الأرض ما وجدنا ريحاً أنتن من هذه فيهبط به إلى أسفل الأرض .
الرد على الملحدة
قلت : و هنا فصول ستة في الرد على الملحدة :
 
الفصل الأول
تأمل يا أخي وفقني الله و إياك هذا الحديث و ما قبله من الأحاديث ترشدك إلى أن الروح و النفس شيء واحد و أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة يجذب و يخرج . و في أكفانه يلف و يدرج : و به إلى السماء يعرج . لا يموت و لا يفنى و هو مما له أول و ليس له آخر . و هو بعينين و يدين . و أنه ذو ريح طيب و خبيث . و هذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض .
و قد قال بلال في حديث الوادي : أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مقابلاً له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي : يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا و لو شاء ردها إلينا في حيز غير هذا و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الروح إذا قبض تبعه البصر و قال : فذلك حين يتبع بصره نفسه و هذا غاية في البيان و لا عطر بعد عروس ، و قد اختلف الناس في الروح اختلافاً كثيراً : أصح ما قيل فيه : ما ذكرناه لك و هو مذهب أهل السنة : أنه جسم ، فقد قال تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها . قال أهل التأويل : يريد الأرواح ، و قد قال تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم يعني النفس عند خروجها من الجسد ، و هذه صفة الجسم و لم يجر لها ذكر في الآية لدلالة الكلام عليها ، كقول الشاعر :
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً و ضاق بها الصدر
و كل من يقول : إن الروح يموت و يفنى فهو ملحد . و كذلك من يقول : بالتناسخ : أنها إذا خرجت من هذا ركبت في شيء آخر : حمار أو كلب أو غير ذلك . و إنما هي محفوظة بحفظ الله إما منعمة و إما معذبة . على مايأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

الفصل الثاني
الإيمان بعذاب القبر و فتنته : واجب . و التصديق به : لازم . حسب ما أخبر به الصادق . و أن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه و يجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه و ما يجيب به و يفهم ما أتاه من ربه و ما أعد له في قبره من كرامة أو هوان . و بهذا نطقت الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه و سلم و على آله آناء الليل و أطراف النهار ، و هذا مذهب أهل السنة و الذي عليه الجماعة من أهل الملة . و لم تفهم الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم و لغتهم من نبيهم عليه السلام غير ما ذكرنا . و كذلك التابعون بعدهم إلى هلم جراً ، و لقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بفتنة الميت في قبره و سؤال منكر و نكير و هما الملكان له : يا رسول الله أيرجع إلى عقلي ؟ قال : نعم . قال : إذا أكفيكهما . و الله لئن سألاني سألتهما . فأقول لهما : أنا ربي الله فمن ربكما أنتما ؟ .
و خرج الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر يوماً فتاني القبر . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أترد علينا عقولنا يا رسول الله ؟ فقال : نعم كهيئاتكم اليوم ، فقال عمر : في فيه الحجر . و قال سهل بن عمار : رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته . فقلت له مافعل الله بك ؟ فقال إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان ، فقالا : ما دينك ؟ و من ربك ؟ و من نبيك ؟ فأخذت بلحيتي البيضاء . و قلت : ألمثلي يقال هذا ؟ و قد عملت الناس جوابكما ثمانين سنة . فذهبا . و قالا : أكتبت عن حريز بن عثمان ؟ قلت نعم . فقالا : إنه كان يبغض علياً فأبغضه الله .
و في حديث البراء : [ فتعاد روحه في جسده ] و حسبك . و قد قيل : إن السؤال و العذاب إنما يكون على الروح دون الجسد . و ما ذكرناه لك أو لا أصح و الله أعلم .
الفصل الثالث
أنكرت الملحدة من تمذهب من الإسلاميين بمذهب الفلاسفة : عذاب القبر و أنه ليس له حقيقة ، و احتجوا بأن قالوا : إنا نكشف القبر فلم نجد فيه ملائكة عمياً صماً يضربون الناس بفطاطيس من حديد و لا نجد فيه حيات و لا ثعابين و لا نيراناً و لا تنانين . و كذلك لو كشفنا عنه في كل حالة لوجدناه فيه لم يذهب و لم يتغير ، و كيف يصح إقعاده و نحن لو وضعنا الزئبق بين عينيه لوجدناه بحاله ، فكيف يجلس و يضرب و لا يتفرق ذلك ؟ و كيف يصح إقعاده و ما ذكرتموه من الفسحة ؟ و نحن نفتح القبر فنجد لحده ضيقاً و نجد مساحته على حد ما حفرناها لم يتغير علينا ، فكيف يسعه و يسع الملائكة السائلين له ؟ و إنما ذلك كله إشارة إلى حالات ترد على الروح من العذاب الروحاني ، و إنها لا حقائق لها على موضوع اللغة .
و الجواب : أنا نؤمن بما ذكرناه . و الله أن يفعل ما يشاء من عقاب و نعيم . و يصرف أبصارنا عن جميع ذلك بل يغيبه عنا . فلا يبعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله بعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله إذا هو القادر على كل ممكن جائز فإنا لو شئنا لأزلناه الزئبق عن عينيه ، ثم نضجعه و نرد الزئبق و كذلك يمكننا أن نعمق القبر و نوسعه حتى يقوم فيه قياماً فضلاً عن العقود . و كذلك يمكننا أن نوسع القبر ذراع فضلاً عن سبعين ذراعاً ، و الرب سبحانه أبسط منا قدرة ، و أقوى منا قوة ، و أسرع فعلاً ، و أحصى منا حساباً إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن فيكون و لا رب لمن يدعى الإسلام إلا من هذه صفته ، فإذا كشفنا نحن عن ذلك رد الله سبحانه الأمر على ما كان نعم لو كان الميت بيننا موضوعاً فلا يمتنع أن يأتيه الملكان و يسألاه من غير أن يشعر الحاضرون بهما ، و يجيبهما من غير أن يسمع الحاضرون جوابهما . و مثال ذلك : نائمان بيننا أحدهما ينعم و الآخر يعذب ، و لا يسعر بذلك أحد ممن حولهما من المنتبهين ، ثم إذا استيقظا أخبر كل واحد منهما عما كان فيه .
و قد قال بعض علمائنا : إن دخول الملك القبور جائز أن يكون تأويله : اطلاعه عليها و على أهلها . و أهلها مدركون له عن بعد من غير دخول و لا قرب . و يجوز أن يكون الملك للطافة أجزائه يتولج في خلال المقابر فيتوصل إليهم من غير نبش و يجوز أن ينبشهما ثم يعيدها الله إلى مثل حالها على وجه لا يدركها أهل الدنيا .
و يجوز أن يكون الملك يدخل من تحت قبورهم من مداخل لا يهتدي الإنسان إليها .
و بالجملة : فأحوال المقابر و أهلها على خلاف عادات أهل لدنيا في حياتهم فليس تنقاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا . و هذا مما لا خلاف فيه. و لولا خبر الصادق بذلك لم نعرف شيئاً مما هنالك . فإن قالوا : كل حديث يخالف مقتضى المعقول يقطع بتخطئة ناقله ، و نحن نرى المصلوب على صلبه مدة طويلة و هو لا يسأل و لا يحيى و كذلك يشاهد الميت على سريره و هو لا يجيب سائلاً و لا يتحرك و من افترسه السباع ، و نهشه الطيور ، و تفرقت أجزاؤه في أجواف الطير ، و بطون الحيتان و حواصل الطيور ، و أقاصي التخوم ، و مدارج الرياح ، فكيف تجتمع أجزاؤه ؟ أم كيف تتألف أعضاؤه ؟ و كيف تتصور مساءلة الملكين لمن هذا وصفه ؟ أم كيف يصير القبر على من هذا حاله روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ؟ و الجواب عن هذا من وجوه أربعة : .
أحدها : أن الذي جاء بهذا هم الذين جاءوا بالصلوات الخمس و ليس لنا طريق إلا ما نقلوه لنا من ذلك .
الثاني : ما ذكره القاضي لسان الأمة و هو : أن المدفونين في القبور يسألون . و الذين بقوا على وجه الأرض فإن الله تعالى يحجب المكلفين عما يجري عليهم كما حجبهم عن رؤية الملائكة مع رؤية الأنبياء عليه و السلام لهم . و من أنكر ذلك فلينكر نزول جبرائيل عليه السلام على الأنبياء عليهم السلام . و قد قال الله تعالى : في وصف الشياطين إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم .
الثالث : قال بعض العلماء : لا يبعد أن ترد الحياة إلى المصلوب و نحن لا نشعر به كما أنا نحسب المغمى عليه ميتاً . و كذلك صاحب السكتة و ندفنه على حسبان الموت ، و من تفرقت أجزاؤه فلا يبعد أن يخلق الله الحياة في أجزائه .
قلت : و يعيده كما كان . كما فعل بالرجل الذي أمر إذا مات أن يحرق ثم يسحق ثم يذري حتى تنسفه الرياح [ الحديث ] و فيه : [ فأمر الله البر فجمع ما فيه . وأمر البحر فجمع ما فيه . ثم قال : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : خشيتك . أو قال مخافتك ] خرحه البخاري و مسلم و في التنزيل فخذ أربعة من الطير الآية .
الرابع : قال أبو المعالي : المرضي عندنا : أن السؤال يقع على أجزاء يعملها الله تعالى من القلب أو غيره فيحييها و يوجه السؤال عليها . و ذلك غير مستحيل عقلاً . قال بعض علمائنا : و ليس هذا بأبعد من الذر الذي أخرجه الله تعالى من صلب آدم عليه السلام و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا : بلى .
الفصل الرابع
فإن قالوا : ما حكم الصغار عندكم ! قلنا : هم كالبالغين و أن العقل يكمل لهم ليعرفوا بذلك منزلتهم و سعادتهم و يلهمون الجواب عما يسألون عنه . و هذا ما تقتضيه ظواهر الأخبار ، فقد جاء أن القبر ينضم عليه كما ينضم على الكبار . و قد تقدم . و ذكر هناد بن السرى قال : حدثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :[ إن كان ليصلى على النفوس ما أن عمل خطيئة قط فيقول : اللهم أجره من عذاب القبر ] .
 
الفصل الخامس
فإن قالوا : فما تأويلكم في القبر : حفرة من النار ، أو روضة من رياض الجنة ؟ قلنا : ذلك محمول عندنا على الحقيقة لا على المجاز . و أن القبر يملأ على المؤمن خضراً و هو العشب من البنات ، و قد عينه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : هو الريحان كما في حق الكافر يفرش له لوحان من نار ، و قد تقدم . و قد حمله بعض علمائنا على المجاز و المراد خفة السؤال على المؤمن ، و سهولته عليه و أمنه فيه ، و طيب عيشه و وصفه بأنه جنة تشبيهاً بالجنة و النعيم فيها بالرياض يقال : فلان في الجنة إذا كان في رغد من العيش و سلامة . فالمؤمن يكون في قبره في روح و راحة و طيب عيش ، و قد رفع الله عن عينيه الحجاب حتى يرى مد بصره كما في الخبر ، و أراده بحفرة النار ضغطة القبر و شدة المساءلة و الخوف و الأهول التي تكون فيها على الكفرة و بعض أهل البكائر : و الله أعلم ، و الأول أصح لأن الله سبحانه و رسوله يقص الحق و لا استحالة في شيء من ذلك .
الفصل السادس
روى أبو عمر في التمهيد عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب : أيها الناس إن الرجم حق فلا تخذ عن عنه . و إن آية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد رجم . و أن أبا بكر قد رجم . و إنا قد رجمنا بعدهما . و سيكون أقوام من هذه الأمة يكذبون بالرجم . و يكذبون بالدجال و يكذبون بطلوع الشمس من مغربها . و يكذبونها بعذاب القبر . و يكذبون بالشفاعة ، و يكذبون بقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا .
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هؤلاء هم القدرية و الخوارج ، و من سلك النار سبيلهم . و افترقوا في ذلك فرقاً . فصار أبو الهذيل و بشر : إلى أن خرج عن سلمة الإيمان ، فإنه يعذب بين النفختين ، و أن المساءلة إنما تقع في تلك الأوقات و أثبت البلخي و كذلك الجبائي و ابنه : عذاب القبر . و لكنهم نفوه عن المؤمنين و أثبتوه الكافرين و الفاسقين . و قال الأكثرون من المعتزلة : لا يجوز تسمية ملائكة الله تعالى بمنكر و نكير ، و إنما المنكر ما يبدو من تلجلجله إذا سئل ، و تقريع الملكين له هو النكير ، و قال صالح : عذاب القبر جائز ، و أنه يجري على الموتى من غير رد الأرواح إلى الأجساد ، و أن الميت يجوز أن يألم و يحس و يعلم . و هذا مذهب جماعة من الكرامية . و قال بعض المعتزلة : إن الله يعذب الموتى في قبورهم ، و يحدث فيهم الآلآم و هم لا يشعرون ، فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام . و زعموا أن سبيل المعذبين من الموتى ، كسبيل السكران أو المغشى عليه ، لو ضربوا لم يجدوا الآلام ، فإذا عاد إليهم العقل وجدوا تلك الآلام ، و أما الباقون من المعتزلة . مثل ضرار بن عمرو و بشر المريسي و يحيى بن كامل و غيرهم ، فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلاً ، و قالوا : إن من مات فهو ميت في قبره إلى يوم البعث و هذه أقوال كلها فاسدة تردها الأخبار الثابتة و في التنزيل : النار يعرضون عليها غدواً و عشياً . و سيأتي من الأخبار مزيد بيان ، و بالله التوفيق و العصمة و الله أعلم .
باب ما جاء في صفة الملكين صلوات الله عليهما و صفة سؤالهما

قد تقدم من حديث الترمذي : أنهما أسودان أزرقان . يقال لأحدهما : منكر ، و للآخر : النكير ، و روى معمر عن عمرو بن دينار و عن سعد بن إبراهيم عن عطاء ابن يسار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر : كيف بك يا عمر إذا جاءك منكر و نكير إذا مت و انطلق بك إلى قومك و قاسوا ثلاثة أذراع و شبر في ذارع و شبر ، ثم غسلوك و كفوك و حنطوك ، ثم احتملوك فوضعوك فيه ، ثم أهالوا عليك التراب ؟ فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر : منكر و نكير أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف ، يجران شعورهما . معهما مزربة من حديد لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلوها فقال عمر : يا رسول الله إن فرقنا فحق لنا أن نفرق أنبعث على ما نحن عليه ؟ قال : نعم قال : إذا أكفيكهما .
و روى نقلة الأخبار عن ابن عباس في خبر الإسراء : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : قلت : يا جبريل و ما ذاك ؟ قال : منكر و نكير يأتيان كل إنسان من البشر حين يوضع في قبره وحيداً فقلت : يا جبريل صفهما لي . قال : نعم من غير أن أذكر لك طولهما و عرضهما . ذكر ذلك منهما أفظع من ذلك غير أن أصواتهما كالرعد القاصف ، و أعينهما كالبرق الخاطف ، و أنيابهما كالصياصي ، يخرج لهب النار من أفوامهما ، و مناخرهما و مسامعهما ، يكسحان الأرض بأشعارها ، و يحفران الأرض بأظفارهما مع كل واحد منهما عمود من حديد ، لو اجتمع عليه من في الأرض ما حركوه يأتيان الإنسان إذا وضع في قبره و ترك وحيداً يسلكان روحه في جسده بإذن الله تعالى ثم يقعدانه في قبره فيتنهرانه انتهاراً يتقعقع منه عظامه و تزول أعضاؤه من مفاصله فيخر مغشياً عليه . ثم يقعدانه فيقولان له : إنك في البرزخ فاعقل حالك ، و اعرف مكانك ، و ينتهرانه ثانية . و يقولان : يا هذا ذهبت عنك الدنيا و أفضيت إلى معادك فأخبرنا من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ فإن كان مؤمناً بالله لقنه الله حجته فيقول : الله ربي و نبيي محمد ، و ديني الإسلام ، فينتهرانه عند ذلك انتهاراً يرى أن أوصافه تفرقت و عروقه قد تقطعت و يقولان له : يا هذا انظر ما تقول فيثبته الله عنه بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يلقنه الأمان و يدرأ عنه الفزع ، فلا يخافهما ، فإذا فعل ذلك بعبده المؤمن استأنس إليهما و أقبل عليهما بالخصومة يخاصمهما و يقول : تهدداني كيما أشك في ربي و تريداني أن أتخذ غيره ولياً و أنا أشهد أن لا إله إلا الله . و هو ربي و ربكما . و رب كل شيء و نبيي محمد و ديني الإسلام ؟ ثم ينتهرانه و يسألانه عن ذلك فيقول : ربي الله فاطر السموات و الأرض ، إياه كنت أعبد و لم أشرك به شيئاً و لم أتخذ غيره أحداً رباً . أفتريدان أن ترداني عن معرفة ربي و عبادتي إياه ؟ نعم هو الله الذي لا إله إلا هو . قال : فإذا قال ذلك ثلاث مرات مجاوبة لهما تواضعا له حتى يستأنس إليهما أنس ما كان في الدنيا إلى أهل وده و يضحكان إليه و يقولان له : صدقت و بررت أقر الله عينيك و ثبتك ، أبشر بالجنة و بكرامة الله ثم يدفع عنه قبره هكذا و هكذا فيتسع عليه مد البصر و يفتحان له باباً إلى الجنة فيدخل عليه من روح الجنة و طيب ريحها و نضرتها في قبره ما يتعرف به كرامة الله تعالى ، فإذا رأى ذلك استيقن بالفور فحمد الله ، ثم يفرشان له فراشاً من إستبرق الجنة و يضعان له مصباحاً من نور عند رأسه و مصباحاً من نور عند رجليه يزهران في قبره ، ثم ندخل عليه ريح أخرى ، فحين يشمها يغشاه النعاس فينام فيقولان له : ارقد رقدة العروس قرير العين لا خوف عليك و لا حزن . ثم يمثلان عمله الصالح في أحسن ما يرى من صورة ، و أطيب ريح فيكون عند رأسه ، و يقولان : هذا عملك و كلامك الطيب قد مثله الله لك في أحسن ما ترى من صورة و أطيب ريح ليؤنسك في قبرك فلا تكون وحيداً و يدرأ عنك هوام الأرض و كل دابة و كل أذى فلا يخذلك في قبرك و لا في شيء من مواطن القيامة حتى تدخل الجنة برحمة الله تعالى . فنم سعيداً طوبى لك و حسن مآب . ثم يسلمان عليه و يطيران عنه و ذكر الحديث و ما يلقة الكافر من الهوان الشديد و العذاب الأليم و حسبك بما تقدم .
قلت : و هذا الحديث و إن كان في إسناده مقال لأنه يروى عن عمرو بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم ، فهو حديث مرتب على أحوال مبنية و محتو على أمورمفسرة .
فصل : قوله : أتاك فتانا القبر منكر و نكير .
إنما سميا فتاني القبر لأن في سؤالهما انتهاراً . و في خلقهما صعوبة . ألا ترى أنهما سميا منكراً و نكيراً ؟ فإنما سميا بذلك لأن خلقهما لا يشبه خلق الأدميين ، و لا خلق الملائكة ، و لا خلق الطير ، و لا خلق البهائم ، ولا خلق الهوام ، بل هما خلق بديع و ليس في خلقتهما أنس للناظرين إليهما ، جعلهما الله تكرمة للمؤمن يثبته و ينصره و هتكاً لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحل عليه العذاب . قاله أبو عبد الله الترمذي .
فصل : إن قال قائل : كيف يخاطب الملكان جميع الموتى و هم مختلفوا الأماكن متباعدو القبور في الوقت الواحد . و الجسم الواحد لا يكون في المكانين في الوقت الواحد و كيف تنقلب الأعمال أشخاصاً و هي في نفسها أعراض ؟ .
فالجواب عن الأول : ما جرى ذكره في هذا الخبر من عظم جثتيهما فيخاطبان الخلق الكثير الذين في الجهة الواحدة منهم في المرة الواحدة : مخاطبة واحدة ، يخيل لكل واحد أن المخاطب هو دون من سواه . و يكون الله يمنع سمعه من مخاطبة الموتى لهما و يسمع هو مخاطبتهما أن لو كانوا معه في قبر واحد ، و قد تقدم أن عذاب القبر يسمعه كل شيء إلا الثقلين . و الله سبحانه و تعالى يسمع من يشاء و هو على كل شيء قدير .
و الجواب عن الثاني : أن الله يخلق من ثواب الأعمال أشخاصاً حسنة و قبيحة . لا أن العرض نفسه ينقلب جوهراً إذ ليس من قبيل الجواهر . و مثل هذا ما صح في الحديث : أنه يؤتى بالموت كأنه كبش أملح فيوقف على الصراط فيذبح و محال أن ينقلب الموت كبشاً لأن الموت عرض و إنما المعنى أن الله سبحانه يخلق شخصاً يسميه الموت فيذبح بين الجنة و النار . و هكذا كلما ورد عليك في هذا الباب التأويل فيه ما ذكرت لك . و الله سبحانه أعلم . و سيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
باب اختلاف الآثار في سعة القبر على المؤمنين بالنسبة إلى أعمالهم

جاء في حديث البخاري و مسلم : أنه يفسح له سبعون ذراعاً و في الترمذي : سبعون ذراعاً في سبعين ذراعاً . و في حديث البراء : مد البصر و خرج علي بن معبد عن معاذة قالت : قلت لعائشة رضي الله عنها : ألا تخبريننا عن مقبورنا ما يلقى و ما يصنع به ؟ فقالت : إن كان مؤمناً فسح له في قبره أربعون ذراعاً .
قلت : و هذا إنما يكون بعد ضيق و السؤال . و أما الكافر فلا يزال قبره عليه ضيقاً . فنسأل الله العفو و العافية في الدنيا و الآخرة .
سمعت بعض علمائنا يقول : إن حفاراً كان بقرافة مصر يحفر القبور ، فحفر ثلاثة أقبر فلما فرغ منها غشيه النعاس . فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفت على أحد الأقبر . فقال أحدهما لصاحبه : اكتب فرسخاً في فرسخ . ثم وقفا على الثاني : فقال أحدهما لصاحبه : اكتب فرسخاً في فرسخ . ثم وقفا على الثاني : اكتب ميلاً في ميل . ثم وقفا على الثالث ، فقال : اكتب فتراً في فتر . ثم انتبه فجيء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول . ثم جيء برجل آخر فدفن في القبر الثاني . ثم جيء بامرأة مترفة من وجوه أهل البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذي سعته فتراً في فتر .
الفتر : ما بين الإبهام و السبابة . نعوذ بالله من ضيق القبر و عذابه .
باب ما جاء في عذاب القبر و أنه حق و في اختلاف عذاب الكافرين و في قبورهم و ضيقها عليهم
قال الله تعالى : و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً قال أبو سعيد الخدري و عبد الله بن مسعود : ضنكاً . قال : عذاب القبر . و قيل في قوله عز و جل : و إن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك هو : عذاب القبر لأن الله ذكره عقب قوله فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون و هذا اليوم هو اليوم الآخر من أيام الدنيا ، فدل على أن العذاب الذي هم فيه هو عذاب القبر و كذلك قال : و لكن أكثرهم لا يعلمون لأنه غيب . و قال : و حاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً و عشياً فهذا عذاب القبر في البرزخ و سيأـي . و قال ابن عباس فس قوله تعالى : كلا سوف تعلمون ما ينزل فيكم من العذاب في القبر ثم كلا سوف تعلمون : في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالأول في القبر ، و الثاني في الآخرة فالتكرير للحالتين .
و روى زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه قال كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون يعني في القبور . و قال أبو هريرة : يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيهأضلاعه ، و هو المعيشة الضنك .
و روى أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية ؟ فإن له معيشة ضنكاً و نحشره يوم القيامة أعمى أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم . قال : عذاب الكافر في القبر ، و الذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة و تسعون تنيناً . أتدرون ما التنين ؟ تسعة و تسعون حية لكل حية تسعة أرؤس ينفخن في جسمه ، و يلسعنه و يخدشنه إلى يوم القيامة و يحشر من قبره إلى موقفه أعمى .
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يسلط على الكافر في قبره تسعة و تسعون تنيناً تنهشه و تلدغه حتى تقوم الساعة و لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراً و في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً : ثم يؤمر به يعني الكافر فيضيق عليه قبره و يرسل عليه حيات كأمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى لا تذر على عظمه لحماً و ترسل عليه ملائكة صم عمي يضربونه بفطاطيس الحديث و قد تقدم .
فصل : لا تظن ـ رحمك الله ـ أن هذا معارض للحديث المرفوع : أنه يسلط على الكافر أعمى أصم فإن أحوال الكفار تختلف . فمنهم من يتولى عقوبته واحد . و منهم من يتولى عقوبته جماعة . و كذلك لا تناقض بين هذا و بين أكل الحيات لحمه ، فإنه يمكن أن يتردد بين هذين العذابين كما قال تعالى : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها و بين حميم آن فمرة يطعمون الزقوم ، و أخرى يسقون الحميم و مرة يعرضون على النار ، و أخرى على الزمهرير . أجارنا الله من عذاب القبر ، و من عذاب النار برحمته و كرامته . و آخر يفرش له لوحان من نار . و آخر يقال له : نم نومة المنهوس . كما أخرجه علي بن معبد عن أبي حازم عن أبي هريرة موقوفاً قال : إذا وضع الميت في قبره أتاه آت من ربه فيقول له : من ربك ؟ فإن كان من أهل التثبيت ثبت . و قال : الله ربي . ثم يقال له مادينك ؟ فيقول الإسلام . فيقول : من نبيك ؟ فيقول محمد صلى الله عليه و سلم فيرى بشراه و يبشر . فيقول دعوني أرجع إلى أهلي فأبشرهم فيقال له : نم قرير العين إن لك إخواناً لم يلحقوا . و إن كان من غير أهل الحق و التثبيت قيل له : من ربك ؟ فيقول : هاه ، كالوا له ، ثم يضرب بمطراق يسمع صوته الخلق إلا الجن والإنس . و يقال له : نم كنومة المنهوس .
قال أهل اللغة : المنهوس بالسين المهملة : الملسوع نهسته الحية تنهسه . قال الراجز :
و ذات قرنين طحون الضرس تنهس لو تمكنت من نهس
تدير عيناً كشهاب القبس
و المنهوس مرة ينتبه لشدة الألم عليه . و مرة ينام كالمغمى عليه قال النابغة :
فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع
تسهد من ليل التمام سليمها كحلى النساء في يديه قعاقع
يبادرها الراقون من سوء سمها تطلقه طوراً و طوراً تراجع

باب منه في عذاب الكافر في قبره

ذكر الوائلي الحافظ في كتاب الإبانة له ، من حديث مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر . قال : بينا أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك طرفها أسود . فقال يا عبد الله اسقني ، فقال ابن عمر : لا أدري أعرف اسمي أو كما يقول الرجل : يا عبد الله ؟ فقال لي الأسود : لا تسقه فإنه كافر . ثم اجتذبه فدخل به الأرض . قال ابن عمر : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : أو قد رأيته ؟ ذاك عدو الله أبو جهل بن هشام . و هو عذابه إلى يوم القيامة
 
باب ما يكون منه عذاب القبر و اختلاف أحوال العصاة فيه بحسب اختلاف معاصيهم

ابو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أكثر عذاب القبر من البول .
البخاري و مسلم عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم على قبرين فقال : إنهما ليعذبان و ما يعذبان في كبير . أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة . و أما الآخر فكان لا يستنزه من بوله فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحداً و على هذا واحداً ، ثم قال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا و في رواية كان لا يستنزه عن البول أو من البول رواهما مسلم . و في كتاب أبي داود : و كان لا يستنثر من بوله و في حديث هناد بن السري لا يستبرئ من البول من الاستبراء . و قال البخاري : و ما يعذبان في كبير و إنه لكبير .
و أخرجه أبو داود الطيالسي عن أبي بكرة قال : بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و معي رجل و رسول الله صلى الله عليه و سلم بيننا . إذ أتى على قبرين . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن صاحبي هذين القبرين ليعذبان الآن في قبورهما فأيكما يأتيني من هذا النخل بعسيب ؟ فاستبقت أنا و صاحبي فسبقته و كسرت من النخل عسيباً . فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فشقه نصفين من أعلاه فوضع على إحداهما نصفاً و على الآخر نصفاً . و قال : إنه يهون عليهما ما دام من بلولتهما شيء إنهما يعذبان في الغيبة و البول .
قال المؤلف : هذا الحديث و الذي قبله يدل على التخفيف إنما هو بمجرد نصف العسيب ما دام رطباً و لا زيادة معه . و قد خرجه مسلم من حديث جابر الطويل ، و فيه : فلما انتهى إلي قال : يا جابر هل رأيت مقامي ؟ قلت نعم يا رسول الله . قال : فاطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصناً ، فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصناً عن يمينك و غصناً عن يسارك ، قال جابر : فقمت فأخذت حجراً فكسرته و حسرته فاندلق لي فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصناً ، ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسلت غصناً عن يميني ، و غصناً عن يساري ، ثم لحقته فقلت : قد فعلت ذلك يا رسول الله فعند ذاك قال : إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما . ما دام الغصنان رطبين .
ففي هذا الحديث زيادة على رطوبة الغصن و هي : شفاعته صلى الله عليه و سلم ، و الذي يظهر لي أنهما قضيتان مختلفتان لا قضية واحدة كما قال من تكلم على ذلك و يدل عليهما سياق الحديث ، فإن في حديث ابن عباس عسيباً واحداً شقه النبي صلى الله عليه و سلم بيده نصفين أبي هريرة غرسهما بيده و حديث جابر بخلافهما و لم يذكر فيه ما يعذب بسببه .
و قد خرج أبو داود الطيالسي حديث ابن عباس : فقال : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى على قبرين فقال : إنهما ليذبان في غير كبير ، أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس ، و أما الآخر فكان صاحب نميمة ثم دعا بجريدة فشقها نصفين فوضع نصفاً على هذا القبر ، و نصفاً على هذا القبر . و قال : عسى أن يخفف عنهما ما دامتا رطبتين ثم قيل : يجوز أن يكونا كافرين ، و قوله : إنهما ليعذبان في غير كبير يريد بالإضافة إلى الكفر و الشرك و أما إن كانا مؤمنين فقد أخبرك أنهما يعذبان بشيء كان منهما ليس بكفر لكنهما لم يتوبا منه ، و إن كانا كافرين فهما يعذبان في هذين الذنبين زيادة على عذابهما في كفرهما و تكذيبهما و جميع خطاياهما . و إن يكونا كافرين أظهر و الله أعلم . فإنهما لو كانا مؤمنين لعلما قرب العهد بتدافن المسلمين يومئذ . قاله ابن برجان في كتاب الإرشاد الهادي إلى التوفيق و السداد .
قلت : و الأظهر أنهما كانا مؤمنين و هو ظاهر الأحاديث و الله أعلم .
الطحاوي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أمر بعبد من عباد الله عز و جل أن يعذب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله تعالى و يدعوه حتى صارت واحدة فامتلأ قبره عيه ناراً ، فلما ارتفع عنه أفاق فقال : لماذاجلدتموني ؟ قال إنك صليت صلاة بغير طهور ، و مررت على مظلوم فلم تنصره .
البخاري عن سمرة بن جندب قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه . فقال : من رأى منكم الليلة رؤياً ؟ قال : فإن رأى أحد رؤيا قصها فيقول : ما شاء الله فسألنا يوماً . فقال : هل رأى أحدكم رؤيا ؟ قلنا : لا . قال : لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة ، فإذا رجل جالس و رجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ، ثم يفعل يشدقه الآخر مثل ذلك و يلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله .
قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق ، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ، و رجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ بها رأسه ، فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق ليأخذه فما يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه و عاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه . قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق و أسفله واسع يتوقد تحته ناراً ، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا ، فإذا خمدت رجعوا فيها . وفيها رجال و نساء عراة . فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم و على شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان . فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان . فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا ، حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة و في أصلها شيخ و صبيان . و إذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي الشجرة و أدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها فيها شيوخ و شباب و نساء و صبيان ، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن و أفضل . فيها شيوخ و شباب قلت : طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت . قالا : نعم . الذي رأيت يشق شدقه : فكذاب يحدث بالكذب فتحمل منه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة .
و الذي رأيته يشدخ رأسه : فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل فيه بالنهار . يفعل به إلى يوم القيامة ، و أما الذين رأيتهم في الثقب . قهم الزناة ، و الذي رأيته في النهار آكل الربا . و الشيخ في أصل الشجرة : إبراهيم . و الصبيان حوله : فأولاد الناس . و الذي يوقد النار : مالك خازن النار ، و الدار الأولى : دار عامة المؤمنين . و أما هذه الدار : فدار الشهداء ، و أنا جبريل ، وهذا ميكائيل فارفع رأسك فرفعت رأسي ، فإذا فوقي مثل السحاب قالا : ذلك منزلك ، فقلت : دعاني أدخل منزلي . قال : إنه بقي لك عمر ، لم تستكمله فلو استكملته أتيت منزلك .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليه : لا أبين في أحوال المعذبين في قبورهم من حديث البخاري ، و إن كان مناماً فمنامات الأنبياء عليهم السلام و حي بديل قول إبراهيم عليه السلام : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فأجابه ابنه : يا أبت افعل ما تؤمر و أما حديث الطحاوي فنص أيضاً ، و فيه رد على الخوارج و من يكفر بالذنوب . قال الطحاوي : و فيه يدل على ان تارك الصلاة ليس بكافر ، لأن من صلى صلاة بغير طهور : فلم يصل ، و قد أحببت دعوته . و لو كان كافراً ما سمعت دعوته لأن الله عز و جل يقول : و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال و أما حديث البخاري و مسلم فيدل على الاستبراء من البول و التنزه عنه : واجب ، إذ لا يعذب الإنسان إلا على ترك الواجب ، و كذلك إزالة جميع النجاسات قياساً على البول ، و هذا قول أكثر العلماء ، و به قال ابن وهب و رواه عن مالك و هو الصحيح في الباب ، و من صلى و لم يستنثر فقد صلى بغير طهور .
تنبيه على غلط : ذكر بعض أصحابنا ـ فيما نقل إلينا عنه ـ أن القبر الذي غرس عليه النبي صلى الله عليه و سلم العسيب ، هو قبر سعد بن معاذ ، و هذا باطل ، و إنما صح أن القبر ضغطه كما ذكرنا ثم فرج عنه ، و كان سبب ذلك ما رواه يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال : حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد : ما بلغكم في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا ؟ قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ذلك فقال : كان يقصر في بعض الطهور من البول و ذكر هناد بن السري ، حدثنا ابن فضيل عن أبي سفيان عن الحسن قال : أصاب سعد بن معاذ جراحة فجعله النبي صلى الله عليه و سلم عند امرأة تداويه ، فقال إنه مات من الليلة فأتاه جبريل فأخبره : لقد مات الليلة فيكم رجل لقد اهتز العرش لحب لقاء الله إياه ، فإذا هو سعد بن معاذ قال قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم في قبره فجعل يكبر و يهلل و يسبح ، فلما خرج قيل له : يا رسول الله ما رأيناك صنعت هكذا قط . قال : إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت الله تعالى أن يرفه عنه و ذلك أنه كان لا يستبرىء من البول . و قال السالمي أبو محمد عبد الغالب في كتابه ، و أما أخبار في عذاب القبر فبالغه مبلغ الاستفاضة منها قوله صلى الله عليه و سلم في سعد بن معاذ : لقد ضغطته الأرض اختلفت لها ضلوعه قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي عنهم : فلم ننقم من أمره شيئاً إلا أنه كان لا يستنزه في أسفاره من البول .
قلت : فقوله صلى الله عليه و سلم : ثم فرج عنه دليل على أنه جوزي على ذلك التقصير منه لا أنه يعذب بعد ذلك في قبره ، هذا لا يقوله أحد إلا شاك مرتاب في فضله و فضيلته و نصحه ونصيحته رضي الله عنه . أترى من اهتز له عرش الرحمن ، و تلقت روحه الملائكة الكرام فرحين بقدومها عليهم ، و مستبشرين بوصولها إليهم .
يعذب في قبره بعدما فرج عنه ؟ هيهات هيهات . . لا يظن ذلك إلا جاهل بحقه غبي بفضيلته و فضله ، رضي الله عنه و أرضاه ، و كيف يظن ذلك و فضائله شهيرة ، و مناقبه كثيرة ! خرجها البخاري و مسلم و غيرهما . و هو الذي أصاب حكم الرحمن في بني قريظة من فوق سبع سموات ، أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم في البخاري و مسلم و غيرهما .
باب منه
البيهقي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذه الآية سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الآية قال : أتي بفرس فحمل عليه . قال : كل خطوة منهى أقصى بصره ، فسار و سار معه جبريل فأتى على قوم يزرعون في كل يوم و يحصدون في كل يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال المهاجرون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه و هو خير الرازقين ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم شيء من ذلك . فقال : يا جبريل من هؤلاء ! قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة . قال : ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع ، و على أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام الضريع و الزقوم و رضف جهنم و حجارتها . قال : ما هؤلاء يا جبريل : قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم و ما ظلمهم الله و ما الله بظلام للعبيد ، ثم أتى على قوم بين أياديهم لحم في قدر نضيج ، و لحم آخر خبيث فجعلوا يأكلون من الخبيث و يدعون النضيج الطيب ، فقال ياجبريل : من هؤلاء ؟ قال هذا الرجل يقوم و عنده امرأة حلالاً طيباً فياتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح . ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر به شيء إلا قصفته . قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال يقول الله عز و جل و لا تقعدوا بكل صراط توعدون ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها و هو يريد أن يزيد عليها . قال يا جبريل : ما هذا ؟ قال : هذا رجل من أمتك عليه أمانة لا يستطيع أداءها و هو يزيد عليها . ثم أتى على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت و لا يفتر عنهم شيء من ذلك . قال : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء الفتنة ، ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم ، فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج و لا يستطيع قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الرجل يتكلم الكلمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع . و ذكر الحديث .
و خرج من حديث أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال له أصحابه : يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك [ الحديث ] و فيه قال : فصعدت أنا و جبريل فإذا بملك يقال له اسماعيل و هو صاحب سماء الدنيا : و بين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ملك قال : و قال الله تعالى : و ما يعلم جنود ربك إلا هو فاستفتح جبريل . ثم قال : فإذا أنا بآدم كهيئة يوم خلقه الله على صورته تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة ، و نفس طيبة ، اجعلوها في عليين ، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكافرين فيقول : روح خبيثة ، اجعلوها في سجين ، ثم مضت هنيهة فإذا أنا بأخونة ـ يعني بالخوان المائدة التي يؤكل عليها ـ و عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد ، و إذا أنا بأخوانة أخرى عليها لحم قد أروح و أنتن ، عندها ناس يأكلون منها . قلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال و يأتون الحرام قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول : اللهم لا تقم الساعة . قال : و هم على سابلة آل فرعون قال فتجيء السابلة فتطؤهم قال : فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل . قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال : ثم مضيت هنيهة . فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل . قال : فيفتح على أفواههم و يلقمون ذلك الجمر ، ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله عز و جل قلت : يا جبريل نت هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم ناراً و سيصلون سعيراً قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن فسمعتهن يضججن إلى الله عز وجل قلت : ياجبريل من هؤلاء النساء ؟ قال : هؤلاء الزناة من أمتك . قال : ثم مضيت هنيهة . فإذا أنا بقوم يقطع من جنوبهم اللحم قيلقمون . فيقال له : كل ما كنت تأكل من لحم أخيك . قلت : يا حبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الهمازون اللمازون من أمتك . و ذكر الحديث .
و ذكر أبو داود عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون و جوههم و صدورهم . فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم .
 
باب ماجاء في بشرى المؤمن في قبره
قال كعب الأحبار : إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة فتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه : قتقول الصلاة : إليكم عنه ، قيأتون من قبل رأسه . فيقول الصيام : لا سبيل لكم عليه . فقد أطال ظمأه لله عز و جل في دار الدنيا ، فيأتون من قبل جسمه . فيقول الحج و الجهاد : إليكم عنه ، فقد أنصب نفسه و أتعب بدنه و حج و جاهد لله عز و جل . لا سبيل لكم عليه . فيأتون من قبل يديه ، فتقول الصدقة : كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين ، حتى و قعت في يد الله عز و جل ابتغاء لوجهه ، فلا سبيل لكم عليه . قال : فيقال له : نم هنيئاً ، طبت حياً و طبت ميتاً .
قلت : هذا لمن أخلص في عمله و صدق الله في قوله و فعله و أحسن نيته له في سره و جهره ، فهو الذي تكون أعماله حجة له ، و دافعة عنه ، فلا تعارض بين هذا الباب ، و بين ما تقدم من الأبواب . فإن الناس مختلفو الحال في خلوص الأعمال . و الله أعلم .
باب ما جاء في التعوذ من عذاب القبر و فتنته
النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و عندي امرأة من اليهود . و هي تقول : إنكم تفتنون في القبور . فارتاع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : إنما يفتن يهود قال عائشة : فلبثنا ليالي . ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل شعرت أنه أوحى إلي
: أنكم تفتنون في القبور ؟ قال عائشة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يستعيذ من عذاب القبر .
و رورى الأئمة عن أسماء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : و إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريباً ، أو مثل فتنة الدجال لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : يؤتى بأحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات و الهدى فأجبنا و أطعنا ، ثلاث مرات . ثم يقال له : نم قد نعلم إنك لتؤمن به فنم صالحاً . و أما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت لفظ مسلم .
و خرج البخاري عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر . و من عذاب النار و من فتنة المحيا و الممات . و من فتنة المسيح الدجال و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً أخرجها الأثبات الثقات .
باب ما جاء أن البهائم تسمع عذاب القبر
مسلم عن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه و سلم في حائط لبني النجار على بغلة له و نحن معه إذ جاء به فكادت تلقيه . و إذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة كذا كان الحريري يقول . فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ فقال رجل : أنا . قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال ماتوا في الإشراك . فقال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع .
و خرج أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنه قالت : دخلت علي عجوزان من عجائز يهود المدينة فقالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم . قالت فكذبتهما و لم أنعم أن أصدقهما . فخرجتا و دخل على رسول الله . فقلت : يا رسول الله إن عجوزين من عجائز يهود المدينة قالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم . قال النبي صلى الله عليه و سلم صدقتا إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم ، قالت : فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر خرجه البخاري أيضاً و قال : تسمعه البهائم كلها ، و خرج هناد بن السري في زهده ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن شفيق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت علي يهودية فذكرت عذاب القبر فكذبتها . فدخل النبي صلى الله عليه و سلم علي فذكرت ذلك له ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده إنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم .
فصل : قال علماؤنا : و إنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين و إنما لم يسمعه من يعقل من الجن و الإنس لقوله عليه الصلاة و السلام : لولا أن لا تدافنوا الحديث . فكتمه الله سبحانه عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية و لطائفه الربانية لغلبة الخوف عند سماعه ، فلا نقدر على القرب من القبر للدفن أو يهلك الحي عند سماعه . إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار . لضعف هذه القوى ، ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف ، أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس ، و أين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه ؟ و قد قال صلى الله عليه و سلم في الجنازة : و لو سمعها انسان لصعق .
قلت : هذا و هو على رؤوس الرجال من غير ضرب و لا هوان . فكيف إذا حل به الخزي و النكال و اشتد عليه العذاب و الوبال ؟ فنسأل الله معافاته و مغفرته و عفوه و رحمته بمنه .
حكاية : قال أبو محمد عبد الحق : حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان ـ و كان من أهل العلم و العمل رحمه الله ـ أنهم دفنوا ميتاً بقريتهم من شرق إشبيلية . فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون و دابة ترعى قريباً منهم . فإذا الدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع . ثم ولت فارة كذلك ـ فعلت مرة بعد أخرى ـ قال أبو الحكم رحمه الله : فذكرت عذاب القبر . و قول النبي صلى الله عليه و سلم : إنهم ليعذبون عذاباً تسمعه البهائم ، و الله عز و جل أعلم بما كان من أمر ذلك الميت . ذكر هذه الحكاية لما قرأ القارىء هذا الحديث في عذاب القبر : و نحن إذ ذاك نسمع عليه كتاب مسلم بن الحجاج رضي الله عنه .
باب ما جاء أن الميت يسمع ما يقال
مسلم عن أنس بن مالك : عمر بن الخطاب حدث عن أهل بدر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس . يقول : هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله . قال فقال عمر : فو الذي بعثه بالحق نبياً ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى إليهم فقال : يا فلان بن فلان . هل و جدتم ما وعدكم الله و رسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً ؟ فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها ؟ قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئاً . و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك قتلى بدر ثلاثاً . فقام عليهم فناداهم . فقال : يا أبا جهل بن هشام . يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة . يا شيبة بن ربيعة . أليس قد و جدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني وجدت ماو عدني ربي حقاً ! فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله كيف يسمعون ! و أنى يجيبون ! وقد جيفوا ؟ قال جهنم و الذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ثم أمر بهم فسحبوا فالفوا في قليب بدر .
فصل : اعلم رحمك الله أن عائشة رضي الله عنها قد أنكرت هذا المعنى . و استدلت بقوله تعالى : فإنك . لا تسمع الموتى و قوله و ما أنت بمسمع من في القبور و لا تعارض بينهما لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما . أو في حال ما فإن تخصيص العموم ممكن و صحيح إذا و جد المخصص . و قد و جد هنا بدليل ما ذكرناه ـ و قد تقدم ـ و بقوله عليه الصلاة و السلام : إنه ليبسمع قرع ..نعالهم و بالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره و جوابه لهما و غير ذلك مما لا ينكر ، و قد ذكر ابن عبد البر في كتاب التمهيد و الاستذكار من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ، و رد علي السلام . صححه أبو محمد عبد الحق ، و جيفوا معناه : أنتنوا .
باب قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا الآية
مسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة قال : نزلت في عذاب القبر . يقال له من ربك ؟ فيقول : الله ربي . و نبي محمد . فذلك محمد . قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة .
و في رواية أنه قول البراء . و لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم .
قلت : و هذا الطريق و إن كان موقوفاً فهو لا يقال من جهة الرأي فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله كما في الرواية الأولى ، و كما خرجه النسائي و ابن ماجه في سننهما و البخاري في صحيحه ، و هذا لفظ البخاري :
حدثنا جعفر بن عمر قال : حدثنا شعبة بن علقمة بن مرثد ، عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أقعد العبد المؤمن في قبره . أتى ثم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية ، و خرجه أبو داود في سننه . فقال فيه البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و قد مضى هذا المعنى في حديث البراء الطويل مرفوعاً و الحمد الله .
و قد روى هذا الخبر ، أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس و أبو سعيد الخدري . قال أبو سعيد الخدري : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها . فإذا الإنسان دفن و تفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقول له هذا منزلك لو كفرت بربك ، و أما الكافر و المنافق فيقول له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري . فيقال له : لا دريت و لا تليت ، ثم يفتح له باب إلى الجنة . فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك . فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا ، ثم يفتح له باب إلى النار ، ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين .
قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء .
فصل : صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم في عذاب القبر على الجملة فلا مطعن فيها و لا معارض لها . و جاء فيما تقدم من الآثار : أن الكافر يفتن في قبره و يسأل و يهان و يعذب . قال أبو محمد عبد الحق : و اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين و لا موقوفاً على المنافقين ، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين ، و كل على حال من عمله و ما استوجبه من خطبئته و زلله . و إن كانت تلك النصوص المتقدمة في عذاب القبر إنما جاءت في الكافر و المنافق ، قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد : الآثار الثابتة تدل على : أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق ممن كان منسوباً إلى أهل القبلة و دين الإسلام من حقن دمه بظاهر الشهادة ، و أما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه و دينه و نبيه ، و إنما يسأل عن هذا أهل الإسلام و الله أعلم ، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت و يرتاب المبطلون . قال ابن عبد البر و في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها و منهم من يرويه تسأل . و على هذا الفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك ، و هذا أمر لا يقطع عليه ، و الله أعلم .
و قال أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول : و إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة . لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة فإذا أبوا كفت الرسل ، و اعتزلوا و عوجلوا بالعذاب ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم بالرحمة و أماناً للخلق ، فقال : و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب و أعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ، ثم يرسخ في قلبه ، فأمهلوا ، فمن هنا ظهر أمر النفاق فكانوا يسرون الكفر و يعلنون الإيمان فكانوا بين المسلمين في ستر ، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سترهم بالسؤال ، و ليميز الله الخبيث من الطيب فيثبت الثابت في الحياة الدنيا و يضل الله الظالمين .
قال المؤلف : قول أبي محمد عبد الحق أصوب ، و الله أعلم ، فإن الأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على : أن الكافر يسأله الملكان ، و يختبرانه بالسؤال و يضرب بمطارق من حديد على ما تقدم ، و الله أعلم .

باب ما ينجي المؤمن من أهوال القبر و فتنته و عذابه
و ذلك خمسة أشياء : رباط . قتل . قول . بطن . زمان .
الأول : روى مسلم عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : رباط يوم و ليلة خير من صيام شهر و قيامة ، و إن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله و أجرى عليه رزقه و أمن من الفتان فالرباط من أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة [ الحديث ] . و قد تقدم و هو حديث صحيح ، انفرد بإخراجه مسلم ، و كذلك ما أخرجه ابن ماجه و أبو نعيم من أنه يلحق الميت بعد موته ، فإن ذلك مما ينقطع بنفاده و ذهابه ، كالصدقة بنفادها ، و العلم بذهابه ، و الولد الصالح بموته ، و النخل بقطعه إلى غير ذلك مما ذكر ، و الرباط يضاعف أجره لصاحبه إلى يوم القيامة لقوله عليه الصلاة و السلام : و إن مات أجرى عليه عمله و قد جاء مفسراً مبيناً في كتاب الترمذي عن فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله ، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة و يأمن من فتنة القبر . قال : حديث حسن صحيح ، و أخرجه أبو داود بمعناه و قال : و يؤمن من فتاني القبر و لا معنى للنماء إلا المضاعفة و هي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه ، بل هي فضل دائم من الله تعالى لأن أعمال البر لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو و التحرز منهم بحراسته بيضة الدين و إقامة شعائر الإسلام ، و هذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة .
و خرجه ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله عليه عمله الصالح الذي كان يعمل و أجرى عليه و أمن من الفتان و يبعثه رزقه الله أميناً من الفزع الأكبر .
و خرج أبو نعيم الحافظ عن جبير بن بكير و كبير بن مرة و عمرو بن الأسود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله . فإنه ينمي عليه عمله يجري عليه رزقه إلى يوم الحساب .
و في هذا الحديث و حديث فضالة بن عبيد قيد ثان . و هو : الموت حالة الرباط و الله أعلم .
و روى عن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها و قيامها .
و روي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان أعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها و قيامها ، و رباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أفضل عند الله و أعظم أجراً . أراه قال : من عبادة ألف سنة صيامها و قيامها ، فإن رده الله إلى أهله سالماً لم يكتب عليه سيئة ألف سنة . و يكتب له من الحسنات و يجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة . فدل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل به الثواب الدائم و إن لم يمت مرابطاً و الله أعلم . أخرجه عن محمد بن إسماعيل بن سمرة ، حدثنا محمد بن يعلى السلمي ، حدثنا عمرو بن صبيح ، عن عبد الرحمن بن عمرو ، عن مكحول ، عن أبي بن كعب فذكره .
مسألة الرباط : هو الملازمة في سبيل الله . مأخوذ من ربط الخيل ثم سمي ملازم لثغر من ثغور المسلمين : مرابطاً . فارساً كان أو راجلاً ، و اللفظة مأخوذة من الرباط ، و قول النبي صلى الله عليه و سلم في منتظري الصلاة : فذلكم الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله ، و الرباط اللغوي هو الأول ، و هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما ، فأما سكان الثغور دائماً بأهلهم الذي يعمرون و يكتسبون هناك ، فهم و إن كانوا حماة فليسوا بمرابطين . قاله علماؤنا ، و قد بيناه في كتاب الجامع لأحكام القرآن من سورة آل عمران و الحمد لله .
الثاني : روى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رجلاً قال يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأس فتنة .
و خرج ابن ماجة في سننه و الترمذي في جامعه و غيرهما عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة . و يرى مقعده من الجنة . و يجار من عذاب القبر . و يأمن من الفزع الأكبر . و يوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا و ما فيها . و يزوج إثنتين و سبعين زوجة من الحور العين ، و يشفع في سبعين من أقاربه لفظ الترمذي ، و قال حديث حسن صحيح غريب ، و قال ابن ماجه : [ يغفر له في أول دفعه من دمه قال : و يحلى حلة الإيمان ] بدل : [ و يوضع على رأسه تاج الوقار ] قال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش قال : حدثني بجير بن سعد ، و قال الترمذي : حدثنا عيد الله بن عبد الرحمن قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن بجير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معدي كرب . فذكره .
قال المؤلف و وقع في جميع نسخ الترمذي و ابن ماجه : [ ست خصال ] و هي في متن الحديث : [ سبع ] و على ما ذكر ابن ماجه : [ و يحلى بحلة الإيمان ] تكون ثمانية ، و كذا ذكره أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد بسنده عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ثمانية خصال .
الثالث : روى الترمذي عن ابن عباس قال : ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم خباءه على قبره و هو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ضربت خبائي على قبر و أنا لا أحسب أنه قبر ، فإذا بقبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها . فقال صلى الله عليه و سلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر . قال حديث حسن غريب . و خرج أيضاً عنه صلى الله عليه و سلم : أن من قرأها كل ليلة جاءت تجادل عن صاحبها . و روي أنها المجادلة تجادل عن صاحبها يعني قارئها في القبر ، و روي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان .
و أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي بثغر الإسكندرية حماه الله قال : حدثني الشيخ الصالح أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري ابن أخي الشيخ الإمام أبي بكر قال : حدثني الشيخ الشريف أبو محمد يونس بن أبي الحسين بن أبي البركات الهاشمي البغدادي ، حدثنا أبو الوقت عن الداودي ، عن الحموي ، عن أبي إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي ، عن عبد الله بن حميد الكشي ، عن إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال الرجل : بلى يا ابن عباس رحمك الله . قال : تبارك الذي بيده الملك احفظها و علمها أهلك و جمع ولدك و صبيان بيتك و جيرانك فإنها المنجية و المجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها ، و تطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه و ينجي الله بها صاحبها من عذاب القبر . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي و أخبرناه عالياً الشيخ المحدث أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصاري التلمساني بثغر الإسكندرية عن شيخه الشريف أبي محمد يونس عن أبي الوقت . و قد تقدم : أن قراءة الرجل قل هو الله أحد في مرض الموت تنجي من ذلك .
الرابع : روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات مريضاً مات شهيداً ، و وقى فتنة القبر ، و غدى و ريح عليه برزقه من الجنة .
و خرج النسائي عن جامع بن شداد قال : سمعت عبد الله بن يسار يقول : كنت جالساً عند سليمان بن صرد ، و خالد بن عرفطة فذكرا أن رجلاً مات ببطنه فإذا هما يشتهيان أن يشهدا جنازته . فقال أحدهما للآخر : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يقتله بطنه لم يعذب في قبره . أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا شعبة ، قال ، أخبرني جامع بن شداد فذكره و زاد فقال الآخر : بلى .
الخامس : روى الترمذي ، عن ربيعة بن سيف ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مسلم يموت يوم الجمعة ، أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر ، قال هذا حديث حسن غريب ، و ليس إسناده بمتصل ربيعة بن سيف إنما يروي عن عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو ، و لا نعرف لربيعة بن سيف سماعاً من عبد الله بن عمرو .
قلت : قد خرجه أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول متصلاً عن ربيعة بن سيف الإسكندري ، عن عياض بن عقبة الفهري ، عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتنة القبر و خرجه علي بن معبد عنه ـ أعني عبد الله بن عمرو الترمذي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقى فتنة القبر و أخرجه أبو نعيم الحافظ من حديث محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أجير من عذاب القبر ، و جاء يوم القيامة و عليه طابع الشهداء . غريب من حديث جابر و محمد تفرد به عمر بن موسى الوجيهي و هو مدني فيه لين عن محمد بن جابر .
فصل : قلت : اعلم رحمك الله أن هذا الباب لا يعارض ما تقدم من الأبواب ، بل يخصصها و يبين من لا يسأل في قبره و لا يفتن فيه ، ممن يجري عليه السؤال ، و يقاسي تلك الأهوال و هذا كله ليس فيه مدخل للقياس و لا مجال للنظر فيه . و إنما فيه التسليم و الانقياد لقول الصادق المرسل إلى العباد صلى الله عليه و سلم .
و قد روى ابن ماجه في سننه عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل الميت في قبره مثلت له الشمس عند غروبها فيجلس فيمسح عينيه و يقول : دعوني أصلي و لعل هذا ممن وقى فتنة القبر فلا تعارض و الحمد لله


يتبع بمشيئه الرحمن

تحياتى
 
باب ماجاء في بشرى المؤمن في قبره
قال كعب الأحبار : إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة فتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه : قتقول الصلاة : إليكم عنه ، قيأتون من قبل رأسه . فيقول الصيام : لا سبيل لكم عليه . فقد أطال ظمأه لله عز و جل في دار الدنيا ، فيأتون من قبل جسمه . فيقول الحج و الجهاد : إليكم عنه ، فقد أنصب نفسه و أتعب بدنه و حج و جاهد لله عز و جل . لا سبيل لكم عليه . فيأتون من قبل يديه ، فتقول الصدقة : كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين ، حتى و قعت في يد الله عز و جل ابتغاء لوجهه ، فلا سبيل لكم عليه . قال : فيقال له : نم هنيئاً ، طبت حياً و طبت ميتاً .
قلت : هذا لمن أخلص في عمله و صدق الله في قوله و فعله و أحسن نيته له في سره و جهره ، فهو الذي تكون أعماله حجة له ، و دافعة عنه ، فلا تعارض بين هذا الباب ، و بين ما تقدم من الأبواب . فإن الناس مختلفو الحال في خلوص الأعمال . و الله أعلم .
باب ما جاء في التعوذ من عذاب القبر و فتنته
النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و عندي امرأة من اليهود . و هي تقول : إنكم تفتنون في القبور . فارتاع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : إنما يفتن يهود قال عائشة : فلبثنا ليالي . ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل شعرت أنه أوحى إلي
: أنكم تفتنون في القبور ؟ قال عائشة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يستعيذ من عذاب القبر .
و رورى الأئمة عن أسماء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : و إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريباً ، أو مثل فتنة الدجال لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : يؤتى بأحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات و الهدى فأجبنا و أطعنا ، ثلاث مرات . ثم يقال له : نم قد نعلم إنك لتؤمن به فنم صالحاً . و أما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت لفظ مسلم .
و خرج البخاري عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر . و من عذاب النار و من فتنة المحيا و الممات . و من فتنة المسيح الدجال و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً أخرجها الأثبات الثقات .
باب ما جاء أن البهائم تسمع عذاب القبر
مسلم عن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه و سلم في حائط لبني النجار على بغلة له و نحن معه إذ جاء به فكادت تلقيه . و إذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة كذا كان الحريري يقول . فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ فقال رجل : أنا . قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال ماتوا في الإشراك . فقال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع .
و خرج أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنه قالت : دخلت علي عجوزان من عجائز يهود المدينة فقالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم . قالت فكذبتهما و لم أنعم أن أصدقهما . فخرجتا و دخل على رسول الله . فقلت : يا رسول الله إن عجوزين من عجائز يهود المدينة قالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم . قال النبي صلى الله عليه و سلم صدقتا إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم ، قالت : فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر خرجه البخاري أيضاً و قال : تسمعه البهائم كلها ، و خرج هناد بن السري في زهده ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن شفيق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت علي يهودية فذكرت عذاب القبر فكذبتها . فدخل النبي صلى الله عليه و سلم علي فذكرت ذلك له ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده إنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم .
فصل : قال علماؤنا : و إنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين و إنما لم يسمعه من يعقل من الجن و الإنس لقوله عليه الصلاة و السلام : لولا أن لا تدافنوا الحديث . فكتمه الله سبحانه عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية و لطائفه الربانية لغلبة الخوف عند سماعه ، فلا نقدر على القرب من القبر للدفن أو يهلك الحي عند سماعه . إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار . لضعف هذه القوى ، ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف ، أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس ، و أين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه ؟ و قد قال صلى الله عليه و سلم في الجنازة : و لو سمعها انسان لصعق .
قلت : هذا و هو على رؤوس الرجال من غير ضرب و لا هوان . فكيف إذا حل به الخزي و النكال و اشتد عليه العذاب و الوبال ؟ فنسأل الله معافاته و مغفرته و عفوه و رحمته بمنه .
حكاية : قال أبو محمد عبد الحق : حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان ـ و كان من أهل العلم و العمل رحمه الله ـ أنهم دفنوا ميتاً بقريتهم من شرق إشبيلية . فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون و دابة ترعى قريباً منهم . فإذا الدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع . ثم ولت فارة كذلك ـ فعلت مرة بعد أخرى ـ قال أبو الحكم رحمه الله : فذكرت عذاب القبر . و قول النبي صلى الله عليه و سلم : إنهم ليعذبون عذاباً تسمعه البهائم ، و الله عز و جل أعلم بما كان من أمر ذلك الميت . ذكر هذه الحكاية لما قرأ القارىء هذا الحديث في عذاب القبر : و نحن إذ ذاك نسمع عليه كتاب مسلم بن الحجاج رضي الله عنه .
باب ما جاء أن الميت يسمع ما يقال
مسلم عن أنس بن مالك : عمر بن الخطاب حدث عن أهل بدر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس . يقول : هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله . قال فقال عمر : فو الذي بعثه بالحق نبياً ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى إليهم فقال : يا فلان بن فلان . هل و جدتم ما وعدكم الله و رسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً ؟ فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها ؟ قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئاً . و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك قتلى بدر ثلاثاً . فقام عليهم فناداهم . فقال : يا أبا جهل بن هشام . يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة . يا شيبة بن ربيعة . أليس قد و جدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني وجدت ماو عدني ربي حقاً ! فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله كيف يسمعون ! و أنى يجيبون ! وقد جيفوا ؟ قال جهنم و الذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ثم أمر بهم فسحبوا فالفوا في قليب بدر .
فصل : اعلم رحمك الله أن عائشة رضي الله عنها قد أنكرت هذا المعنى . و استدلت بقوله تعالى : فإنك . لا تسمع الموتى و قوله و ما أنت بمسمع من في القبور و لا تعارض بينهما لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما . أو في حال ما فإن تخصيص العموم ممكن و صحيح إذا و جد المخصص . و قد و جد هنا بدليل ما ذكرناه ـ و قد تقدم ـ و بقوله عليه الصلاة و السلام : إنه ليبسمع قرع ..نعالهم و بالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره و جوابه لهما و غير ذلك مما لا ينكر ، و قد ذكر ابن عبد البر في كتاب التمهيد و الاستذكار من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ، و رد علي السلام . صححه أبو محمد عبد الحق ، و جيفوا معناه : أنتنوا .
باب قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا الآية
مسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة قال : نزلت في عذاب القبر . يقال له من ربك ؟ فيقول : الله ربي . و نبي محمد . فذلك محمد . قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة .
و في رواية أنه قول البراء . و لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم .
قلت : و هذا الطريق و إن كان موقوفاً فهو لا يقال من جهة الرأي فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله كما في الرواية الأولى ، و كما خرجه النسائي و ابن ماجه في سننهما و البخاري في صحيحه ، و هذا لفظ البخاري :
حدثنا جعفر بن عمر قال : حدثنا شعبة بن علقمة بن مرثد ، عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أقعد العبد المؤمن في قبره . أتى ثم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية ، و خرجه أبو داود في سننه . فقال فيه البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و قد مضى هذا المعنى في حديث البراء الطويل مرفوعاً و الحمد الله .
و قد روى هذا الخبر ، أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس و أبو سعيد الخدري . قال أبو سعيد الخدري : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها . فإذا الإنسان دفن و تفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقول له هذا منزلك لو كفرت بربك ، و أما الكافر و المنافق فيقول له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري . فيقال له : لا دريت و لا تليت ، ثم يفتح له باب إلى الجنة . فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك . فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا ، ثم يفتح له باب إلى النار ، ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين .
قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء .
فصل : صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم في عذاب القبر على الجملة فلا مطعن فيها و لا معارض لها . و جاء فيما تقدم من الآثار : أن الكافر يفتن في قبره و يسأل و يهان و يعذب . قال أبو محمد عبد الحق : و اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين و لا موقوفاً على المنافقين ، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين ، و كل على حال من عمله و ما استوجبه من خطبئته و زلله . و إن كانت تلك النصوص المتقدمة في عذاب القبر إنما جاءت في الكافر و المنافق ، قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد : الآثار الثابتة تدل على : أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق ممن كان منسوباً إلى أهل القبلة و دين الإسلام من حقن دمه بظاهر الشهادة ، و أما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه و دينه و نبيه ، و إنما يسأل عن هذا أهل الإسلام و الله أعلم ، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت و يرتاب المبطلون . قال ابن عبد البر و في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها و منهم من يرويه تسأل . و على هذا الفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك ، و هذا أمر لا يقطع عليه ، و الله أعلم .
و قال أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول : و إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة . لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة فإذا أبوا كفت الرسل ، و اعتزلوا و عوجلوا بالعذاب ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم بالرحمة و أماناً للخلق ، فقال : و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب و أعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ، ثم يرسخ في قلبه ، فأمهلوا ، فمن هنا ظهر أمر النفاق فكانوا يسرون الكفر و يعلنون الإيمان فكانوا بين المسلمين في ستر ، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سترهم بالسؤال ، و ليميز الله الخبيث من الطيب فيثبت الثابت في الحياة الدنيا و يضل الله الظالمين .
قال المؤلف : قول أبي محمد عبد الحق أصوب ، و الله أعلم ، فإن الأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على : أن الكافر يسأله الملكان ، و يختبرانه بالسؤال و يضرب بمطارق من حديد على ما تقدم ، و الله أعلم .

باب ما ينجي المؤمن من أهوال القبر و فتنته و عذابه
و ذلك خمسة أشياء : رباط . قتل . قول . بطن . زمان .
الأول : روى مسلم عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : رباط يوم و ليلة خير من صيام شهر و قيامة ، و إن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله و أجرى عليه رزقه و أمن من الفتان فالرباط من أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة [ الحديث ] . و قد تقدم و هو حديث صحيح ، انفرد بإخراجه مسلم ، و كذلك ما أخرجه ابن ماجه و أبو نعيم من أنه يلحق الميت بعد موته ، فإن ذلك مما ينقطع بنفاده و ذهابه ، كالصدقة بنفادها ، و العلم بذهابه ، و الولد الصالح بموته ، و النخل بقطعه إلى غير ذلك مما ذكر ، و الرباط يضاعف أجره لصاحبه إلى يوم القيامة لقوله عليه الصلاة و السلام : و إن مات أجرى عليه عمله و قد جاء مفسراً مبيناً في كتاب الترمذي عن فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله ، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة و يأمن من فتنة القبر . قال : حديث حسن صحيح ، و أخرجه أبو داود بمعناه و قال : و يؤمن من فتاني القبر و لا معنى للنماء إلا المضاعفة و هي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه ، بل هي فضل دائم من الله تعالى لأن أعمال البر لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو و التحرز منهم بحراسته بيضة الدين و إقامة شعائر الإسلام ، و هذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة .
و خرجه ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله عليه عمله الصالح الذي كان يعمل و أجرى عليه و أمن من الفتان و يبعثه رزقه الله أميناً من الفزع الأكبر .
و خرج أبو نعيم الحافظ عن جبير بن بكير و كبير بن مرة و عمرو بن الأسود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله . فإنه ينمي عليه عمله يجري عليه رزقه إلى يوم الحساب .
و في هذا الحديث و حديث فضالة بن عبيد قيد ثان . و هو : الموت حالة الرباط و الله أعلم .
و روى عن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها و قيامها .
و روي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان أعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها و قيامها ، و رباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أفضل عند الله و أعظم أجراً . أراه قال : من عبادة ألف سنة صيامها و قيامها ، فإن رده الله إلى أهله سالماً لم يكتب عليه سيئة ألف سنة . و يكتب له من الحسنات و يجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة . فدل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل به الثواب الدائم و إن لم يمت مرابطاً و الله أعلم . أخرجه عن محمد بن إسماعيل بن سمرة ، حدثنا محمد بن يعلى السلمي ، حدثنا عمرو بن صبيح ، عن عبد الرحمن بن عمرو ، عن مكحول ، عن أبي بن كعب فذكره .
مسألة الرباط : هو الملازمة في سبيل الله . مأخوذ من ربط الخيل ثم سمي ملازم لثغر من ثغور المسلمين : مرابطاً . فارساً كان أو راجلاً ، و اللفظة مأخوذة من الرباط ، و قول النبي صلى الله عليه و سلم في منتظري الصلاة : فذلكم الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله ، و الرباط اللغوي هو الأول ، و هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما ، فأما سكان الثغور دائماً بأهلهم الذي يعمرون و يكتسبون هناك ، فهم و إن كانوا حماة فليسوا بمرابطين . قاله علماؤنا ، و قد بيناه في كتاب الجامع لأحكام القرآن من سورة آل عمران و الحمد لله .
الثاني : روى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رجلاً قال يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأس فتنة .
و خرج ابن ماجة في سننه و الترمذي في جامعه و غيرهما عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة . و يرى مقعده من الجنة . و يجار من عذاب القبر . و يأمن من الفزع الأكبر . و يوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا و ما فيها . و يزوج إثنتين و سبعين زوجة من الحور العين ، و يشفع في سبعين من أقاربه لفظ الترمذي ، و قال حديث حسن صحيح غريب ، و قال ابن ماجه : [ يغفر له في أول دفعه من دمه قال : و يحلى حلة الإيمان ] بدل : [ و يوضع على رأسه تاج الوقار ] قال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش قال : حدثني بجير بن سعد ، و قال الترمذي : حدثنا عيد الله بن عبد الرحمن قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن بجير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معدي كرب . فذكره .
قال المؤلف و وقع في جميع نسخ الترمذي و ابن ماجه : [ ست خصال ] و هي في متن الحديث : [ سبع ] و على ما ذكر ابن ماجه : [ و يحلى بحلة الإيمان ] تكون ثمانية ، و كذا ذكره أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد بسنده عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ثمانية خصال .
الثالث : روى الترمذي عن ابن عباس قال : ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم خباءه على قبره و هو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ضربت خبائي على قبر و أنا لا أحسب أنه قبر ، فإذا بقبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها . فقال صلى الله عليه و سلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر . قال حديث حسن غريب . و خرج أيضاً عنه صلى الله عليه و سلم : أن من قرأها كل ليلة جاءت تجادل عن صاحبها . و روي أنها المجادلة تجادل عن صاحبها يعني قارئها في القبر ، و روي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان .
و أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي بثغر الإسكندرية حماه الله قال : حدثني الشيخ الصالح أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري ابن أخي الشيخ الإمام أبي بكر قال : حدثني الشيخ الشريف أبو محمد يونس بن أبي الحسين بن أبي البركات الهاشمي البغدادي ، حدثنا أبو الوقت عن الداودي ، عن الحموي ، عن أبي إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي ، عن عبد الله بن حميد الكشي ، عن إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال الرجل : بلى يا ابن عباس رحمك الله . قال : تبارك الذي بيده الملك احفظها و علمها أهلك و جمع ولدك و صبيان بيتك و جيرانك فإنها المنجية و المجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها ، و تطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه و ينجي الله بها صاحبها من عذاب القبر . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي و أخبرناه عالياً الشيخ المحدث أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصاري التلمساني بثغر الإسكندرية عن شيخه الشريف أبي محمد يونس عن أبي الوقت . و قد تقدم : أن قراءة الرجل قل هو الله أحد في مرض الموت تنجي من ذلك .
الرابع : روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات مريضاً مات شهيداً ، و وقى فتنة القبر ، و غدى و ريح عليه برزقه من الجنة .
و خرج النسائي عن جامع بن شداد قال : سمعت عبد الله بن يسار يقول : كنت جالساً عند سليمان بن صرد ، و خالد بن عرفطة فذكرا أن رجلاً مات ببطنه فإذا هما يشتهيان أن يشهدا جنازته . فقال أحدهما للآخر : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يقتله بطنه لم يعذب في قبره . أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا شعبة ، قال ، أخبرني جامع بن شداد فذكره و زاد فقال الآخر : بلى .
الخامس : روى الترمذي ، عن ربيعة بن سيف ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مسلم يموت يوم الجمعة ، أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر ، قال هذا حديث حسن غريب ، و ليس إسناده بمتصل ربيعة بن سيف إنما يروي عن عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو ، و لا نعرف لربيعة بن سيف سماعاً من عبد الله بن عمرو .
قلت : قد خرجه أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول متصلاً عن ربيعة بن سيف الإسكندري ، عن عياض بن عقبة الفهري ، عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتنة القبر و خرجه علي بن معبد عنه ـ أعني عبد الله بن عمرو الترمذي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقى فتنة القبر و أخرجه أبو نعيم الحافظ من حديث محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أجير من عذاب القبر ، و جاء يوم القيامة و عليه طابع الشهداء . غريب من حديث جابر و محمد تفرد به عمر بن موسى الوجيهي و هو مدني فيه لين عن محمد بن جابر .
فصل : قلت : اعلم رحمك الله أن هذا الباب لا يعارض ما تقدم من الأبواب ، بل يخصصها و يبين من لا يسأل في قبره و لا يفتن فيه ، ممن يجري عليه السؤال ، و يقاسي تلك الأهوال و هذا كله ليس فيه مدخل للقياس و لا مجال للنظر فيه . و إنما فيه التسليم و الانقياد لقول الصادق المرسل إلى العباد صلى الله عليه و سلم .
و قد روى ابن ماجه في سننه عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل الميت في قبره مثلت له الشمس عند غروبها فيجلس فيمسح عينيه و يقول : دعوني أصلي و لعل هذا ممن وقى فتنة القبر فلا تعارض و الحمد لله .
 
الوسوم
أحوال الآخرة الإمام التذكرة القرطبي الموتى في كتاب وأمور
عودة
أعلى