{ 197 } { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }
يخبر تعالى أن { الْحَجَّ } واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين, مشهورات, بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره, وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس.
وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم, التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم.
والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال, وذو القعدة, وعشر من ذي الحجة, فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا.
{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي: أحرم به, لأن الشروع فيه يصيره فرضا, ولو كان نفلا.
واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه, على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، قلت لو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور, بصحة الإحرام [بالحج] قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها, وإلا لم يقيده.
وقوله: { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج, وخصوصا الواقع في أشهره, وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه, من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية, خصوصا عند النساء بحضرتهن.
والفسوق وهو: جميع المعاصي, ومنها محظورات الإحرام.
والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة, لكونها تثير الشر, وتوقع العداوة.
والمقصود من الحج, الذل والانكسار لله, والتقرب إليه بما أمكن من القربات, والتنزه عن مقارفة السيئات, فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور, ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان, فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج.
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أتى بـ " من " لتنصيص على العموم، فكل خير وقربة وعبادة, داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم, وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير, وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة, فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها, من صلاة, وصيام, وصدقة, وطواف, وإحسان قولي وفعلي.
ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك, فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين, والكف عن أموالهم, سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين, وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع.
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه, في دنياه, وأخراه, فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار, وهو الموصل لأكمل لذة, وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد, فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر, وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى.
ثم أمر بها أولي الألباب فقال: { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي: يا أهل العقول الرزينة, اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول, وتركها دليل على الجهل, وفساد الرأي.
{ 198 - 202 } { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
لما أمر تعالى بالتقوى, أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره, ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج, وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله, لا منسوبا إلى حذق العبد, والوقوف مع السبب, ونسيان المسبب, فإن هذا هو الحرج بعينه.
وفي قوله: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } دلالة على أمور:
أحدها: الوقوف بعرفة, وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات, لا تكون إلا بعد الوقوف.
الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام, وهو المزدلفة, وذلك أيضا معروف, يكون ليلة النحر بائتا بها, وبعد صلاة الفجر, يقف في المزدلفة داعيا, حتى يسفر جدا, ويدخل في ذكر الله عنده, إيقاع الفرائض والنوافل فيه.
الثالث: أن الوقوف بمزدلفة, متأخر عن الوقوف بعرفة, كما تدل عليه الفاء والترتيب.
الرابع, والخامس: أن عرفات ومزدلفة, كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها, وإظهارها.
السادس: أن مزدلفة في الحرم, كما قيده بالحرام.
السابع: أن عرفة في الحل, كما هو مفهوم التقييد بـ " مزدلفة "
{ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال, وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم, التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس, من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم, وهو رمي الجمار, وذبح الهدايا, والطواف, والسعي, والمبيت بـ " منى " ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك.
ولما كانت [هذه] الإفاضة, يقصد بها ما ذكر, والمذكورات آخر المناسك, أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد, في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد, كلما فرغ من عبادة, أن يستغفر الله عن التقصير, ويشكره على التوفيق, لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة, ومن بها على ربه, وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة, فهذا حقيق بالمقت, ورد الفعل، كما أن الأول, حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق, وأن الجميع يسألونه مطالبهم, ويستدفعونه ما يضرهم, ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم: { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته, وليس له في الآخرة من نصيب, لرغبته عنها, وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء, لهم نصيب من كسبهم وعملهم, وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل, يحمد عليه أكمل حمد وأتمه، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع, مسلما أو كافرا, أو فاسقا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه, دليلا على محبته له وقربه منه, إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين.
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد, من رزق هنيء واسع حلال, وزوجة صالحة, وولد تقر به العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك, من المطالب المحبوبة والمباحة.
وحسنة الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر, والموقف, والنار, وحصول رضا الله, والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله, وأولاه بالإيثار, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به, والحث عليه.
{ 203 } { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات, وهي أيام التشريق الثلاثة بعد العيد, لمزيتها وشرفها, وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها, ولكون الناس أضيافا لله فيها, ولهذا حرم صيامها، فللذكر فيها مزية ليست لغيرها, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أيام التشريق, أيام أكل وشرب, وذكر الله "
ويدخل في ذكر الله فيها, ذكره عند رمي الجمار, وعند الذبح, والذكر المقيد عقب الفرائض، بل قال بعض العلماء: إنه يستحب فيها التكبير المطلق, كالعشر, وليس ببعيد.
{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } أي: خرج من " منى " ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ } بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } وهذا تخفيف من الله [تعالى] على عباده, في إباحة كلا الأمرين، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين, فالمتأخر أفضل, لأنه أكثر عبادة.
ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره, والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم، والمتأخر فقط قيده بقوله: { لِمَنِ اتَّقَى } أي: اتقى الله في جميع أموره, وأحوال الحج، فمن اتقى الله في كل شيء, حصل له نفي الحرج في كل شيء، ومن اتقاه في شيء دون شيء, كان الجزاء من جنس العمل.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه, وجد جزاء التقوى عنده, ومن لم يتقه, عاقبه أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله, فلهذا حث تعالى على العلم بذلك.
{ 204 - 206 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }
لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره, وخصوصا في الأوقات الفاضلة الذي هو خير ومصلحة وبر, أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله, فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: إذا تكلم راق كلامه للسامع، وإذا نطق, ظننته يتكلم بكلام نافع, ويؤكد ما يقول بأنه { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } بأن يخبر أن الله يعلم, أن ما في قلبه موافق لما نطق به, وهو كاذب في ذلك, لأنه يخالف قوله فعله.
فلو كان صادقا, لتوافق القول والفعل, كحال المؤمن غير المنافق, فلهذا قال: { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } أي: إذا خاصمته, وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب, وما يترتب على ذلك, ما هو من مقابح الصفات, ليس كأخلاق المؤمنين, الذين جعلوا السهولة مركبهم, والانقياد للحق وظيفتهم, والسماحة سجيتهم.
{ وَإِذَا تَوَلَّى } هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك { سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } أي: يجتهد على أعمال المعاصي, التي هي إفساد في الأرض { وَيُهْلِكَ } بسبب ذلك { الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } فالزروع والثمار والمواشي, تتلف وتنقص, وتقل بركتها, بسبب العمل في المعاصي، { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وإذا كان لا يحب الفساد, فهو يبغض العبد المفسد في الأرض, غاية البغض, وإن قال بلسانه قولا حسنا.
ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص, ليست دليلا على صدق ولا كذب, ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها, المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود, والمحق والمبطل من الناس, بسبر أعمالهم, والنظر لقرائن أحوالهم, وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم.
ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله, إذا أمر بتقوى الله تكبر وأنف، و { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر على الناصحين.
{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } التي هي دار العاصين والمتكبرين، { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي: المستقر والمسكن, عذاب دائم, وهم لا ينقطع, ويأس مستمر, لا يخفف عنهم العذاب, ولا يرجون الثواب, جزاء لجناياتهم ومقابلة لأعمالهم، فعياذا بالله من أحوالهم.
{ 207 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم
{ 208 - 209 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا { فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أي: في جميع شرائع الدين, ولا يتركوا منها شيئا, وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه, إن وافق الأمر المشروع هواه فعله, وإن خالفه, تركه، بل الواجب أن يكون الهوى, تبعا للدين, وأن يفعل كل ما يقدر عليه, من أفعال الخير, وما يعجز عنه, يلتزمه وينويه, فيدركه بنيته.
ولما كان الدخول في السلم كافة, لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: في العمل بمعاصي الله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } والعدو المبين, لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء, وما به الضرر عليكم.
ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خلل وزلل, قال تعالى: { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي: على علم ويقين { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
وفيه من الوعيد الشديد, والتخويف, ما يوجب ترك الزلل, فإن العزيز القاهر الحكيم, إذا عصاه العاصي, قهره بقوته, وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته, تعذيب العصاة والجناة.
{ 210 } { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }
وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض, المتبعون لخطوات الشيطان, النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال, الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع, ما يقلقل قلوب الظالمين, ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين.
وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض, وتنثر الكواكب, وتكور الشمس والقمر, وتنزل الملائكة الكرام, فتحيط بالخلائق, وينزل الباري [تبارك] تعالى: { فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } ليفصل بين عباده بالقضاء العدل.
فتوضع الموازين, وتنشر الدواوين, وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة, ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه.
وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, المثبتين للصفات الاختيارية, كالاستواء, والنزول, والمجيء, ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى, عن نفسه, أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته, من غير تشبيه ولا تحريف، خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم, من الجهمية, والمعتزلة, والأشعرية ونحوهم, ممن ينفي هذه الصفات, ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان, بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله, والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب، فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي, بل ولا دليل عقلي، أما النقلي فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة, ظاهرها بل صريحها, دال على مذهب أهل السنة والجماعة, وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل, أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص، وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات، بل العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر على الفعل, وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال، فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه، قيل لهم: الكلام على الصفات, يتبع الكلام على الذات، فكما أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات, فلله صفات لا تشبهها الصفات، فصفاته تبع لذاته, وصفات خلقه, تبع لذواتهم, فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه.
ويقال أيضا, لمن أثبت بعض الصفات, ونفى بعضا, أو أثبت الأسماء دون الصفات: إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه, وأثبته رسوله، وإما أن تنفي الجميع, وتكون منكرا لرب العالمين، وأما إثباتك بعض ذلك, ونفيك لبعضه, فهذا تناقض، ففرق بين ما أثبته, وما نفيته, ولن تجد إلى الفرق سبيلا، فإن قلت: ما أثبته لا يقتضي تشبيها، قال لك أهل السنة: والإثبات لما نفيته لا يقتضي تشبيها، فإن قلت: لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه، قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه، فما أجبت به النفاة, أجابك به أهل السنة, لما نفيته.
والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على إثباته, فهو متناقض, لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي, بل قد خالف المعقول والمنقول.
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
بقول تعالى: { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } تدل على الحق، وعلى صدق الرسل، فتيقنوها وعرفوها، فلم يقوموا بشكر هذه النعمة، التي تقتضي القيام بها.
بل كفروا بها وبدلوا نعمة الله كفرا، فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم عقابه ويحرمهم من ثوابه، وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديلا لها، لأن من أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية، فلم يشكرها، ولم يقم بواجبها، اضمحلت عنه وذهبت، وتبدلت بالكفر والمعاصي، فصار الكفر بدل النعمة، وأما من شكر الله تعالى، وقام بحقها، فإنها تثبت وتستمر، ويزيده الله منها.
(1/95)
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ( 212).
يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله، ولم ينقادوا لشرعه، أنهم زينت لهم الحياة الدنيا، فزينت في أعينهم وقلوبهم، فرضوا بها، واطمأنوا بها وصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها، فأقبلوا عليها، وأكبوا على تحصيلها، وعظموها، وعظموا من شاركهم في صنيعهم، واحتقروا المؤمنين، واستهزأوا بهم وقالوا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟
وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر، فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وسيحصل الشقاء فيها لأهل الإيمان والكفران، بل المؤمن في الدنيا، وإن ناله مكروه، فإنه يصبر ويحتسب، فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ما لا يكون لغيره.
وإنما الشأن كل الشأن، والتفضيل الحقيقي، في الدار الباقية، فلهذا قال تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فيكون المتقون في أعلى الدرجات، متمتعين بأنواع النعيم والسرور، والبهجة والحبور.
والكفار تحتهم في أسفل الدركات، معذبين بأنواع العذاب والإهانة، والشقاء السرمدي، الذي لا منتهى له، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين، ونعي على الكافرين. ولما كانت الأرزاق الدنيوية والأخروية، لا تحصل إلا بتقدير الله، ولن تنال إلا بمشيئة الله، قال تعالى: { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان، ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك، فلا يعطيها إلا من يحب.
(1/95)
{ 213 } { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
(أي: كان الناس) [أي: كانوا مجتمعين على الهدى، وذلك عشرة قرون بعد نوح عليه السلام، فلما اختلفوا في الدين فكفر فريق منهم وبقي الفريق الآخر على الدين، وحصل النزاع وبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلائق ويقيموا الحجة عليهم، وقيل بل كانوا] (1) مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء، ليس لهم نور ولا إيمان، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم { مُبَشِّرِينَ } من أطاع الله بثمرات الطاعات، من الرزق، والقوة في البدن والقلب، والحياة الطيبة، وأعلى ذلك، الفوز برضوان الله والجنة.
{ وَمُنْذِرِينَ } من عصى الله، بثمرات المعصية، من حرمان الرزق، والضعف، والإهانة، والحياة الضيقة، وأشد ذلك، سخط الله والنار.
{ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } وهو الإخبارات الصادقة، والأوامر العادلة، فكل ما اشتملت عليه الكتب، فهو حق، يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع، أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله، ولولا أن في كتابه، وسنة رسوله، فصل النزاع، لما أمر بالرد إليهما.
ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب، وكان هذا [ ص 96 ] يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف.
فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه، وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات، والأدلة القاطعات، فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
{ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } من هذه الأمة { لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ } فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب، وأخطأوا فيه الحق والصواب، هدى الله للحق فيه هذه الأمة { بِإِذْنِهِ } تعالى وتيسيره لهم ورحمته.
{ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فعمَّ الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم، عدلا منه تعالى، وإقامة حجة على الخلق، لئلا يقولوا: { ما جاءنا من بشير ولا نذير } وهدى - بفضله ورحمته، وإعانته ولطفه - من شاء من عباده، فهذا فضله وإحسانه، وذاك عدله وحكمته.
__________
(1) زيادة في هامش ب، وبالنظر إلى السياق يظهر أن الأقرب أن هذا محلها، ولهذا وليتسق الكلام يكون آخره هكذا (وقيل بل كانوا مجتمعين على الكفر) ويكون قوله: (أي كان الناس) مكررا.
(1/95)
{ 214 } { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } .
يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها.
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم { مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ } أي: الفقر { وَالضَّرَّاءُ } أي: الأمراض في أبدانهم { وَزُلْزِلُوا } بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال { الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } .
فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.
فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك، الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } .
وقوله [تعالى:] { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } فعند الامتحان، يكرم المرء أو يهان.
(1/96)
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } .( 215 )
أي: يسألونك عن النفقة، وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه، فأجابهم عنهما فقال: { قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ } أي: مال قليل أو كثير، فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم، أعظمهم حقا عليك، وهم الوالدان الواجب برهما، والمحرم عقوقهما، ومن أعظم برهما، النفقة عليهما، ومن أعظم العقوق، ترك الإنفاق عليهما، ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة، على الولد الموسر، ومن بعد الوالدين الأقربون، على اختلاف طبقاتهم، الأقرب فالأقرب، على حسب القرب والحاجة، فالإنفاق عليهم صدقة وصلة، { وَالْيَتَامَى } وهم الصغار الذين لا كاسب لهم، فهم في مظنة الحاجة لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم، وفقد الكاسب، فوصى الله بهم العباد، رحمة منه بهم ولطفا، { وَالْمَسَاكِينِ } وهم أهل الحاجات، وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة، فينفق عليهم، لدفع حاجاتهم وإغنائهم.
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } أي: الغريب المنقطع به في غير بلده، فيعان على سفره بالنفقة، التي توصله إلى مقصده.
ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف، لشدة الحاجة، عمم تعالى فقال: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ } من صدقة على هؤلاء وغيرهم، بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات، لأنها تدخل في اسم الخير، { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } فيجازيكم عليه، ويحفظه لكم، كل على حسب نيته وإخلاصه، وكثرة نفقته وقلتها، وشدة الحاجة إليها، وعظم وقعها ونفعها.
{216 }{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
هذه الآية, فيها فرض القتال في سبيل الله, بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه, لضعفهم, وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وكثر المسلمون, وقووا أمرهم الله تعالى بالقتال، وأخبر أنه مكروه للنفوس, لما فيه من التعب والمشقة, وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف، ومع هذا, فهو خير محض, لما فيه من الثواب العظيم, والتحرز من العقاب الأليم, والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم, وغير ذلك, مما هو مرب, على ما فيه من الكراهة { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة, فإنه شر, لأنه يعقب الخذلان, وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله, وحصول الذل والهوان, وفوات الأجر العظيم وحصول العقاب.
وهذه الآيات عامة مطردة, في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.
وأما أحوال الدنيا, فليس الأمر مطردا, ولكن الغالب على العبد المؤمن, أنه إذا أحب أمرا من الأمور, فقيض الله [له] من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له, فالأوفق له في ذلك, أن يشكر الله, ويجعل الخير في الواقع, لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه, وأقدر على مصلحة عبده منه, وأعلم بمصلحته منه كما قال [تعالى:] { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره, سواء سرتكم أو ساءتكم.
ولما كان الأمر بالقتال, لو لم يقيد, لشمل الأشهر الحرم وغيرها, استثنى تعالى, القتال في الأشهر الحرم فقال: { 217 } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم, منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ, لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام.
ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل, لسرية عبد الله بن جحش, وقتلهم عمرو بن الحضرمي, وأخذهم أموالهم, وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم, وكانوا في تعييرهم ظالمين, إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين, قال تعالى في بيان ما فيهم: { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله, وفتنتهم من آمن به, وسعيهم في ردهم عن دينهم, وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام, والبلد الحرام, الذي هو بمجرده, كاف في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟! { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي: أهل المسجد الحرام, وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنهم أحق به من المشركين, وهم عماره على الحقيقة, فأخرجوهم { مِنْهُ } ولم يمكنوهم من الوصول إليه, مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام, فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة, في تعييرهم المؤمنين.
ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم, وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم, ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك, ساعون بما أمكنهم, { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون }
وهذا الوصف عام لكل الكفار, لا يزالون يقاتلون غيرهم, حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا, أهل الكتاب, من اليهود والنصارى, الذين بذلوا الجمعيات, ونشروا الدعاة, وبثوا الأطباء, وبنوا المدارس, لجذب الأمم إلى دينهم, وتدخيلهم عليهم, كل ما يمكنهم من الشبه, التي تشككهم في دينهم.
ولكن المرجو من الله تعالى, الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام, واختار لهم دينه القيم, وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام, وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره, ويجعل كيدهم في نحورهم, وينصر دينه, ويعلي كلمته.
وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار, كما صدقت على من قبلهم: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام, بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا، { فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ودلت الآية بمفهومها, أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام, أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي, فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.
يخبر تعالى أن { الْحَجَّ } واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين, مشهورات, بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره, وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس.
وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم, التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم.
والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال, وذو القعدة, وعشر من ذي الحجة, فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا.
{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي: أحرم به, لأن الشروع فيه يصيره فرضا, ولو كان نفلا.
واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه, على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، قلت لو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور, بصحة الإحرام [بالحج] قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها, وإلا لم يقيده.
وقوله: { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج, وخصوصا الواقع في أشهره, وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه, من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية, خصوصا عند النساء بحضرتهن.
والفسوق وهو: جميع المعاصي, ومنها محظورات الإحرام.
والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة, لكونها تثير الشر, وتوقع العداوة.
والمقصود من الحج, الذل والانكسار لله, والتقرب إليه بما أمكن من القربات, والتنزه عن مقارفة السيئات, فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور, ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان, فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج.
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أتى بـ " من " لتنصيص على العموم، فكل خير وقربة وعبادة, داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم, وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير, وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة, فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها, من صلاة, وصيام, وصدقة, وطواف, وإحسان قولي وفعلي.
ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك, فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين, والكف عن أموالهم, سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين, وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع.
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه, في دنياه, وأخراه, فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار, وهو الموصل لأكمل لذة, وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد, فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر, وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى.
ثم أمر بها أولي الألباب فقال: { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي: يا أهل العقول الرزينة, اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول, وتركها دليل على الجهل, وفساد الرأي.
{ 198 - 202 } { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
لما أمر تعالى بالتقوى, أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره, ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج, وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله, لا منسوبا إلى حذق العبد, والوقوف مع السبب, ونسيان المسبب, فإن هذا هو الحرج بعينه.
وفي قوله: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } دلالة على أمور:
أحدها: الوقوف بعرفة, وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات, لا تكون إلا بعد الوقوف.
الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام, وهو المزدلفة, وذلك أيضا معروف, يكون ليلة النحر بائتا بها, وبعد صلاة الفجر, يقف في المزدلفة داعيا, حتى يسفر جدا, ويدخل في ذكر الله عنده, إيقاع الفرائض والنوافل فيه.
الثالث: أن الوقوف بمزدلفة, متأخر عن الوقوف بعرفة, كما تدل عليه الفاء والترتيب.
الرابع, والخامس: أن عرفات ومزدلفة, كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها, وإظهارها.
السادس: أن مزدلفة في الحرم, كما قيده بالحرام.
السابع: أن عرفة في الحل, كما هو مفهوم التقييد بـ " مزدلفة "
{ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال, وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم, التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس, من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم, وهو رمي الجمار, وذبح الهدايا, والطواف, والسعي, والمبيت بـ " منى " ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك.
ولما كانت [هذه] الإفاضة, يقصد بها ما ذكر, والمذكورات آخر المناسك, أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد, في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد, كلما فرغ من عبادة, أن يستغفر الله عن التقصير, ويشكره على التوفيق, لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة, ومن بها على ربه, وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة, فهذا حقيق بالمقت, ورد الفعل، كما أن الأول, حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق, وأن الجميع يسألونه مطالبهم, ويستدفعونه ما يضرهم, ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم: { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته, وليس له في الآخرة من نصيب, لرغبته عنها, وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء, لهم نصيب من كسبهم وعملهم, وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل, يحمد عليه أكمل حمد وأتمه، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع, مسلما أو كافرا, أو فاسقا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه, دليلا على محبته له وقربه منه, إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين.
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد, من رزق هنيء واسع حلال, وزوجة صالحة, وولد تقر به العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك, من المطالب المحبوبة والمباحة.
وحسنة الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر, والموقف, والنار, وحصول رضا الله, والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله, وأولاه بالإيثار, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به, والحث عليه.
{ 203 } { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات, وهي أيام التشريق الثلاثة بعد العيد, لمزيتها وشرفها, وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها, ولكون الناس أضيافا لله فيها, ولهذا حرم صيامها، فللذكر فيها مزية ليست لغيرها, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أيام التشريق, أيام أكل وشرب, وذكر الله "
ويدخل في ذكر الله فيها, ذكره عند رمي الجمار, وعند الذبح, والذكر المقيد عقب الفرائض، بل قال بعض العلماء: إنه يستحب فيها التكبير المطلق, كالعشر, وليس ببعيد.
{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } أي: خرج من " منى " ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ } بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } وهذا تخفيف من الله [تعالى] على عباده, في إباحة كلا الأمرين، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين, فالمتأخر أفضل, لأنه أكثر عبادة.
ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره, والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم، والمتأخر فقط قيده بقوله: { لِمَنِ اتَّقَى } أي: اتقى الله في جميع أموره, وأحوال الحج، فمن اتقى الله في كل شيء, حصل له نفي الحرج في كل شيء، ومن اتقاه في شيء دون شيء, كان الجزاء من جنس العمل.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه, وجد جزاء التقوى عنده, ومن لم يتقه, عاقبه أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله, فلهذا حث تعالى على العلم بذلك.
{ 204 - 206 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }
لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره, وخصوصا في الأوقات الفاضلة الذي هو خير ومصلحة وبر, أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله, فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: إذا تكلم راق كلامه للسامع، وإذا نطق, ظننته يتكلم بكلام نافع, ويؤكد ما يقول بأنه { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } بأن يخبر أن الله يعلم, أن ما في قلبه موافق لما نطق به, وهو كاذب في ذلك, لأنه يخالف قوله فعله.
فلو كان صادقا, لتوافق القول والفعل, كحال المؤمن غير المنافق, فلهذا قال: { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } أي: إذا خاصمته, وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب, وما يترتب على ذلك, ما هو من مقابح الصفات, ليس كأخلاق المؤمنين, الذين جعلوا السهولة مركبهم, والانقياد للحق وظيفتهم, والسماحة سجيتهم.
{ وَإِذَا تَوَلَّى } هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك { سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } أي: يجتهد على أعمال المعاصي, التي هي إفساد في الأرض { وَيُهْلِكَ } بسبب ذلك { الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } فالزروع والثمار والمواشي, تتلف وتنقص, وتقل بركتها, بسبب العمل في المعاصي، { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وإذا كان لا يحب الفساد, فهو يبغض العبد المفسد في الأرض, غاية البغض, وإن قال بلسانه قولا حسنا.
ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص, ليست دليلا على صدق ولا كذب, ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها, المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود, والمحق والمبطل من الناس, بسبر أعمالهم, والنظر لقرائن أحوالهم, وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم.
ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله, إذا أمر بتقوى الله تكبر وأنف، و { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر على الناصحين.
{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } التي هي دار العاصين والمتكبرين، { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي: المستقر والمسكن, عذاب دائم, وهم لا ينقطع, ويأس مستمر, لا يخفف عنهم العذاب, ولا يرجون الثواب, جزاء لجناياتهم ومقابلة لأعمالهم، فعياذا بالله من أحوالهم.
{ 207 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم
{ 208 - 209 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا { فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أي: في جميع شرائع الدين, ولا يتركوا منها شيئا, وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه, إن وافق الأمر المشروع هواه فعله, وإن خالفه, تركه، بل الواجب أن يكون الهوى, تبعا للدين, وأن يفعل كل ما يقدر عليه, من أفعال الخير, وما يعجز عنه, يلتزمه وينويه, فيدركه بنيته.
ولما كان الدخول في السلم كافة, لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: في العمل بمعاصي الله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } والعدو المبين, لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء, وما به الضرر عليكم.
ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خلل وزلل, قال تعالى: { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي: على علم ويقين { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
وفيه من الوعيد الشديد, والتخويف, ما يوجب ترك الزلل, فإن العزيز القاهر الحكيم, إذا عصاه العاصي, قهره بقوته, وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته, تعذيب العصاة والجناة.
{ 210 } { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }
وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض, المتبعون لخطوات الشيطان, النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال, الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع, ما يقلقل قلوب الظالمين, ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين.
وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض, وتنثر الكواكب, وتكور الشمس والقمر, وتنزل الملائكة الكرام, فتحيط بالخلائق, وينزل الباري [تبارك] تعالى: { فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } ليفصل بين عباده بالقضاء العدل.
فتوضع الموازين, وتنشر الدواوين, وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة, ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه.
وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, المثبتين للصفات الاختيارية, كالاستواء, والنزول, والمجيء, ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى, عن نفسه, أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته, من غير تشبيه ولا تحريف، خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم, من الجهمية, والمعتزلة, والأشعرية ونحوهم, ممن ينفي هذه الصفات, ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان, بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله, والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب، فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي, بل ولا دليل عقلي، أما النقلي فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة, ظاهرها بل صريحها, دال على مذهب أهل السنة والجماعة, وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل, أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص، وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات، بل العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر على الفعل, وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال، فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه، قيل لهم: الكلام على الصفات, يتبع الكلام على الذات، فكما أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات, فلله صفات لا تشبهها الصفات، فصفاته تبع لذاته, وصفات خلقه, تبع لذواتهم, فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه.
ويقال أيضا, لمن أثبت بعض الصفات, ونفى بعضا, أو أثبت الأسماء دون الصفات: إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه, وأثبته رسوله، وإما أن تنفي الجميع, وتكون منكرا لرب العالمين، وأما إثباتك بعض ذلك, ونفيك لبعضه, فهذا تناقض، ففرق بين ما أثبته, وما نفيته, ولن تجد إلى الفرق سبيلا، فإن قلت: ما أثبته لا يقتضي تشبيها، قال لك أهل السنة: والإثبات لما نفيته لا يقتضي تشبيها، فإن قلت: لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه، قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه، فما أجبت به النفاة, أجابك به أهل السنة, لما نفيته.
والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على إثباته, فهو متناقض, لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي, بل قد خالف المعقول والمنقول.
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
بقول تعالى: { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } تدل على الحق، وعلى صدق الرسل، فتيقنوها وعرفوها، فلم يقوموا بشكر هذه النعمة، التي تقتضي القيام بها.
بل كفروا بها وبدلوا نعمة الله كفرا، فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم عقابه ويحرمهم من ثوابه، وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديلا لها، لأن من أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية، فلم يشكرها، ولم يقم بواجبها، اضمحلت عنه وذهبت، وتبدلت بالكفر والمعاصي، فصار الكفر بدل النعمة، وأما من شكر الله تعالى، وقام بحقها، فإنها تثبت وتستمر، ويزيده الله منها.
(1/95)
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ( 212).
يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله، ولم ينقادوا لشرعه، أنهم زينت لهم الحياة الدنيا، فزينت في أعينهم وقلوبهم، فرضوا بها، واطمأنوا بها وصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها، فأقبلوا عليها، وأكبوا على تحصيلها، وعظموها، وعظموا من شاركهم في صنيعهم، واحتقروا المؤمنين، واستهزأوا بهم وقالوا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟
وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر، فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وسيحصل الشقاء فيها لأهل الإيمان والكفران، بل المؤمن في الدنيا، وإن ناله مكروه، فإنه يصبر ويحتسب، فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ما لا يكون لغيره.
وإنما الشأن كل الشأن، والتفضيل الحقيقي، في الدار الباقية، فلهذا قال تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فيكون المتقون في أعلى الدرجات، متمتعين بأنواع النعيم والسرور، والبهجة والحبور.
والكفار تحتهم في أسفل الدركات، معذبين بأنواع العذاب والإهانة، والشقاء السرمدي، الذي لا منتهى له، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين، ونعي على الكافرين. ولما كانت الأرزاق الدنيوية والأخروية، لا تحصل إلا بتقدير الله، ولن تنال إلا بمشيئة الله، قال تعالى: { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان، ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك، فلا يعطيها إلا من يحب.
(1/95)
{ 213 } { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
(أي: كان الناس) [أي: كانوا مجتمعين على الهدى، وذلك عشرة قرون بعد نوح عليه السلام، فلما اختلفوا في الدين فكفر فريق منهم وبقي الفريق الآخر على الدين، وحصل النزاع وبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلائق ويقيموا الحجة عليهم، وقيل بل كانوا] (1) مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء، ليس لهم نور ولا إيمان، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم { مُبَشِّرِينَ } من أطاع الله بثمرات الطاعات، من الرزق، والقوة في البدن والقلب، والحياة الطيبة، وأعلى ذلك، الفوز برضوان الله والجنة.
{ وَمُنْذِرِينَ } من عصى الله، بثمرات المعصية، من حرمان الرزق، والضعف، والإهانة، والحياة الضيقة، وأشد ذلك، سخط الله والنار.
{ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } وهو الإخبارات الصادقة، والأوامر العادلة، فكل ما اشتملت عليه الكتب، فهو حق، يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع، أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله، ولولا أن في كتابه، وسنة رسوله، فصل النزاع، لما أمر بالرد إليهما.
ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب، وكان هذا [ ص 96 ] يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف.
فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه، وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات، والأدلة القاطعات، فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
{ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } من هذه الأمة { لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ } فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب، وأخطأوا فيه الحق والصواب، هدى الله للحق فيه هذه الأمة { بِإِذْنِهِ } تعالى وتيسيره لهم ورحمته.
{ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فعمَّ الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم، عدلا منه تعالى، وإقامة حجة على الخلق، لئلا يقولوا: { ما جاءنا من بشير ولا نذير } وهدى - بفضله ورحمته، وإعانته ولطفه - من شاء من عباده، فهذا فضله وإحسانه، وذاك عدله وحكمته.
__________
(1) زيادة في هامش ب، وبالنظر إلى السياق يظهر أن الأقرب أن هذا محلها، ولهذا وليتسق الكلام يكون آخره هكذا (وقيل بل كانوا مجتمعين على الكفر) ويكون قوله: (أي كان الناس) مكررا.
(1/95)
{ 214 } { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } .
يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها.
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم { مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ } أي: الفقر { وَالضَّرَّاءُ } أي: الأمراض في أبدانهم { وَزُلْزِلُوا } بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال { الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } .
فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.
فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك، الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } .
وقوله [تعالى:] { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } فعند الامتحان، يكرم المرء أو يهان.
(1/96)
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } .( 215 )
أي: يسألونك عن النفقة، وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه، فأجابهم عنهما فقال: { قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ } أي: مال قليل أو كثير، فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم، أعظمهم حقا عليك، وهم الوالدان الواجب برهما، والمحرم عقوقهما، ومن أعظم برهما، النفقة عليهما، ومن أعظم العقوق، ترك الإنفاق عليهما، ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة، على الولد الموسر، ومن بعد الوالدين الأقربون، على اختلاف طبقاتهم، الأقرب فالأقرب، على حسب القرب والحاجة، فالإنفاق عليهم صدقة وصلة، { وَالْيَتَامَى } وهم الصغار الذين لا كاسب لهم، فهم في مظنة الحاجة لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم، وفقد الكاسب، فوصى الله بهم العباد، رحمة منه بهم ولطفا، { وَالْمَسَاكِينِ } وهم أهل الحاجات، وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة، فينفق عليهم، لدفع حاجاتهم وإغنائهم.
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } أي: الغريب المنقطع به في غير بلده، فيعان على سفره بالنفقة، التي توصله إلى مقصده.
ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف، لشدة الحاجة، عمم تعالى فقال: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ } من صدقة على هؤلاء وغيرهم، بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات، لأنها تدخل في اسم الخير، { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } فيجازيكم عليه، ويحفظه لكم، كل على حسب نيته وإخلاصه، وكثرة نفقته وقلتها، وشدة الحاجة إليها، وعظم وقعها ونفعها.
{216 }{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
هذه الآية, فيها فرض القتال في سبيل الله, بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه, لضعفهم, وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وكثر المسلمون, وقووا أمرهم الله تعالى بالقتال، وأخبر أنه مكروه للنفوس, لما فيه من التعب والمشقة, وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف، ومع هذا, فهو خير محض, لما فيه من الثواب العظيم, والتحرز من العقاب الأليم, والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم, وغير ذلك, مما هو مرب, على ما فيه من الكراهة { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة, فإنه شر, لأنه يعقب الخذلان, وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله, وحصول الذل والهوان, وفوات الأجر العظيم وحصول العقاب.
وهذه الآيات عامة مطردة, في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.
وأما أحوال الدنيا, فليس الأمر مطردا, ولكن الغالب على العبد المؤمن, أنه إذا أحب أمرا من الأمور, فقيض الله [له] من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له, فالأوفق له في ذلك, أن يشكر الله, ويجعل الخير في الواقع, لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه, وأقدر على مصلحة عبده منه, وأعلم بمصلحته منه كما قال [تعالى:] { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره, سواء سرتكم أو ساءتكم.
ولما كان الأمر بالقتال, لو لم يقيد, لشمل الأشهر الحرم وغيرها, استثنى تعالى, القتال في الأشهر الحرم فقال: { 217 } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم, منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ, لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام.
ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل, لسرية عبد الله بن جحش, وقتلهم عمرو بن الحضرمي, وأخذهم أموالهم, وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم, وكانوا في تعييرهم ظالمين, إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين, قال تعالى في بيان ما فيهم: { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله, وفتنتهم من آمن به, وسعيهم في ردهم عن دينهم, وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام, والبلد الحرام, الذي هو بمجرده, كاف في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟! { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي: أهل المسجد الحرام, وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنهم أحق به من المشركين, وهم عماره على الحقيقة, فأخرجوهم { مِنْهُ } ولم يمكنوهم من الوصول إليه, مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام, فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة, في تعييرهم المؤمنين.
ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم, وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم, ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك, ساعون بما أمكنهم, { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون }
وهذا الوصف عام لكل الكفار, لا يزالون يقاتلون غيرهم, حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا, أهل الكتاب, من اليهود والنصارى, الذين بذلوا الجمعيات, ونشروا الدعاة, وبثوا الأطباء, وبنوا المدارس, لجذب الأمم إلى دينهم, وتدخيلهم عليهم, كل ما يمكنهم من الشبه, التي تشككهم في دينهم.
ولكن المرجو من الله تعالى, الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام, واختار لهم دينه القيم, وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام, وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره, ويجعل كيدهم في نحورهم, وينصر دينه, ويعلي كلمته.
وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار, كما صدقت على من قبلهم: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام, بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا، { فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ودلت الآية بمفهومها, أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام, أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي, فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.