قصص الانبياء من ادم الى محمد (عليهم الصلاة والسلام)

فكرة الطغاة في إعدام النبي صلى الله عليه وسلم :

:
وبعد فشل قريش وخيبتهم في الوفادتين عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه صلى الله عليه وسلم بطريق أخرى، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي سببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما.
فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوماً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر بـ: {النجم إذا هوى} و {بالذي دنا فتدلى} ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم ، إلا أن البزاق لميقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول يا ويل أخي هو واللَّه آكلي كما دعا محمد عليّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام فعدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه.
ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطىء على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان.
ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل، قال: قال أبو جهل
يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد اللَّه لأجلس له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليضع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: واللَّه لا نسلمك لشيء أبداً، فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه، مرعوباً قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا واللَّه ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني.
قال ابن إسحاق فذكر لي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه.
وبعد ذلك فعل أبو جهل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أدى إلى إسلام حمزة رضي اللَّه عنه وسيأتي.
أما طغاة قريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم، روى ابن إسحاق عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها.فوقف ثم قال: أتسمعون يا مشعر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول انصرف يا أبا القاسم، فواللَّه ما كنت جهولاً.
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟ ثم انصرفوا عنه، قال ابن عمرو فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً نالوا منه قط. انتهى ملخصاً.
وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم . قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً. فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟.
وفي حديث أسماء فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئاً من غدائره إلا رجع معنا.

 
إسلام حمزة رضي اللَّه عنه:

خلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق نور للمقهورين طريقهم ألا وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، أسلم في أواخر السنة السادسة من النبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذي الحجة.
وسبب إسلامه أن أبا جهل مر برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوماً عند الصفا فآذاه ونال منه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فشجه حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد اللَّه بن جدعان في مسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القنص متوشحاً قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة - وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة - فخرج يسعى. لم يقف لأحد، معداً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد قام على رأسه وقال له يا مصفر استه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم - حي أبي جهل - وثار بنو هاشم - حي حمزة - فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل أبى أن يهان مولاه. ثم شرح اللَّه صدره، فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز.

إسلام عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه:

وخلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق آخر أشد بريقاً وإضاءة من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذي الحجة سنة ست من النبوة. بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي اللَّه عنه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا اللَّه تعالى لإسلامه. فقد أخرج الترمذي عن ابن عمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام فكان أحبهما إلى اللَّه عمر رضي اللَّه عنه.
وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزول الإسلام في قلبه كان تدريجاً، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي اللَّه عنه من العواطف والمشاعر.
كان رضي اللَّه عنه معروفاً بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقي المسلمون منه ألوان الأذى، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة، احترامه للتقاليد التي سنها الآباء والأجداد، واسترساله مع شهوات السكر واللهو التي ألفها، ثم إعجابه بصلابة المسلمين واحتمالهم البلاء في سبيل عقيدتهم، ثم الشكوك التي كانت تساوره - كأي عاقل - في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يثور حتى يخور.
وخلاصة الروايات مع الجمع بينها - في إسلامه رضي اللَّه عنه أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي وقد استفتح سورة "الحاقة" فجعل عمر يستمع إلى القرآن ويعجب من تأليفه، قال: فقلت أي في نفسي هذا واللَّه شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40-41] قال: قلت: كاهن. قال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 42-43] إلى آخر السورة. قال فوقع الإسلام في قلبي.
كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية، والعصبية التقليدية، والتعاظم بدين الآباء غالبة على مخ الحقيقة التي كانت يتهمس بها قلبه، فبقي مجداً في عمله ضد الإسلام غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة.
وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوماً متوشحاً سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيه نعيم بن عبد اللَّه النحام العدوي، أو رجل من بني زهرة، أو رجل من بني مخزوم فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمداً. قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمداً؟ فقال له عمر ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه، قال أفلا أدلك على العجب يا عمر إن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر دامراً حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيه {طه} يقرئهما إياها - وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن - فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة - أخت عمر - الصحيفة، وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنه يا عمر أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأً شديداً. فجاءت أخته فرفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها - وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها - فقالت، وهي غضبى يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمداً رسول اللَّه.
فلما يئس عمر، ورأى ما بأخته من الدم ندم واستحى، وقال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاعتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ {بسم اللَّه الرحمن الرحيم} فقال: أسماء طيبة طاهرة. ثم قرأ {طه} حتى انتهى إلى قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد.
فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس (اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام) ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا.
فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار. فضرب الباب، فقام رجل ينظر من خلل الباب فرآه متوشحاً السيف، فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . واستجمع القوم، فقال لهم حمزة ما لكم؟ قالوا: عمر، فقال: وعمر افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه فخرج إلى عمر حتى لقيه فيالحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم جذبهُ جذبةً فقال: أما أنت منتهياً يا عمر حتى ينزل اللَّه بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه. وأسلم فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد.
كان عمر رضي اللَّه عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين بالذلة، والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفاً وسروراً.
روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عداوة، قال: قلت أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي، وقال: أهلاً وسهلاً، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني قد آمنت باللَّه وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به قال: فضرب الباب في وجهي. وقال: قبحك اللَّه، وقبح ما جئت به.
وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي اللَّه عنه قال: كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال يضربونه ويضربهم، فجئت أي حين أسلمت إلى خالي وهو العاصي بن هاشم فأعلمته فدخل البيت. قال: وذهبت إلى رجل من كبراء قريش، لعله أبو جهل، فأعلمته فدخل البيت.
وذكر ابن هشام وكذا ابن الجوزي مختصراً. أنه لما أسلم أتى إلى جميل بن معمر الجمحي - وكان أنقل قريش لحديث - فأخبره أنه أسلم، فنادى جميل بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ فقال عمر - وهو خلفه - كذب، ولكني قد أسلمت، فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطلح أي أعيا عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول افعلوا ما بدا لكم، فأحلف باللَّه أن لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله. روى البخاري عن عبد اللَّه بن عمر قال: بينما هو - أي عمر - في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة سبرة وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له ما لك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني أن أسلمت، قال لا سبيل إليك - بعد أن قالها أمنت - فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ، قال: لا سبيل إليه، فكر الناس وفي لفظ، في رواية ابن إسحاق واللَّه لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه.
هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب، لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام - ثم قص عليه قصة إسلامه وقال في آخره - قلت - أي حين أسلمت - يا رسول اللَّه ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم، قال: قلت ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجاه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلي قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذ.
وكان ابن مسعود رضي اللَّه عنه يقول ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر.
وعن صهيب بن سنان الرومي رضي اللَّه عنه، قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حِلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
وعن عبد اللَّه بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
__________________
 
ممثل قريش بين يدي الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :

وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين - حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما - أخذت السحائب تتقشع، وأفاق المشركون عن سكرهم في إدلاء العذاب والنكال إلى المسلمين، وحاولوا مساومة مع النبي صلى الله عليه وسلم بإغداق كل ما يمكن أن يكون مطلوباً له؛ ليكفوه عن دعوته. ولم يكن يدري هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دعوته، فخابوا وفشلوا فيما أرادو
قال ابن إسحاق حدثني يزيد، زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيداً، قال يوماً، وهو في نادي قريش، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد؟ فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي اللَّه عنه ورأوا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا كيْ تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال: {بسم اللَّه الرحمن الرحيم حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 1 - 5] ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض نحلف باللَّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً واللَّه ما سمعت مثله قط، واللَّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فواللَّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك واللَّه يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] فقام مذعوراً، فوضع يده على فم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يقول أنشدك اللَّه والرحم وذلك مخافة أن يقع النذير، وقام إلى القوم فقال ما قال.

أبو طالب يجمع بني هاشم وبني عبد المطلب:

تغيّرت مجرى الظروف وتبدلت الأوضاع والأحوال، ولكن أبا طالب لم يزل يتوجس من المشركين خيفة على ابن أخيه، إنه كان ينظر في الحوادث الماضية - إن المشركين هددوه بالمنازلة، ثم حاولوا مساومة ابن أخيه بعمارة بن الوليد ليقتلوه، إن أبا جهل ذهب إلى ابن أخيه بحجر يرضخه، إن عقبة بن أبي معيط خنق ابن أخيه بردائه وكاد يقتله، إن ابن الخطاب كان قد خرج بالسيف ليقضي على ابن أخيه - كان أبو طالب يتدبر في هذه الحوادث ويشم منها رائحة شر يرجف له فؤاده، وتأكد عنده أن المشركين عازمون على إخفار ذمته، عازمون على قتل ابن أخيه، وما يغني حمزة أو عمر أو غيرهما إن انقض أحد من المشركين على ابن أخيه بغتة.
تأكد ذلك عند أبي طالب، ولم يكن إلا حقاً، فإنهم كانوا قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علانية، وإلى هذا الإجماع إشارة في قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف: 79] فماذا يفعل أبو طالب إذن.
إنه لما رأى تألب قريش على ابن أخيه قام في أهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ولدى عبد مناف، ودعاهم إلى ما هو عليه من منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابوه إلى ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربي، إلا ما كان من أخيه أبي لهب، فإنه فارقهم، وكان مع قريش .






 
آخر وفد قريش إلى أبي طالب

خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الشعب، وجعل يعمل على شاكلته وقريش وإن كانوا قد تركوا القطيعة، لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغط على المسلمين، والصد عن سبيل اللَّه، أما أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابن أخيه، لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه، وكانت الآلام والحوادث الضخمة المتوالية منذ سنوات لا سيما حصار الشعب - قد وهنت وضعفت مفاصله، وكسرت صلبه، فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معدودات، وإذا هو يلاحقه المرض ويلح به - وحينئذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه، ويعطوا بعض ما لم يرضوا إعطاءه قبل ذلك، فقاموا بوفادة هي آخر وفادتهم إلى أبي طالب.

قال ابن إسحاق وغيره لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشاً ثقله، قالت قريش بعضها لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، واللَّه ما نأمن أن يبتزونا أمرنا، وفي لفظ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شيء فتعيرنا به العرب، يقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه.

مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم - وهم خمس وعشرون تقريباً - فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه، فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك ثم أخبره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للآخر، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وفي لفظ أنه قال مخاطباً لأبي طالب أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، وفي لفظ آخر، قال: يا عم، أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال: وإلى ما تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم، ولفظ رواية ابن إسحاق كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فلما قال هذه المقالة، توقفوا وتحيروا ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذه الغاية والحد. ثم قال أبو جهل ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، قال: تقولون لا إله إلا اللَّه، وتخلعون ما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب.

ثم قال بعضهم لبعض إنه واللَّه ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم اللَّه بينكم وبينه. ثم تفرقوا.

وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} [ص: 1- 7].


 
عام الحزن
وفاة أبي طالب:

ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر. وقيل: توفي في شهر رمضان قبل وفاة خديجة رضي اللَّه عنها بثلاثة أيام.

وفي الصحيح عن المسيب أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: أي عم، قل لا إله إلا اللَّه، كلمة أحاج لك بها عند اللَّه، فقال أبو جهل وعبد اللَّه بن أبي أمية يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] ونزلت {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].

ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح. ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.

وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وذكر عنده عمه - فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه
 
خديجة إلى رحمة اللَّه:

وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام - على اختلاف القولين - توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي اللَّه عنها، كانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره.

إن خديجة كانت من نعم اللَّه الجليلة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني اللَّه ولدها، وحرم ولد غيرها".

وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول اللَّه هذه خديجة، قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

تراكم الأحزان:

وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه. فقد كانوا تجرأوا عليه، وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غماً على غم حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف، رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصراً، وآذوه مع ذلك أشد الأذى ونالوا منه ما لم ينله قومه.

وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم ، اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه إلى الهجرة عن مكة فخرج حتى بلغ برك الغماد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدغنة في جواره.

قال ابن إسحاق لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً، ودخل بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكي يا بنية، فإن اللَّه مانع أباك. قال: ويقول بين ذلك ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب.

ولأجل توالي مثل هذه الآلام في هذا العام سماه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الحزن، وبهذا اللقب صار معروفاً في التاريخ.

الزواج بسودة رضي اللَّه عنها:
وفي شوال من هذه السنة سنة 10 من النبوة، تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، كانت ممن أسلم قديماً، وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة وكان زوجها السكران بن عمرو وكان قد أسلم وهاجر معها، فمات بأرض الحبشة، أو بعد الرجوع إلى مكة، فلما حلت خطبها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة، وبعد عدة أعوام وهبت نوبتها لعائشة.
__________________


 
الإسراء والمعراج

وبينا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق فيها طريقاً بين النجاح والاضطهاد، وكانت تتراءى نجوماً ضئيلة تتلمح في آفاق بعيدة، وقع حادث الإسراء والمعراج.

واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى:


فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه اللَّه فيها بالنبوة، اختاره الطبري.


وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووي والقرطبي.


وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة، واختاره العلامة المنصور فوري.


وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهراً، أي في شهر رمضان سنة 12 من النبوة.


وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة.


وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة.

وردت الأقوال الثلاثة الأولى بأن خديجة رضي اللَّه عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة الإسراء. أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحداً منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جداً.

وروى أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة. وفيما يلي نسردها بإيجاز:

قال ابن القيم: أسري برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى البيت المقدس، راكباً على البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد.

ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هنالك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به، ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، وأراه اللَّه أرواح الشهداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن يساره.

ثم عرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه، ورحبا به، وأقرا بنبوته.

ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.

ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه، ورحب به وأقر بنبوته.

ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته.

ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران، فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته.

فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاماً بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.

ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم عليه السلام، فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته.

ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور.

ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى، فقال له بم أمرك؟ قال بخمسين صلاة. قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم، إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه هذا لفظ البخاري في بعض الطرق فوضع عنه عشراً، ثم أنزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين اللَّه عز وجل، حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم، فلما بعد نادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، انتهى.

ثم ذكر ابن القيم خلافاً في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى، ثم ذكر كلاماً لابن تيمية بهذا الصدد، وحاصل البحث أن الرؤية بالعين لم تثبت أصلاً وهو قول لم يقله أحد من الصحابة. وما نقل عن ابن عباس من رؤيته مطلقاً ورؤيته بالفؤاد فالأول لا ينافي الثاني.

ثم قال: وأما قوله تعالى في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] فهو غير الدنو الذي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدل عليه، وأما الدنو والتدلي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تعرض في سورة النجم لذلك، بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى. وهذا هو جبريل، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. واللَّه أعلم انتهى.

وقد وقع حادث شق صدره صلى الله عليه وسلم هذه المرة أيضاً، وقد رأى ضمن هذه الرحلة أموراً عديدة عرض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.

ورأى أربعة أنهار في الجنة نهران ظاهران، ونهران باطنان، والظاهران هما النيل والفرات، ومعنى ذلك أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات، وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلاً بعد جيل، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة.

ورأى مالك خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر وبشاشة وكذلك رأى الجنة والنار.

ورأى أكلة أموال اليتامى ظلماً لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعاً من نار كالأفهار، فتخرج من أدبارهم.

ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم.

ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين.

ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن.

ورأى عيراً من أهل مكة في الإياب والذهاب، وقد دلهم على بعير ندّ لهم، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلاً على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء.

قال ابن القيم فلما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه اللَّه عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه اللَّه له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئاً، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفوراً، وأبى الظالمون إلا كفوراً.

يقال سمى أبو بكر رضي اللَّه عنه صديقاً؛ لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس.

وأوجز وأعظم ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] وهذه سنة اللَّه في الأنبياء، قال: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، وقال لموسى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 23] وقد بين مقصود هذه الإرادة بقوله: {وليكون من الموقنين} فبعد استناد علوم الأنبياء إلى رؤية الآيات يحصل لهم من عين اليقين ما لا يقادر قدره، وليس الخبر كالمعاينة، فيتحملون في سبيل اللَّه ما لا يتحمل غيرهم، وتصير جميع قوات الدنيا عندهم كجناح بعوضة لا يعبأون بها إذا ما تدول عليهم بالمحن والعذاب.

والحكم والأسرار التي تكمن وراء جزئيات هذه الرحلة إنما محل بحثها كتب أسرار الشريعة، ولكن هنا حقائق بسيطة تتفجر من ينابيع هذه الرحلة المباركة وتتدفق إلى حدائق أزهار السيرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام والتحية، أرى أن نسجّل بعضاً منها بالإيجاز يرى القارىء في سورة الإسراء أن اللَّه ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، فربما يظن القارىء أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإن اللَّه تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية؛ لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن اللَّه سينقل هذا المنصب فعلاً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة، من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم.

ولكن كيف تنتقل هذه القيادة، والرسول يطوف في جبال مكة مطروداً بين الناس؟ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن دوراً من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام، وسيبدأ دور آخر يختلف عن الأول في مجراه، ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد بالنسبة إلى المشركين {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17] إلى جانب هذه الآيات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي يبتنى عليها مجتمعهم الإسلامي كأنهم قد أووا إلى الأرض تملكوا فيها أمورهم من جميع النواحي، وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع، ففيه إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمناً يستقر فيه أمره، ويصير مركزاً لبث دعوته في أرجاء الدنيا. هذا سر من أسرار هذه الرحلة المباركة، يتصل ببحثنا، فآثرنا ذكره.

ولأجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين العقبتين، واللَّه أعلم
__________________


 
النبي صلى الله عليه وسلم

ولما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم نزل إليه جبريل بوحي ربه تبارك وتعالى، فأخبره بمؤامرة قريش، وأن اللَّه قد أذن له في الخروج وحدد له وقت الهجرة قائلاً لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.

وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي اللَّه عنها بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متقنعاً، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي، واللَّه ما جاء في هذه الساعة إلا أمر.

قالت: فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر اخرج من عندك. فقال أبو بكر إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول اللَّه. قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر الصحبة بأبي أنت يا رسول اللَّه؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نعم.

وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بيته ينتظر مجيء الليل.

تطويق منزل الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :

أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرمها برلمان مكة دار الندوة صباحاً، واختير لذلك أحد عشر رئيساً من هؤلاء الأكابر وهم:

1. أبو جهل بن هشام.

2. الحكم بن أبي العاص.

3. عقبة بن أبي معيط.

4. النضر بن الحارث.

5. أمية بن خلف.

6. زمعة بن الأسود.

7. طعيمة بن عدي.

8. أبو لهب.

9. أبي بن خلف.

10.نبيه بن الحجاج.

11. منبه بن الحجاج.

قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام، فيثبون عليه.

وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطباً لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.

وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن اللَّه غالب على أمره، بيده ملكوت السماوات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجار عليه، فقد فعل ما خاطب به الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما بعد: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته:

ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتهم قد فشلوا فشلاً فاحشاً. ففي هذه الساعة الحرجة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب نم على فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.

ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رؤوسهم، وقد أخذ اللَّه أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن.

وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا محمداً. قال: خبتم وخسرتم، قد واللَّه مر بكم، وذر على رؤوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا واللَّه ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم.

ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا علياً، فقالوا واللَّه إن هذا لمحمد نائماً، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام علي عن الفراش، فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: لا علم لي به.
____________
 
من الدار إلى الغار:

غادر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م. وأتى إلى دار رفيقه - وأمن الناس عليه في صحبته وماله - أبي بكر رضي اللَّه عنه. ثم غادرا منزل الأخير من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر.

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشاً ستجدّ في طلبه، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالاً، فقد سلك الطريق الذي يضاده تماماً، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذا أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقيل: بل كان يمشي في الطريق على أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور.

إذْ هما في الغار:

ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر واللَّه لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقباً فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ادخل فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما لك يا أبا بكر؟ قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فذهب ما بجسده.

وكمنا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. وكان عبد اللَّه بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يُكادانِ به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. و(كان) يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. وكان عامر ابن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد اللَّه بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفى عليه.

أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوه أنهم ضربوا علياً وسحبوه إلى الكعبة وحبسوه ساعة، علّهم يظفرون بخبرهما.

ولما لم يحصلوا من علي على جدوى جاؤوا إلى بيت أبي بكر، وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها أين أبوك؟ قالت: لا أدري واللَّه أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشاً خبيثاً - فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها.

وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة (في جميع الجهات) تحت المراقبة المسلحة الشديدة. كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيّين أو ميتين، كائناً من كان.

وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة.

وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن اللَّه غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت يا نبي اللَّه لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان، اللَّه ثالثهما، وفي لفظ ما ظنك يا أبا بكر باثنين اللَّه ثالثهما.

وقد كانت معجزة أكرم اللَّه بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.

في الطريق إلى المدينة:

وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى تهيأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة.

وكانا قد استأجرا عبد اللَّه بن أريقط الليثي، وكان هادياً خريتاً - ماهراً بالطريق - وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الاثنين - غرة ربيع الأول سنة 1/16 سبتمبر سنة 622م - جاءهما عبد اللَّه بن أريقط بالراحلتين وحينئذ قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت يا رسول اللَّه خذ إحدى راحلتي هاتين، وقرب إليه أفضلهما، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالثمن.

وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنها بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاماً، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت ذات النطاقين. ثم ارتحل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي اللَّه عنه وارتحل معهما عامر بن فهيرة وأخذ بهم الدليل - عبد اللَّه بن أريقط - على طريق السواحل.

وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غرباً نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالاً على مقربة من شاطىء البحر الأحمر وسلك طريقاً لم يكن يسلكه أحد إلا نادراً.

وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق. قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديداً، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك. فسلك بهما الخرار، ثم سلك بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاح، ثم سلك بهما مرجح محاج، ثم تبطن بهما مرجح ذي الغضوين، ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما الفاجة، ثم هبط بهما العرج، ثم سلك بهما ثنية العائر - عن يمين ركوبة - حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما على قباء. وهاك بعض ما وقع في الطريق:

1. روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكاناً بيدي، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت نم يا رسول اللَّه، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت انفض الضرع من التراب والشعر والقذى فحلب في كعب كثبة من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم ، يرتوي منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت اشرب يا رسول اللَّه، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ قلت بلى، قال: فارتحلنا.

2. كان من دأب أبي بكر رضي اللَّه عنه أنه كان ردفاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان شيخاً يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير.

3. وتبعهما في الطريق سراقة بن مالك. قال سراقة بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا، ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل، أراها محمداً وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم. فقلت له إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فعرفتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات - ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ الأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .


 


النزول بقباء:


وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة - وهي السنة الأولى من الهجرة - الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقباء.

قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة. فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح.

قال ابن القيم: وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي نزل عليه: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].

قال عروة بن الزبير فتلقوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحيي - وفي نسخة يجيء - أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك.

وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأى اليهود صدق بشارة بحقوق النبي إن اللَّه جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران.

ونزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، قيل: بل على سعد بن خيثمة، والأول أثبت، ومكث علي بن أبي طالب بمكة ثلاثاً حتى أدى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشياً على قدميه حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهدم.

وأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان يوم الخامس - يوم الجمعة - ركب بأمر اللَّه له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار - أخواله - فجاؤوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.

الدخول في المدينة:



وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة - ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، يعبر عنها بالمدينة مختصراً - وكان يوماً تاريخيّاً أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحاً وسروراً:

أشرق البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

والأنصار إن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عنده. فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته هلّم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار - أخواله - صلى الله عليه وسلم . وكان من توفيق اللَّه لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، بادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله، فأدخله ببيته، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول المرء مع رحله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده.

وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب أنا يا رسول اللَّه، هذه داري، وهذا بابي. قال: فانطلق فهيء لنا مقيلاً، قال: قُومَاً على بركة اللَّه.

وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد اللَّه بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر.

قالت عائشة لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت يا أبه كيف تجدك، ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى
يقول:

امرىء مصبّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردنْ يوماً مياه مجنة وهل يَبْدُوَ لي شامة وطفيل

قالت عائشة فجئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته، فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حباً، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة.

إلى هنا انتهى قسم من حياته صلى الله عليه وسلم ، وتم دور من الدعوة الإسلامية، وهو الدور المكي.

الحيَاة في المدينة
يمكن تقسيم العهد المدني إلى ثلاث مراحل:
1. مرحلة أثيرت فيها القلاقل والفتن، وأقيمت فيها العراقيل من الداخل وزحف فيها الأعداء إلى المدينة لاستئصال خضرائها من الخارج. وهذه المرحلة تنتهي إلى صلح الحديبية في ذي القعدة سنة 6 من الهجرة.

2. مرحلة الهدنة مع الزعامة الوثنية، وتنتهي بفتح مكة، في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، وهي مرحلة دعوة الملوك إلى الإسلام.

3. مرحلة دخول الناس في دين اللَّه أفواجاً، وهي مرحلة توافد القبائل والأقوام إلى المدينة، وهذه المرحلة تمتد إلى انتهاء حيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة 11 من الهجرة.
__________________



 
بناء المسجد النبوي:

وأول خطوة خطاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي. ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد، واشتراه من غلامين يتيمين كان يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، كان ينقل اللبن والحجارة ويقول:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة


وكان يقول:

هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبرّ ربن ا وأطهر


وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى إن أحدهم ليقول:

لئن قعدنا والنبي يعمل

لذاك منا العمل المضلل

وكانت في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعمده الجذوع، وفرشت أرضه من الرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريباً من ثلاثة أذرع.
وبنى بيوتاً إلى جانبه، بيوت الحجر باللبن وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب.
ولم يكن المسجد موضعاً لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشؤون وبث الانطلاقات، وبرلماناً لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.
وكان مع هذا كله داراً يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون.
وفي أوائل الهجرة شرع الأذان، النغمة العلوية التي تدوي في الآفاق، كل يوم خمس مرات، والتي ترتج لها أنحاء عالم الوجود. وقصة رؤيا عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه بهذا الصدد معروفة، رواها الترمذي وأبو داود وأحمد وابن خزيمة.

المؤاخاة بين المسلمين:

وكما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد مركز التجمع والتآلف. قام بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ، وهو المؤاخاة بين المهاجرين الأنصار، قال ابن القيم ثم آخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين الأنصار، في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل اللَّه عز وجل: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، الأنفال - رد التوارث، دون عقد الأخوة.
وقد قيل إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية. والثبت الأول، والمهاجرين كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار ا هـ.
ومعنى هذا الإخاء كما قال محمد الغزالي أن تذوب عصبيات الجاهلية فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً وعملاً يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.
فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع، فقال لعبد الرحمن إني أكثر الأنصار مالاً، فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك اللَّه لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مهيم؟ قال: تزوجت. قال: كم سقت إليها؟ قال: نواة من ذنب
وروى عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا: فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة قالوا سمعنا وأطعنا.
وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم المهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء، وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيم أودهم.
وحقاً فقد كانت هذه المؤاخاة حكمة فذة، وسياسة صائبة حكيمة، وحلاً رائعاً لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون، والتي أشرنا إليها.

 

غزوة بدر الكبرى

أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
سبب الغزوة:

قد أسلفنا في ذكر غزوة العشيرة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابها من مكة إلى الشام، ولما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد اللَّه وسعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا إلى الحوراء، ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة، وأخبرا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالخبر.

كانت العير محمَّلة بثرواتٍ طائلة من أهل مكة، ألف بعير موقرة بالأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلاً.

إنها فرصة ذهبية لعسكر المدينة، وضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة ضد المشركين لو أنهم فقدوا هذه الثروة الطائلة، لذلك أعلن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسلمين قائلاً هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجو إليها لعل اللَّه ينفلكموها.

ولم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لأنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة - بدل العير - هذا الاصطدام العنيف في بدر، ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون أن مضي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا الماضية، ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغزوة.

مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات:
واستعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً 313، أو 314، 317 رجلاً 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين و 61 من الأوس و 170 من الخزرج. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالاً بليغاً، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرسان، فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيراً ليتعاقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون بعيراً واحداً.

واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة.

ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض.

وقسم جيشه إلى كتيبتين:
1. كتيبة المهاجرين، وأعطى علمها لعلي بن أبي طالب.
2. كتيبة الأنصار، وأعطى علمها لسعد بن معاذ.
وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو - وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش كما أسلفنا - وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصع، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش.

الجيش الإسلامي يتحرك نحو بدر:


سار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة، حتى بلغ بئر الروحاء ولما ارتحل منها ترك طريق مكة بيسار، وانحرف ذات اليمين على النازية يريد بدراً فسلك في ناحية منها حتى جذع وادياً يقال له رحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، وهناك بعث بسيْسَ بن عمر الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له أخبار العير.

النذير في مكة:

وأما خبر العير فإن أبا سفيان - وهو المسؤول عنها - كان على غاية من الحيطة والحذر فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار، وكان يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان. ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً لقريش بالنفير إلى غيرهم، ليمنعوه من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى مكة، فصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد جدع أنفه، وحول رحله، وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.

قوام الجيش المكي:

وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره، وكان معه مائة فرس وستمائة درع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل بن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الإبل.

العير تفلت:

وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسي، ولكنه لم يزل حذراً متيقظاً، وضاعف حركاته الاستكشافية، ولما اقترب من بدر تقدم عيره حتى لقي مجدي بن عمرو وسأله عن جيش المدينة، فقال: ما رأيت أحداً أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما، ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه واللَّه علائف يثرب، فرجع إلى عيره سريعاً، وضرب وجهها محولاً اتجاهها نحو الساحل غرباً، تاركاً الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة.
__________________
 
يتبع غزوة بدر الكبرى

أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة

حراجة موقف الجيش الإسلامي:


أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهو لا يزال في الطريق بوادي ذقران - خبر العير والنفير، وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال للاجتناب عن لقاء دام، وأنه لا بد من إقدام يبنى على الشجاعة والبسالة، والجراءة والجسارة، فمما لا شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيماً لمكانة قريش العسكرية، امتداداً لسلطانها السياسي، وإضعافاً لكلمة المسلمين وتوهيناً لها، بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسداً لا روح فيه، ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة.

وبعد هذا كله فهل يكون هناك أحد يضمن للمسلمين أن يمنع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة، حتى ينقل المعركة إلى أسوراها، ويغزو المسلمين في عقر دارهم كلا فلو حدث من جيش المدينة نكول ما لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم.

المجلس الاستشاري:

ونظراً إلى هذا التطور الخطير المفاجىء عقد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلساً عسكرياً استشارياً أعلى، أشار فيه إلى الوضع الراهن، وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه، وقادته. وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس، وخافوا اللقاء الدامي، وهم الذين قال اللَّه فيهم {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: 5-6] وأما قادة الجيش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول اللَّه امض لما أراك اللَّه فنحن معك، واللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.

فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له به.

وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي قادة الأنصار، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار، وفطن ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ، فقال

... واللَّه لكأنك تريدنا يا رسول اللَّه؟

قال: أجل.

قال: فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللَّه لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إن لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل اللَّه يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة اللَّه.

وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فأظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فواللَّه لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، وواللَّه لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.

فسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا فإن اللَّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، واللَّه لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.

الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بعملية الاستكشاف:

وهناك قام بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه، وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب، فسأله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه - سأل عن الجيشين زيادة في التكتم - ولكن الشيخ قال: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك، قال: أو ذاك بذلك؟ قال: نعم.

قال الشيخ فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به جيش المدينة - وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به جيش مكة.

ولما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحن من ماء، ثم انصرف عنه، وبقي الشيخ يتفوه، ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟


نزول المطر:

وأنزل اللَّه عز وجل في تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم.

الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية:
وتحرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري وقال: يا رسول اللَّه، أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكم اللَّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.

قال: يا رسول اللَّه، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم - قريش - فننزله ونغوّر - أين نخرب - ما وراءه من القلب - ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقد أشرت بالرأي.

فنهض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من القلب.


 
يتبع غزوة بدر الكبرى
أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
مقر القيادة:


وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يبني المسلمون مقراً لقيادته استعداداً للطوارىء وتقديراً للهزيمة قبل النصر، حيث قال:
يا نبي اللَّه ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا اللَّه وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي اللَّه ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك اللَّه بهم يناصحونك ويجاهدون معك.
فأثنى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير، وبنى المسلمون عريشاً على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال، ويشرف على ساحة المعركة.
كما تم انتخاب فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حول مقر قيادته.
تعبئة الجيش وقضاء الليل:

ثم عبأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيشه ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده هذا مصرع فلان غدا إن شاء اللَّه، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء اللَّه ثم بات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة هنالك. وبات المسلمون ليلهم هادىء الأنفاس منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحاً {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11].
كانت هذه الليلة ليلة الجمعة، السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان خروجه في 8 أو 12 من نفس الشهر.

الجيشان يتراآن:

ولما طلع المشركون وتراآى الجمعان قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر - إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا.
وعدل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يده قدح يعدل به، وكان سواد بن غزية مستنصلاً من الصف. فطعن في بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد، فقال سواد يا رسول اللَّه أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال: استقد، فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول اللَّه قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخير.
ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال: إذا أكثبوكم - يعني كثروكم - فارموهم واستبقوا نبلكم. ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة، وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش.
أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم اقطعنا للرحم وآتنا بما لا نعرفه فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل اللَّه {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19].

ساعة الصفر وأول وقود المعركة:

وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي - وكان رجلاً شرساً سيء الخلق - خرج قائلاً أعاهد اللَّه لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.

المبارزة:

وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار، عوف ومعوذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء - وعبد اللَّه بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكفاء كرام. ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم فقالوا: أنتم أكفاءٌ كرام، فبارز عبيدة - وكان أسن القوم - عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة، قد قطعت رجله، فلم يزل صمتاً حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة.
وكان علي يقسم باللَّه أن هذه الآيات نزلت فيهم {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19].

الهجوم العام:

وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضباً، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد.
وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتوالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون أحد أحد.

الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه:

وأما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال وبلغت المعركة قمتها قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً. وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق وقال: حسبك يا رسول اللَّه، ألححت على ربك.
وأوحى اللَّه إلى ملائكته {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12] وأوحى إلى رسوله {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] أي أنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضاً أرسالاً، لا يأتون دفعة واحدة.

نزول الملائكة:

وأغفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع (أي الغبار) وفي رواية محمد بن إسحاق قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر اللَّه، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع.
ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ثم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه، ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، في ذلك أنزل اللَّه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
__________________
 
يتبع غزوة بدر الكبرى

أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة


إبليس ينسحب عن ميدان القتال:


ولما رأى إبليس - وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي كما ذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت - فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام - وهو يظنه سراقة - فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هارباً، وقال له المشركون إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف اللَّه واللَّه شديد العقاب، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر.

الهزيمة الساحقة:

وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون حتى تمت عليهم الهزيمة.

صمود أبي جهل:

أما الطاغية الأكبر أبو جهل، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل، فجعل يشجع جيشه، ويقول لهم في شراسة ومكابرة لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلاً منكم قتل منهم رجلاً، ولكن خذوهم أخذاً حتى نعرفهم بسوء صنيعهم.

ولكن سرعان ما تبدى له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلاً حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين. نعم بقي حوله عصابة من المشركين ضربت حولهسياجاً من السيوف وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياج وأقلعت هذه الغابات، وحينئذ ظهر هذا الطاغية، ورآه المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين.

مصرع أبي جهل:

قال عبد الرحمن بن عوف إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، فما تصنعبه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما أنا قتلته، هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا لا فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: كلاكما قتله، وقضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء.

وقال ابن إسحاق قال معاذ بن عمرو بن الجموح سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحرجة - والحرجة الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، شبه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة - وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه، قال: فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه - أطارتها - بنصف ساقه، فواللَّه ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها ثم مر بأبي جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل.

ولما انتهت المعركة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: هل أخزاك اللَّه يا عدو اللَّه؟ قال: وبماذا أخزاني؟ أأعمد من رجل قتلتموه؟ أو هل فوق رجل قتلتموه؟ وقال: فلو غير أكار قتلني، ثم قال: أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: للَّه ورسوله، ثم قال لابن مسعود - وكان قد وضع رجله على عنقه - لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة.

وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول اللَّه، هذا رأس عدو اللَّه أبي جهل، فقال: اللَّه الذي لا إله إلا هو؟ فرددها ثلاثاً، ثم قال: اللَّه أكبر، الحمد للَّه الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه، فانطلقنا فأريته إياه، فقال: هذا فرعون هذه الأمة.
وقتل عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة.

ونادى أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه ابنه عبد الرحمن - وهو يومئذ مع المشركين - فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن:

كانت أول وقعة أوقعها اللَّه بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلي من استبقاء الرجال

انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة إلى المشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون. وعامتهم القادة والزعماء والصناديد.

ولما انقضت الحرب أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال: بئس العشيرة كنتم لنبيكم. كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر.


مكة تتلقى نبأ الهزيمة:

فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة، تبعثروا في الوديان والشعاب واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلاً.

قال ابن إسحاق وكان أول من قدم بمصاب قريش الحيسمان بن عبد اللَّه الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سماهم، فلماأخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر واللَّه إن يعقل هذا. فاسألوه عني قالوا: ما فعل صفوان بن أمية قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد واللَّه رأيت أباه وأخاه حين قتلا.

وقال أبو رافع - مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - كنت غلاماً للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر كبته اللَّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعزاً، وكنت رجلاً ضعيفاً أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فواللَّه إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذا أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب هلم إلي، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه. فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا. وايم اللَّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، واللَّه ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شيء.

قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت تلك واللَّه الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلاً ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فعلت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلاً، فواللَّه ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه اللَّه بالعدسة فقتلته وهي قرحة تتشاءم بها العرب، فتركه بنوه، وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه.
وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما رأى أحد المنافقين زيد بن حارثة راكباً القصواء - ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلاّ.

فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلمين، فعمت البهجة والسرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلاً وتكبيراً، وتقدم رؤوس المسلمين - الذين كانوا بالمدينة - إلى طريق بدر، ليهنئوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - بهذا الفتح المبين.

قال أسامة بن زيد أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان
 
قضية الأسارى:

ولما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر يا رسول اللَّه هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم اللَّه، فيكونوا لنا عضداً.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت واللَّه ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم اللَّه أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، هما يبكيان، فقلت يا رسول اللَّه أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة.
وأنزل اللَّه تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68].
واستقر الأمر على رأي الصديق فأخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء.
ومن على ختنه أبي العاص بشرط أن يخلي سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال، بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلته بها على أبي العاص، فلما رآها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيل زينب، فخلاها، فهاجرت، وبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها، فخرجا حتى رجعا بها. وقصة هجرتها طويلة مؤلمة.
وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيباً مصقعاً، فقال عمر يا رسول اللَّه، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه، فلا يقوم خطيباً عليك في موطن أبداً، بيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رفض هذا الطلب، احترازاً عن المثلة وعن بطش اللَّه يوم القيامة.
وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وبينت أنصبة الزكاة الأخرى، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرى؛ تخفيفاً لكثير من الأوزار التي يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضرباً في الأرض.
ومن أحسن المواقع وأروع الصُّدف أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2هـ إثر الفتح المبين الذي حصلوا عليه في غزوة بدر، فما أروق هذا العيد السعيد الذي جاء به اللَّه بعد أن توج هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروع منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى اللَّه، وحنينا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم من النعم، وأيدهم به من النصر، وذكرهم بذلك قائلاً: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26
 
غزوة أحد
استعداد قريش لمعركة ناقمة:


كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر، حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون مدى مأساتهم وحزنهم.
وعلى إثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة.
وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد اللَّه بن ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحماساً لخوض المعركة.
وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان والتي كانت سبباً لمعركة بدر. وقالوا للذين كانت فيها أموالهم يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك، فباعوها. وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36].
ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعاً من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن أمية أغرى أبا عزة الشاعر - الذي كان قد أسر في بدر فمن عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بأن لا يقوم ضده - أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حياً يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعراً آخر - مسافع بن عبد مناف الجمحي لنفس المهمة.
وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعد ما رجع عن غزوة السويق خائباً لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقداراً كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة.
وزاد الطينة بلة - أو زاد النار إذكاء - ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها. وزودها من الحزن والهم ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين.

قوام جيش قريش وقيادته:

ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش ورأس قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة.
وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا فرس، جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع.
وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل. أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار.

جيش مكة يتحرك:

تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت الثارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير.

الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو:

وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها جميع تفاصيل الجيش.
وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة - التي تبلغ مسافتها إلى خمسمائة كيلومتراً - في ثلاثة أيام، وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء.
قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب فأمره بالكتمان، وعاد مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار.

استعداد المسلمين للطوارىء:

وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة، استعداداً للطوارىء.
وقامت مفرزة من الأنصار - فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة - بحراسة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح.
وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها خوفاً من أن يؤخذوا على غرة.
وقامت دوريات من المسلمين - لاكتشاف تحركات العدو -تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين.

الجيش المكي إلى أسوار المدينة:

وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى الأبواء اقترحت هند بنت عتبة - زوج أبي سفيان - بنبش قبر أم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، بيد أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب، وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب.
ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العقيق، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد في مكان يقال له عينين في بطن السبخة من قناة على شفير الوادي - الذي يقع شمالي المدينة - فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة.


 
يتبع غزوة احد

تكتيب الجيش الإسلامي وخروج إلى ساحة القتال:


ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك.
ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العوالي، ثم دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين أي لبس درعاً فوق درع وتقلد السيف، ثم خرج على الناس.
وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير استكرهتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له يا رسول اللَّه ما كان لنا أن نخالفك. فاصنع ما شئت. إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته - وهي الدرع - أن يضعها حتى يحكم اللَّه بينه وبين عدوه.

وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب:

1. كتيبة المهاجرين وأعطى لواءها مصعب بن عمير العبدري.
2. كتيبة الأوس من الأنصار. وأعطى لواءها أسيد بن حضير.
3. كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر.
وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع وخمسون فارساً وقيل لم يكن من الفرسان أحد، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، وأذن بالرحيل فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبي صلى الله عليه وسلم يعدوان دارعين.
ولما جاوز ثنية الوداع رأى كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل عنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين، فسأل هل أسلموا؟ فقالوا: لا، فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك.


استعراض الجيش:

وعندما وصل إلى مقام يقال له الشيخان استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال، وكان منهم عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حبة ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم.
وأجاز راع بن خديج، وسمرة بن جندب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه فقال سمرة أنا أقوى من رافع، أنا أصرعه، فلما أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه، فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً.

المبيت بين أحد والمدينة:

وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك، وانتخب خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولى ذكوان بن عبد قيس حراسة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

تمرد عبد اللَّه بن أبي وأصحابه:
وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج حتى إذا كان بالشوط صلى الفجر، وكان بمقربة من العدو. فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد اللَّه بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر - ثلاثمائة مقاتل - قائلاً ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره.
ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معنى. بل لو كان هذا هو السبب لانعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد - في ذلك الظرف الدقيق - أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم. حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتنهار معنويات من يبقى معه، بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه.
وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان - بني حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج - أن تفشلا، ولكن اللَّه تولاهما فثبتتا بعد ما سرى فيهما الاضطراب وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول اللَّه تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
وحاول عبد اللَّه بن حرام - والد جابر بن عبد اللَّه - تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول تعالوا قاتلوا في سبيل اللَّه أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم عبد اللَّه بن حرام قائلاً أبعدكم اللَّه، أعداء اللَّه، فسيغني اللَّه عنكم نبيه.
وفي هؤلاء المنافقين يقول اللَّه تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].

 
يتبع غزوة احد

خطة الدفاع:


وهناك عبأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال، فانتخب منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطى قيادتها لعبد اللَّه بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة - وعرف فيما بعد بجبل الرماة - جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الإسلامي.
والهدف ن ذلك هو ما أبداه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة فقد قاللقائدهم انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك. ثم قال للرماة احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وفي رواية البخاري أنه قال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأنهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
وبتعيين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية التطويق.
أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف.
ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً، تتجلى فيها عبقرية قيادة النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية - وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا - فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمى ميسرته وظهره - حين يحتدم القتال - بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به - إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين - ولا يلتجىء إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم. ويلحق مع ذلك خسائر فادحة إلى أعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدموا إليه، وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين. كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحاب الشجعان البازين.
وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة ه.

الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش:

ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم، وظاهر بين درعين، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه - حتى جرد سيفاً باتراً ونادى أصحابه من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ليأخذوه - منهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب - حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، فقال: وما حقه يا رسول اللَّه؟ قال: أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني. قال: أنا آخذه بحقه يا رسول اللَّه، فأعطاه إياه.
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت. فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة، وجعل يتبختر بين الصفين، وحينئذ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنها لمشية يبغضها اللَّه إلا في مثل هذا الموطن.

أول وقود المعركة:

وتقارب الجمعان، وتدانت الفئتان، وبدأت مراحل القتال، وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري. وكان من أشجع فرسان قريش. يسميه المسلمون كبش الكتيبة. خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته. ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه وذبحه بسيفه.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع، فكبر وكبر المسلمون، وأثنى على الزبير، وقال في حقه إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير.

ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته:

ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان. وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين. فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يقول
إن على أهل اللواء حقاً
أن نخضب الصعدة أو تندقا
فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته.
ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته، فأدلع لسانه ومات لحينه. وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز، فتقدم إليه علي بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه عليه فقتله.
ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقتله. فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد اللَّه طعنة قضت على حياته. وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضى عليه.
هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد اللَّه بن عثمان بن عبد الدار، قتلوا جميعاً حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل: حمزة بن عبد المطلب، ثم حمله شريح بن قارظ فقتله قزمان - وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام - ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضاً. ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً.
فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار - من حملة اللواء - أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء. فتقدم غلام لهم حبشي - اسمه صواب - فحمل اللواء وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول اللهم أعزرت؟ يعني هل اعذرت.
وبعد أن قتل هذا الغلام - صواب - سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقط
 
يتبع غزوة احد

مصرع أسد اللَّه حمزة بن عبد المطلب:


يقول قاتل حمزة وحشي بن حرب كنت غلاماً لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة ابن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس - وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطىء بها شيئاً - فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هداً ما يقوم له شيء. فواللَّه إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له هلم إلي يا ابن مقطعة البظور - وكانت أمه ختانة - قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه.
قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثنته - أحشائه - حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر، فقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة اعتقت.

السيطرة على الموقف:

وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد اللَّه وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله، فقد قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد اللَّه، وعبد اللَّه بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فل عزائم المشركين، وفتت في أعضادهم.

من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة:

وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حنظلة الغسيل، وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق والذي مضى ذكره قريباً - كان حنظلة حديث عهد بالعرس، فلما سمع هواتف الحرب. وهو على امرأته انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح اللَّه له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله.

نصيب فصيلة الرماة في المعركة:

وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق، ثلاث مرات ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم، وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث.

الهزيمة تنزل بالمشركين:

هكذا دارت رحى الحرب الزبون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطراً على الموقف كله، حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين.
وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لصد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها - حتى لم يجترىء أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل صواب فيحمله ليدور حوله القتال - فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادة العز والمجد والوقار.
قال ابن إسحاق ثم أنزل اللَّه نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها. روى عبد اللَّه بن الزبير عن أبيه أنه قال: واللَّه لقد رأيتني أنظر إلى خدم - سوق - هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير.. الخ وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الحبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن. وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم.

غلطة الرماة الفظيعة:

وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخرى نصراً ساحقاً على مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون سبباً في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، والهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر.
لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال بالنصر أو الهزيمة لكن على رغم هذه الأوامر المشددة، لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو، غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟
أما قائدهم عبد اللَّه بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟
ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت: واللَّه لنأتين الناس فلنصيبين من الغنيمة. ثم غادر أربعون رجلاً من هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل والتحقوا بسواد الجيش ليشاركوه في جمع الغنائم. وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه، التزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا.

خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي:

وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فاستدار بسرعة خاطفة حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد اللَّه بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم - وهي عمرة بنت علقمة الحارثية - فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادى بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى.

موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق:

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة - تسعة نفر من أصحابه - في مؤخرة المسلمين، كان يراقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان، إما أن ينجو - بالسرعة - بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخد بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد.
وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه: عباد اللَّه، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق.
وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون.

تبدد المسلمين في الموقف:

أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى فوق الجبل، ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران، فلم يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض، روى البخاري عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس أي عباد اللَّه أخراكم - أي احترزوا من ورائكم - فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد اللَّه أبي أبي. قالت: فواللَّه ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة يغفر اللَّه لكم. قال: عروة فواللَّه ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق باللَّه.
وهذه الطائفة حث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون، لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح إن محمداً قد قتل. فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد اللَّه بن أبي - رأس المنافقين - ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان.
ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي يا أبا عمر؟ فقال أنس واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته - بعد نهاية المعركة - ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف ورمية بسهم.
ونادى ثابت بن الدحداح قومه فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن اللَّه حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن اللَّه مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفرمن الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد، فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه.
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم.
وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مختلق، فزاد ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة.
وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وعمل التطويق في بدايته وفي مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم رضي اللَّه عنهم، كانوا في مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة - عليه الصلاة والسلام - صاروا في مقدمة المدافعين.
__________________
 
الوسوم
ادم الانبياء الصلاة الى عليهم قصص محمد من والسلام
عودة
أعلى