من مظاهر التطرف ولوازمه: سوء الظن بالآخرين، والنظر إليهم من خلال منظار أسود، يخفي حسناتهم، على حين يضخم سيئاتهم. الأصل عند المتطرف هو الاتهام، والأصل في الاتهام الإدانة، خلافاً لما تقرره الشرائع والقوانين: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
تجد الغلاة دائماً يسارعون إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، فلا يلتمسون المعاذير للآخرين، بل يفتشون عن العيوب، ويتقممون الأخطاء، ليضربوا بها الطبل، ويجعلوا من الخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفراً!!
وإذا كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر وغواية، رجحوا احتمال الشر على احتمال الخير، خلافاً لما أثر عن علماء الأمة من أن الأصل حمل حال المسلم على الصلاح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان.
وقد كان بعض السلف يقول: إنّي لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين ثم أقول: لعلّ له عذراً آخر لا أعرفه!
من خالف هؤلاء في رأي أو سلوك - تبعاً لوجهة نظر عنده - اتهم في دينه بالمعصية أو الابتداع أو احتقار السنة، أو ما شاء لهم سوء الظن.
فإذا خالفتهم في سنية حمل العصا، أو الأكل على الأرض مثلاً، اتهموك بأنك لا تحترم السنة، أو لا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي! ولا يقتصر سوء الظن عند هؤلاء على العامة، بل يتعدى إلى الخاصة، وخاصة الخاصة، فلا يكاد ينجو فقيه أو داعية أو مفكر إلا مسّه شواظ من اتهام هؤلاء.
فإذا أفتى فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله، ورفع الحرج عنهم، فهو في نظرهم متهاون بالدين.
وإذا عرض داعية الإسلام عرضاً يلائم ذوق العصر، متكلماً بلسان أهل زمانه ليبين لهم، فهو متهم بالهزيمة النفسية أمام الغرب وحضارة الغرب.. وهكذا.
ولم يقف الاتهام عند الأحياء، بل انتقل إلى الأموات الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلم يدعوا شخصية من الشخصيات المرموقة إلاّ صوبوا إليها سهام الاتهام، فهذا ماسوني، وذلك جهمي، وآخر معتزلي.
حتى أئمة المذاهب المتبوعة -على ما لهم من فضل ومكانة لدى الأمة في كافة عصورها - لم يسلموا من ألسنتهم ومن سوء ظنهم.
بل إن تاريخ الأمة كله - بما فيه من علم وثقافة وحضارة - قد أصابه من هؤلاء ما أصاب الحاضر وأكثر، فهو عند جماعة تاريخ فتن وصراع على السلطة، وعند آخرين تاريخ جاهلية وكفر، حتى زعم بعضهم أن الأمة كلها قد كفرت بعد القرن الرابع الهجري!
وقديماً قال أحد أسلاف هؤلاء لسيد البشر صلى الله عليه وسلم بعد قسمة قسمها: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! اعدل يا محمد فإنَّك لم تعدل