ثلاثة رابعهم قلبهم ... رواية .. ابراهيم وافى

ياسر المنياوى

شخصية هامة
الفصل الأول ..





ذاكرة بقدم واحدة





غابة من النخل المتشابك وجدٌ يلتحف البياض ويلم حوله الأحفاد بيتٌ أبيض بشرفة مثخنة بالمواويل وامرأة جاءها المخاض فآوت إلى شبه حلم لاشيء أشبه بالليل إلا فحيح ذكريات تأتي من جهة امرأة راحلة ، من نقطة النخل حتى سور المقبرة يمتدُّ ( مطراق الجنائز ) وحشة لاتعرف الشبيه ، وريحًا سكرى تدوخ برائحتها الرمال الناعمة ، أول الموت رجل رث الثياب يحمل مسحاه ولايرد السلام ...!
وقف الجد يردد كسرته الينبعية الشهيرة :
( قفا الحبيِّبْ وصكَّ البابْ
.......... واليوم بان الِيِتم فيَّه
وأشكي على جملة الأصحاب
.......... وأحوالي اللي جرت ليه )
الشعر فاكهة الحكايا وأغنية الضحى حين يتطاول النخل على الحنَّاء وتفرالعصافير خائفة من الخطوات الغريبة ... كان المعزُّون يتعاطون قهوةَ الموت ورائحة ( المرق ) تخترق أسراب النخيل .
الموتُ هناكَ ذاكرة مفتوحة للحزن والفرح ، للجوع وانتظار الفقراء للقمة منزوعة من أفواه الموتى ، هناك حيث يمتدُّ الليل بحزن الجد وتغور النجوم في زرقة السماء يصرخ حفيدٌ أخير من تحت ركام الفقد ، فيؤتى به للجد كي يسكبَ في أذنيه آذان فجره الأول ، كان الصوت مترهِّلا من الفقد فقد كانت الراحلة وطنًا مترفًا بالأحداث الشهرزادية ... كانت بيضاء طويلة العنق ذات شعر يمتد حتى ظلالها ، بينما ( حسن ) ذلك الجد الذي تحاك حوله الأساطير فقد كان كثير الرؤيا ذا علم بالنجوم والأبراج وذا نبوءة شفيفة ، أنهى أذانه الحزين ثم قال : لعله ( إبراهيم ) ...
الأسماء صوت الودع .. المتكوِّم في ظل جدار جارتنا التي ماتت قبل أن تكشف سره ...!
بعد انتهاء الآذان كانت الصرخة الأولى كما يشتهي الشعر فهي ليست صرخة الحياة كما كان الجميع يعتقد ...إنها صرخة البحث عن ( أوكسجين ) بين دخان النبوءات ...!
حين يتحدثون عن قصص الأسماء ، لن يتساءل إبراهيم عن سر تسميته ...
فسيقال له في المرحلة الإعدادية إن اسم ( إبراهيم ) أعجمي زائد عن ثلاثة أحرف ...!!
إلى أن يجئ شيخٌ أسود تلفَّع بالبياض ليقول له :
إن أعجميته عبرية عربية ( أبٌ رحيم ) مع إبدال الحاء هاء في لكنتهم ...!
لكنه حتما سيتذكر قول أمه له :
إن اسمك ( توفيق ) لولا ودع الأوراق حين تنازع مع اسمك الآني فيصرخ :
( ليتني كنت توفيقًا يا أماه ... ! )
الأسماء إذن قُرْحَة النبوءات في رحم اللحظة ..!!
نعم كانت الأم الموجعة بخبر فقد الجدة والصديقة والحفيدة تحلم أن يكون وليدها توفيقا ، لكن الجد الذي قرأ الديموقراطية في كتاب السنوات والتجارب الموجعة آثر رمي الأوراق وتحقق النبوءة فكتب ورقتين احداهما ( توفيق ) كما تشتهي الأم والأخرى ( إبراهيم ) كما تشاء النبوءات والرؤيا . ثم قامت نجوى بدور الوسيط بينهما فالتقطتْ إبراهيم ، فنظر الجد إلى الأعلى ، ورأى نجما يسقط من السماء جهة المقبرة ، فلمه إلى حضنه مجددا وأومأ لهم بمغادرة المكان بينما عاد يردد :
( قفا الحبيب وصك الباب
................................ واليوم بان اليتم فيه
وأشكي على جملة الأصحاب
............................... وأحوالي اللي جرت ليه )

 
نعم فالمساء مسرف في استضافة الذكريات ...!
وليس للقمر موعدٌ عند عازف الحزن الوحيد ...
حين تكون الحياة سنة مقمرة لاسنة قمرية لن نحتاج إلى سجل الأيام ... فكل خطوة لعقرب الدقيقة فيها لثغة للقمر المبتسم هكذا كان الجد يهجس لنفسه بعيدا عن بكاء الصغير الذي صار على بعد شهرٍ ونصف من ولادته ، لم تجرؤ الأم على تقديم ثدييها الغارقين بحليب الأمنيات . كان المكان كله أشبه بسبورة طفل كفيف ، بكاء الصغير يتعالى لكنه لايستطيع مقاومة حفيف النخل وسجع اليمامات في عذوقه الذابلة بعد رحيل الصيف ، كلما حدَّق الجد في عيني صغيره المولعة بالبكاء تنسَّم الموت حياة ، ثم حمله إلى أعلى من جبينه حتى تكاد تنخلع كتفيه ليردد عليه :
( قفا الحبيب ..................
كانت الأم حينها تردد على محمد ونجوى حكايا الأيتام في الأرض ثم تحدثهم عن سر ولع جدهم بأخيهم إبراهيم قالت بيننما تتضوَّر أمومة : لا أعرف كيف حدث هذا لكن جدكم أبلغني بنبأ إبراهيم قبل أن أحمل به بشهر قال إنه رأى في نومه أنه عاد طفلا يتسلَّق النخيل والسدر ، ليعيد توازن أعشاش العصافير حين تشاكسها رياح الجنوب التي تهب عاتية ...!
آه ! كم أنا مشتاقة لإرضاعه إنه يبكي وبرغم سماحة جدكم إلا أنه حين يجلس على سجادته لن يتمكن أحد من مقاطعته ...
هلا ذهبتِ يا نجوى لرؤيته ..؟!
ذهبت نجوى إلى الجد فوجدت إبراهيم نائما على ذراعه بينما ينام الجد على سجادته .
كانت خائفة جدا برغم حبه لها وتدليله إياها ، فقد كان صوت الريح مأهولا بالخوف والرعب حين تتخلل الجدار المنظوم من ( جريد النخل ) الذي آثر الجد أن يطوق به عزلته ووحدته ... لم تتمكن نجوى من الدخول عليهما فعادتْ إلى أمها وقد انتابتها نوبة أقزوحة تقطَّعت معها كلماتها الركيكة ..........!
كان الجدُّ يتلقَّف نسائم القبور حينها فقد توارى القمر خلف غيمة ليترك للنجم فرصة التساقط في الليالي الموحشة ولرحم الرمل استقبال نطفة الموت الأولى في سيرة إبراهيم ، فقد نام الصغير ملء عينيه حين استقرَّت روحه بموت جده الأكبر بينما ظلت الأقزوحة ملازمة لنجوى حتى بعد إنجابها لطفلها الخامس .
وفي الطرف الثاني من أطراف العهد الذي يلعق غيم السماوات والأرض كان أحمد والد إبراهيم قد أهدى ذراعه اليمنى للنخل واليسرى لشاحنة تجيء محملة بفاكهة القرية التي تستقبل رائحة البرتقال المغربي في مداخل الطفولة ...
كان لايبيع الحلوى للصغار حين يأتونه يبكون شح العملات النقدية التي تنبت في الرمل إثر هبوب الرياح ، بل يضع يده على رؤس الأيتام ثم يغلق دكانه ذا الباب الأحمر وهو يتلو ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) !
بين هدأة النخيل ودوار الريح انطلق رجل الموت في القرية دون أن يرد السلام على سائليه سالكا مطراق الجنائز عبر رحلة الموت التي يداهنها كثيرا كي لاتقتطف شيخوخته ، واجتمع الخوف والحزن والسواد في القرية تلك الليلة فقد لحق الجد بصاحبته ودفن بجوارها ..حينها فقط تدفَّق الحليب على عنق إبراهيم حتى خشيت أمه اكتناز رائحته فيها فوضعت عقدا من الياسمين الذاتي الذي زرعه الجد في ظلال ليمونة تتفيأ جدار المنزل ساعة الضحى ..
كان السقف زجاجة الغيم الباردة ..
كثر أولئك الذين يعلقون أطواق الياسمين في عنق اللحظة .. بعد أن علقته الأم في عنق إبراهيم لكن المثول أمام لحظة كتلك خشوع في محراب البكاء ..!
ظلت الأم ..كالأب تماما كلما جاءها طفل باكيا فتحتْ تلك العلبة الزرقاء التي رسم عليه طفلة الحلوى الشهية .. ومنحته منها ابتسامة الرضا الساكنة في شفتيها ..!
ذلك الياسمين الذي تدثَّر به عنق إبراهيم هو سر الخاتمة التي ستتكشَّف بعد حين .!!
 
فقد مرَّت الأيام جائعة كصغار العصافير التي لاتفزعها ايماءات الصغير لها بالطيران ومحاولة تقليدها فمنذ أن بلغ خمس سنوات كان يسابق ظل أبيه في المنحدر إلى النخل حيث تتموَّج الظلال .. كانت عيناه متحفزتان لالتهام الطبيعة ، كلما نظر إلى الأعلى تدجج جبينه من أشعة الشمس .. وعاد للسؤال ..:

( كيفَ ينمو النخيلِ ارتفاعًا
ويشرعُ للريحِ أبوابَهُ
بينما الأرض من تحته معشبةْ
كيفَ لم أنتبهْ …!؟
حينَ قاسَ المسافةَ بين النخيلِ وبيني
وبين الظلالِ وبيني
وأطبق بالصمتِ يضربُ مسْحاهُ في الأرض
حتى تشظَّتْ ظلالُ النخيلِ
وقرَّ بعينيهِ وهمُ الشَّبهْ …!)​



كانت الظلال لثغة السؤال ... يشاكسها ويحنق من تقليدها له في تحركاته وإيماءاته ..
في نخلة مائلة على الدرب الذي يعبره القادمون بسحنات تثير العاطفة حين تتقلد صبية في السابعة من عمرها نقابا أسودا رثًّا وبأقدام عارية ، تسكن يمامة تعانق ( وليفها ) بينما يبتسم الصغير ويعود لمحاورة ظله :
الحب ميلاد البوح وخاتمة حداثية فاتنة .. !!
كم أشفق عليك ياصغيري ( أو ياكبيري ) ، بينما تجرُّ أذيالي على الطريق أما حنقت مني يوما .. ؟!
أعرف رجلا مسنًّا يبصق على ظله ولايعبأ به ، لكنني لم أتجول بك بين أشجار صحراوية شائكة ، لم أقف بك على بحيرة وأنا أعلم أنك تغرق بشبر حزن ... !!
كنت شاهدا لي ومعي وعلي حين تخاطفتني كلاليب العشق ..!
فاتنة تلك الصغيرة المسكينة ، فاتنة حد إنكارك في حضورها ..
وذوبانك بخطواتها المحفوفة بالدهشة …!
آه ياصغيري تتطاول . ثم تصغر حد التضاؤل ،ثم تعاود التطاول مجددا .. تستدير يمينا وشمالا وقودك الشمس التي تتغير بها سحنتي ..!!
ما أشبهك بي حين أحب محادثتها بلهجة لاتفهمها .. حين أحدثها عن أشياء تجهلها وكأنني أكبرها بسنوات :
أتطاول ...
ثم أقصر ...
ثم أتطاول …!
وقودي ( الصبية ) الشمس ، هي غائبة الآن .. وأنت تشاكسني كثيرا بينما ينشغل ابي عني بملاطفة النخيل ...!
لا أعرف لكن غيابها أودعني رعشة في البوح وخفقانا في الرؤية وتثاؤبا في وجه الانتظار ..!!
الظلال أول التأويل يا إبراهيم وفطنة الرفيق الذي لا يتعثر ... كان جدار المدرسة طينيا بنافذة خشبية مشرعة .. لكنها تتطاول على طفل الخامسة ( إبراهيم ) الذي شغل بسيف أبيه ( العرج ) الملصوق كبرياء بصدر دكانه ...
حين تأتي شاحنة البضائع من سفرٍ محموم يعشق دهشة الحلوى والألعاب حتى تمتلئ عيناه بهما فيحمل ( كرتونةً ) هشة ويضعها أسفل النافذة ليطلَّ على أخيه محمد الذي تعرق راحته في الفصل خوفا من عصا أستاذه الساحلي ... كان إبراهيم نحيلا بحيث يمهله الكرتون دقائق يستكشف فيها واحة الفصل المتشبِّع بحبيبات الطباشير الصفراء قبل أن يتكوَّم داخل ( الكرتون ) ويعود إلى دكان أبيه محمَّلا بفاكهة الأناشيد وبعض تمتمات من القرآن .. في إحدى مغامراته أحس به المعلِّم ونظر إليه بحدِّة لم تردعه حتى أعلن العم صالح بصافرته الذهبية الكبيرة بدء فسحة الشاي التي يهرع فيها الأطفال للدكان يشترون ( الجبنة الزرقاء ) التي رسم عليها طفل لا يحسنون ملامحه ذهب المعلم لوالد إبراهيم وحدثه بحديث لم يفهمه غيرهما وانتهى بهما الأمر إلى أن أخذاه إلى مدير المدرسة المسن ذو الراحة الغليظة التي تشبه ( سلَّمة ) النخلة الهاوية من تطاولها عليها ، طلب المدير المسن من إبراهيم رفع يده اليمنى لملامسة إذنه الأيسردون أن يحني رقبته ، وحينما لم تصل ألصق يده اليسرى على أذنه وشابك أصابعه فوق رأسه فضحكوا جميعا إلا إبراهيم !
 

قال مدير المدرسة لأحمد والد إبراهيم ليأتِ مع أخيه غدا ولعله يستفد ...
كان كل شيء كذاكرة الريح وحمامات المدن المستفزَّة فقد أعد منذ بدء العام الدراسي حقيبته شأنه شأن أخيه ولهذا لم ينتظر للغد فما أن سمع هذا حتى ركض إلى الدكان وحيدا وعاد مسرعا بحقيبته يتأمل ظله حتى اصطدم بذلك المدير المسن ... فضحك وطلب من المعلم أخذه معه إلى الفصل ...
في الطريق إلى الفصل سأله المعلم ...
ماذا حفظت من استراقك السمع علينا ؟
قال كثيرا ... وأحفظ أيضا مالم تحفظه ، ابتسم المعلم وقال له ما هو ؟
فقال :

( قفا الحبيب وصِكّ الباب
.............................. واليوم بان اليِتم فيَّه
وأشكي على جملة الأصحاب
................................ وأحوالي اللي جرت ليَّه )

فبهت الذي سأل وتوقف قليلا ، ثم طلب منه إعادة ماقال ، فقال له أين أجلس يا أستاذي ؟!
جلس إبراهيم حيثما يحلو له العمر فالزمن لا يتوقف ، تماما كالظلال ، فقد كانت الرحلة مع حرف العين بعد أن اطمأنَّ المعلم على أصوات الصغار وهي تردد ( كَ تَ بَ ... كتب ) ( حَ صَ دَ ... حصد ) كان إبراهيم يردد معهم والمعلم يبتسم لحماسه .
ورغبته ، حين عاد إلى المنزل بكى متشبِّثا بثياب أخته نجوى لتعلّمه الألف حين يمتدُّ في وسط السطر كظلال الصباح والباء حين ينبسط والتاء حين يتمرد عليه والثاء حين تتكاثر صغاره و ... و ... حتى العين ...
في الغد كان إبراهيم قد قرن الحروف بأشكالها ، الألف نخلة البيت والباء طبق أبيه الذي يغرق الفطائر فيه باللبن والتاء ذات الطبق مع ملعقتين واحدة للأب والثانية لصغيره المدلل إبراهيم والثاء طبق الأم والملاعق المصاحبة له ( الأم / محمد / نجوى ) وهكذا ربط ما تيسَّر له من الحروف مستعينا بدهشته الأولى ( الظلال ) حتى منعطف الحرف عين :

أستاذنا السَّاحليُّ الملامحِ
ظلَّ على بابهِ واقفًا
سيقْرئنا اليومَ في درسه
( حرفَ عينْ ) !


***​



نداء المؤذن لصلاة الفجر مقاومة السراج لرياح الشرق العاصفة .. هكذا ورث أحمد إمامة المسجد من أبيه حسن .. بينما يجلس عقب كل مغربٍ مع إبراهيم ليتأكد من أنه أتمَّ حفظ سورة البينة .. :
( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) .
سورة البينة أطول السور المقررة على الأطفال وأكثرها صعوبة عليهم .. لكنَّ إبراهيم أدرك سرها كعلامة للتفوق فأتقن حفظها ، إبراهيم وصل لآخر العام وأول الورطة للمدرسة فقد بدا متفوقا على أقرانه ومتفرِّدا في كتابته وقراءته .. أخذه أستاذه ( غانم ) لمدير المدرسة ، وحدثه بأمر تفوقه فطلب منه قراءة سورة البينة .. فقرأها ، وحين اتمها قال للمدير هل أقرأ كسرة جدي ..؟
ابتسم المدير ونظر إلى الأستاذ غانم فقال اقرأها :
( قفَّا الحبيب ... ! )
طلب المدير من الأستاذ إعداد السجلات الخاصة بإبراهيم جميعها واعتباره طالبا منتظما ثم قبَّل جبينه ودعا إليه بكلمات لم يفهمها لكنّ رأسه تطاول بها حين تحوَّلت سمرته إلى خمرةٍ من خجل .!
 

إبراهيم كان يمرُّ بجارتهم العجوز ( عايدة القصيِّرة ) كل صباح في طريق رحلته إلى المدرسة تلك ذات القصر المثير ليحمل إليها اللبن وفطائر الصباح وحبات التمر ، كان إبراهيم يراها وحيدة إلا منه ، غريبة إلا من نسب عطف أمه عليها ولهذا بدا أكثر فهمًا لطبيعة الوحدة واليتم من بوابة الحكايا حتى صباحات جارتهم العجوز ( عايدة ) ولهذا أيضا لم يفهم أن أمه كانت تقوم بأداء نبوءة الجد حسن مع إبراهيم حين اختارته دون إخوته ليقوم بهذه المهمة الدقيقة والمعقَّدة لاسيما والجارة العجوز حادة المزاج بلغت عامها الثمانين عانسا لم تعاشر الأطفال ولا تفهم هلاماتهم ، حين سألها عن سر اختياره هو دون إخوته قالت له قال جدك الشيخ حسن :
( علموا قلوبكم الحزن والموت وكتابة الجراح ، وأنت بمثابة قلبي ، ها أنت يا إبراهيم تمتد في جسد الزمن ، حينما يدور العمر دورته ، من هناك يابني ، من المدن التي لاتنام ولا يهنأ فيها الغرباء تتمدد اللغة التي تتمتم بها ( كسرة ينبعية دون غيرها ) بلا موعد ولا انتظار ، لتجعل منك وقفة جديدة مع ( أول المنتمين إلى الموت ) ، لاتجزع سننتقل قريبًا إلى مدينة البحر لنجاور خالك هناك وستظل تسأل حينها عن ( سمكة ) لايميتها الخروج من الماء ، لتحمل بعض استفساراتك لابنة خالك ( فاتن ) التي خرجت من البحر لتتناسب مع دهشتك واتساع أفقك ... )
( قالتها ضاحكة ) وهي تطوق رأسه بــ ( طاقية ) مذهبة أنيقة ... !

لا عليك يا إبراهيم فالصيف فاكهة القرى وأريكة المدينة ، حين تحنق الشمس على الرمل يستقبله الليل المعدم من الضوضاء ، رائحة البنِّ ووشوشات الصبايا يقطفن ورد القمر .. وهكذا يحضر الخال ( عيد ) بسيارته الحمراء الضخمة إلى القرية ليكشف سرَّه للنخل ويشرب من ينبوع العصافير الذي يعبر النخيل بلانهاية ، كانت فاتن البنت المدللة التي تلتصق به و تشاغله بلباقتها ولثغتها الرائية المدهشة بينما يقود سيارته ، ليكون وجهها بشائر السمر لإبراهيم وفاتحة الحكايا
هذا النحيل إبراهيم يختط مكانه في كوم الرمل المتكوِّم أمام الدار انتظارًا لمجيئ عائلة خاله المحتمل دون موعد محتوم ، لدرجة أن انتظاره قد يمتدُّ لأيام ، وطوال هذه المدة يبقى ممسكا بوثيقة نجاحه وتفوقه قبل أوان ذلك ...
جاءت العائلة عشاء حينما أصرَّت الأم على إبراهيم بمغادرة مكانه الرملي ، خوفا عليه من سرب عقاربٍ تتناقل خبرها القرية ويقع ضحيتها واحد أو اكثر كل ليلة .
كعادته حين يستقبل الضوء تكاد تتعانق رموشه فينفذ إلى عينيه بصعوبة بالغة ، استقبل غرة سيارة خاله الحمراء واقفا ومستسلما لإلحاح أمه عليه بمغادرة المكان ، حين تيقَّن أن القادم هو ذاته المنتظر صرخ بطفولية وعفوية ( فااااتن ) فابتسمت أمَّه قائلة :
( نعم فاتن يا أخوية ! افرح ) ...!
أطرق إبراهيم بخجل خبيث ثم هجس في نفسه :
(ليتك تعلمين أنني أتلمس وجوه التفاصيل لأتعرف على ملامحها بعد أن استشرفتُ صوت الذكرى ومواء الدقائق ...!
أماه كنتِ قد أخبرتيني عن وجه أبي حينما التقيتِ به أول مرة وأنت ابنة الثالثة عشرة ، ولم يكن النخل حينها عرضة للرياح ...
قلتِ لي إنك تشبهه كثيرا ، ستعرفين إذن يا أماه كل النحْل وكل هذه الرعشة ...!
ظلال النخيل المتموج على سواقي العطش هي ذاتها بواكير الحب التي لم يشخصها أحد بعد ...!
والخجل الذي يتخفَّى في ثيابي لا يشبه رهبة البداية .!
من قال إن الأطفال لايعشقون عليه أن يعلم أنه وحده بذاكرة مثقوبة فبراءة الأطفال لم تتعارض يوما مع فطرية الحياة التي تدفع الذكر للانثى والأنثى للذكر ... !
ليتك تعلمين يا أماه مالذي تفعله فينا حكاياتك الليلية في الليالي المقمرة ...
صبييان وفتاة ، أنا الأصغر الذي لايستمع إلا ويدك في فروة شعره تحدثيننا عن قصص الأطفال اليتامى ، بينما تتسلل إلى جسدي رعشة الحب ، فأسألك بخبث في كل مرة :
هل تزوجوا ؟ أنجبوا ؟!
وحدك من يدرك أي طفلٍ حذرٍ هو أنا .. فلم أكن لأكشف عن نزعتي الأبدية إلى لقاء الأرواح الظامئة فأتجمل بشرعية الزواج وبراءة الطفولة .!! )
 
كان سادرا في هاجسه حتى أقبلت عليه فاتن مبتسمة تحمل في يدها( عصير سنتوب ) وقطعة من الشكولاته وما أفاق إبراهيم إلا وشعرها الناعم الطويل يكاد يلامس وجهه حين هبَّت نسمة باردة من ورائها وهي تقول :
خذ هذا ( اشتغيته) لك ...!
يا الله ! يا إبراهيم !!
ساعة الليل معلقةٌ في جدارالحلم ...!
بين الصبح وخلود الحزن في كسرة جده ( قفا الحبيب ... ) التي يحفظها عن ظهر حب ، مفترق طريق ، ظلت ذاكرته تترنَّحُ فيه بين ماجاء وما ينتظر ...!
كان يعلم أن الصباح أشبه بذنبٍ مغفورٍ حين يجيئه بفاتن .!
إذن ليس للنوم متسع بين جفون الأرق ...!
إبراهيم الذي يلتحف السماء حين يصطفي شرشف صلاة أمه غطاءً حيث تفوح منه رائحة الحنان والدعوات المستجابة .. ترك فاتن في حجر أبيها في ملحق البيت بعد أن ضرب لنفسه المواعيد مع النبع والعصافير وشجرة الياسمين الصغيرة التي تبنَّتها ليمونة الضحى الوارفة ، كان قبل ركونه لذاته أشد حرصا على حكايا الصباح حين أخذ يحدث فاتن عن وصية أستاذه له بضرورة النوم المبكِّر، ظلَّ غائرا كنجمة بعيدة في الركن الأدهى من الرؤى ، ومع هذا داهمه النوم على حين يقظة حتى فتَّق الصباح أكمامه بعينيه التي ظلَّت تبحث عن فاتن في ممرات الانتظار ... !

تنبَّهت الأم لالتفاتاته فقالت له :
( تعال لتشرب الحليب مع خالك ..! )
الحليب ..؟!
ألا تعرفين يا أماه أنني لا أشرب الحليب مطلقا منذ أن حسدتني إياه جارتنا العجوز ( جميلة ) ؟!
اوووه .. لاعليك المهم تعال عند خالك فإخوتك نائمون و أبوك غادر مبكرا ولم يشأ إيقاظك لمرافقته للنخل ، بعد أن قلتُ له لن يرافقك ففاتن هنا .! )
( يااااه ! يا أماه : ألم تعلمي ان المثول أمام الخال مثول في عيني فاتن ، المطر لايتساقط إلا نادرا يا أماه لكنه كفيل بسقاية الأعشاب النابتة في سقيفة المظلة التي نتفيَّأها .! )
الخال الذي يكره ملوحة البحر تشهَّى شرب الشاي مع ورق الليمون الغض ، وعليه طلبت الأم من إبراهيم اقتطافه من ليمونة الضحى المجاورة .
تحفَّز إبراهيم بنشاط وحيوية كبيرتين ، حين نظر إلى فاتن التي تتوسَّد بدلال فخذ أبيها كسلا ، وكأنما أومأ لروحها بمرافقته فاستجابت ..!
قالت لأبيها :
سأذهب مع إبراهيم !
فتضاحكا الأم والخال حتى كاد الأطفال يتنصلون عن أحلامهم خجلا ...!
كان قدرًا مثيرا أن تلتصق فاتن بأبيها لهذه الدرجة وتغفل أمها وأخوتها ليناموا الضحى ، وتمنح إبراهيم القصيدة التي تنبَّأ بها جده له بينما كان في يومه الأول .!
( ألا تولد القصيدة إلا من رحم إمرأة ...؟! )
ذهب إبراهيم وفاتن لشجرة الليمون وقطفا الورق الأخضر الصغير حتى أدمت شوكة إبهامه ، وتقطرت قطرات صغيرة من الدم آثرت فاتن مسحها بردائها الأبيض دون أن تعبأ بتأنيب امها المحتمل ..
فاتن تعشق اللون الأبيض منذ نعومة حضورها ولهذا وبينما كانت تمسك بإصبع إبراهيم ، قال لها :
انظري لشجرة الياسمينة ذات الزهور البيضاء كيف تغفو بحضن
هذه الليمونة ، ثم انظري للأرض التي نقف عليها ، ليست طينية كما قال أستاذ العلوم الذي لا أحبه لأنه لايحب النخلة ، إنها رملية ناعمة ، ولهذا تتخللها جذور الياسمينة لتعانق جذور الليمونة هذه .
 
كانت فاتن تتأمل قدرته العجيبة على إدارة الحوار رغم تدافع الأخبار في شفتيه ، فحاولت كشف جانبٍ مدني في تركيبتها حين قطفت زهرة ياسمين ثم نظرت إليه بينما أسهمت عيناه متأمِّلا
( أول الشعر كسرة أيها المغسول بماء الشعر ...! )
ارتعشت يد إبراهيم وهو يتناول زهرة الياسمين من يد فاتن بينما تختلس عيناها النظر إليه باحورارٍ مذهل ونظرات عاشقة ، أمعنت فيها حين قالت له :
شَعرك جميل جدا يا إبراهيم !
كانت تعني ذاتها رغم أن إبراهيم كان بالفعل بشعرٍ ناعم مقصوص حتى رموشه وبلون كستنائي ساحر ، يعجب المدرسة كثيرا مما يجعل طلب قصه مقرونا بابتسامة منهم دائما ليتجاهل هو بذاته الأمر مطلقا ... !
وهم عائدون بورق الليمون قال لها أنا أحفظ كسرة جدي وأسمعها إياها ، فسارعت فور وصولها بإخبار أبيها بكسرة جد إبراهيم فابتسم وقال :
اسمعني كسرة جدك يرحمه الله التي أسمعتها لفاتن !
فقال : ( قفا الحبيب ....)
قال الخال ( الله .. هل تحفظ غيرها ) ؟
قال له لا !
لكنني سأكون مثل جدي ، هكذا يقول أبي!
ابتسم الخال وقال بارك الله فيك إذا حفظت غيرها تعال وأسمعني كان يتورَّم نشوة وفروسية مع ابتسامات فاتن التي تتظاهر بمحاكاتها لابتسامات أبيها ، حتى دخل إبراهيم في أول نوبة شعرية له :
( ياقاطف الياسمين أكتبك
من دمِّي اللي بفستانك
لاشفت بوح الهوى يغلبك
أبغى أنجرح بس من شانك )
وما أن خرج منها وهمَّ بقولها لخاله حتى ارتبك وتفصَّد جبينه عرقا واتخذ مكانا قصيَّا وبينما كان الخال منشغلا بأخبارأخته التي يحبها كثيرا أومأ إبراهيم لفاتن لكي تخرج معه يلعبان في الظلال الضحوية فاستأذنت من أبيها وقال لهما انتبها للشوكِ ولا تخرجا حافيا القدمين
، حين خرج إبراهيم وفاتن أسمعها أول كسرة لها ففتحت فمها دهشة وقالت :
متى حفظت هذه ؟!
قال لها :
قلتها الآن ( من عقلي )
فعادت لتسأل ولكن بصوت منخفض خائف ومرتبك ... ألن تسمعها أبي ؟!
قال لها : ( أستحي ... ) !!
إذن اقتراف الشعر تاريخ اللحظة وتنَّور الحب الطازج ...
الياسمين أول دقائق العشق ، وقطرات الدم ( ذاكرة الجسد ) !
نظر إبراهيم أول مرة إليها من وراء عيون وبدأ أكثر جرأة في تأمل عينيها فقد كانت عيناها حقيبة سفرٍ تتهيأ لرحلة بحرية نحو جزيرة لم تمسسها قدم بحار قط ...!
فقال لها بأكثر جرأة ...
ياالله !
فاتن إنَّ عينيك أثر عاطفي عريق ...!
هكذا حينما نحب دون أن نعلم تصبح رعشة الظل طيف زائر
ليلي ، واللقاء قنديل شيخ كفيف ..!
كانت عيناها بالنسبة لإبراهيم زمن قد يجيء إذا ينتظر ..
 
الظلُ رأفة الشجرة بجذرها ، والعصافير صوت عناق الغصون ... هكذا ظلَّ إبراهيم ذاهلا بعد عودة عائلة خاله إلى البحر ، كوم الرمل الذي أمام الدار محطة الانتظار بات ذابلا ، والظلال خاملة كسولة ، قدر أن ينتمي إبراهيم للرمل حين تنتمي فاتن للبحر .. فالرمل انتظار الغيم المتصاعد من البحر ..ولهذا لم يكن بوسع إبراهيم أن يفعل شيئا غير انتظار عام جديد تزحف فيه عائلته كلها إلى مجاورة البحر ، حين يكون البحر كله فاتن ..!
وتكون الغيوم كلها أقرب مسافة إلى الرمل ...!
إبراهيم الذي بلغ عامه التاسع أخذ يستحضر ذكرياته مع فاتن ثم يحاورها بصوت مسموع :
( سننتظرك هناك لنعيش معا ، الله يا إبراهيم يكون المو ج عاصفا في ليالي الشتاء التي لا تتساقط نجومها ! )
وسأكون لكِ دافئا كعمق البحر !
( سأرتِّب لك غرفتك ، فأنا كما تقول أمي ، ( بنت شاطرة )
وسأرتب لك ألف بيت في كتاب خالد .!
( سأطلب من أبي شراء أرجوحة سنلعب بها معا )
ستعلقينني إذا غيمة تقبل الريح بأجنحة العصافير !!
فجأة سمع صوت أمه تناديه :
إبراهيم هل تحدث نفسك ..!
التفت إليها ذابلا وقال لا أدري !
ثم أطرق لداخله صامتا :
( الصمت الحاضر هوذاته عرائش الكلام الذابلة في بوابة الغياب..!
والليل الذي ينثر سحره من حكاياتنا، يستمد ضوءه من شمعة أرواحنا التي تحترق .!
ليس للسفر إلا زاد المسافر يا أماه .!
ذاكرتي ثقيلة جدا في سفر العودة . ونغمة الحضور هي ذاتها طرقات الغياب المفزعة ...! )
يا الله !
أي حالة حب كبيرة على عمر ذلك الصبي إبراهيم .؟!
ثم التفت إليها وقال :
أماه !
هل كان جدي حسن يحب جدتي فاطمة ؟
قالت ماذا ؟!
يحب ؟!! لاااااا ( لستَ طبيعيا )
كانت جدتك من أنقى الناس وأنبلهم ، كانت صادقة الوعد جميلة جدا شعرها ناعم طويل .!
قال على حين غلطة ... هل تشبه فاتن ؟!!
فضحكت أمه طويلا وقالت له :
إبراهيم هل ترغب حين تكبر أن تتزوج بنت خالك فاتن ؟
(خلااااااااص لاتهتم سأخطبها لك ... وتعالت ضحكاتها .......!! )
( ياااااااااه
في كتب العشاق الخالدين لن نجد إلا اولئك المحرومين
من اللقاء بسبب حليب العشق الذي رضعوه من ثدي الاحتواء .! )
هكذا نكَّس راسه إبراهيم متضمِّخا بالنشوة والقلق والترقب معا .!!
المدن العارية لايؤمها المصلون !
ولهذا ظل أحمد كارها الانتقال إلى مدينة البحر التي يسكنها خال أولاده ( عيد) بالرغم من إعداده للمنزل المجاور له والذي كان قد اقتناه منذ زمن بعيد ، لكن فاطمة أم إبراهيم كانت حريصة جدا على ذلك فلم يتبقَّ من الأهل غير ( عيد ) فقد ظل أبا وأخا وأما حين انقرضت العائلة كاملة ، وفي المقابل كانت فاطمة بالنسبة لــ ( عيد ) في الجانب الآخر كل تلك القبيلة التي انقرضت في الحرب ساعة انسلاخها من هويتها القبلية والدخول في نظام الدولة الواحدة ...!

 
الحكايا كثيرة حول فاطمة وعيد وأولادهما فهما بمثابة قبيلة متفرِّدة ولهذا كانا يحرصان على التكاثر الذاتي ومن هنا بدأت الإشارات والإيماءات بالتزاوج بينهما لاسيما ومحمد أخو إبراهيم بدأ هو الآخر يخفق قلبه بحب نادية أخت فاتن .. لكن الحكايةالأكثر شغلا لهم جميعا هي حكاية إبراهيم الذي يضرب بيده الرمل فيعشب دهشة ولباقة وفطنة وفاتن التي تحمل الماء في كفيها فتشرب منه العصافير تلك الفتاة المتمرِّدة على نظام القبيلة حتى في اسمها !
من هنا أيضا كان إبراهيم المدلل عند أبيه دافعا كبيرًا للانتقال إلى مدينة النوارس ، بعد أن تخلى عن رعاية ليمونة الضحى وياسمينة الدار وحتى تعلُّق بصره ( بعمته ) النخلة !
لم يعد يعني لإبراهيم كل ذلك شيئا إزاء مجاورة فاتن التي انتقلت من أجلها المدرسة والأصدقاء وثقافة المسجد ومواويل المجرور في رؤس النخيل وتبدَّل كل ذلك بالأصداف والمحارات والأغاني البحرية المهجَّنة ...!
إذن انتقلت العائلة إلى مدينة فاتن وأصبح البحر مشرعا للغناء والبكاء معا ، وتبدَّلت الفراشات نوارسَ بألوان مختلفة يجمع بينها بياض الحلم والتحليق في مدارات جديدة وتبَّدلت ديدان الحشائش الخضراء بعوضا جائعا والنسائم المشبَّعة برائحة زهر الحنَّاء رطوبةً واختناقا ، ومع ذلك ظل إبراهيم لايرى في أقواس المدينة وضوضائها وسحنة الوافدين على أرصفتها غير عيني فاتن الساحرتين .!
أنهى إبراهيم في القرية مرحلته الابتدائية وانتقل إلى المرحلة الإعدادية في المدينة وبدت عليه قدرة فائقة في قراءة الصوت الشعري وإدراك مخارجه وهذا ما يفسر حرص خاله على اصطحابه لمكتبة أدبية ليشتري ما يشاء من كتب تشبع نهمه الشعري ، فقد جاء إلى خاله بورقة مبللة من مستنقع الشارع وهمّ خاله بتأنيبه عليها فقال له إن فيها أبياتا شعرية جميلة دقائق وأحفظها ثم أُلقي بها في النفاية ...!
قال له : القِ بها ...!
فصمت قليلا ثم ذهب وألقى بها في النفاية ولكنه كان قد حفظها ...
قال له خاله :
اذهب واستبدل ملابسك وتعالَ لآخذك إلى المكتبة ، طار إبراهيم فرحا وعاد مسرعا إليه بعدَ أن أن أبدلَ مواقع ( الأزارير ) في ثوبه عجلةً ! حتى ضحك منه خاله ...
في المكتبة كانت الكتب عرضة للعيون ، لكن إبراهيم اختار كتابا واحدًا فقط :
( أحلى عشرين قصيدة حب ... لفاروق شوشة )
قال له خاله : فقط هذا ؟
قال : نعم !
( هل سيجمع إبراهيم عشق عشرين شاعرًا حين يحفظ الكتاب برمته في ثلاثة أيام ؟!
بل هل سيكون إبراهيم واحدًا منهم يوما ؟!
إبراهيم يكتب الكسرة ببراعة ، لكنه لايؤمن بفاعليتها في مجتمع مدني ، فهي صوت الفلاح المتعب من عرق الضحى حين يأوي لرأس نخلة وهي لثغة الموت الذي اختطف فاطمة جدته من بين سطور جده القوي .!
ولعله أراد أن يصبح هذا الكتاب أحلى ( واحد وعشرين قصيدة حب.. لإبراهيم القروي ) !
ولهذا أتم استحضار قصيدة جميل بثينة في ذاكرته :

ألا ليت ريعان الشباب جديد
ودهرًا تولى يا بثين يعود

ثم هجس لنفسه :

رأيتُ الفتى يبكي على بعد خله
يناجيه بالأحلام وهو بعيد

وكان أول صوتٍ شعري لإبراهيم ...!

كان هذا إعلان مهم جدا عن ولادة شاعر طفل يسكن إبراهيم حين يكون بذاكرة شابة وقوية جدا ... لا سيما وفاتن ارتدت الحجاب ولم يعد لإبراهيم غير مثل هذه الهوامش الوامضة يسجلها على صفحات ( أحلى عشرين قصيدة حب )
ويتبادله معها ليلة بليلة ...!
 
الظلال شجر من النساء !
فقد كان ظل إبراهيم طويلا جدا حين لمح ذلك العامل الأعرج الذي يستصلح حديقة منزل الخال ... بينما صعد هو سطوح االدار ليسترق الظلال من شمس فاتن التي تخرج لفناء الدار من وراء انتظارحينما يقوم العامل الأعرج ذو الثوب الأزرق العريض والقبعة الزيتونية بشق هامة ظل إبراهيم بفأسه ...!
كان أقصى الحلم التقاء ظلين على جدار متموِّج ... ظله وظلها ظلان يلتقيان جهارا .!
بينما يتخفّى كل من إبراهيم وفاتن عن عيني ذلك العامل الذي يشعل السيجارة من سابقتها ، ويلحُّ بطلب الشاي الأسود من ( أحمد الأخ الأصغر لـ فاتن ) الذي يوجهه ويمارس الإدارة على عرقه المتصبِّب .!
ظلّ يضرب ظل إبراهيم بِغِلّ ، وكان إبراهيم يحتمل كل هذا ويتجه لزاوية أخرى تلتقي فيها الظلال بلا منغصات .!
إبراهيم كان يبتسم نشوة حين تتعانق فاتن مع ظله صباحًا في الممر الذي يفصل بين بيته وبيت خاله .!
لم يكن اللقاء بفاتن مستحيلا ليكتفي بالظل ، لكن رائحة الحب التي تفوح من عينيه وكلماته كانت نقطة ضعف في مساحة حضوره القوي في حضرة العائلة جميعها ، فقد بات وادعا بعيدا ، يترك لظله فرصة اللقاء بها وعناقها حين يدفعها إلى الجدار حتى يختلط بها ويمتزجا معا فيستوي الحب على الجودي .! )
الظلال فقط ، كانت قادرة على التمرُّد والقفز فوق نزعات الخجل المفاجئ الذي يسكن إبراهيم منذ أن علق قلبه بفاتن ، كان جريئا جدا ، لبق اللسان سريع البديهة قبل أن تضيء فاتن في عينيه ، وتحمله على جناحي هاجس وشرود لاتهدأ فرائصه فتبدَّل لفتى خجولٍ ساهمٍٍ قليل الكلام كثير الانطواء على أوراقه وكتبه التي بدأت تتكاثر وتتوالد في رحم غرفته الأنيقة ... :

( أكوّرُ عينيَّ عندَ المساء وعندَ الصباح وعندَ الهجير
أصبُّ على صدركِ الماءَ والثلجَ والزمهرير
أحبكِ: حينَ قطفتُ العناقيد قبلَ النضوج !
وحين تركتُ القبيلةَ في بابِ عمِّي :
سمعتُ ضلوعكِ ذات عِشاءٍ تطارقُ بابي
وتصهلُ حولَ الخيامِ التي جاضعتها المدينة فتحًا
....
وكان الوليد .!
إذا ماولدتِ الزمان الجديدْ
أتبقى الدقيقةُ بنتُ الزمانِ
... ؟ ...؟
ويبقى الزمانُ أما من جديد؟
إذا لم أكنْ صاحبَ السيفِ يومًا
ولم أشترِ حلةَ العرس ذات مساءٍ
ألن يولدَ الحرفُ من رحمِ عينيكِ صِرفًا ؟
ويعشبَ في الصيفِ حقلُ الجليد؟!
لكنكَ الآنَ كلُّ القصائدِ ..
كيفَ أخافُ التكوَّرَ فوقَ القصيدةْ ؟
أخافُ
أخافُ
أخـــااااافْ
لبستكِ شعرًا !..!
أموِّجُ في السقفِ بحرَ الظنونِ
أرى فيهِ كلَّ المراكبِ ..
لاتعرفُ العَوْمَ
كلَّ النوارسِ ..
فيهِ تبيضُ
وتَنْثُرُهُ كرةً من حياةْ ..! )



فاتن .. باتت على موعدٍ مع قصيدة كل ليلة تحملها لها أختها الصغرى حنان التي تشبهها في ذكائها ، لتقرأها ثم تعيدها إلي إبراهيم مضمَّخة بعطرها الفاتن ( جيلدا ) ذاك الذي يغمر غرفة إبراهيم بعد أن استبدلَ شرشف صلاة أمه بشرشف صلاة فاتن العشبيّ المعطِّر ( بجيلدا ) ... فيحتفظ بها في باقة خضراء مخطوطٌ على غلافها :
( كل الشعرٍ فاتن )
 

انعكس هذا كله على شخصية إبراهيم التي لم تكن مغرورة في طبيعتها لكنها تتفاعل مع كل ماهو لها ولذلك بدأت فاتن هادئة في مدينة الطمأنينة التي اختطها له كل من أمه وخاله قبل أن يعرف حتى هو بمعالمها وطقوسها ، ونتيجة كل هذا بدأ يحدد مواعيده معها لتكون خاتمة اليوم المليء بالصَّخبِ الشهي ...
قال لها لاتهاتفيني قبل الثانية عشرة ...!!
ذهلت من طلبه لاسيما وقد عرف عنها أنها فتاة خصرها ناحل وأنفها في السماء ...
هل هذا هو إبراهيم ؟!
ذاك الواله الذي جعلني أؤمن بحقيقة الرمل وقدرته على تشابك الجذور ؟!
ذاك الذي قال لي كل البحر فاتن ، وكل النوارس لاتحلق قريبا من بيتنا إلا لتحمل لي بعض حلمه ...؟
توقَّفت عن ذهولها والتقطت كبرياءها وقالت :
كما تشاء ... لكن ها تفني أنت واترك الهاتف برنَّاتٍ ثلاث فإن لم أجب فاعلم أنني نائمة ...!
بدأ إبراهيم أكثر تخاذلا في مهاتفته الليلية لها ، فأوحت له بصدٍّ وغضب ومقاطعة ، فتهددت في داخله مدينة الطمأنينة وانطلق يجنُّ الليل في عينيه ويرتكب حماقاتٍ متعددة ، حتى تراجعت عن غضبها ، فما سكن إلا وقد عادت روحها بجواره عبر طيفين يتعانقانِ ويتقاسمان رغيف الأغنيات الحنونة ويتوادعان صوتًا بقبلاتٍ بريئة ومع هذا لاتفتأ فاتن في المدرسة تنشغل بوشوشات الفتيات يتذاكرن شاعرًا نحيلا بسيارة ذات لون قرمزي ويتحدَّثن عن مغامراته في الأسواق ومشاكساته حتى لإشارات المرور حين يداهمه طيف فتاة تتغنَّجُ للريح على مرمى رصيف ...
منى صديقة فاتن الحميمة قالت لها في ردهة انتظار الخروج من المدرسة :
ليلة البارحة كنت مع أختي الصغيرة بغرض التسوق ...
نادى عليَّ شابٌّ بصوت جادٍّ لئيم :
( نورة ... نورة ..) ففزعتُ لأنني ظننته رجلا أخطا بهيأتي فالتفتُّ إليه مرتبكة ، فقال لي :
معذرةً ... ظننتكِ نورة ... لكن هذا كيس وقع منك بعد خروجك من محل الأحذية في آخر الشارع ...
كان الكيس فارغا يافاتن إلا من ورقة صفراء صغيرة لاصقة كتب عليها هذا الرقم ...
ندى أختي الصغيرة قالت لي هذا قريب صديقتك فاتن ... لكنني حقيقة لا أعرفه ...!
أخذت فاتن الرقم وإذا هو رقم إبراهيم ... فقفزت دمعة ساخنة من عينيها واندفعت باتجاه باب الخروج لتجد ابيها في انتظارها ...
فاتن حبة قلب أبيها ... تتمدد في ساعاته حلمًا وحنانا ... كلما دخل عليها أبوها البيت أمسكت منديلا ورقيا وجففت العرق المتخثِّر في جبينه ..، ولهذا كان أرهف الناس سمعًا لنبضات يومها ... حين دخلت عليه السيارة كانت تستجدي الشتاء من جهاز التكييف ، وترتجل أنفاسها صامتة ، سألها أبوها :
ماذا هنالك يا فاتن ...؟!
فتجمَّلت وهي تقول .. لاشيء يا أبي ...!
قال لها لم تحدثينني بدون أن تنظري إلي ؟!
ووضع يده على راسها وأدار رقبتها تجاهه ووقعت عيناه على عينيها ، تبدَّل احورارها إلى أسرَّة تئن من المرضى المصابين نتيجة حرب بائسة ـ...
ثم انفجرت باكية تحت وقع نظراته الحنونة ... ظلَّ صامتا كأنما أدرك الأمر ، فقد كان سائق الحافلة العمومية للمدرسة يحدثه منذ دقائق بأمر فتى بسيارة قرمزية أيضا يشاكسه كل يوم في الشوارع ، ويبدي له حزنه من كونه لم يتمكن من التقاط رقم السيارة والتوجه بشكوى لدائرة المرور أو الشرطة ...!
إذا فقد بلغها نبأ إبراهيم ...!
ظلَّ الأب صامتا حتى وصلا إلى البيت ولم يتحادث مع أحدٍ إلى وقت صلاة العصر ، التي عاد من مسجدها متوجها لبيت أخته ، وفي الفناء الخارجي للمنزل التقى بإبراهيم وهو على أهبة الخروج ولم يحتفِ به كعادته بل اكتفى بقوله : أهلا خالي ... أمي في الصالة أمامك !!
فرد عليه بحدة عد إلى الداخل فما جئتُ إلا لك ...
دخلا البيت معا وسلم الخال على أخته ثم قال لها مداعبا سمعت أن أحمد جاء بنبتة الليمون هنا إلى فناء الدار ، وقيل لي أيضا ..
( وكلماته تتقاطع مع ضحكاته ) إن ليمونة البحر أشد حموضة ..!!
 
أعدي لنا شايا بورق الليمون الغض ... ولكن قومي بقطفه أنتِ فإبراهيم صار بيدين ناعمتين ...!!
كان يقصد أن تترك الأم له فرصة الانفراد بإبراهيم ولهذا لم يترك الخال له فرصة كي يستشرف الأمر أو حتى يحدسه بل فاجأه بسؤال مباشر مستفز :
إبراهيم .. هل ما زلتَ تريد فاتن ؟
ذهل إبراهيم من السؤال وعرف بفطنة أن وراءه مغامراتٍ تكشَّفت ، وثقوبا واسعة في جدار سمعته عند خاله ... فلم يجب بنفي أو إثبات بل انطلق لكينونة فاتن قبل ان يومئ أحدٌ بفقد...!
قائلا :
( فاتن هي الدنيا ياخالي .. لثغة البداية وحلم القصيدة وذاكرة الروح ... إنها مأوى كل هذه النوارس المتعبة وميناء كل السفن الخائفة ... فاتن يا خال لبِنة الذكرى وغطاء الليل وساعد النهار ..! وأطرق رأسه كأنما تكشفَّت ملامحه المتناقضة بصورة لم يخطط لها أو حتى يتهيأ إليها يوما ! )
ابتسم الخال دهشة وهجس في نفسه :
لن يروِّض هذا المتمرد المتناقض حد الذهول إلا امرأة من فئة فاتن ...! ثم قال له : أنت ستنهي هذا العام دراستك الثانوية ... وبعدها سنعقد لك على فاتن ليكون زواجك مع أخيك محمد في منتصف العام القادم ... قال : لكن ... فقاطعه وكانما تفهم الوجه التربوي في إبراهيم قائلا :
لا عليك حين يعود أبوك من جدة سأتباحث معه الأمر ... البيت واسع بملاحقه ولابأس أن تكمل حياتك الجامعية وانت متزوج ...!
كان الخامس من شعبان ذروة الانتظار ، فطلاَّب المرحلة الثانوية يقفون على أرصفة الصحف منذ الحادية عشرة ليلا ، إلا إبراهيم فقد كان بنشوة تحديد موعد ( ملكته ) على فاتن الذي اختارت له العائلتان ثالث أيام عيد الفطر موعدا كان إبراهيم أكبر ثقة من قلق ، وأقل انتظارا لموعد إعلان النتائج وكأنما جمع قواه لانتظار الطمأنينة بفاتن ، صحيح أن إبراهيم كان فتى مدللا عابثا في هيئته لكنه ذكي وملتزم بدراسته مما أهله ليكون الأول على المنطقة والرابع على مستوى المملكة في نتيجة الثانوية العامة ، ذاكرة إبراهيم لاتحتفل بالتواريخ التي لايصادق عليها قلبه ولهذا نام ليلة إعلان النتيجة حين كانت فاتن على موعدٍ مع رجاء لأبيها بعد أن طلبت منه إحضار الجريدة لو من مكتبها الأصلي أثناء عودته من صلاة الفجر ، ولهذا فرحت فاتن بفتاها قبل علمه هو ...!
فقد زاد إبراهيم من مساحة وسادته ذلك الصباح ، ونام حتى عن صلاة الفجر وما استيقظ إلا بمهاتفه صديقه فهد الساخر من إخفاقه حين يستعرض معه بساديَّة تكهُّنه حول المواد التي أخفق فيها حينما لم يجد اسمه ضمن قائمة الناجحين ...
مع احتفاء العائلة بتفوق فتاها بدأ إبراهيم أقل عبثا وأكثر اتزانا لاسيما وقد تبدَّلت أحاديثه مع فاتن من هلامات شوق طفولي ومشاكسات حانية إلى جنة من الأحلام تحاول أن تنمو بين جدران حياة قريبة ...!
فترة ماقبل الزواج غالبا تعكس شخصية مقصودة وصفاتٍ مستهدفة في غالبها ، لكن فاتن وإبراهيم عاشا روحا واحدة يفصل بينهما ظلَّها ! ولهذا لم يكن هناك متسع للزيف أو التجمُّل على أحسن الأحوال ، بينما كان يتحادثان حول غرفة المكتب التي يحلم بها إبراهيم ،أوذلك الحمَّام المرمري الأنيق التي تخطو عليه فاتن بأطراف أصابعها ومدخل الشقة الذي يجب أن يتطوَّق بالياسمين من خلال حوض زراعة بلاستيكي...
استأذنت فاتن من إبراهيم دقائق ، تلهَّى بها بإعداد قصيدتها الليلية التي يسمعها لها بمصاحبة موسيقى الموزارت لتكون خاتمة لكل حكايا ألف لهفة ولهفة ...!
عادت فاتن لمحادثة إبراهيم لكنها متهدَّلة الصوت اكتفت بأن تقول له إبراهيم أظنني سهرت كثيرا ... أشعر بدوار شديد.. قال لها نامي بين ضلوعي ولكن دعي لي سماعة الهاتف دقائق فوق وسادتك أخلو بها مع أنفاسك ... !
لم تعلق على كلامه كعادتها حين يدهشها ..فتسأله برشاقة وتغنُّج :
( قل : أنت شاعر أم ساحر ؟! )
 

نفحة هواء باردة جدا مشبَّعة بروائح المقبرة نفذت إلى غرفة إبراهيم بينما يسائلها بلؤم وصوت خافت ذكي ( فتوون نمتِ ) ؟!
لم تجب فاتن فتزايد القلق مع رعشة الستائر المشرعة على البحر وهروب رائحة الياسمين عن غرفته ـ وسقوط قارورة ( الجيلدا ) على الأرض بعد أن لفحتها الستارة المحمومة بالرقص مع الرياح ...!
يا الله ...!
الليل شيخٌ بلاذاكرة ، والمكان قطعة من القلق المكبوت .. ليس ثمة صوت غير صوت جهاز التكييف في غرفة فاتن الذي يشبه صوت ( الجويل ) حين يمر بمنحنيات القبور ويتسلق شواهدها ...!
الساعة تشير إلى الواحدة والنصف ليلا والقلق الطارئ على لحظة إبراهيم تتنازعه غريزة الخجل من ايقاظ بيت خاله لأن فاتن ربما أخذها النوم قبل أن تكمل وداعه ، ولأن هذا الخجل وحده هو السبيل لطمأنينة إبراهيم حين يتجمَّل بالعادية .. لكنَّ الرياح التي تهبُّ ساعة رطوبةٍ تثقب أذنيه حين ترتطم بزجاج النافذة وتشَبِّث أظافرها بجوانبها !
لامفرَّ من مغادرة المكان إذا ، والوقوف في منطقة وسطى لايقبل بها العشاق ..!
خرج إبراهيم إلى الباب الخارجي يتأمل النجوم الكاسفة من الضوء ، ويتذكَّر ماروي له عن جده حسن وقراءته لها والنوافذ الصغيرة في مجلسه الطيني الكبير الذي يعرف من خلالها منازل القمر ومحطَّات النجوم ...
التفت إلى يساره وإذ بسيارة خاله خارجة من فناء دارهم بسرعة وارتباك ... فما كان منه إلا أن ركب سيارته ولحق بخاله كان يتتبع أضواء سيارة خاله الخلفية ببطء وكأنما نسي كل تلك المغامرات التي كان يمارسها أثناء قيادته للسيارة في المساءات العابثة ولكنه مع ذلك حرص على أن لاتختفي عن عينيه لاسيما والمدينة صغيرة وجلها نائم هذه الساعة ...
اتجهت سيارة الخال صوب المستشفى العام فأدرك إبراهيم أن الوجع فاتن ...
وهناك وصل بينما يحاول الخال إيقاظ فاتن المغشي عليها في الوقت الذي يركض اخوها أحمد مع الممرض باتجاه السيارة يدفعان ناقلة بعجلات ذات صرير يثير الحنق والفزع معا ... !
وضعا عليها فاتن وأسرعا نحو غرفة الطوارئ ... كانت أصوات الأحذية في الممر خلفها أشبه بصوت مطرقة نجَّار يحترف صناعة كراسي المعزين ، أو صوت ذلك الشيخ الأجش الذي كانت القرية تتذاكره حين يعبر ( مطراق الجنائز) بهيأته الترابية ومسحاه الجائع لغرس الأجساد في التراب ...!
لم تستمر فاتن طويلا في غرفة الطوارئ وأدخلت مباشرة غرفة العناية المركزة ... وبقي إبراهيم وخاله وابن خاله يتكئون على الجدار معلقة أبصارهم بالسحنات والألوان وأجنحة البعوض الكبيرة التي يغص بها الممر ...!
بينما هم على شفا دمعة من الخوف والقلق جاء الطبيب خالد الذي يعرفه إبراهيم جيدا وسلم عليه وتمتم له بكلمات أوحت له باحتفاله بأهل الشاعر العذب ... ثم دخل غرفة الطوارئ وعاد بعد ربع ساعة ليقول لهم اطمئنوا فهي بخير وقد أفاقت من غيبوبتها لكننا سنبقيها حتى الصباح لأننا نحتاج إلى فحوصات وتحاليل لنكتشف سبب هذه الإغماءة .
إبراهيم كان أكثر المؤمنين بقدرة الدين على تقديم الحلول الغيبية ، والفلسفة على الحلول العقلية ، والعلم على الحلول التجريبية ... تماما كقدرة الأديب على تقديم الحلول الوجدانية ... ولهذا أحاط بخبرة صديقه الدكتور خالد من جهاتها الأربع وأخذ يطلب منه قراءة الصباح ...!
كعادة الأطباء الذين (لايفتون ) برغم ثقتهم في خبراتهم وتشابه أنواع المرضى الذين تتعلق أرواحهم بقدرتهم على تقديم العلاج اللازم لهم أو فشلهم في ذلك ، بعد مشيئة الله ... حاول أن يهوِّن الأمر على إبراهيم كثيرا لدرجة انصرافه إلى تهنئته بتفوقه واستقراء مخططه الدراسي القادم من خلال تقديم النصائح لــه عن الجامعات الأفضل له وتمنى لو أنه التحق بجامعة الملك سعود في الرياض لأنها تقود الفكر التنويري في مجال الأدب ، الذي أكَّد إبراهيم له أنه التخصص الأعذب الذي اختاره ...!
وبينما هما يتبادلان الحديث في الممر جاءت حالة طارئة استأذن الدكتور خالد بسببها من إبراهيم لمتابعتها والتفت إبراهيم يسارا فرأى صديقه فهد يحادث ممرضة صفراء بعينين غائرتين وشعرٍ أسود ناعم كالحرير بلغة نصف عربية ويتبادل معها الضحكات والإيماءات مما يعكس عمقا خفيا في التعامل بينهما ...!
 

تنبَّه فهد لإبراهيم حين قالت له تلك الممرضة بلكنتها الناعمة وصوتها الصغير ( يا ربييي كلاس روووووووه ...) !
فقدم إليه ورأى قلقه وشحوبه فاستفسر عن الأمر فأخبره أن أهل خاله في العناية المركزة ...
شهرٌ واحد تقريبا تبقَّى على عقد قرانه على فاتن ... لكنه كان كفيلا بأن يمنع عنه نظرة مباشرة لها تعيد لمدينة الطمأنينة في داخله استقرارها بعد تعرضها لهذا الزلزال العنيف وذلك حينما تركاه خاله وابن خاله للاطمئنان على فاتن بينما أخذ هو يتحدث مع صديقه فهد الذي كان يلحُّ على قدرته الفائقة باصطياد الوجوه الصفراء وكيفية التعامل مع هذه الأجساد الضئيلة الحارقة .!
ثم قال فهد لإبراهيم :
ألم تطمئن على أهل خالك ، قم ورافقني لنلحق بــ ( الشباب ) في المقهى ...
كان إبراهيم بالفعل بحاجة للخروج من هذا المأزق الدرامي الذي لم يعتد عليه منذ أن كان صغيرا ... فالدنيا عنده ثقب إبرة حين يقف عاجزًا إزاء أمرٍ ما ...!
سبق فهد إبراهيم إلى المقهى حيث كان هناك ( نادر وعمر ومازن ) ينتظرون فهدا ليكملوا ( أربعة ) في تلك الردهة من المقهى الذي تتعالى فيه أصوات الورق البلاستيكي يصفع بعضه بعضا ...!
وصل إبراهيم بعد فهد بدقائق وما أن أقبل حتى قال فهد :
( اعط القوس باريها يامازن ... ها هو الشاعر قد حضر )
ابتسم إبراهيم وقال ما الأمر ...؟!
فقال له مازن :
تعال واسمع :

( ديرة بتايا وطاها السيل
ديرة طرب للعزوبية
والله لاأزورها في ليل
وأشوف فيها الهواوية )

إيه يا إبراهيم !
أنت سيف الشعر المسؤول حين يكون السفر مدينة بلا سكَّان ...!
كان لقاء الشباب في المقهى من أجل الحديث عن رحلة إلى بانكوك فالمفردات والأحداث المتخيلة هناك اشبه بصوت باخرة تحمل الشياطين لبلاد الآلهة المتعددة ...
جاء الحديث عن (مايا ) صديقتهم في رحلتهم الماضية ، بنت الرابعة عشرة التي لاتكتفي برجل واحد ، أو ( لونا ) المرأة التي تفرط في الشراب حتى ترضع طفلها خمرًا ، ثم تضرب على أردافها ووتدفعها نحو ( خليجي ) مُسِن ...!
قال مازن لعمر بالله عليكم ماذا لو أن إبراهيم يرافقنا ؟
ألن يعود محمَّلا بسلال القصائد الصفراء ، والنهود الشعرية ...!؟
وتعالى الضحك بينهم ...!
كان إبراهيم يكتفي بابتسامة صفراء تحمل مدلاولات متعددة وتتجاذبها أطياف كثيفة ...! : ــ
( شعر تلك الممرضة الذي يعبر عينيه كلما التفت يمينا ورأى فهد الذي يتبدَّل إلى وجه ناعمٍ يميل إلى الاصفرار )
طابع حركاتها العملي بينما تقدِّم الدواء لفاتن التي ستبقى الليلة في المستشفى بعيدًا عن غرفتها المليئة بدمى الأرانب وصور الخيول العربية التي توقَّفت عن الصهيل ...!



 

( ألن يفوح إبط غرفتها ( جيلدا ) الليلة ؟! )
( ألن تتثاءب في وجه انتظاري أتممّ مقطعًا شعريا تخلَّق على شفتيها ؟ :

وكم قد حلمتُ بأنكَ ذاتَ مساءٍ
رسمتَ حروفي بماء الحياة
وأني تكوَّرتُ حتى الولادةِ
نمتُ
صحوتُ
ضحكتُ
بكيتُ
وأنَّكَ مازلتَ بكر الشفاةْ
تجوعُ إذا جاعَ فيكَ الخيالُ
ويعلك صمتكَ عشبَ الفلاةْ
وأنكَ إن كوَّرت مقلتاكَ الطريقَ
تنفَّستَ من رئة العابرين
تفكُّ يداكَ جدائل شِعري
ويشهق قلبكَ حد الصلاة ...! )

( مدينة كمحارةٍ في بحيرة زرقاء بأكواخٍ مائلة تعشب الغيوم على جدرانها ويسكنها نساء لبسنَ السرير واحترفنَ الصعودَ فوق الرجال ،والمواء حين ياتيهنَّ البحر من خلفهن والتكوُّر ساعة الصفر ...! :

غدًا ...
سوف تقرأُ ألوانَ جسمكَ
في مفرش النومِ ..
تطمرها الشمسُ حدَّ السوادْ
وما في المدادْ ؟!!؟!
اذا اغتسلَ الجرحُ في لونه
غيرَ تاريخِ قومٍ
يموتونَ كلَّ مساءٍ
لكي يُشْعِلوا النارَ في بابهم للحداد..!!! )

( نخلة كسرت الريح ظهرها فاعترضت طريق صبيَّة رثة الثياب عارية القدمين أخذت تبحث عن صبيٍّ يرتدي ( شورتًا ) بخطَّين في جانبيه وتزهو على خديه صورة تلك الفتاة الملتصقة على صابونة الــ (لوكس ) ذات الرائحة الغريبة :

( قُرَانا المُباحة ..
وأوسمةُ النّخْلِ .. والنازحون إليها
بقايا جدارٍ ..
ورابيةٍ كنتُ أُهملُ رأسي عليها ..
( يجيء هناكَ ..
على أول الدربِ يطلبُ من ساعدي الغضِّ بعض النهار !!
أنا أرْقى ..
انارقى
انَرْقى !!
ويرقى ..تمدُّ بهامتها للفضاء
يمدُّ بساعده خلفها
ويركضُ يرقى
تمدُّ .. تمدُّ
لترمِ العذوق على عالي الرابية
شظاياه تمتطُّ تلقطها طفلةٌ شاطرته المجيء
وجاء بها أول الشعرِ أو أول البردِ أوأول الموتِ للأوسمة !!)
 

( ألن يفوح إبط غرفتها ( جيلدا ) الليلة ؟! )
( ألن تتثاءب في وجه انتظاري أتممّ مقطعًا شعريا تخلَّق على شفتيها ؟ :

وكم قد حلمتُ بأنكَ ذاتَ مساءٍ
رسمتَ حروفي بماء الحياة
وأني تكوَّرتُ حتى الولادةِ
نمتُ
صحوتُ
ضحكتُ
بكيتُ
وأنَّكَ مازلتَ بكر الشفاةْ
تجوعُ إذا جاعَ فيكَ الخيالُ
ويعلك صمتكَ عشبَ الفلاةْ
وأنكَ إن كوَّرت مقلتاكَ الطريقَ
تنفَّستَ من رئة العابرين
تفكُّ يداكَ جدائل شِعري
ويشهق قلبكَ حد الصلاة ...! )

( مدينة كمحارةٍ في بحيرة زرقاء بأكواخٍ مائلة تعشب الغيوم على جدرانها ويسكنها نساء لبسنَ السرير واحترفنَ الصعودَ فوق الرجال ،والمواء حين ياتيهنَّ البحر من خلفهن والتكوُّر ساعة الصفر ...! :

غدًا ...
سوف تقرأُ ألوانَ جسمكَ
في مفرش النومِ ..
تطمرها الشمسُ حدَّ السوادْ
وما في المدادْ ؟!!؟!
اذا اغتسلَ الجرحُ في لونه
غيرَ تاريخِ قومٍ
يموتونَ كلَّ مساءٍ
لكي يُشْعِلوا النارَ في بابهم للحداد..!!! )

( نخلة كسرت الريح ظهرها فاعترضت طريق صبيَّة رثة الثياب عارية القدمين أخذت تبحث عن صبيٍّ يرتدي ( شورتًا ) بخطَّين في جانبيه وتزهو على خديه صورة تلك الفتاة الملتصقة على صابونة الــ (لوكس ) ذات الرائحة الغريبة :

( قُرَانا المُباحة ..
وأوسمةُ النّخْلِ .. والنازحون إليها
بقايا جدارٍ ..
ورابيةٍ كنتُ أُهملُ رأسي عليها ..
( يجيء هناكَ ..
على أول الدربِ يطلبُ من ساعدي الغضِّ بعض النهار !!
أنا أرْقى ..
انارقى
انَرْقى !!
ويرقى ..تمدُّ بهامتها للفضاء
يمدُّ بساعده خلفها
ويركضُ يرقى
تمدُّ .. تمدُّ
لترمِ العذوق على عالي الرابية
شظاياه تمتطُّ تلقطها طفلةٌ شاطرته المجيء
وجاء بها أول الشعرِ أو أول البردِ أوأول الموتِ للأوسمة !!)
 

وصلت الساعة إلى الرابعة فجرا فقال إبراهيم علي الذهاب الآن ... أخاف أن يفتقدني أبي حين يوقظني لصلاة الفجر ...!
قال له عمر :
إبراهم ! نحن اتفقنا أن نسافر ثاني أيام عيد الفطر فرافقنا ...
ابتسم إبراهيم وقال يارجل أنا ( عقد قراني ) في الثالث من شوال .!
قال فهد دعوه لي ساحاول إقناعه ثم أرتِّب معه الأمر ...!
سُكون طريق العودة لإبراهيم ، لايشبه أبدًا طرقات الألم في جبين فاتن ...!
الصباحُ غفوةٌ لامحلَّ لها من الإسهاب ...
هكذا استيقظ إبراهيم في الثامنة صباحًا وحمل ظلَّه مسرعا إلى المستشفى ... هناك في الممر المؤدي لأنين فاتن كانت عائلة خاله كلها على أحرّ من الفقد بينما يدخل الدكتور خالد غلى غرفته يحمل الأوراق المتلونة والمختلفة ...
بدءا بأشعة للرأس وانتهاء بتحليل للدم ... اندفعت العائلة كلها إلى مكتبه فطلب منهم الهدوء وتمنى لو خرج الجميع وبقي معه العم عيد فقط ، نظر إليه إبراهيم نظرةً عاتبة جدا لأنه لم يحتفل بصداقته له ويتركه مع خاله عيد ، حين يحدثه بأمر هذا المرض الغريب الذي داهم فاتن وهو أولى الناس شعورا بها قال الدكتور خالد :
عم عيد أنت كما أعرفك دائما رجل مؤمن وما سأقوله لك تشخيصات أولية لم نتثبَّت منها ، ونتمنى أن لاتكون صحيحة ، في أول منبت الشعر عند ابنتكم يسكن ورم مقلوب لكننا نتمنى أن يكون ورما حميدا ... وإن كان خطيرا في كل الأحوال لأنه قد يؤدي بها إلى العمى قريبا ...
يا الله !
وضع الخال عيد يده فوق رأسه وقال :
( والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) ...
لكن يا ولدي هل بالإمكان فعل شيء لأجلها ؟! وهل من أمل لتفادي العمى ؟!
قال له يا عم عيد أنت رجل مؤمن وتعلم أن هذا بيد الله ولكن غدا أيضا سنعيد لها التحليلات والأشعة كافة لنتأكد من الأمر ولا تنسها بالدعاء ...!
فقال له الخال عيد : ( ربنا كريم ولكن لي رجاء يابني ألا تبلغ أحد بهذا ولا سيما إبراهيم إلى أن يفرجها الله ...! )
خرج الخال عيد من عند الطبيب خالد وكأنما عادت إلى ذاكرته أيامها جميعا بدءا من مجيئها مختلفة عن أخوتها بشعرها الغزير وبياض بشرتها واتساع عينيها ، مرورا بقدرتها الفائقة طفلةً على استحلاب متطلباتها ومتطلبات أخوتها حين تعرفوا على قدراتها وقوة تأثيرها على أبيهم بأناقة وإقناع ودلال ، وانتهاء بحرصها الشديد على أداء الصلوات وتهيئة حمام أبيها وتجهيز ملابسه وإعداد ( الدخون ) له يوم الجمعة ...!
كل شيء كان يتهاوى في تجمُّل الخال عيد وقوته حين تبلَّلت لحيته التي داهمها البياض الكلي فجأة برغم قدراته الفائقة على الثبات في أحلك المواقف والأهوال لدرجة أنه حمل أخاه ( سالم ) على ظهره مقتولا جراء الحرب مسافة خمس كيلوات وبات ليلة بجواره حتى مرَّبهما رجل في الصباح فصليا عليه معا ودفناه ... دون أن تذرف له دمعة قبل أن يواريه التراب ...!
لكنها فاتن نجمة الذاكرة التي لاتغيب والرأس الأكثر حنوا حين تتوسَّد فخذ أبيها حتى وهي كبيرة وتخلل أصابعها لحيته البيضاء المتخللة بالسواد قبل اغورار نجمها وتأهبه للأفول ...
أخذ الخال عائلته وعاد إلى البيت وكان كلما سأله أحد أفرادها عن حالة فاتن وتشخيص الطبيب لها قال :
إن شاء الله ستكون بخير ...
( وأين هو الخير من عمًى قريبٍ على أحسن الأحوال وموتٍ محتوم لا قدر الله إن كان الورم خبيثا ...
أستغفر الله العظيم ... اللهم لاراد لقضائك )
دخل إبراهيم في المقابل على الطبيب خالد وحاول الاستفسار لكنه قال له بلغة مرتجلة :
فاتن بخير إبراهيم ... اعذرني فلدي حالة طارئة ....!



 
يا الله !
يا الله !
أتوجد حالة طارئة في هذه الدنيا غير فاتن ...؟
هل يوجد هناك من يستحق أن تتوقف الساعة لأجله وتتخلى الأرض عن كرويتها لأجله وتصفرُّ عذوق النخل شتاء لأجله غيرها ؟
بل هل يوجد هناك من يستحقُّ الحياة ، إذا مس فاتن سوءًا وهي الحياة التي يتنفسها الأيتام والمغلوبون على أحزانهم ؟
كانت الأسئلة الغاضبة تتدافع من شفتيه بينما تمرُّ فاتن محجبة من امامه ذابلةً كالفراشة المقتولة فيعرفها من قوامها ويلحق بها يسائلها :
( فاتن كيف أنت ... كيف انت ... لاتقولي أنكِ لستِ بخير فلن تهدأ الدنيا حينها ولن تحلق النوارس البيضاء ...فاتن عودي إلي برب السماء فأنا خائف على الدنيا برمتها حين أخاف عليك ... كارهًا للرمل والبحر والليمون والياسمين والشعر إن لم تعودي ...
مقبلا على ذنب لايغتفر إن لم تعودي ...؟
فكيف سيكون الله أكرم الأكرمين حين يحرمني منك ؟! )
كانت حينها تهم بدخول القسم الخاص بالنساء فقالت له :
أعوذ بالله من غضب الله ...
استغفر ربك إبراهيم ...ولاتكفر بالله
أنا بخير اهدأ اهدأ
ولكن عدني أن لاتلحق بي ...!!
لا مفرَّ من الذهاب فالبحر وطن الغرقى ، وقبلة المصلين للحزن
ألصق إبراهيم راحتيه ببعضهما ووضعهما على شفتيه وانطلق من باب المستشفى باتجاه سيارته التي كانت تقف على مدخل محلٍّ صغير شبه متحرٍّك يقف فيه رجل بشوارب كثيفة تحاك حوله الأساطير ويصفه الناس بــ (اللوطي ) ، يبيع الماء البارد والسجائر والحيل على الصبية الصغار وأخبار المرضى وأسماء الداخلين لباب المستشفى ثم لم يخرجوا منه أحياء ... !
كان قاسي القلب كما يصفه الناس فقد روي عنه أنه نام يوما كاملا في ثلاجة الموتى وفوق ذوبان أجسادهم حين داهم المدينة يوم صائف شديد التوتُّر ...!
نظر إلى إبراهيم بحنقٍ شديد نتيجة إيقافه سيارته على مدخل محله البائس ، فما كان من إبراهيم إلا أن امتصَّ غضبه بشراء أول علبة سجائر في حياته ... !
إبراهيم كان قد تعاطى السجائر التي يشتريها أصدقاؤه من قبل وهمًا بكمالية الحضور حين يجتمع الصبيان على تفاهاتهم ...
ولهذا كانت هذه العلبة الصفراء من فئة ( ميرت ) أول علبة يشتريها ،
وكأنَّ قدَره أن تكون من أرذل المحلات وفي أكثر التواريخ توحُّشا ... !
انطلق إبراهيم إلى البحر بينما كانت الشمس نصف واقفة في السماء والرطوبة الشديدة تكاد تزحلق الهواء الخجول الذي يهب بلاهوية ولاجهة محددة ...!
أشعل سيجارة التملك الأولى وعاد ليستحضر جملة فاتن الأخيرة :
( عدني أن لاتلحق بي ...! )
( يا الله يافاتن أتغارين علي من النساء المريضات ؟، أي امرأة في حضورك ياجنة القلب ؟، بل أي بلقيس ستكشف عن ساقيها وفاتن تؤم المكان كله نحو فتنة وحيدة ؟ ، أقسم لو دخلتِ معي أنت على قسم الرجال لقطَّعوا أصابعهم ... ! )
واعترته ابتسامة واهمة ... وأخذ يردد بين ضحكات وشهقات :
عدني أن لاتلحق بي ...!
ثم التفتَّ بسرعة نحو البحر قائلا :
ويلي ماذا تقصد فاتن ...؟ يا الله

 
إنها تنام الآن على سرير ساديّ لايعرف أسماء القوم الذين غادروه إلى دورهم ، من أولئكَ الذين غادروه إلى قبورهم ...
تلك المباضع الأنبوبية التي تتخلل يديها الناعمتين من سيقنعها بالخروج من مساماتها المعطَّرة ...؟
حتى جارتها في السرير كيف ستتركها تنام بطمأنينة وهي تلصق عينيها فيها فاغرة فاها ...!
مهما تمرَّد المرض لن يسرق من عيني فاتن بريقهما ولا من لسانها لثغته الرائية ولا من أسنانها ذلك اللمعان أوالسين المتجه ( شينًا ) ،
هذه الــ فاتن من سيخترع مرضا يليق بها حين يمرض الناس بمثل مرضها...؟
مالذي يحدث يارب البحر والشمس والسماء ... ؟!
( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة )

يارب العصافير والفراشات ورب الليمون والحناء والياسمين والنخيل والقرى المتعبة ... يارب جدي ورب أبي وربي ... ابقِ لي فاتن فقط ...!
ابقها لي حتى لو لم تدخلني الجنة ...!
ابقها لي ولا تعز الإسلام والمسلمين
أبقها لي ثم ولِّ علينا ظالما أو جبارا ...!
أبقها برحمتك حتى لو أخرجتني منها ..!
يارب الماء ازرع في قلبي طمأنينة ولو من باب المجاملة ..!

( أعوذ بالله من غضب الله ) !
( ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )
فاتن يافاكهة القلب ومأوى النوارس وسارية الذكرى ومواويل النخل وبراءة تلك الصغيرة التي جاءت حافية القدمين من عدم ، وحنان اليمامات على صغارها ، فاتن ياقبلة الروح يا ( كسرة ) جدي و( سراج ) ابي
فاتن يا....
( أعوذ بالله من غضب الله )
( ربنا واغفر لنا وارحمنا )
فاتن !
أليس ربنا واحد ورسولنا واحد وسماؤنا واحدة وقمرنا واحد وشمسنا واحدة ...ألسنا واحدًا فكيف ستنخلعين مني ؟
يارب الجياع الصغار قلتَ في كتابك :
( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) أمتني معها إن كنت راغبا فيها ... فلا أصْدق مني الآن
خذني معها خادما أو سائقا أورفيقا ...
لن أتزوج منها في الجنة ... !
ولن أمد يدي لأطعم عنها عصافيرها ...!
ولن أشاكس قططها هناك !

(أعوذ بالله من غضب الله ...!)
( ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به ... واعف عنا واغفر لنا وارحمنا
أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين )

كان أذان الظهر يتعالى وإبراهيم يرتعش من هواجسه تلك ويرفع رأسه للسماء ثم يردد :
يارب الدنيا والآخرة قلت في كتابك الكريم :
( لايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم عليه الإيمان )
وإني عبدك وابن عبدك نافذ فيَّ حكمك ...
فاغفر لي ما هجست به نفسي في دقائق ابتعدت عنك فيها بمشيئتك
فابعدتني عن رحمتك بمشيئتك ، وكل صائر بمشيئتك ...!
اغفر لي يارب ... وأخذ يجهش بالبكاء متجها نحو مسجد الشاطئ ...
 
الى عرفته من القصه
ان تلاته رابعهم قلبهم
واربعه خامسهم رجلهم
وخمسه سادسهم كتفهم
ولم نكمل بقية الاعضاء
نروح نلمهم ولما يخلص لمهم
مش هنلاقى نعوض دمهم
ولم نجيب الدم
هنلاقى روحهم طلعت لربهم
وعجبى

يسووووووووووووووور
هانسيب الضلمه
ونجيلك فى النور



 
الوسوم
ابراهيم ثلاثة رابعهم رواية قلبهم وافى
عودة
أعلى