فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي

  • تاريخ البدء

صفا النعمان

الادارة
طاقم الإدارة
حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ وَقَالَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب القدر ، باب : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا ريجعون ، رقم الحديث 6612 .

أولا : الجوانب الإيمانية والحياتية في الحديث النبوي الشريف .

هذا الحديث أورده الإمام البخاري في كتاب القدر ، رغم أن الحديث يدور في جانب أخلاقي على ما يبدو لنا غير أنه - رحمه الله تعالى - أحسن في وضع الحديث في مكانه من كتاب القدر؛ ذلك أن الحديث يحتج به بعض الناس على أن الله تعالى كتب السيئات على عباده مستنبطين ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم " أن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا "

والكتابة هنا ليست بفرضية وجبرية العمل على الإنسان ؛ وإنما معناها أن ما كتبه الله تعالى على الإنسان وقُدره قد سبق في علم الله تعالى ولا يستطيع الإنسان أن يدفع عن نفسه ؛ لكونه مقدرا إلا أنه يلام إذا وقع فيما نهي الله عنه وتمسك بالمعصية .

فخلق الله للإنسان البصر فإذا غض بصره وجاهد في هذا ذاق حلاوة الإيمان، وتبرأ من طاعة الشيطان ، وإذا ما أراد أطلق بصره يجول ويدور وينتقي ويشتهي ويكون قد اختار الجانب الآخر من العمل وهو حظ الزنا من النظر .

وعلى هذا فإن الحديث الشريف ورد في كتاب القدر من الصحيح لإثبات حقيقة تقدير الأشياء في علم الله تعالى سلفا ثم التفريق بين المعصية الكاملة وبين اللمم .

قال الراوي الأعلى هنا في الحديث " ما رأيت شيئا أشبه باللمم ، مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا .

والمستمع الكريم يجب أن يتعرف إلى كلمة اللمم ، وهل زنا العينين لمم، وهل زنا اللسان لمم ؟ وهكذا ...

اللمم : كلمة قرآنية جاءت في قوله تعالى " [ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ] [النجم : 32 ]

واللمم : هو مقارفة الذنوب الصغار ومقارفة المعصية الصغيرة ؛ ولذا ورد الحديث كله في إطار اللمم ، وهي ما ألم بالإنسان من ذنب ثم يتوب فلا يعود ؛ أي : أن اللمم هو ما لم يأت عليه حد في الدنيا ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة وتكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش .

واللمم أيضًا : ما ألم على القلب ؛ أي : ما خطر عليه وهو الذنب يفعله الإنسان ولا يتعمق فيه ولا يصر عليه وينصرف عنه وكل هذا معفو عنه مثل نظرة الفجاءة، ونحو ذلك حيث قال تعالى [ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ] [النجم : 32 ]لمن تاب من لممه وذنبه واستغفر فإن ربك عندئذ واسع الغفرة وهذا شأنه جل جلاله .

ثانيا / الجوانب البلاغية والدلالية والوقفات البيانية.

الحديث الشريف الذي معنا فيه توطئة من الراوي الأعلى من قبيل العام الذي سيوضحه الخاص الذي سيأتي بعده ؛ أي : أنه انتقال من العام المطلق إلى تخصيص للمعنى ، وهي براعة استهلال من الصحابي عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - يحقق تشويقا لدى المتلقي، وهي التي أشرنا إليها آنفا ، وهي قوله رضي الله عنه " ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ؛ فأخذك إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم بصورة تدريجية فيها ربط لغوي وبلاغي يهيئ الزمن لاستقبال المعاني الجديدة فإذا ما انتقلت إلى البلاغة النبوية وجدت عجبا ، تأمل " أن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا " هنا بلاغة التأكيد اللفظي وحسن استهلال وبلاغة الجزم .

" أن الله كتب " ، ثم يستوقفك قوله " حظه من الزنا " ، والزنا هنا بطريق المجاز ، وليس بطريق الحقيقة هنا بلاغة المجاز ؛ لأن كل ما ورد في الحديث من مقدمات الزنا ؛ أكان بالنظر أم بالكلام أم بالتمني أو بالتصديق أو بالتكذيب .

ثم تأمل إلى البلاغة النبوية في قوله تعالى " أدرك ذلك لا محالة " وهي أبواب الزنا حتى ولو كانت مجازية .

أي : أن الإنسان سيدرك ما كتبه الله عليه من أمور لايستطيع دفعها مما ليس له فيها من إرادة أو مشيئة .

وتلاحظ بلاغة حسن التقسيم في الجمل الاسمية ، ودقة المعاني وحسن اتساقها وحسن التعقيب والربط بينها .

فانظر - سلمك الله – في قوله فزنا العين " النظر " ، فاستخدم الفاء هنا للتعقيب والربط وبيان ما سبق .

واستخدم كلمة العين للدلالة على جنس العينين ، وأصل المعنى فزنا العينين النظر ، أي : ما لا يحل للناظر . وزنا اللسان المنطق ، والأصل هنا وزنا اللسان النطق ، وهو تمكن من المعنى لأن المنطق أبلغ من النطق ؛ لأن النطق يكون بمجرد التلفظ ، وأما المنطق فهو أبلغ لأنه يشمل ما قبل النطق من تفكير في الكلام وحسن اختياره

وتلاحظ هنا - سلمك الله - ترادف المعاني واتساقها من الانتقال من العين إلى اللسان ، ثم إلى النفس ، وهي أوسع دلالة - والنفس تمنى وتشتهي - والأصل تتمنى على حذف إحدى التاءين

وفي الوقت ذاته بعد أن تتمنى فإنها تشتهي ما تتمنى على سبيل التعلق بما تمنت .

ويبقى الفرج وهو محط التصديق أو التكذيب ومحط استقبال الشهوة أو العزوف عنه ، فقال صلى الله عليه وسلم " والفرج يصدق ذلك أو يكذبه "

والتصديق هو الحكم بمطابقة الخبر بالواقع ، والتكذيب .. عكسه .

وقد جعل الفرج كأنه يعقل أو يدرك ويتفاعل ثم يفعل أو لا يفعل ، فإذا صدقها الفرج كان ذلك كبيرة ، وإذا لم يصدقها كان ذلك من اللمم .

وهنا بلاغة المقابلة بل التصديق والتكذيب ، وهما عملان قلبيان في المقام الأول ، ويترتب عليهما فعل المعصية أو العزوف عنها .
 
الوسوم
اللِّسَانِ النَّظَرُ الْعَيْنِ الْمَنْطِقُ تَمَنَّى فَزِنَا وَالنَّفْسُ وَتَشْتَهِي وَزِنَا
عودة
أعلى