مارد القرن الحادي والعشرين ( الحلقة الخامسة والأخيرة)

  • تاريخ البدء

صفا النعمان

الادارة
طاقم الإدارة
حزم رمضانُ أمرهُ، وأعلن انسحابِهِ ليغدو ذكرى في سفر الزّمان، ومدّ يده على عجل ليأخذَ أيّامَ العيدِ بلا وجل، ويعيدَ للنّاسِ أيّامهم الرّتيبة على أمل الفرج من أزمةٍ تلفّ حبلها حول الرّقاب.
حمل علاء الدّين مصباحَه ليعود إلى صفحات الكتاب بعد أن تسلّى الصّائمون بحكايات اخترعها مؤلّفون على شدّ أنظار الكُسالى عازمون. دُهش الماردُ من صمت صاحبه الرّزين، فناجاه:
- أين حرصُك الأمين على أهل البلد الحزين يا صاحبي! يا علاء الدّين!
- أين لهفتك على الرّجال صرعى بلا رحمة؟ أين خوفك على النّسوة في أزّقة معتمة؟ أين خوفك على أولاد ضاقت بهم البلاد؟
صرخ المارد بصوت مرتفع محتجّاً على صمت علاء الدّين:
- أكنت مدّعياً الحرص والخوف أم كنت تريد منّي أن أحلّ لك المشاكل وتظهر على شاشات التّلفزة بطلا مغواراً تصفّق لك أكفّ التّفاهة، ويصدّقون أنّك المقدام مخلّص كلّ الأنام من وزر هذه الدّنيا التي تجعل المرء يزداد خوفه عاماً بعد عام؟
تنهّد علاء الدّين بأناةٍ: يا صاحبي! لقد سئمْت وصف التّرهات، وخشيْت على النّاس من كثرة الآهات، وآثرْت الاحتفاظ لنفسي ببعض كرامة، يكفيني منك الرّفض والملامة.
- يا صاحبي الغافل! ساقتني قدماي في طريق مزدحم، والفكر مشغول بما يرى من هموم، عبرْت من زقاق إلى زقاق، سرّني صِبيةٌ يلعبون بالدّحل وقفز الحبل، يضحكون، وتقفز براءتهم في العيون لتخبرك أنهمّ لا يأبهون بما يجري على أرضهم من أهوال و انكسارات.
سرْت الهوينى، استغربْت من بابٍ مفتوح، أدخلني طفل إلى حيث الرجل على كرسيّ العجلات، وعلى طاولة قربه وُزّعت للتّصليح أدوات، وهو يرتق الأحذية، ويخيط الحقائب القديمة. وحوله صبيّ صغير يناوله ما يبعد عنه من احتياجات، وبيده قطعة كِلس بيضاء يكتب بها حروف الأبجديّة على جدار البيت، ويمحوها بقطعة إسفنجيّة بعد أن يرتّب منها كلمات، والأبُ يتابعه مصحّحاً، ويعلّمه الحساب.
وغير بعيد تجلس الأمّ في زاوية ظليلة، وعلى ساقيها الممدودتين تهدهد طفلة صغيرة، وبيدها سنارة تحوك بها ثوباً من خيوط ملونة، وحولها الصّبايا الصّغيرات يقطفن ورق الملوخيّة، ويتبارين بحفظ الآيات القرآنية، ويتقاسمن بهجة الخلاص من الحزم الشّامخة أمامهن بحسنِ نيّة، ليتك رأيت التّفاح مرسوماً على الخدود الفتيّة، والطّهارة تقفز من العيون الإنسيّة كحلُها أهدابٌ سودٌ إلهيّة.
سألتهم: كيف الدّنيا معكم؟
- حمد الرّجل ربّهُ، وأثنى مؤكّداً أنّ دوام الحال من المحال، وأنّ التّعب طريق لمحاربة شّيطان الكسل، وعبءُ العمل جميل يذكّرك أنّك قادر على التّغيير.
غادرتهم مسرورا بقناعاتهم، وتابعت المسير لأسمع همهمات ناعمة، طرقت الباب، فخرجت امرأة تكلّلها الهيبة والسرور مرسوم على صفحة وجهها، سألتها عن صاحب الدّار، تنهدت بحزن: رحمة الله عليه. تأملتني باهتمام، استأذنتني طالبة منّي الانتظار، غابت لتعود بكأس ماء، رغيف خبز وقطعة قمر الدّين:
- أمانة خذ يا أخي المسكين! رطّبْ جوفَك والجبين، اشتريتها منذ قليل بعد أن أخذت الأجر على عمل في الخياطة كثير، لذا سمعت أصوات همهماتهم السعيدة.
- كُلْ وادعُ لنا بالفرج، فالعقدة ستنحلّ لكن بالصّبر والعمل، وليس بالأماني والكسل.
وعندما تعبت جلسْت على رصيف أحد البيوت ليطرق سمعي أصوات تصفيق، قررت اقتحام يومهم لأسألهم عن سرّهم، أدخلتني الصبيّة إلى ما يشبه قاعة درسية تلامذتها جلوس على الحصير، يكبون على دفاترهم في أحضانهم، فيكتبون خلاصة يومهم من العلوم، أدهشني صبرهم، وتجرّأت:
- ماذا تفعلون؟
- أجابتني صبيّة: إنّنا نتناوب على تعليمهم ما يلزمهم لغدٍ يضحك لهم فيه النّهار. ما رأيك أن تحضر معنا هذا النّقاش؟
وافقت من غير تفكير لأعرف ما الذي يختزن في عقل كل طفل صغير لمستقبل فيه الكثير من التّغيير.
جلس تلميذان في الجهة اليمنى، وافترش تلميذان الجانب الأيسر، طرحت المعلمة سؤالها: هل ستفرج علينا الأزمة، ونتعافى منها؟
قبل أن أفتح فمي لأحتج على هذا السؤال الذي حيّر عقول الكبار، كان كل فريق يسجل نقاط ردّه، ويستعد للكلام، سمحت المعلّمة للفريق الأوّل بالرّدّ:
- الأزمة كبيرة، وخيوطها متشابكة، وتحتاج لوقت طويل للحلّ ، وجيل يستطيع البناء، ألا ترون مصائب غيرنا مازالت قائمة؟
ردّ الفريق الثّاني: الأزمة مرحلة عابرة، وستنتهي قريباً، فالشّمس والقمر يتناوبان في السّماء، ومن لاقى وجه ربّه لن يعود إلى الحياة، لكن الذين على سطحها سيبنون ما تهدّم وينطلقون لنشر السرور في البلاد.
التفتّ إلى المعلمة التي تابعت نشيد الحياة الذي يجدّ بعزفه الأولاد : لن نقبل بحرمانهم من نور العلم لذا نلقنهم فنّ الأمل، وروعة الحرص على الإيمان، والتّمسك بصفات إنسان سيلقى ربّه الدّيّان بما يحمل على كتفيه من إساءة أو إحسان، ندربهم على التّنعم بما يملكون: الحياة والعقل والصحة، هبات الربّ الحنّان المنّان.
أسعدني حديث المربيات السّاعيات إلى تغيير وجه القبح، وجعلني مؤمنا بالرّبح من غير قوتك العجيبة.
- تابع نومك يا عزيزي المارد في القمقم الجامد، فإصلاح الحال لا يحتاج الشّخص الخارق، إنّه يريد الرّجل الصادق، والشّاب للمصاعب طارق.
- تبني المستقبل المأمول امرأة شريفة وصبيّة عفيفة، يد نظيفة وذمّة نزيهة، وضربات قلب بريئة لم يلوثها غشّ و لا فسق و لافجور.
- الغيوم ستمطر و تغسل غبار الشجر والشوارع ، وتزيح معهم كل من هو بالشّرّ عالق.
- الغد الجميل قادم ليرتفع البنيان بيد الطيبين من بني الإنسان. نم هانئا لا مكان لك يا صاحبي المارد.
 
الوسوم
الحادي الحلقة الخامسة القرن مارد والأخيرة والعشرين
عودة
أعلى