وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*8*

المنسي

الاعضاء
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم



وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"

قال الإمام ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي رحمه الله في كتابه النفيس إعلام الموقعين كلاماً رائقاً ننقله بطوله للفائدة: "...ولما كانت الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين، وأتباعه من العالمين، كما قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين" (يوسف: 108) كان التبليغ عنه من عين تبليغ ألفاظه وما جاء به وتبليغ معانيه كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين:
أحدهما: حفاظ الحديث، وجهابذته، والقادة الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأئمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس لم تشبها الآراء تغييراً، ووردوا فيها "عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً" الإنسان: 6) وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ; فنعوذ بالله من فتنة المضلين.
القسم الثاني: فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام, فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً" (النساء: 59) قال عبدالله بن عباس في إحدى الروايتين عنه وجابر بن عبدالله والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح والضحاك ومجاهد في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر هم العلماء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.

وقال أبو هريرة وابن عباس الرواية الأخرى وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل: هم الأمراء، وهو الرواية الثانية عن أحمد, التحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم; فطاعتهم تبع لطاعة العلماء فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما، كما قال عبدالله بن المبارك وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك، والعلماء. كما قال: عبدالله بن المبارك رحمه الله:

رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمـانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصـيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهـبانها




"الوَسَطِيَّةُ, دِينُ المُسْلِمِينَ"
قال الله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" (البقرة: 143) أي عدولاً خياراً, لأنهم الشهداء على الأمم, بل هم شهداء نوح عليه السلام حينما يكذّبه قومه بنفيهم تبليغه رسالة ربه, ورسولهم صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم. فهم موصوفون بالوسط بمعنى الخيار العدول, فكذلك نهجهم بين الغلاة والجفاة, فهم في موضوع الربوبية وسط بين الملاحدة النفاة, وبين الحلولية والاتحادية, وفي الأنبياء بين مكذبيهم ومؤلهيهم, هكذا اضطرد منهجهم في العقيدة والأحكام والتعاملات, والأخلاق والسلوك, فإذا رأيت طرفي نقيض فثَمّ حق في الوسط, يمثّله أهله من صادقي الاتّباع.

قال تقي الدين رحمه الله تعالى في رسالته الجامعة المانعة (الواسطية) واصفاً منهج أهل السنة والجماعة: "هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم, فهم الوسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة, وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية, وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم, وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج" (50).

فردود الأفعال غالياً لا تتّسم بالانضباط والموضوعية, بل يسوقها الانفعال ويقودها الغضب, فلا تتوقف في رد ما تراه باطلاً عند منطقة الحقّ, بل تتجاوزها إلى الطرف الآخر المخالف, وكلا طرفي قصد الأمور ذميم, وعلى سبيل المثال لما خرجت الوعيدية (الخوارج والمعتزلة) قابلتهم الوعدية (المرجئة). والجبرية ضد القدرية (النفاة), والتعطيل في مقابل التمثيل, والنصب مقابل الرفض, والغلو (المعاصر) في التكفير مقابل الإرجاء (المعاصر), والافتئات ضد السلطان مقابل التهالك عليه...وهكذا.

هذا وإن أول نزاع في الإسلام كان قد وقع في مسألة الوعد والوعيد. وقد اشتمل الوحي بشقيه القرآن الكريم والسنة النبوية, على نصوص الوعد والوعيد, وأهل التوفيق والسعادة هم أهل السنة والجماعة الذين أعملوها جميعاً ولم يكذبوا بشيء منها. ومن تطبيقاتهم العملية لهذا المنهج السلفي المستقيم لتحقيق الوسطية والخيرية حديث الإمام الزهري رحمه الله تعالى؛ فقد حدّث الزهري بحديث الرجل الذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بالنار بعد موته ويذرّوا رماده...الحديث متفق علي صحته ثم يردفه بحديث المرأة التي دخلت النار في هرة...الذي رواه مسلم ثم قال رحمه الله مبيناً سبب روايته للحديثين في مجلس واحد: "لئلا يتكل رجل, ولا ييأس رجل". قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً: معناه؛ لمّا ذكر الحديث الأول, وما فيه من سعة الرحمة وعظم الرجاء, فضمّ إليه حديث الهرّة الذي فيه من التخويف ضد ذلك؛ ليجتمع الخوف والرجاء....وهكذا معظم آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء (51).

ومن أشد ما جوبهت به الدعوة السلفية رميها بالتكفير بإطلاق من قبل المرجئة أو ممن تأثر بهم, قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:

ونبرأ من دين الخوارج إذ غلوا بتكفيرهم بالذنب كل موحد
وظنوه ديناً من سفاهة رأيهم وتشديدهم في الدين أي تشدد
ومن كل دين خالف الحق والهدى وليس على نهج النبي محمد
وحينما قيل للشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إنكم تكفرون الناس بالمعاصي, قال: "ليس هذا من قولنا بل هذا قول الخوارج الذين يكفرون بالذنوب, ولم نكفر أحداً بعمل المعاصي, بل نكفر من فعل المكفرات كالشرك بالله أن يعبد معه غيره..." (52).



"خَطَرُ التَّكْفِيرِ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَخُبْثُ مَذْهَبِ الخَوَارِجِ"
قال ابن الجوزي رحمه الله: "عُزلة الجاهل فساد, أما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها". وقد صدق رحمه الله, فمن أكبر أسباب الانحرافات المنهجية العقدية وما يتبعها من انحرافات عملية وسلوكية؛ هو البعد عن توجيه أهل العلم والنصح, وانفراد الشيطان بالمتعبّدة, وإصابتهم بكَلَبِه حتى تتجارى بهم الأهواء بعيداً عن كهف من جمع الله لهم بين العلم والإيمان, وحينما ذهب ابن عباس رضي الله عنهما لمناظرة الخوارج وألزمهم بإلزاميّاته الكبار؛ قشع عن جمهورهم قتار الشبهة وقزع الهوى, فتركوا منظّري الفتنة والخروج إلى حِكمة العلم وسكينة الإيمان, فعاد جلّهم للحق ولم يبق إلا من سحقهم أمير المؤمنين في النهروان. والسنة بريئة ممن انتسب إليها ممن لم يلتزم بها؛ وانتساب الخوارج للسلفية وأهل السنة والجماعة كانتساب الأشاعرة لأهل السنة والجماعة مع أنهم جهمية جبرية مرجئة! والعبرة بالمنهج والبرهان, أما الدعوى فيحسنها كل أحد.

ومسلك الكلام في التكفير شديد الوعورة خطر الخُطا, ومزلة القدم فيه قريبة لمن لم يأخذه بحقّه, وعثرته صعبة الإقالة, إذ يترتب على ذلك حكم بتكفير أو إسلام, قال الشيخ عبدالله بن الإمام المجدد: "وبالجملة فيجب على من نصح نفسه, أن لا يتكلم في هذه المسألة, إلا بعلم وبرهان من الله, وليحذر من اطّراح رجل من الإسلام أو ادخاله فيه, فإن ذلك من أعظم أمور الدين" (53).

قال محمد الطائي: أملى علي أحمد _أي ابن حنبل_ "ومن لقيه مصرّاً غير تائب من الذنوب التي قد استوجب بها الغقوبة, فأمره إلى الله, إن شاء عذبه وإن شاء غفر له, إذا توفي على الإسلام والسنة" (54). قال ابن تيمية رحمه الله: "الخوارج لهم خاصيتان؛ الخروج عن السنة والتكفير بالذنوب" (55).

ومن قواعد أهل السنة والجماعة؛ أن من دخل الإسلام بيقين فلا يُخرج منه إلا بيقين وفي الحديث: "فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة" رواه مسلم. فمن نطق بالشهادة فقد حرم دمه وماله وعرضه, وصار كالمسلمين, له ما لهم وعليه ما عليهم, ما دام لم ينقض ما أبرمه من ميثاقها الغليظ بأن ظهر منه ما يستوجب كفره, وقامت عليه الحجة ممن يحسنها, وهم الراسخون في العلم. قال شيخ الإسلام: "وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم, واتفقت الأمة على أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فبذلك يصير الكافر مسلماً والعدو ولياً والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال, ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان, وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان" (56). وقال أيضاً رحمه الله: "فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة, ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك, لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعيّن, إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع" (57). وقال أيضاً: "لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله, ولا بخطأ أخطأ فيه, كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة" (58).

وقاعدة من لم يكفر الكفار فهو كافر, قاعدة صحيحة لكنها منضبطة بضوابط واضحة المعالم, وليست منفلته بل مقيده بقيود ثقال. ولا يجوز تكفير المسلم بلا برهان, قال عليه الصلاة والسلام: "أي رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" متفق عليه. وفي الصحيحين كذلك: "ومن قذف مؤمناً فهو كقتله". فالتكفير ليس مشاعاً لكل أحد بل هو منوط بمن يملك أدواته وهم الراسخون في العلم. وتطبيق الحدود إنما هو للإمام أم نائبة لا لآحاد الناس.

وقال تقي الدين ابن تيمية: "وأما التكفير؛ فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد وقصد الحق فاخطأ لم يكفر, بل يغفر له خطؤه, ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر, ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب, ثم قد يكون فاسقاً, وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته, فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافراً, بل ولا فاسقاً, بل ولا عاصياً, لا سيّما فى مثل مسألة القرآن وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين, وغالبهم يقصد وجهاً من الحق فيتبعه, ويعزب عنه وجه آخر لا يحققه, فيبقى عارفاً ببعض الحق جاهلاً بعضه بل منكرا له, ومن ههنا نشأ نزاعهم" (59).

وقال ابن تيمية أيضاً: "إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر, وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة, استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير, واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر, فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة, كاللص تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته, وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة, وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم" (60).

وفي تقريرات أئمة الدعوة ذم مذهب الخوارج, وبيان خبثه, والتحذير منه, والشناعة على أهله, قال الشيخ سليمان بن عبدالله رحمه الله: "....وفي الآية _أي قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء: 38)_ ردٌّ على الخوارج المكفرين بالذنوب, وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يدخلون النار ولا بد" (61).

والتكفير نوعان:

الأول: التكفير المطلق (الوصفي) وهو الحكم على الفعل أو القول بالكفر, فيقال: من فعل كذا أو قال كذا فقد كفر, دون تنزيل الحكم وإيقاعه على الشخص المعيّن (المحدد).

الثاني: تكفير المعيّن (الشخصي) وهو الحكم بالكفر على الشخص المعين الذي فعل الكفر أو قاله بعد التحقق من توفر الشروط وانتفاء الموانع (62). وللتكفير والحكم به شروط عند أهل السنة, وتنقسم إلى شروط في الفاعل وهي التكليف والقصد والاختيار. وشروط في الفعل أو القول المكفر وهي أن يكون فعله أو قوله قد ثبت بالأدلة الشرعية أنه كفر أكبر أو شرك أكبر, بنص علماء الأمة عليه, وأن يكون الفعل أو القول صريح الدلالة على الكفر بخلاف المحتملات, وكذلك الجزم بوقوع الشخص المعين في ذلك الكفر, كذلك العلم بإقامة الحجة عليه, قال شيخ الإسلام: "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض الأحكام جهلاً يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" (الإسراء: 15) (63).

ومن المهمات كذلك انتفاء الموانع من التكفير وهي:

1_ موانع في الفاعل: وهي ما يَعرض له بما يجعله غير مؤاخذ بأفعاله وأقواله شرعاً (عوارض الأهلية).

2_ موانع في الفعل المكفر: لكون الفعل غير صريح في الكفر, أو أن الدليل الشرعي غير قطعي الدلالة.

3_ موانع في الثبوت: كالقدح في شهادة من شهد على المعين بفعل أو قول مكفر.

ومن المعلوم أن الإيمان شُعَبٌ منها ما يزول الإيمان بزوالها أو انتقاضها ككلمة التوحيد ومنها ما ينقصه مع بقاء أصله.

هذا وباب التكفير بالباطل هو الغلو في الدين قال الله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم"(المائدة: 77) وفي مسلم عن ابن مسعود مرفوعاً: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً. وعند النسائي بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: "وإياكم والغلو, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين". كذلك التفريط مذموم "خذوا ما آتيناكم بقوة" (الأعراف: 171).

والرجال إنما يعرفون بالحق وليس الحق معروفاً بالرجال, فالخوارج المارقة وصفهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم" متفق عليه, مع وصفه لهم بأنهم "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" رواه البخاري. وفي مسلم: "هم شر الخلق والخليقة" وعند أحمد والحاكم: "الخوارج كلاب أهل النار".

وقد قابلت أحد من تأثر بمذهب هؤلاء في التكفير بالعموم واللزوم, فلما كشف عن أدلته إذ هي أوهى من بيت العنكبوت, وكان سبب تأخر رجوعه للحق الذي خرج منه؛ أنّ من لوّثوا فكره وغبشوا تصوّره بدأو ذلك بحجزه فكرياً في محيطهم حتى لا يرى الأمور إلا بمنظارهم, ولا يناقش الأفكار إلا على أصولهم, وبعد أن هداه الله للحق فاضت عينه بالدمع _إذ كانت عينه سليمة_ فتذكرت قول الشاعر العربي:

بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وهو يقول ويردد: وكيف اصنع بمن كفرتهم, وكان من ضمن من كفرهم إمام السنة في زمانه ابن باز رحمه الله تعالى! عائذاً بربي من مضلات الفتن.

يا قاصداً ثبج البحار ألا ارعوِ فلكم تجندل في المحيط الضارب
لقد بلغ الضلال بالخوارج حتى تقربوا إلى الله بقتل أفضل وأخير أهل عصره إبان إمارته للمؤمنين أبا الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, إذ قتله عبدالرحمن بن ملجم المرادي, عليه من الله ما يستحق.

يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وقد مدح عمران بن حطان عبد الرحمن بن ملجم بأبيات منها_عائذاً بالله من الضلال_:

يا ضربة من تقي ما أراد بهـا إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً
إني لأذكـره يوماً فأحسبـه أو في البـرية عنـد الله ميزاناً

وصار الحجاج يطارد عمراناً أيام ولايته بالعراق، فكان عمران يتنقل من حي إلى حي متخفياً ، وقيل: أهدر عبد الملك دمه, وما ان طرقت سمع الفقيه الطبري هذه الأبيات حتى رد عليه قائلاً:

يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليهدم من ذي العرش أركاناً
إني لأذكـره يوماً فألعنـه وألعن الرجس عمران بن حطاناً

وقال القاشي أبو الطيب طاهر بن عبدالله الشافعي:

إني لأبرأ مما أنت قائله عن ابن ملجم الملعون بهتاناً
وعند الحافظ ابن كثر رحمه الله: لما مات علي رضي الله عنه: طلب ابن ملجم من الحسن أن يطلقه ليقتل معاوية رضي الله عنه, فقال له الحسن: كلا والله حتى تعاين النار، ثم قدمه فقتله، ثم أخذه الناس فأدرجوه في بواري ثم أحرقوه بالنار.

وقد قيل: إن عبد الله بن جعفر قطع يديه ورجليه وكحلت عيناه، وهو مع ذلك يقرأ سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى آخرها، ثم جاؤوا ليقطعوا لسانه فجزع وقال: إني أخشى أن تمر علي ساعة لا أذكر الله فيها، ثم قطعوا لسانه، ثم قتلوه، ثم حرقوه في قوصرة والله أعلم. نعوذ بالله من الضلال.

 
[بارك الله فيك على الموضوع القيم والمميز

وفي انتظار جديدك الأروع والمميز

لك مني أجمل التحيات
 
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*8*
 
الوسوم
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله8
عودة
أعلى