الإضحاك , هل هو للضحك فقط ؟

يوجد فرق واضح بين الأدب الهزلي المضحك وبين الكوميدي الساخر، مبني على أن الأول للترفيه فقط والثاني يقوم على فلسفة تصيّد أخطاء النفس، أقوالاً وأفعالاً، ونقدها بطريقة لاذعة قد تكون أبعد مدى ودلالة وآثاراً من المأساوية وفيما يمكن أن يُطلق على بعض نماذجه: الكوميديا السوداء وبما يتفوق أحياناً - في تحقيقه لأهدافه - على كثير من الأدب الجاد والثقافة العميقة.
الأدب الهزلي المضحك، أو أدب «النكُتة» لا يزيد عن كونه ممازحة بين شخصين لغرض التسلية أو استخفاف بعقل المتلقي البسيط - وليس له أي فائدة تعود على الناس - وإسفاف ومضيعة للوقت، وبخاصة عندما يتم نشره وتداوله على أنه فنٌ أو ثقافة، ويفتقر إلى وجود أضعف جسر من جسور الثقة المبنية على احترام أُطر المثاقفة ومكانة الوعي، وأصدق مثال على ذلك «مشاهد الكمرة الخفيّة».
أما الأدب الساخر، فيصدمنا - دائماً - بالمسكوت عنه في الأفكار والقناعات والسلوكيات، وعبر أشكال وتقنيات تتيح له حرية القول والفعل مما لا يتوفر لكثير من أنواع المثاقفة الأخرى.
ويمكن القياس على هذا أيضاً في كافة أنواع الكتابة النثرية والشعرية والمسرح والرقص والموسيقا والتطريب، وفي مقابل الوجود الواقعي لكل من الهزل والسخرية في حياتنا مما يخفف - قليلاً - من حالة الانفصال والتباعد بين الظاهر والباطن، أي المظهر والجوهر، ويعمل - نسبياً - على تضييق الهوة بين الفكر والسلوك، أي بين ما نؤمن به حقيقة ونقوله ونفعله في السر أو نتمنى ذلك وبين ما نتمظهر به أمام الناس وأمام النفس أحياناً ومما قد يندرج تحت أسماء منها «النفاق»، وحين يعمل هذا الفن على المواجهة والمكاشفة وفضح ما تحت الغطاء وبأسلوب يعمدإلى جعل «الحرج» الناجم عقدة أو قمة توتر، ودون افتعال.
وبالتقاط الأخطاء والانتباه لها، وبتقنية ناعمة الشكل وقاسية المضمون وحادة الدلالة، وبصدق فني مدعوم بعفوية الصدق مع النفس ومع الآخرين وبإزالة الأصباغ والازياء الخارجية ومواجهة الداخل والكامن والجوهر الحقيقي وهو عار تماماً.
ولا بد - هنا - من الانتباه إلى الفروق الواضحة بين ما يتم انشاؤه أو انتاجه في طابع هزلي أو ساخر، وبين ما يتم إنشاؤه أو انتاجه على أنه فن جاد أو ثقافة جادة أو ابداع رفيع وعميق ولكنه يصبح - بعد الاطلاع عليه - مثار هزء وسخرية ليس من العارفين وأصحاب «الصنف» فقط، بل ومن عامة المتلقين، وهو موضوع آخر ويحتاج إلى كتابة مستقلة تفضح الممثلين والمتصنعين ومن ضاعوا بين مشية الغراب ومشية الحمامة من حيث انكشافهم وبوضوح ودون الحاجة إلى جهود بحثية ونقدية ولا محصلة ثقافية متخصصة لمعرفة ذلك، ولمعرفة أنهم لا يحترمون الكلمة التي - يُفترض - أن يكونوا من حملة رسالتها، ولايحترمون القارئ من حيث إنهم لا يحترمون أنفسهم ومما يؤكد جهلهم بأن ما ينتجون لا يحمل أدنى مقومات الديمومة والبقاء ولا مجرد الحضور أيضاً، ويتناسون بديهية أن من لا يستحيي يصنع ما يشاء.
ولكنه ضحك كالبكاء، وشرّ البلية ما يضحك، ومن فرط، ما قد سرّني أبكاني، ودموع الفرح، ودوال أخرى ومختلفة - أيضاً - تأتي من مصبّات متباعدة وتذهب إلى وتتفرق في سهوب متنائية، وكان من نتيجة ذلك الاحتفاظ بالتداخل دون محاولات متخصصة ومتأنية للاهتمام بالفروق القديمة واكتشاف فروق جديدة وابداع علاقات جديدة، وإلى أن أصبح اللبس فادحاً عند الكثيرين دون إدراك لما قد ينجم عن هذا الخلط من خطورة على حضارة الإنسان وثقافته على صعيد المفاهيم والقيم التي تتعرض - وبفعل انعدام المسؤولية - إلى البلبلة والارتباك، ومن خلال انتاج يتراكم وعلى نحو يتخلص من حقيقته ويفرض حالة من «المجانية» التي تمارس الاستعصاء على التفسير والتحليل والتعليل «حسب ضحالتها»، والتي هي - في الواقع - أكثر انكشافاً مما يحتاج إلى ستر.
هي دعوة لأصحاب العلاقة، للتصدي لهذه الظاهرة، وبجرأة، ولوضع «جدواها» في مكانها الطبيعي، ودون نزعة طوباوية أو غلواء متشددة، وبخاصة أن الموضوع يطال أطرافاً مختلفة ويرمي إلى أهداف كثيرة ويحمل من المعاني ما هو أكثر مما في بطن الشاعر الذي نكتفي بالإشارة.


من كتاب : من أين لهم هذه القوة , ومن يكسب الرهان ؟ عبدالله سعد اللحيدان . طبعة 2009 . بيروت . بيسان للنشر .
 
كلمات في موضعها في ظل مانراه الان
سلمت ........#
 
الوسوم
الإضحاك فقط للضحك هل هو
عودة
أعلى