تخطيط دقيق



بسم الله الرحمن الرحيم

إن أحداث الهجرة في ذاتها والحمد لله معظمنا بل أغلبنا يعلمها ويحفظها جيداً لكن الله أمرنا أن نستلهم العبر ونأخذ المثل والقدوة من سير الأنبياء والمرسلين وذلك حين يقول عز شأنه {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} يوسف111

وسنأخذ بقدر الوقت وبقدر ما تسمح به الفرصة ثلة صغيرة من الدروس التي ينبغي على شبابنا وفتياتنا أن يتعلموها ويتعلمنها من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

أولاً وقبل كل شيء قبل الهجرة بوقت قصير أخذ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بصحبة الأمين جبريل من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ثم صعد به سماءاً تلو سماء حتى وصل إلى سدرة المنتهى ولنعلم مدى عظمة هذه الرحلة فقد قال صلى الله عليه وسلم: {كِثَفُ الأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ الأَرْضِ الْعُلْيَا وَالسَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ، ثُمَّ بَيْنَ كُل سَمَاءٍ وَالسَّمَاءِ الدُّنْيَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ، وَكِثَفُ السَّمَاءِ سِتُّمِائَةِ عَامٍ ، ثُمَّ كُلُّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ، ثُمَّ بَيْنَ كُل سَمَاءٍ مِثْلُ ذٰلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، ثُم مَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلى الْعَرْشِ مَسِيرَةُ مَا بَيْنَ ذٰلِكَ كُلهِ}{1}

فكم من الأعوام يقطعها المسافر في هذه السماوات والأقطار وبعد سدرة المنتهى زار الجنة ونزل إلى النار ثم بعد ذلك ذهب إلى قاب قوسين أو أدنى ورجع وفراشه الذي ينام عليه لم يبرد بعد يعني في أقل من لمح البصر ، الذي فعل معه ذلك ألم يكن في استطاعته جل شأنه أن يأخذه من مكة إلى المدينة في طرفة عين؟ كان ذلك سهلاً ويسيراً والله على كل شئ قدير

لكن الله لو فعل ذلك معه كانت هذه ستكون حجة نتعلق بها جميعاً فنقول: هذا نبي الله ورسول الله ولا طاقة لنا بما فعل ولا نستطيع أن نصنع كما صنع فضرب الله المثل والقدوة لنا أجمعين رجالاً ونساء شيوخاً وشباباً بأنبياء الله ورسله فمثلاً نبي الله موسى عليه السلام كيف دفع مهره ليتزوج امرأة مؤمنة كان صداقه أن يشتغل برعي الأغنام في الصحراء لمدة عشر سنوات حتى لا يظن شبابنا أن الطريق مفروش بالورود ولكن يسعوا ويجدوا ويجتهدوا {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فصلت35

فجعل الله هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم عن طريق الأسباب التي هيأها الله للعالمين أجمعين لأن الأسباب مهيئة للكل والكل يستطيع أن يستخدمها أو ينتفع بها لأنها صنع الله الذي سخره لجميع الخلق

لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف ، فهو الذي لا يخاف إلا من الله لكنه خطط التخطيط السليم ليعلم كل مؤمن أن أي عمل ينوي فعله لابد له من خطة ، سواءاً كان ذلك في استذكار دروس أو كان ينوي زواجاًَ أو كان ينوي بناء بيت أو كان ينوي تحقيق اختراع أو كان ينوي إحداث اكتشاف ، أي أمر لابد أن يبنيه المرء على خطة والخطة لابد أن تكون محكمة ومدبرة تدبيراً جيداً ولا بأس أن يجعل في خطته نصيباً لأهل الخبرة حتى ولو كانوا غير مسلمين مادام هذا هو التخطيط المكين

إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وضع الخطة الدقيقة بأن يتوارى عن القوم هو وصاحبه في الغار لمدة ثلاثة أيام كيف يعرف أخبار القوم؟ تستطيع أن تقول أنت عن طريق الوحي لأن الله ينزله عليه لكنه يريد أن يجند الشباب ويعلمهم المنهج السديد الذي يرضي الله فجند فتى وفتاة وهيأهما وعلمهما

الفتى يجلس طوال النهار بجوار نادي القوم قرب الكعبة يتسمع الأخبار والفتاة تصنع الطعام وثالثاً يمشي خلفهما إذا مشيا في الذهاب أو في الرجوع ومعه غنمه ليعفي على آثار القدمين فلا يكتشف أقدامهما الكفار وقد كانوا يجيدون ذلك

فكان في كل ليلة يأتيه الفتى بالأخبار التي يتسمعها من قريش وتأتيه الفتاة بالطعام ، وبعد الثلاثة أيام كان قد جهز الراحلتين ولما لم يكن في وسط المسلمين خبيراً بالطريق استدعى خبيراً كافراً هو عبد الله بن أريقط حتى أن أئمة السيرة الأعلام قالوا: لم يصل إلينا خبر هل أسلم بعد ذلك أم لا؟ لكنه تخيره أميناً حتى لا يكشف سره لأعدائه

فجاء الخبير الذي يستطيع أن يجتاز بهم طريقاً غير معروف بعد الثلاثة أيام ، والحمد لله هو هذا الطريق المعروف الآن الذي يسافر عليه الحجيج والمعتمرون من مكة إلى المدينة وهو طريق الهجرة ، ولم ينس صلى الله عليه وسلم وهو في هذا العمل كله يرجو تحصين الله وحفظ الله وعناية الله أن يتمسك بأهداب الفضيلة التي جاء بها لنا من عند الله فالكافرون من أهل مكة أخرجوا المسلمين من بينهم بدون شئ من أموالهم أو متعلقاتهم فقد استولوا على بيوتهم واستولوا على أموالهم وأستولوا على كل أشياء يتملكونها

والعجب أن هؤلاء القوم مع كفرهم إلا إنهم كانوا يقرون للداعي إلى الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة فلو نطق بكلمة قيل لهم ، قال محمد كذا ، قالوا: إن كان قال فقد صدق لأنهم ما جربوا عليه كذباً فكانوا يحفظون عنده أماناتهم التي يخشون عليها لعدم وجود البنوك في هذا الزمن ، ولما جاءه الأمر من الله بالهجرة لقن فتيان المسلمين درس عملياً عظيماً في الأمانة

فجاء بابن عمه علياً بن أبي طالب وكان سنه لا يزيد عن ثلاثة عشرة عاماً وأمره أن يبيت في مكانه مع أن أربعين رجلاً مُدججين بالسيوف يحيطون بالمنزل وينتهزون فرصة للدخول عليه في أي ساعة من الليل ويقضون عليه ، عرضه للموت في سبيل أن يتمسك بالأمانة وأن يكون مثلاً فذاً في خُلق الأمانة ، وأمره أن يمكث ثلاثة أيام بعده حتى يؤدي لكل رجل أو امرأة أمانته أو أمانتها

استوعب هؤلاء القوم هذا الدرس فتربوا على فضيلة الأمانة فكانت هي الصفة الأولى في نشر الإسلام في كافة ربوع العالم​


{1} رواه البزار عن أَبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ


http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php…

منقول من كتاب {الخطب الإلهامية_ج1_الهجرة ويوم عاشوراء}
اضغط هنا لقراءة أو تحميل الكتاب مجاناً


https://www.youtube.com/watch?v=Jc73GARu8g8

تخطيط دقيق


 
الوسوم
تخطيط دقيق
عودة
أعلى