عرفتُ معه قسوة الانتظار

خالدالطيب

شخصية هامة

عرفتُ معه قسوة الانتظار

قسوة الانتظار


نظرت إلى معصمها.. فوجئت.. لم تكن تتوقّع ذلك..
راحت تدقُّ الأرض بنعليها على نحو ملحوظ...
"لقد تأخرتُ.. الساعة الآن السادسةُ والربع مساءً.. لقد انقضت ربعُ ساعة على الموعد المحدد.. فترةٌ طويلة، طويلة جداً في عمر المواعيد.."..
أسرعتْ أكثر.. كادت تتعثّر في مشيتها..
".. لا.. عليَّ أن أحتفظ بالتوازن والوقار..
لعن الله الازدحام وأزمة المواصلات.. لقد خرجتُ من البيت مبكرة كي أصل في الموعد المحدّد... أتصوره من بعيد يجلس وحيداً.. يحملقُ حوله بلاهدف.. ينظر إلى ساعته بقلق.. ينقر على الطاولة بأصابع متشنجة.. لابأس سأعتذر..
إنه يعرف كيف تتقيأ "باصات" النقل الداخلي مئاتِ الناس في كل موقف..
وكيف تظل أكداسٌ بشرّيةٌ على الأرصفة تتلهّفُ بأبصارها عبرّ النوافذ."‏
قطع سيلَ تداعياتها بابٌ عريض ملوّن، تتضاحك الأنوار داخله عبرَ ستائر شفافة، قد ألفتهُ كثيراً..
إنه "كافتريا الزهور"... "لقد وصلت".. تأخرتُ كثيراً، ليس في اليد حيلة.. لاشك أنّه يقدّر ذلك.. سأذيب تجهّمهُ بابتسامتي المعهودة فيضحكُ وينتهي كلُّ شيء.." تباطأتْ قليلاً.. أصلحت من قيافتها.. ازدردت نفساً طويلاً، ودخلت متسلّحة بوقار أصيل.. خفّفت من طرق نعلها على الأرض الملساء اللامعة.. صوّبت نظراتها باتّجاه محدّد.. أكلتها المباغتة..
الطاولة التي اعتادت أن تجلس إليها مع سامر كانت خالية..
نظرت في كل الاتجاهات .. لم تجده.. "الكافتريا" كانت تغصُّ بالروّاد عدا بعض الطاولات المبعثرة هنا وهناك.. شعرت بالإحباط والخوف معاً.. صاحت في أعماقها "أيعقلُ ذلك؟"..
تقدمت بخطوات حائرةٍ نحو الطاولة.. كانت تسدّد نظراتٍ جريئةً إلى كل الزوايا،.. "علّه يجلسُ في مكان آخر.. غير معقول.. في كل مرة كان سامرٌ يسبقني إلى الموعد ويعاتبني على التأخر.."... ألقت محفظتها على سطح الطاولة، وهبطت ببطء شديد على كرسيّها، وراحت تبعثر نظراتٍ متسائلةً.. غرقت في دهاليز صمت محيرّ.. مضغتها عيون الحاضرين..
قرأت في نظرات بعضهم عباراتٍ مشتتةً... عاشقةٌ تنتظر.. صّيادةٌ ماهرة ترمي بشباكها.. عاشقةٌ تخلى عنها صاحُبها.. تعالت ضحكاتٌ متداخلة من كل زوايا "الكافتريا".. آلمها ذلك جداً.. اعتصرها من الداخل بقسوة.. تعرّق جبينها وعنقها بحبّات من الرذاذ الساخن.. أصلحت من جلستها..

أولت ظهرها للناس.. لفّت ساقاً على ساق، وراحت تعبث بمحفظتها بحركات عشوائية... هتفت في أعماقها... "لابدَّ أن يأتي.. سيأتي لاليلتقيني فحسب..
إنني على موعد معه ليزفَّ لي بشرى هامّةً جداً.. آهٍ كم أتلّهفُ لتلقي تلك البشرى.. لا.. لاياسامر.. لاتقل انك أخفقت.. لا أبداً.."‏
استدرجتها تلك الأماني العذبة إلى شهور طويلة خلت.. وراح شريط الذكريات يفرز الألوان والصور.. "لا.. لن يكذب سامر.. إنه خطيبها منذ سنتين.. انتزعها من بين تلميذاتها الصغيرات.. إنه رجل شهم نبيل.. معلمٌ مثلُها.. يطعمُ تلاميذه فتاتَ قلبه وعواطفه.. فكيف يكذب... عرفتُ الحبَّ على يديه... عرفتُ معه قسوة الانتظار والحياة الصعبة ..
عامان والحياة المرة تلفنا بردائها ، والأمل يتجدد .. ما أصعب حياة الشرفاء في مجتمع الغابة."‏
تماهت مع أحلامها.. اضطرب شريط الذكريات أمامها.. نقلهاإلى محطات لولبيّة ضبابيّة وراحت تتخبّط.. غاصت بعيداً في أوحال المدينة الظالمة... انتشلها من الطين شبحُ رجل يقف إلى جانبها، يمسكُ حافةَ الطاولة بأصابعَ متشنّجة...
فاجأها سامر.. أعادها إلى واقعها.. حاولت أن ترحّب به، تخثّرت الكلمات في حلقها..
كان واقفاً أمامها كأنه تمثال من حجر.. مافتئ ينظر إليها بعينين خاليتين من البريق..
وما فتئت هي تتقلّب في أحضان المباغته... كسرت طوق الجليد.. رسمت على شفتيها ابتسامةً مصنوعة.. سألته بصوت هامس:‏
سامر.. لقد تأخرتَ كثيراً!!
ألم تتوفق في العثور على بيت؟؟..‏
بلى ياحبيبتي لقد عثرت..‏
هنيئاً لنا... وكم أجرته؟؟...‏
غرس عينيه في عينيها.. تلّمظَ قليلاً..‏
فقط.. ثلاثة آلاف ليرة سورية، تُدفع في مطلع كل شهر...‏
سقطت الابتسامة عن شفتيها.. صاحت:‏
... ماذا...!!‏
نعم.. والوسيط يريدُ ألف ليرة...‏
شعرتْ بغثيان مباغت يجتاح جسدها.. توحّدت مع كرسيّها... ظل سامرٌ واقفاً كجذع شجرة كُسِرت أغصانها..
سافر كلٌّ منهما إلى شواطئ بعيدة، بينما كان السُّباتُ يفقأُ العيون.


عرفتُ معه قسوة الانتظار


 
الوسوم
الانتظار عرفتُ قسوة معه
عودة
أعلى