سبعة اقفال 2

المنسي

الاعضاء

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سبعة اقفال 2



: حسناء ..
- وأجابته بعينيها ، وهي تصغي إليه ، تستمع لألحان صوته العذب ، وصدرها يعلو ويهبط .. وراح يسار يردد كالنائم : حسناء .. كيف حالك يا حسناء ؟
- وتبسمت وهي تغالب دمعة متألمة ، وقالت بصوت يشبه الأنين : لقد خشيت أن أموت ولا أسمع اسمي يتردد على لسانك ..
-فهتف كالمأخوذ : حسناء .. أنت ملء القلب يا حسناء .
- وتدحرجت الدمعة على خدها طربًا ، وقالت والابتسامة تشرق على وجهها : يسار .. أنا ..
- وهتف مرة أخرى : أنت يا حسناء .. أنت ملء القلب .
- وانتقلت على أنغام صوته ، إلى عالم مملوء بالرياحين ، فتحركت في مكانها وأرادت أن تجلس ، ولكن الألم عاودها .. فتأوَّهت ، وتلوت في فراشها وأخذت تئن أنينًا يشبه النحيب . وكان ينظر إليها ، ويحس بقلبه الغض يتلوى معها ، ويئن ، ويتمنى لو زال عنها الألم .
- كانت جدران الغرفة مصبوغة باللون الوردي الفاتح والسراجان المتدليان فوق السرير يضيفان على الغرفة بهاءً ورونقًا ، والموقد الصيني في جانب الغرفة يشيع الدفء . وعندما خفَّت عنها وطأة الألم ، نظرت إليه وقالت : إنني .. وتطلَّع إليها ، إلى شفتيها القرمزيتين ، إلى حبات العرق التي تصببت على جبينها نتيجة الحمى ، يريد أن يسمع ما تقول .. ولكن الدموع غلبتها .. قال لها بصوته المتألم : أنتِ تبكين يا حسناء .
- قالت وهي تنظر إليه متشبثة : إنني أخشى أن أموت .
- وهتف دون وعي : عافاك الله يا حسناء .
- ثم أضاف يطمئنها : إن صحتك جيدة .
- قالت ، وقد سرها أن تنظر إلى عينيه اللتين روَّعهما كلامها : هل تريدني أن أعيش ؟
- وأدارت رأسها إلى الناحية الأخرى ، وهي تبكي بصمت فلما رأى الدموع تنساب على خدِّها ، تحطمت جميع الأقفال التي أقامها على قلبه ، وفتحت الأبواب كلها دفعة واحدة .. وهتف كالمجنون : حسناء .. كفكفي دموعك يا عزيزتي .. ارحمي قلبي .
- والتفتت إليه وقالت : أنت تحبني .. أليس كذلك ؟
- وتولَّت العيون الجواب ، وسكتت لغة الكلام ، من أين للألسن أن تفهم لغة العيون ؟!
- وأرادت مرة أخرى أن تبوح له بما في نفسها .. ولكن في اللحظة التي فتحت فيها فمها لتتكلم ، دخل الخادم يحمل الدواء في قدح . هذا الدواء يفيد يا سيدتي ..
- وكانت لا تزال تنظر إلى يسار .. فأسرع يتناول الدواء من الخادم ، واعتدلت في الفراش ، وقرب يده بالقدح ، وقال : اشربي .. بسم الله. فشربته على دفعات .. ثم عادت فتمددت ، وسحبت الغطاء ، وأخذ صدرها يعلو ويهبط ، وسمعها تئن أنينًا خافتًا وتتوجع
ثم هدأ صدرها ، واستسلمت للنوم ..
- وبقي يسار ينظر إليها وكأنه في حلم .. ثم التفت إلى الخادم ، وسأله بصوت خافت : منذ متى وهي على هذه الحال ؟
-فأجاب الخادم : منذ يومين يا سيدي .
-قال يسار : وهل تناولت دواء خلال اليومين ؟
- فهز رأسه قائلاً : هذه أول مرة تتناول فيها الدواء ...
- وسكت مريد قليلاً ثم أضاف : لقد كانت تلح علي أن أدعوك .. منذ اليوم الأول لمرضها .
- ونهض يسار ، وهو يلقي عليها نظرة عطف وحنان ، وقال : سأعودها غدًا .. إن شاء الله .
- وفي اليوم التالي لم يشعر يسار إلا وهو يقف على باب بيتها في نهاية سوق الخبازين ، وكان الوقت قد قارب المغرب .. ورفع يده يهم بطرق الباب .. ولكنه توقف .. وأخذت يده تهبط بهدوء ، حتى استقرت إلى جانبه . ثم استدار عائدًا .. من حيث أتى .. ومشى خطوات .. بطيئة ، ثقيلة ، متمهلة .. ثم وقف .. لقد شعر بشيء خفي يشده إلى الخلف .. إلى بيت حسناء ، فالتفت ينظر إلى الدار
- وعاد مرة أخرى ، وقد عزم على أن يطرق الباب ولكنه قبل أن يتقدم إلى الخطوة الثالثة تذكر ..
- تذكر حديث الشيخ في آخر مرة حضر فيها إلى المسجد .. وتذكر كيف ضرب الشيخ مثلاً للسائرين إلى الله ..
- ترى أين مكانه ؟ هل هو في حال المتدحرج من الجبل ؟! وإلى أين وصل ؟ أتقف هذه المرأة في طريقه ؟
- وغضب يسار وهو يرى أنه قد أهين بجره إلى هذا الطريق .. وعزم على أن يقابل حسناء ليرى ماذا كانت تريد أن تقول له .. ولكي يصرخ في وجهها ، سيقول لها صراحة : أنا أكرهك سوف يتخلص منها بلا ريب .. وأسرع الخطى .. وطرق الباب .. وانتظر .. انتظر طويلاً .. فلم يفتح الباب !!
- وطرق مرة أخرى .. وتمنى لو سمع صوتًا .. أي صوت .. فلم يسمع إلا شقشقة العصافير على النخلة الباسقة التي تجاوزت في ارتفاعها سطح الدار .. وأراد أن يعود .. ولكن .. حسناء كانت تقف وراء الباب تنظر إليه من ثقب صغير فلما هم بالانصراف فتحت الباب .. وبدت له بشعرها الكستنائي الطويل الناعم الذي أرسلته على كتفيها ، وعينيها الكحيلتين ، وأنفها الصغير المستقيم ، ووجهها الذي عادت إليه العافية فأكسبته بهاءً ورواءً . ورحبت به بابتسامة غمرت كل أعضائها ، وبصوت كالهمس قالت : تفضل .. وقبل أن يعتذر ، رآها تترك الباب مفتوحًا ، وتتقدمه إلى غرفة الاستقبال .. ولم يشعر إلا وهو هناك ، وحسناء تشير إليه بكل رقة وتدعوه للجلوس . ثم تركت الغرفة ، وعادت بعد قليل وقد حملت إليه في صينية مستديرة قدحًا من عصير الرمان
- وأمام هذا نسي حديث الشيخ ونسي نفسه ، ونسي كل شيء وعاد لا يعيش إلا هذه اللحظة .. ولا يدري كيف امتدت يده إلى القدح الذي يحاكي لونه لون شفتيها ، وهل كان ينظر إلى القدح أم إليها ! كان ينظر إليها كالمسحور ، ولم ينتبه إلا على صوتها وهي تصبح : انتبه يا يسار .. العصير ..
- كانت يده قد مالت بالقدح ، وكاد العصير يتبدد على ثوبه ونسي يسار الغرض الذي جاء من أجله .. ولم يشعر إلا وهو يقول لها بصوت خافت متقطع : كيف حالك ؟
- قالت وهي تنظر في عينيه ، وكأنها تريد أن تنفذ إلى قلبه : الحمد لله .
- قال : أنت أحسن حالاً .. أليس كذلك ؟
- قالت : وابتسامة السرور تملأ وجهها : نعم .
- وبقي صامتًا لحظات .. والقلوب تتحدث بدقَّاتها الرتيبة .. ثم نظر إليها كالولهان وقال : لم أعد أصبر يا حسناء ..
- وأجابته وعطر أنفاسها يلامس وجهه : ولا أنا .. وكان لا يزال يحمل القدح بيده عندما قالت : لقد صنعته لك ..
- قال بنفس الصوت الخافت الحالم : وما يدريك أنني سأجيء ؟
- قالت وهي تشير بأطراف أناملها المخضبة : قلبي حدثني ..
- ورفع القدح إلى فمه .. والتقت العيون في عناق طويل .. وأدنت كرسيها وهي تقول : اشرب .. أنا صنعته .. بيدي .. ومدت يدها . . تسقيه .
- وخرج يسار ، والدنيا تميد به ، ولا يدري كيف قادته قدماه إلى هنا .. إلى بيت حسناء ..!
كان يسار في طريقه إلى البيت بعد صلاة العشاء ، وكان القمر كئيبًا حزينًا ، والهواء باردًا ، وغيوم مبعثرة في السماء ..
وهو يفكر كيف ذهب إلى بيت حسناء ؟
كانت هناك .. استقبلته .. سمع صوتها .. تحدَّثت إليه بعينيها .. بهمسها .. بقلبها .. حملت إليه كأس العصير ..
سقته بيدها .. وعندما وصل إلى البيت ، واحتوته الغرفة ، شعر بضيق شديد ، شعر كأن جدران الغرفة تشدد الحصار على قلبه المهزوم وكان يسار قد استنفد قواه ، ونال منه الجهد ، ولم يعد يحتمل مجاهدة نفسه ، فقد استطاعت حسناء أن تتغلغل إلى شغاف قلبه ..
عبثت بك كف الغرام وسقتك علقمه الزؤام
القلب ذاب من الأسى أضمته لوعـات الهيام
والدمع يجري هائما يروي تباريـح الغرام
العشق أيقظ ليله والجفن قد عاف المنام
كيف السبيل إلىالكرى والفكرفي المحبوب هام
الشوق أعقبه لضى يكوي وقلبا مستهام
نارالهوى قد أضرمت آواه من ذاك الضرام
قدسرح طرفا له بالحسن فأنبـرت السهام
أرخى لجام فؤاده للحب فاستعصىاللجام
لقد اضطرمت النار في أحشائه ، وتغيرت حاله ، وصار لا يقر له قرار ، وشعر بوحشة قاتلة ، ويأس مرير ، ولم يعرف كيف يداوي ما به .وصار يتلوَّى كما يتلوى السقيم .. ومنذ ذلك اليوم تغيَّر يسار .. لم يعد كما كان .. وانقطع عن الذهاب إلى المسجد الذي يصلي فيه صلاة الفجر ، ولم يعد يحضر حديث الشيخ ، وتلقفه حكيم بن محمود ، وحشى أذنه بخيالات وأوهام وحكايات أقل ما فيها يقسي القلب ولا يذكر بالرب وأصبحت صلاة يسار خفيفة جافة ، ليس لها جذور في القلب .. كأنها أوراق يابسة على شجرة في طريقها إلى الذبول !
وأخذ يحس في قعر قلبه بنار متأججة ، واضطراب وعدم راحة ، وحسناء .. لم يعد يدعو الله بأن يبعدها عن طريقه ، بل أخذ يتلهف لرؤيتها ، وينتظر الساعة تلو الساعة لكي يراها .. وأخذ يتصورها في حركتها ، في مشيتها ، في ضحكتها .. في كل شأن من شؤونها !!

- أقبل مريد ، وكانت تبدو عليه السرعة والاهتمام .. ودخل دون أين يتلفت إلى حسناء ، وتوجه إلى غرفته .. فأسرعت في أثره . فإذا به قد أعدَّ كل شيء ، وحزم أمتعته ولم يبق إلا أن يحملها ويذهب .
فاندهشت لهذا ، ولم تصدق عينيها ، وهتفت بجنون : إلى أين يا مريد ؟ ودون أن ينظر إليها قال : سأغادر بغداد .
وهتفت به : وتتركني يا مريد ؟ فأجاب بكل هدوء : لقد تبت يا سيدتي.. أريد أن أذهب إلى بلد لا يعرفني فيها أحد .. أريد أن أهجر الماضي بكل ما فيه من تعاسة وهوان ..
- ومضى مريد يقول : منذ التقيت بيسار لأول مرة ، وأنا أفكر في الكلمات التي قالها لي .. قال : بل أنت مريد .. المريد هو صاحب الإرادة القوية .. اتق الله واجتنب المعاصي .. وفكرت في نفسي ، وفكرت فيك ، وفكرت في يسار
- سيدتي ماذا ينفعك هذا المدعو حكيم ، إن ألاعيبه ستعود بالشر العظيم .. ولا يغرنك بعض ما ترين من نزول يسار .. فإنه لا ينزل إلا ليعلو ، ولا يدنو إلا ليبتعد ولا يهبط إلا ليحلِّق .. إنه رجل يحاسب نفسه بعد كل هفوة يرتكبها .. ولا يزال بها حتى يقيمها على الجادة البيضاء . وسكت مريد ، وكان يبدو كالبركان الذي ضاق بالنار المتأججة في صدره فأراد أن يقذفها ..
قالت حسناء : هل تستطيع أن تنتظر.. فلعلي أجيء معك . فهزَّ رأسه بالموافقة
تفكرت حسناء في مصيرها .. ويسار .. لا .. إنه لن يتزوجها .. إن فورة حبه ستنطفئ إنه كما قال مريد .. سوف يحاسب نفسه حتى يقيمها على الجادة .. وخيِّل إليها كأنها تسمع صوت حبيب بن مسعود وهو يقول : إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب ، عليها سبعة أقفال من حديد لماذا تركض وراء السراب ؟ سوف تبتعد عن طريقه .. قالت بإصرار : أنا أيضًا سأتوب . وسألته قائلة : متى تريد أن نذهب ؟
فأجاب : غدًا صباحًا .. إن شاء الله .
ثم ودَّعها وهو يقول : أرجو أن تكوني على استعداد .. غدًا صباحًا .
فلوَّحت بيدها وهي تقول : سأكون في انتظارك .
أما حكيم فقد أقنع يسار بالحضور إلى مكان لهوهم في دار حكيم بعد العشاء فهناك سيتمكنن من رؤية حسناء هكذا قال حكيم
وبعد العشاء نظر حكيم إلى حبيب ، وأدنى رأسه وقال بصوت خفيض وكأنه يريد أن يبوح بسر خطير : لقد وقع صاحبك يا حبيب ؟ وقال وهو ينقر على المائدة بشكلٍ رتيب : إنه سيأتي إلينا هذه الليلة , ونظر حكيم في وجه حبيب وهو يقول : مستحيل .
وقبل أن ينتهي حبيب من كلمته ، طُرق الباب طرقًا خفيفًا فانبسطت أسارير حكيم ، ونهض مزهوًا وهو يشير إلى حبيب ويقول : هذا هو صاحبك قد حضر ولم يصدق حبيب ، وبقي معلقًا نظره بالباب ، وانفرج فم سعيد بن منصور ، وتعلقت العيون بالباب تنظر من القادم .. وهتف حكيم بسرور : مرحبا بيسار . وشهق حبيب بن مسعود ، ولم يصدق عينه ما ترى ، ونهض سعيد وقد مد يده مرحبًا .. أما حسَّان بن معيقيب ، فقد بقي في مكانه مندهشا . ودخل يسار مطرقًا خجلاً ، ولم يرفع نظره إلى أحد من الحاضرين .. وجلس دون أن يتحرك ..
ومضى حكيم يدير الحديث وانحنى على يسار يسأله عن حاله ..
فأجاب يسار بهمس : إنني في أسوأ حال .. وضحك حكيم وهو يقول : إنه الحب يا أخي ..
وأطرق يسار ، وقد التهب وجهه بحمرة الخجل .. ثم همس في أذن حكيم : إنني لم أرها منذ مدة ..
فنهض حكيم وقد استخفَّه الطرب وقال : ستراها اليوم .. إنها ستأتي كالعادة في مثل هذا اليوم .
وهنا رفع حكيم كأسًا ، قدَّمه إلى يسار وهو يقول :
- خذ .. اشرب .. فالتفت يسار وهو يقول : أنا لا أشرب الخمر ..
وضحك حكيم وهو يمد يده بالكأس ويقول : اشرب .. اشرب يا يسار .. إنها تزيل عنك الخجل ، وتذهب الهم ، وتنسيك الدنيا .
خيل إلى يسار في تلك الساعة ، أن الدنيا تدور به. والتفت يسار ينظر إلى هذا الواقف الذي يحمل كأس الخمر بيده ، ويحثه على الشرب .. اشرب .. اشرب .. خذه يا يسار . ، وتذكر في تلك اللحظة .. كان أبو أنس قد التقى به عصر هذا اليوم في السوق الكبير ، وسلَّمه رقعة مطوية قال إن الشيخ قد بعثها له , مدَّ يده يتحسس الرقعة في جيبه ، فأخرجها ، وفضَّها ، فقرأ فيها : (( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم ، وبغض نظرك ، وتلاوة القرآن . وذكر نفسك ، أن وجه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وأن في الجنة من الحور العين ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) . كانت الرقعة بخط الشيخ نفسه .. إن الشيخ لم ينسه ولم يهجره كما خيل له .. هاهو يذكِّره .. ويحذِّره .. غدًا نموت .. ونقف بين يدي الله للحساب .. سيحاسبنا على كل شيء .. على كل خطوة ، كل كلمة ، كل معصية ، وسوف يهتف كثير من الناس : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت . ونكس رأسه ينظر في الرقعة ، وخيل إليه كأنه يسمع صوت الشيخ يحدِّثه .. يحذِّره .. وكان يسار قد وصل إلى حدٍّ لا يطيق معه الصبر .. فانفجر غاضبًا ، ونهض ثائرًا .. ورمى الكأس في وجه حكيم . وركل المائدة بقدمه .. فتحطَّم كل ما كان عليها . وانهال على حكيم ضربًا .. وأظلمت الدنيا في عينيه .. وانقلبت المائدة . ولم يقف في وجه يسار شيء . لقد قذف بكل ما في نفسه مرة واحدة .. لقد جمع الران الذي تراكم على قلبه ، وكوَّره وألقى به في وجه حكيم .. وفرح حبيب بن مسعود .. وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وهو يجلس صامتًا مبتسمًا وقد أعجبه المشهد .. ولم يحاول سعيد بن منصور شيئًا يقلل من هياج يسار ..وخرج يسار .. وصوت الشيخ يرن في أذنيه : (( إن وجـه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وإن في الجنة من الحور ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .
واهتزَّت النخلة طربًا وهي تشيع يسارًا .. ولمعت الفوانيس بنور جميل .. وشعر كأن الجدران ، والبيوت ، والدنيا ..
الدنيا كلها ، ترحب به .. أين كان كل هذه المدة ؟ ومضى في طريقه إلى المسجد .. إنه يريد أن يرى الشيخ ..
أن يجلس بين يديه فيشكره .. وكان الطريق طويلاً ، والمنعطفات كثيرة ، والبيوت تقف على الجانبين .. ولم يسمع أصوات المسلِّمين عليه .. ولا الفقير الذي مد يده يسأله الصدقة .. ولا أحدًا من الناس .. كان يريد أن يصل إلى المسجد .. أن يعود إلى سابق عهده .. أن يعود إلى الله بقلب تائب خاشع منيب .. لم يكن يظن أنه يستطيع أن يفارق أحدًا من أصحابه .. وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، الفتي الطيب .. اللطيف الوديع ، الذي ذهب يدرس الطب .. والذي كان يراه يذرع ساحة المسجد ذهابًا وإيابًا وهو يحاول حفظ القرآن .. وأبو أنس .. وخلاصاته التي لا تنتهي ، ودعاباته ، وروحه المرحة ، ومشاريعه الكثيرة , وأبو الحسن .... وسمته الهادئ اللطيف ، ودروسه الفقهية التي تعلمها في المدرسة .. وصاحبه أحمد الذي لم يكن يفارقه في ذهابه , وغيرهم .. وغيرهم .. كانوا يحيطون به .. يحبونه . بل يراه بعضهم قدوة له .. ويتمنى لو بلغ مبلغه ! أيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!!
ومضى يسار يريد أن يصل إلى المسجد.. وتمنَّى لو استطاع أن يطير .. أن يصل إلى الشيخ .. وتذكر العم عثمان ( أبو البحر ) .. هذا الذي تجاوز المائة من العمر .. والذي وقف مرة يخاطبه ويقول : ليتني نشأت في طاعة الله كما نشأت يا يسار .. فهنيئًا لك .. ثم رفع المنديل يسمح دمعة ترقرقت بها عينه وقال : لقد طال أجلي وقلَّ عملي .. إنه لا ينسى هذا .. ولا ينسى والده ، وكان يتمتم بعد صلاة الفجر فيقول : الحمد لله الذي رزقني ولدًا صالحًا. وأمه الحزينة المسكينة .. التي كانت تنظر إليه وتبكي بصمت ، والتي سمعها قبل أيام تقول لأبيه بصوت خافت : لا أدري ما الذي جرى ليسار .. كلمه يا رجل .. كلمه لعله يحدثك . وأخته الصغيرة سناء .. لم يعد يداعبها .. حتى شكت لأمها فقالت : لماذا لا يكلمني يسار ؟ هل هو مريض ؟ والشيخ .. لقد كان يحبه كثيرًا ، كان لا يمل سماع حديثه . كان يرغب بالمزيد المزيد .. وهل لدى الشيخ إلا كل نافع مفيد ؟ كان يتحدث وكأنه يغرف من بحر ليس له ساحل .. إنه في طريقه إليه .. لم يكن يظن انه يستطيع أن يبتعد عنهم .. كيف ابتعد كل هذه المدة ؟ لقد كان في رحلة خطيرة .. المحظوظ فيها من يعود منها سالمًا .. لا له ولا عليه .. إنه يتذكر تلك الأيام ، وتلك اللحظات . لقد كانت ملء السمع وملء البصر .. ورأى المسجد أمامه .. ببنائه القديم ، وجدرانه التي يخيل للناظر إليها أنها توشك على التداعي ، ومئذنته المتواضعة ..
وتقدم بخطوات بطيئة مترددة .. لقد شعر كأن حجارة المسجد تنظر إليه بعتاب .. وكأن جدرانه التي تتطلع إليه بصمت قد فرحت بقدومه .. إن هذا المسجد يعرفه .. إن كل حجارة فيه تعرفه .. كم مرة حضر إلى المسجد قبل أن يحضر أي إنسان .. كم مرة قضى الساعات الطوال .. قائمًا مصليًا ، أو قارئًا للقرآن .. أو ذاكرًا لله تعالى .. لقد كان مكانه في الصف الأول من صلاة الجماعة .. ومع التكبيرة الأولى .. وتعدى باب المسجد وهو يقدم رجله اليمنى ويقول : اللهم افتح لي أبواب رحمتك .. إن أبواب رحمة الله مفتوحة دائمًا ، لم تغلق في ساعة من ليل أو نهار .. أين التائبون .. الآيبون .. النادمون .. كان المصلون قد خرجوا لكن لعل الشيخ تخلَّف بعد صلاة العشاء .. وصدق ظنه ..
كان الشيخ جالسا ، مستندًا بظهره إلى الدعامة الوسطى من المسجد ، وكان ينظر إلى يسار ، بعين الوالد الرفيق الرحيم .. وتقدم يسار .. خجلاً مترددًا كأنه يحمل أوزار الدنيا .. واقترب منه .. فسلَّم عليه .. وشعر بيده توضع على كتفه .. وسمع صوته المضمخ بعبير القرآن وهو يتلو :
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعًا . إنه هو الغفور الرحيم .
وهشَّ قلبه لهذه الآية.. وشعر كأنه يسمعها لأول مرة.. وأراد يسار أن يقول شيئًا أن يتكلم .. أن يقص على الشيخ ما جرى له .. ولكنه لم يستطع .. لقد تحوَّلت كلماته إلى دموع . وعاد صوت الشيخ ، الهادئ الوقور يتلو من القرآن الكريم .. ما وجد فيه يسار ، شفاء ، وأملاً ، ورحمة ، ورغبة في العودة إلى الله : وإني لغفَّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى .
انتهت

 
سبعة اقفال 2
 

مواضيع ذات صلة

الوسوم
2 اقفال سبعة
عودة
أعلى