الحلال والحرام ليوسف القرضاوي

ward alsham

الاعضاء
البـــــاب الأول
مبادئ الإسلام في شأن الحلال والحرام

البــــــاب الثانــــــي
الحلال والحرام في الحياة الشخصية للمسلم

البـــــاب الثالـــــث
الحلال والحرام في الزواج وحياة الأسرة

البـــــاب الرابـــــع
الحلال والحرام في الحياة العامة للمسلم


الباب الاول
مبادئ الإسلام في شأن الحلال والحرام

مقدمة
كان أمر الحلال والحرام كغيره من الأمور التي ضل فيها أهل الجاهلية ضلالا بعيدا، واضطربوا في شأنها اضطرابا فاحشا فأحلوا الحرام الخبيث، وحرموا الحلال الطيب، يستوي في ذلك الوثنيون وأهل الملل الكتابية.
وكان هذا الضلال يمثل الانحراف والتطرف في أقصى اليمين، أو الانحراف والتطرف في أقصى اليسار.
ففي أقصى اليمين وجدت البرهمية الهندية القاسية، والرهبانية المسيحية العاتية، وغيرها من المذاهب التي تقوم على تعذيب الجسد، وتحريم الطيبات من الرزق، وزينة الله التي أخرج لعباده. وقد بلغت الرهبانية المسيحية ذروة عتوها في القرون الوسطى، وبلغ تحريم الطيبات أشده عند هؤلاء الرهبان الذين كانوا يعدون بالألوف، حتى جعل بعضهم غسل الرجلين إثما، ودخول الحمام شيئا يجلب الأسف والحسرة.
وفي أقصى اليسار وجد مذهب (مزدك) الذي ظهر في فارس، ينادي بالإباحة المطلقة، ويطلق العنان للناس ليأخذوا كل شيء، ويستبيحوا كل شيء، حتى الأعراض والحرمات المقدسة عند الناس.
وكانت أمة العرب في الجاهلية مثلا واضحا على اختلال مقاييس التحليل والتحريم بالنسبة للأشياء والأعمال، فاستباحوا شرب الخمر وأكل الربا أضعافا مضاعفة، ومضارة النساء وعضلهن، و… وأكثر من ذلك أن شياطين الإنس والجن زينوا لكثير منهم قتل أولادهم وفلذات أكبادهم، فأطاعوهم. وخالفوا نوازع الأبوة في صدورهم كما قال تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) سورة الأنعام:137.
وقد سلك هؤلاء الشركاء من سدنة الأوثان وأشباههم مسالك عدة في تزيين هذا القتل للآباء، فمنها: اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع، ومنها: خشية العار والاحتراز منه إذا كان المولود بنتا، ومنها: التقرب إلى الآلهة بنحر الأولاد، وتقديمها قربانا إليها.
ومن العجب أن هؤلاء الذين استحلوا قتل أولادهم ذبحا أو وأدا حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات من حرث وأنعام، والأعجب أنهم جعلوا هذا من أحكام الدين، فنسبوه إلى الله تعالى حكما وديانة، فرد الله عليهم هذه النسبة المفتراة (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء -بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه، سيجزيهم بما كانوا يفترون) سورة الأنعام:138.
وقد بين القرآن ضلالة هؤلاء الذين أحلوا ما يجب أن يحرم، وحرموا ما ينبغي أن يحل، فقال: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله. قد ضلوا وما كانوا مهتدين) سورة الأنعام:140.
جاء الإسلام فوجد هذا الضلال والانحراف في التحريم والتحليل، فكان أول ما صنعه لإصلاح هذا الجانب الخطير من التشريع أن وضع جملة من المبادئ التشريعية، جعلها الركائز التي يقوم عليها الحلال والحرام، فرد الأمور إلى نصابها، وأقام الموازين القسط، وأعاد العدل والتوازن فيما يحل وما يحرم. وبذلك كانت أمة الإسلام بين الضالين والمنحرفين -يمينا أو شمالا- أمة وسطا، كما وصفها الله الذي جعلها، خير أمة أخرجت للناس.

الأصل في الأشياء الإباحة
كان أول مبدأ قرره الإسلام: أن الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع، هو الحل والإباحة، ولا حرام إلا ما ورد نص صحيح صريح من الشارع بتحريمه، فإذا لم يكن النص صحيحا -كبعض الأحاديث الضعيفة- أو لم يكن صريحا في الدلالة على الحرمة، بقي الأمر على أصل الإباحة.
وقد استدل علماء الإسلام على أن الأصل في الأشياء والمنافع الإباحة، بآيات القرآن الواضحة من مثل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) سورة البقرة:29، (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه) سورة الجاثية:13، (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) سورة لقمان:20.
وما كان الله سبحانه ليخلق هذه الأشياء ويسخرها للإنسان ويمن عليه بها، ثم يحرمه منها بتحريمها عليه، وكيف وقد خلقها له، وسخرها له، وأنعم بها عليه؟
وإنما حرم جزئيات منها لسبب وحكمة سنذكرها بعد.
ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في شريعة الإسلام ضيقا شديدا، واتسعت دائرة الحلال اتساعا بالغا. ذلك أن النصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جدا، وما لم يجيء نص بحله أو حرمته، فهو باق على أصل الإباحة، وفي دائرة العفو الإلهي.
وفي هذا ورد الحديث "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو عفو. فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، وتلا (وما كان ربك نسيا)" سورة مريم:64.
وعن سلمان الفارسي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم" فلم يشأ عليه السلام أن يجيب السائلين عن هذه الجزئيات، بل أحالهم على قاعدة يرجعون إليها في معرفة الحلال والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرم الله، فيكون كل ماعداه حلالا طيبا.
وقال رسول الله: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان، بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وهي التي نسميها "العادات أو المعاملات" فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقيد إلا ما حرمه الشارع وألزم به. وقوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام 119، عام في الأشياء والأفعال.
وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي. وفيها جاء الحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وذلك أن حقيقة الدين تتمثل في أمرين: ألا يعبد إلا الله وألا يعبد الله إلا بما شرع، فمن ابتدع عبادة من عنده -كائنا من كان- فهي ضلالة ترد عليه. لأن الشارع وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.
وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع منشئا لها. بل الناس هم الذين أنشؤوها وتعاملوا بها، والشارع جاء مصححا لها ومعدلا ومهذبا، ومقرا في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.
وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. الأصل فيه عدم الحظر. فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟
ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى:21.
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) سورة يونس:59.
وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم -كالأكل والشرب واللباس- فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.
وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاؤون، ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة -وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروها- وما لم تحد الشريعة، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي".
ومما يدل على هذا الأصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: (كنا نعزل، والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن).
فدل على أن ما سكت عنه الوحي غير محظور ولا منهي عنه، وأنهم في حل من فعله حتى يرد نص بالنهي والمنع. وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم. وبهذا تقررت هذه القاعدة الجليلة: ألا تشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله.

التحليل والتحريم حق الله وحده
المبدأ الثاني: أن الإسلام حدد السلطة التي تملك التحليل والتحريم فانتزعها من أيدي الخلق، أيا كانت درجتهم في دين الله أو دنيا الناس، وجعلها من حق الرب تعالى وحده. فلا أحبار او رهبان، ولا ملوك أو سلاطين، يملكون أن يحرموا شيئا تحريما مؤبدا على عباد الله. ومن فعل ذلك منهم فقد تجاوز حده واعتدى على حق الربوية في التشريع للخلق، ومن رضي بعملهم هذا واتبعه فقد جعلهم شركاء لله واعتبر اتباعه هذا شركا (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى:21.
وقد نعى القرآن على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين وضعوا سلطة التحليل والتحريم في أيدي أحبارهم ورهبانهم، فقال تعالى في سورة التوبة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون) سورة التوبة:31.
وقد جاء عدي بن حاتم إلى النبي -وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام- فلما سمع النبي هذه الآية، قال: يا رسول الله! إنهم لم يعبدوهم. فقال: (بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم).
وفي رواية أن النبي عليه السلام قال تفسيرا لهذه الآية: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه).
ولا زال النصارى يزعمون أن المسيح أعطى تلامذته -عند صعوده إلى السماء- تفويضا بأن يحللوا ويحرموا كما يشاؤون، كما جاء في إنجيل متى 18:18 (الحق أقول لكم، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء). كما نعى على المشركين الذين حرموا وحللوا بغير إذن من الله.
قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل الله أذن لكم أن على الله تفترون) سورة يونس:59.
وقال سبحانه (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) سورة النحل:116.
ومن هذه الآيات البينات، والأحاديث الواضحات عرف فقهاء الإسلام معرفة يقينية أن الله وحده هو صاحب الحق في أن يحل ويحرم، في كتابه أو على لسان رسوله وأن مهمتهم لا تعدوا بيان حكم الله فيما أحل وما حرم (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام:119. وليست مهمتهم التشريع الديني للناس فيما يجوز لهم وما لا يجوز. وكانوا -مع إمامتهم واجتهادهم- يهربون من الفتيا، ويحيل بعضهم على بعض، خشية أن يقعوا -خطأ- في تحليل حرام أو تحريم حلال.
روى الإمام الشافعي في كتابه (الأم) عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: "أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتيا، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن الربيع ابن خيثم -وكان من أفضل التابعين- أنه قال: إياكم أن يقول الرجل: إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه! أو يقول: إن الله حرم هذا، فيقول الله: كذبت، لم أحرمه ولم أنه عنه". وحدثنا بعض أصحابنا أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا : هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا!!
هذا ما نقله أبو يوسف عن السلف الصالح، ونقله عنه الشافعي وأقره عليه، كما نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا.
وهكذا نجد إماما كأحمد بن حنبل يسأل عن الأمر فيقول: أكرهه أو لا يعجبني، أو لا أحبه، أو لا أستحسنه.
ومثل هذا يروى عن مالك، وأبي حنيفة وسائر الأئمة رضي الله عنهم
تحريم الحلال وتحليل الحرام قرين الشرك بالله
وإذا كان الإسلام قد نعى على من يحرمون ويحللون جميعا، فإنه قد اختص المحرمين بحملة أشد وأعنف، نظرا لما في هذا الاتجاه من حجر على البشر وتضييق لما وسع الله عليهم بغير موجب، ولموافقة هذا الاتجاه لنزعات بعض المتدينين المتنطعين. وقد حارب النبي نزعة التنطع والتشدد هذه بكل سلاح، وذم المتنطعين وأخبر بهلكتهم إذ يقول: "ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون".
وأعلن عن رسالته فقال "بعثت بالحنيفية السمحة" فهي حنيفية في العقيدة والتوحيد، سمحة في جانب العمل والتشريع. وضد الأمرين الشرك وتحريم الحلال وهما اللذان ذكرهما النبي فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا".
فتحريم الحلال، قرين الشرك، ولهذا شدد القرآن النكير على مشركي العرب في شركهم وأوثانهم وفي تحريمهم على أنفسهم من الطيبات من أنواع الحرث والأنعام ما لم يأذن به الله، ومن ذلك تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فقد كانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها، وتركوها لآلهتهم، لا تنحر ولا يحمل عليها، ولا تطرد عن ماء أو مرعى، وسموها (البحيرة) أي مشقوقة الأذن، وكان الرجل إذا قدم من سفر، أو برأ من مرض أو نحو ذلك سيب ناقته وخلالها، وجعلها كالبحيرة، وتسمى (السائبة). وكانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا فهي لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وتسمى (الوصيلة) وكان الفحل إذا لقح ولده ولده قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه.. الخ، ويسمى (الحامي) وفي تفسير هذه الأربعة، أقوال كثيرة تدور حول هذا المحور.
أنكر القرآن عليهم هذا التحريم، ولم يجعل لهم عذرا في تقليد آبائهم في هذا الضلال (وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) سورة المائدة:103، 104.
وفي سورة الأنعام مناقشة تفصيلية لما زعموا تحريمه من الأنعام من إبل وبقر وضأن ومعز، ساقها القرآن في أسلوب تهكمي ساخر ولكنه مفحم (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، قل الذكرين حرم أن الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين، قل آلذكرين حرم أن الأنثيين؟) الآية، سورة الأنعام:143، 144.
وفي سورة الأعراف مناقشة أخرى ينكر الله فيها على المحرمين، ويبين فيها أصول المحرمات الدائمة.
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق؟… قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي يغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) سورة الأعراف:32، 33.
وهذه المناقشات في السور المكية التي تعنى دائما بإثبات العقيدة والتوحيد والآخرة، تدلنا على أن هذا الأمر -في نظر القرآن- ليس من الفروع والجزئيات، وإنما هو من الأصول والكليات.
وفي المدينة ظهر بين أفراد المسلمين من يميل إلى التشدد والتزمت وتحريم الطيبات على نفسه، فأنزل الله تعالى من الآيات المحكمة ما يقفهم عند حدود الله، ويردهم إلى صراط الإسلام المستقيم (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) سورة المائدة:87-88.

التحريم يتبع الخبث والضرر
من حق الله تعالى -لكونه خالقا للناس ومنعما عليهم بنعم لا تحصى- أن يحل لهم وأن يحرم عليهم ما يشاء -كما له أن يتعبدهم من التكاليف والشعائر بما يشاء- وليس لهم أن يعترضوا أو يعصوا، فهذا حق ربوبيته لهم، ومقتضى عبوديتهم له. ولكنه تعالى رحمة منه بعباده، جعل التحليل والتحريم لعلل معقولة، راجعة لمصلحة البشر أنفسهم، فلم يحل سبحانه إلا طيبا، ولم يحرم إلا خبيثا.
صحيح أنه تعالى قد حرم على أمة اليهود بعض أصناف من الطيبات، غير أن ذلك كان عقوبة لهم على بغيهم وانتهاكهم حرمات الله، كما قال تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) سورة الأنعام:146.
وقد بين الله صورا من هذا البغي في سورة أخرى فقال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل) سورة النساء:160،161.
فلما بعث الله خاتم رسله بالدين العام الخالد، كان من رحمته تعالى بالبشرية -بعد أن نضجت وبلغت رشدها- أن يرفع عنها إصر التحريم الذي كان تأديبا موقتا لشعب عات، صلب الرقبة -كما وصفته التوراة- وكان عنوان الرسالة المحمدية عند أهل الكتاب -كما ذكر القرآن- أنهم: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) سورة الأعراف:157.
وشرع الله لتكفير الخطيئة في الإسلام أمورا أخرى غير تحريم الطيبات، فهناك التوبة النصوح التي تمحو الذنب كما يمحو الماء الوسخ، وهناك الحسنات اللاتي يذهبن السيئات، وهناك الصدقات التي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وهناك المحن والمصائب التي تتناثر بها الخطايا كما يتناثر ورق الشجر في الشتاء إذا يبس.
وبذلك أصبح معروفا في الإسلام أن التحريم يتبع الخبث والضرر، فما كان خالص الضرر فهو حرام، وما كان خالص النفع فهو حلال، وما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، وما كان نفعه أكبر فهو حلال، وهذا ما صرح به القرآن الكريم في شأن الخمر والميسر (يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) سورة البقرة:219.
كما أصبح من الأجوبة الصريحة -إذا سئل عن الحلال في الإسلام- أنه (الطيبات) أي: الأشياء التي تستطيبها النفوس المعتدلة، ويستحسنها الناس في مجموعهم استحسانا غير ناشئ من أثر العادة، قال تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم؟ قل: أحل لكم الطيبات) سورة المائدة:4.
وقال: (اليوم أحل لكم الطيبات) سورة المائدة:5.
وليس من اللازم أن يكون المسلم على علم تفصيلي بالخبث أو الضرر الذي حرم الله من أجله شيئا من الأشياء، فقد يخفى عليه ما يظهر لغيره، وقد لا ينكشف خبث الشيء في عصره، ويتجلى في عصر لاحق، وعلى المؤمن أن يقول دائما: (سمعنا وأطعنا).
ألا ترى أن الله حرم لحم الخنزير، فلم يفهم المسلم من علة لتحريمه غير أنه مستقذر، ثم تقدم الزمن فكشف العلم فيه من الديدان والجراثيم القتالة ما فيه؟ ولو لم يكشف العلم شيئا في الخنزير أو كشف ما هو أكثر من ذلك فإن المسلم سيظل على عقيدته بأنه (رجس).
ومثل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الملاعن الثلاث (أي التي تجلب على فاعلها اللعنة من الله والناس): البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل { فلم يعرف أحد في القرون الأولى إلا أنها مستقذرة، يعافها الذوق السليم، والأدب العام، فلما تقدم الكشف العلمي عرفنا أن هذه (الملاعن الثلاثة) من أخطر الأشياء على الصحة العامة، وهي المصدر الأول لانتشار عدوى الأمراض الطفيلية الخطيرة كالانكلستوما والبلهارسيا.
وهكذا كلما نفذت أشعة العلم، واتسع نطاق الكشف تجلت لنا مزايا الإسلام في حلاله وحرامه، وفي تشريعاته كلها. وكيف لا وهو تشريع عليم حكيم رحيم بعباده (والله يعلم المفسد من المصلح، ولو شاء الله لأعنتكم، إن الله عزيز حكيم) سورة البقرة:220.

في الحلال ما يغني عن الحرام
ومن محاسن الإسلام ومما جاء به من تيسير على الناس أنه ما حرم شيئا عليهم إلا عوضهم خيرا منه مما يسد مسده، ويغني عنه، كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله.
حرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم عنه دعاء الاستخارة.
وحرم عليهم الربا وعوضهم التجارة الرابحة.
وحرم عليهم القمار، وأعاضهم عنه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام
وحرم عليهم الحرير، وأعاضهم عنه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن.
وحرم عليهم الزنا واللواط، وأعاضهم عنهما بالزواج الحلال
حرم عليهم شرب المسكرات، وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن.
وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات.
وهكذا إذا تتبعنا أحكام الإسلام كلها، وجدنا أن الله جل شأنه لم يضيق على عباده في جانب إلا وسع عليهم في جانب آخر من جنسه، فإنه سبحانه لا يريد بعباده عنتا ولا عسرا ولا إرهاقا، بل يريد اليسر والخير والهداية والرحمة، كما قال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). سورة النساء:26، 28.

ما أدى إلى الحرام فهو حرام
ومن المبادىء التي قررها الإسلام أنه إذا حرم شيئا حرم ما يفضي إليه من وسائل وسد الذرائع الموصلة إليه.
فإذا حرم الزنا مثلا حرم كل مقدماته ودواعيه، من تبرج جاهلي، وخلوة آثمة، واختلاط عابث، وصورة عارية، وأدب مكشوف، وغناء فاحش… الخ.
ومن هنا قرر الفقهاء هذه القاعدة: (ما أدى إلى الحرام فهو حرام).
ويشبه هذا ما قرره الإسلام من أن إثم الحرام لا يقتصر على فاعله المباشر وحده، بل يوسع الدائرة، فتشمل كل من شارك فيه بجهد مادي أو أدبي، كل يناله من الإثم على قدر مشاركته. ففي الخمر يلعن النبي عليه السلام شاربها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها … كما سنذكره بعد.
وفي الربا يلعن آكله ومؤكله (معطي الربا) وكاتبه وشاهديه.
وهكذا كل ما أعان على الحرام فهو حرام، وكل من أعان على محرم فهو شريك في الإثم.



التحايل على الحرام حرام
وكما حرم الإسلام كل ما يفضي إلى المحرمات من وسائل ظاهرة، حرم التحايل على ارتكابها بالوسائل الخفية، والحيل الشيطانية. وقد نعى على اليهود ما صنعوه من استباحة ما حرم الله بالحيل، وقال عليه السلام: "لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"
وذلك أن اليهود حرم الله عليهم الصيد في السبت، فاحتالوا على هذا المحرم، بأن حفروا الخنادق يوم الجمعة، لتقع فيها الحيتان يوم السبت، فيأخذوها يوم الأحد. وهذا عند المحتالين جائز، وعند فقهاء الإسلام حرام، لأن المقصود الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة.
ومن الحيل الآثمة تسمية الشيء بغير اسمه، وتغيير صورته مع بقاء حقيقته. ولا ريب أنه لا عبرة بتغيير الاسم إذا بقي المسمى ولا بتغيير الصورة إذا بقيت الحقيقة.
فإذا اخترع الناس صورا يتحايلون بها على أكل الربا الخبيث أو استحدثوا أسماء للخمر يستحلون بها شربها، فإن الإثم في الربا أو الخمر باق لازم. وفي الحديث:
"ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها".
"يأتي على الناس زمان يستحلون الربا باسم البيع".
ومن غرائب عصرنا أن يسمى الرقص الخليع (فنا) والخمور (مشروبات روحية) والربا (فائدة) وهكذا.


النية الحسنة لا تبرر الحرام
والإسلام يقدر البواعث الكريمة، والقصد الشريف والنية الطيبة، في تشريعاته وتوجيهاته كلها، والنبي يقول "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وبالنية الطيبة تستحيل المباحات والعادات إلى طاعات و قربات إلى الله فمن تناول غذاءه بنية حفظ الحياة، وتقوية الجسد، ليستطيع القيام بواجبه نحو ربه وأمته، كان طعامه وشرابه عبادة قربة.
ومن أتى شهوته مع زوجه بقصد ابتغاء الولد أو إعفاف نفسه وأهله كان ذلك عبادة تستحق المثوبة، وفي ذلك يقول النبي عليه السلام "وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: أيأتي أحدنا شهوته يا رسول الله ويكون له فيها أجر؟ قال: أليس إن وضعها في حرام كان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر".
"ومن طلب الدنيا حلالا تعففا عن المسألة، وسعيا على عياله، وتعطفا على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر".
وهكذا كل عمل مباح يقوم به المؤمن، يدخل فيه عنصر النية، فتحيله إلى عبادة. أما الحرام فهو حرام مهما حسنت نية فاعله، وشرف قصده، ومهما كان هدفه نبيلا، ولا يرضى الإسلام أبدا أن يتخذ الحرام وسيلة إلى غاية محمودة، لأن الإسلام يحرص على شرف الغاية وطهر الوسيلة معا. ولا تقر شريعته بحال مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) أو مبدأ (الوصول إلى الحق بالخوض في الكثير من الباطل) بل توجب الوصول إلى الحق عن طريق الحق وحده.
فمن جمع مالا من ربا أو سحت أو لهو حرام أو قمار أو أي عمل محظور، ليبني به مسجدا أو يقيم مشروعا خيريا، أو.. أو ‎.. لم يشفع له نبل مقصده، فيرفع عنه وزر الحرام، فإن الحرام في الإسلام لا يؤثر فيه المقاصد والنيات.
هذا ما علمه لنا رسول الله حين قال: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) سورة المؤمنون:51. وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) سورة البقرة:172. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر (ساعيا للحج والعمرة ونحوهما) يمد يديه إلى السماء "يا رب يا رب" ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟!".
ويقول: "من مالا من حرام ثم تصدق به، لم يكن فيه أجر، وكان إصره عليه". ويقول: "لا يكسب عبد مالا حراما، فيتصدق به فيقبل منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن. إن الخبيث لا يمحو الخبيث".

اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرام
ومن رحمة الله تعالى بالناس أنه لم يدعهم في غمة من أمر الحلال و الحرام، بل بين الحلال وفصل الحرام، كما قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام:119.
فأما الحلال البين فلا حرج في فعله. وأما الحرام البين فلا رخصة في إتيانه -في حالة الاختيار.
وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين، هي منطقة الشبهات التي يلتبس فيها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس، إما لاشتباه الأدلة عليه، وإما للاشتباه في تطبيق النص على هذه الواقعة أو هذا الشيء بالذات.
وقد جعل الإسلام من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات، حتى لا يجره الوقوع فيها إلى مواقعة الحرام الصرف. وهو نوع من سد الذرائع الذي تحدثنا عنه. ثم هو كذلك لون من التربية البعيدة النظر، الخبيرة بحقيقة الحياة والإنسان.
وأصل هذا المبدأ قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يدري كثير من الناس: أمن الحلال هي أم من الحرام؟ فمن تركها استبراءا لدينه وعرضه فقد سلم، ومن واقع شيئا منها يوشك أن يواقع الحرام، كما أن من يرعى حول الحمى (وهو مكان محدود يحجزه السلطان لترعى فيه أنعامه وحدها ويحجر على غيرها أن تنال منه شيئا) أوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله محارمه".


لا محاباة ولا تفرقة في المحرمات
الحرام في شريعة الإسلام يتسم بالشمول والاطراد، فليس هناك شيء حرام على العجمي حلال للعربي وليس هناك شيء محظور على الأسود مباح للأبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لطبقة أو طائفة من الناس تقترف باسمه ما طوع لها الهوى باسم أنهم كهنة أو أحبار أو ملوك أو نبلاء. بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالا له. كلا، إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فيما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة، وما حرم فهو حرام على الجميع إلى يوم القيامة.
السرقة مثلا حرام، سواء أكان السارق مسلما أم غير مسلم، وسواء أكان المسروق منه مسلما أو غير مسلم، والجزاء لازم للسارق أيا كان نسبه أو مركزه، وهذا ما صنعه الرسول وما أعلنه "وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".
ولقد حدث في زمن الرسول أن ارتكبت سرقة حامت فيها الشبهة حول يهودي ومسلم، واستطاع بعض أقرباء المسلم أن يثيروا الغبار حول اليهودي ببعض القرائن ويبعدوا التهمة عن صاحبهم المسلم -وهو في الواقع مرتكب السرقة- حتى هم النبي أن يخاصم عنه، اعتقادا ببراءته فنزل الوحي الإلهي يفضح الخونة، ويبرئ اليهودي، ويعاتب الرسول، ويضع الحق في نصابه، وذلك قوله سبحانه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطا. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا؟) سورة النساء:105، 109.
لقد زعمت اليهودية المحرفة أن الربا حرام على اليهودي إذا أقرض أخاه اليهودي أما غير اليهودي فلا بأس بإقراضه بالربا، هكذا يقول سفر تثنية الاشتراع (33:19) "ألا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا (20) للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا.."
وقد حكى القرآن عنهم مثل هذه النزعة، حيث استباحوا الخيانة مع غير أبناء جنسهم وملتهم، ولم يروا في ذلك حرجا ولا إثما. وفي ذلك يقول القرآن: (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) سورة آل عمران:75. نعم يقولون على الله الكذب، لأن شريعته لا تفرق بين قوم وقوم، وقد حرم الخيانة على لسان رسله وأنبيائه.
ويؤسفنا أن هذه النزعة الإسرائيلية نزعة همجية بدائية، لا تليق أن تنسب إلى دين سماوي، فإن الأخلاق الفاضلة بل الأخلاق الحقة هي التي تتسم بالإطلاق والشمول، فلا تحل لهذا ما تحرم على ذاك. والفرق بيننا وبين البدائيين إنما هو اتساع الدائرة الخلقية لا في وجودها وعدمها، فالأمانة مثلا كانت عندهم خصلة محمودة، ولكنها خاصة بأبناء القبيلة بعضهم مع بعض، فإذا خرج الأمر عن نطاق القبيلة أو العشيرة جازت الخيانة بل استحبت أو وجبت.
قال صاحب (قصة الحضارة): (إن كل الجماعات البشرية تقريبا تكاد تتفق في عقيدة كل منها بأن سائر الجماعات أحط منها، فالهنود الأمريكيون يعدون أنفسهم شعب الله المختار، خلقهم "الروح الأعظم" خاصة ليكونوا مثالا يرتفع إليه البشر. وقبيلة من القبائل الهندية تطلق على نفسها (الناس الذين لا ناس سواهم) وأخرى تطلق على نفسها (الناس بين الناس) وقال الكاربيون (نحن وحدنا الناس) … ونتيجة ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يدور في خلده أن يعامل القبائل الأخرى ملتزما نفس القيود الخلقية التي يلتزم في معاملته لبني قبيلته، فهو صراحة يرى أن وظيفة الأخلاق هي تقوية جماعته، وشد أزرها تجاه سائر الجماعات، فالأوامر الخلقية والمحرمات لا تنطبق إلا على أهل قبيلته، أما الآخرون فما لم يكونوا ضيوفه، فمباح له أن يذهب في معاداتهم إلى الحد المستطاع).



الضرورات تبيح المحظورات
ضيق الإسلام دائرة المحرمات، ولكن بعد ذلك شدد في أمر الحرام، وسد الطرق المفضية إليه، ظاهرة أو خفية، فما أدى إلى الحرام فهو حرام، وما أعان على الحرام فهو حرام، وما احتيل به على الحرام فهو حرام. إلى آخر ما ذكرناه من مبادئ وتوجيهات. بيد أن الإسلام لم يغفل عن ضرورات الحياة وضعف الإنسان أمامها، فقدر الضرورة القاهرة، وقدر الضعف البشري وأباح للمسلم -عند ضغط الضرورة- أن يتناول من المحرمات ما يدفع عنه الضرورة ويقيه الهلاك.
ولهذا قال الله تعالى -بعد أن ذكر محرمات الطعام من الميتة والدم ولحم الخنزير- (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) سورة البقرة:173. وكرر هذا المعنى في أربع سور من القرآن كلما ذكر محرمات الطعام. ومن هذه الآيات وأمثالها قرر فقهاء الإسلام مبدأ هاما هو: (إن الضرورات تبيح المحظورات).
ولكن الملاحظ أن الآيات قيدت المضطر أن يكون (غير باغ ولا عاد) وفسر هذا بأن يكون غير باغ للذة طالب لها، ولا عاد حد الضرورة متجاوز في التشبع. من هذا القيد أخذ الفقهاء مبدأ آخر هو: (الضرورة تقدر بقدرها) فالإنسان وإن خضع لداعي الضرورة لا ينبغي أن يستسلم لها، ويلقي إليها بزمام نفسه، بل يجب أن يظل مشدودا إلى الأصل الحلال باحثا عنه، حتى لا يستمرئ الحرام أو يستسهله بدافع الضرورة.
والإسلام بإباحته المحظورات عند الضرورات إنما يساير في ذلك روحه العامة، وقواعده الكلية، تلك هي روح الميسر الذي لا يشوبه عسر والتخفيف الذي وضع به عن الأمة الآصار والأغلال التي كانت من قبلها من الأمم. وصدق الله العظيم (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) سورة البقرة:185. (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) سورة المائدة:6. (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) سورة النساء:28.
 
Re:الباب الثاني.. الحلال والحرام ليوسف القرضاوي

البــــــاب الثانــــــي

- في الأطعمة والأشربة
- في الملبس والزينة
- في البيت
- في الكسب والاحتراف


فــي الأطــعــمــة والأشــــربــــة

اختلفت الأمم والشعوب من قديم في أمر ما يأكلون وما يشربون، ما يجوز لهم، وما لا يجوز، وبخاصة في الأطعمة الحيوانية.
أما الأطعمة والأشربة النباتية فلم يعرف للبشر خلاف كثير في شأنها. ولم يحرم الإسلام منها إلا ما صار خمرا سواء اتخذ من عنب أو تمر أو شعير أو أي مادة أخرى ما دامت قد تخمرت.
وكذلك حرم ما يحدث الخدر والفتور وكل ما يضر الجسد، كما سنبين بعد. وأما الأطعمة الحيوانية فهي التي اختلف فيها الملل والجماعات اختلافا شاسعاً.


ذبح الحيوان وأكله عند البراهمة
هناك جماعات كالبراهمة وبعض المتفلسفين حرموا على أنفسهم ذبح الحيوان وأكله، وعاشوا على الأغذية النباتية، قالوا: إن في ذبح الحيوان قسوة من الإنسان على كائن حي مثله ليس له أن يحرمه من حق الحياة.
لكنا عرفنا من التأمل في الكائنات أن خلق هذه الحيوانات ليس غاية في نفسه، فإنها لم تؤت العقل والإرادة، ورأينا وضعها الطبيعي أن تسخر لخدمة الإنسان، وليس بغريب أن ينتفع الإنسان بلحمها ذبيحة، كما انتفع بتسخيرها صحيحة.
وعرفنا كذلك من سنة الله في الخليقة أن النوع الأدنى يضحى به في مصلحة النوع الأعلى منه، فالنبات الأخضر المترعرع يقطع من أجل غذاء الحيوان، والحيوان يذبح لأجل غذاء الإنسان، بل الإنسان الفرد يقاتل ويقتل في مصلحة المجموع … وهكذا.
على أن امتناع الإنسان عن ذبح الحيوان لن يحميه من الموت والهلاك، فهو إن لم يفترس بعضه بعضا سيموت حتف أنفه -وقد يكون ذلك أشد عليه ألما من شفرة حادة تعجل به.


الحيوانات المحرمة عند اليهود والنصارى
وفي الديانات الكتابية حرم الله على اليهود كثيرا جدا من الحيوانات البرية والبحرية، تكفل ببيانها الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين من التوراة.
وقد ذكر القرآن بعض ما حرم الله على اليهود، وعلة التحريم -كما ذكرنا من قبل- أنه كان عقوبة حرمان من الله لهم على ظلمهم وخطاياهم: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) سورة الأنعام:146.
هذا شأن اليهود، وكان المفروض أن يكون النصارى تبعا لهم في هذا، فقد أعلن الإنجيل أن المسيح عليه السلام ما جاء لينقض الناموس، بل جاء ليكمله.
لكنهم هنا نقضوا الناموس واستباحوا ما حرم عليهم في التوراة -مما لم ينسخه الإنجيل- واتبعوا مقدسهم بولس في إباحة جميع الطعام والشراب، إلا ما ذبح للأصنام إذا قيل للمسيحي: إنه مذبوح لوثن.
وعلل بولس ذلك أن كل شيء طاهر للطاهرين، وأن ما يدخل الفم لا ينجس الفم، وإنما ينجسه ما يخرج منه.
وقد استباحوا بذلك أكل لحم الخنزير رغم أنه محرم بنص التوراة إلى اليوم.


عند عرب الجاهلية
وأما العرب في الجاهلية، فقد حرموا بعض الحيوانات تقذرا، وحرموا بعضها تعبدا، وتقربا للأصنام، واتباعا للأوهام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام -التي ذكرنا تفسيرها من قبل- وفي مقابل هذا استباحوا كثيرا من الخبائث كالميتة والدم المسفوح.


الإسلام يبيح الطيبات
جاء الإسلام والناس على هذه الحال في أمر الطعام الحيواني، بين مسرف في التناول، ومتطرف في الترك، فوجه نداء إلى الناس كافة في كتابه: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) سورة البقرة:168.
ناداهم بوصفهم (ناسا) أن يأكلوا من طيبات تلك المائدة الكبيرة التي أعدها لهم -وهي الأرض التي خلق لهم ما فيها جميعا- وألا يتبعوا مسالك الشيطان وطرقه التي زين بها لبعض الناس أن يحرموا ما أحل الله، فحرمهم من الطيبات، وأرداهم في مهاوي الضلال.
ثم وجه نداء إلى المؤمنين خاصة فقال:
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم) سورة البقرة:172.173.
وفي هذا النداء الخاص للمؤمنين أمرهم سبحانه أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم وأن يؤدوا حق النعمة بشكر المنعم جل شأنه. ثم بين أنه تعالى لم يحرم عليهم إلا هذه الأصناف الأربعة المذكورة في الآية، والتي ورد ذكرها في آيات أخر، أصرحها في الدلالة على حصر المحرمات في هذه الأربعة قوله تعالى في سورة الأنعام: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة، أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير -فإنه رجس- أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) سورة الأنعام:145.
وفي سورة المائدة ذكر القرآن هذه المحرمات بتفصيل أكثر فقال تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب) سورة المائدة:3.
ولا تنافي بين هذه الآية التي جعلت المحرمات عشرة والآيات السابقة التي جعلتها أربعة، إلا أن هذه الآية فصلت الآيات الأخرى، فإن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، كلها في معنى الميتة، فهي تفصيل لها. كما أن ما ذبح على النصب في حكم ما أهل لغير الله به، فكلاهما من باب واحد. فالمحرمات أربعة بالإجمال، عشرة بالتفصيل.


تحريم الميتة وحكمته
أول ما ذكرته الأيات من محرمات الأطعمة هو: (الميتة) وهي ما مات حتف أنفه من الحيوان والطير. أي: ما مات بدون عمل من الإنسان يقصد به تذكيته أو صيده.
وقد يتساءل الذهن العصري عن الحكمة في تحريم الميتة على الإنسان، وإلقائها دون أن ينتفع بأكلها، ونجيب على ذلك بأن في تحريمها حكما جلية منها:
-أ- أن الطبع السليم يعافها ويستقذرها، والعقلاء في مجموعهم يعدون أكلها مهانة تنافي كرامة الإنسان، ولذا نرى أهل الملل الكتابية جميعا يحرمونها، ولا يأكلون إلا المذكى وإن اختلفت طريقة التذكية.
-ب- أن يتعود المسلم القصد والإرادة في أموره كلها، فلا يحرز شيئا أو ينال ثمرة إلا بعد أن يوجه إليه نيته وقصده وسعيه، ذلك أن معنى التذكية -التي تخرج الحيوان عن كونه ميتة- إنما هو: القصد إلى إزهاق روح الحيوان لأجل أكله. وكأن الله تعالى لم يرض للإنسان أن يأكل ما لم يقصده ولم يفكر فيه -كما هو الشأن في الميتة- فأما المذكى والمصيد فإنهما لا يؤخذان إلا بقصد وسعي وعمل.
-ج- إن ما مات حتف أنفه يغلب أن يكون قد مات لعلة مزمنة أو طارئة أو أكل نبات سام أو نحو ذلك. وكل ذلك لا يؤمن ضرره. ومثل هذا إذا مات من شدة الضعف وانحلال الطبيعة.
-د- إن الله تعالى بتحريم الميتة علينا -نحن بني الإنسان- قد أتاح بذلك فرصة للحيوانات والطيور، للتغذى منها، رحمة منه تعالى بها، لأنها أمم أمثالنا كما نطق القرآن. وهذا أوضح ما يكون في الفلوات والأماكن التي لا توارى فيها ميتة الحيوان.
-هـ- أن يحرص الإنسان على ما يملكه من الحيوان فلا يدعه فريسة للمرض والضعف حتى يموت فيتلف عليه. بل يسارع بعلاجه، أو يعجل بإراحته.


تحريم الدم المسفوح
وثاني هذه المحرمات هو: الدم المسفوح، أي: السائل. سئل ابن عباس عن الطحال، فقال: كلوه. فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح. والسر في تحريمه أنه مستقذر يعافه الطبع الإنساني النظيف، كما أنه مظنة للضرر كالميتة.
وكان أهل الجاهلية إذا جاع أحدهم يأخذ شيئا محددا من عظم ونحوه، فيفصد به بعيره أو حيوانه فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه. وفي هذا يقول الأعشى:
ولا تأخذن عظما حديدا فتفصدا
وإياك والميتات لا تقربنها

ولما كان في هذا الفصد إيذاء للحيوان وإضعاف له حرمه الله تعالى.


لحم الخنزير
وثالثهما: لحم الخنزير، فإن الطباع السليمة تستخبثه، وترغب عنه، لأن أشهى غذائه القاذورات والنجاسات، وقد أثبت الطب الحديث أن أكله ضار في جميع الأقاليم ولا سيما الحارة. كما ثبت بالتجارب العلمية أن أكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة وغيرها من الديدان. ومن يدري، لعل العلم يكشف لنا في الغد من أسرار هذا التحريم أكثر مما عرفنا اليوم، وصدق الله العظيم إذ وصف رسوله بقوله (ويحرم عليهم الخبائث) الأعراف:157.
ومن الباحثين من يقول: إن المداومة على أكل لحم الخنزير تورث ضعف الغيرة على الحرمات.


ما أهل لغير الله به
ورابع المحرمات: ما أهل لغير الله به. أي: ما ذبح وذكر عليه اسم غير الله كالأصنام، فقد كان الوثنيون إذا ذبحوا ذكروا على ذبيحتهم أسماء أصنامهم كاللات والعزى، فهذا تقرب إلى غير الله، وتعبد بغير اسمه العظيم. فعلة التحريم هنا علة دينية محضة، لحماية التوحيد، وتطهير العقائد، ومحاربة الشرك ومظاهر الوثنية في كل مجال من مجالاتها.
إن الله الذي خلق الإنسان، وسخر له ما في الأرض، وذلل له الحيوان، أباح له إزهاق روحه في مصلحته إذا ذكر اسمه تعالى عند ذبحه، وذكر اسم الله حينئذ إعلان بأنه إنما يصنع هذا الصنيع بهذا الكائن الحي بإذن من الله ورضاه، فإذا ذكر اسم غير الله عند ذبحه فقد أبطل هذا الإذن واستحق أن يحرم من هذا الحيوان المذبوح.


أنواع من الميتة



هذه الأربعة المذكورة هي المحرمات إجمالا, وقد فصلتها آية المائدة في عشرة كما ذكرنا في أنواع الميتة التي فصلتها:
  1. المنخنقة: وهي التي تموت اختناقا، بأن يلتف وثاقها على عنقها أو تدخل رأسها في مضيق أو نحو ذلك.
  2. الموقوذة: وهي التي تضرب بالعصا ونحوها حتى تموت.
  3. المتردية: وهي التي تتردى من مكان عال فتموت ومثلها التي تتردى في بئر.
  4. النطيحة: وهي التي تنطحها أخرى فتموت.
  5. ما أكل السبع: وهي التي أكل السبع -الحيوان المفترس- جزءا منها فماتت.
وقد ذكر الله بعد هذه الأنواع الخمسة قوله تعالى (إلا ما ذكيتم) أي ما أدركتم من هذه الحيوانات وفيه حياة فذكيتموه. أي: أحللتموه بالذبح ونحوه كما سنتحدث بعد.
ويكفي في صحة إدراك ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة. فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة.. وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها. وعن الضحاك: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا فحرمه الله في الإسلام إلا ما ذكي منه، فما أدركفتحرك منه رجل أو ذنب أو طرف (عين) فذكى فهو حلال.


حكمة تحريم هذه الأنواع
والحكمة في تحريم هذه الأنواع من الميتة ما ذكرنا في تحريم الميت حتف أنفه ما عدا توقع الضرر، إذ لا يظهر ههنا. وتتأكد الحكمة الأخيرة هنا أيضا، فإن الشارع الحكيم يعلم الناس العناية بالحيوان والرأفة به والمحافظة عليه، فلا ينبغي أن يهمل حتى ينخنق أو يتردى من مكان عال أو نترك الحيوانات تتناطح حتى يقتل بعضها بعضا، ولا يجوز أن يعذب الحيوان بالضرب حتى يموت موقوذا، كما يفعل ذلك بعض قساة الرعاة -وبخاصة الأجراء منهم- وكما يحرشون بين البهائم فيغرون الثورين أو الكبشين بالتناطح حتى يهلكا أو يوشكا.
ومن هنا نص العلماء على تحريم النطيحة وإن جرحها القرن، وخرج منها الدم ولو من مذبحها، لأن المقصود -كما يلوح لي- هو عقوبة من ترك هذه الحيوانات تتناطح حتى يقتل بعضها بعضا فحرمت عليه جزاء وفاقا.
وأما تحريم ما أكل السبع ففيه -أول ما فيه- تكريم للإنسان، وتنزيه له أن يأكل فضلات السباع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة فحرم الله ذلك على المؤمنين.




ما ذبح على النصب
  1. وعاشر المحرمات بالتفصيل هو: ما ذبح على النصب. والنصب هو الشيء المنصوب من أصنام أو حجارة تقام أمارة للطاغوت وهو ما عبد من دون الله -وكانت حول الكعبة- وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها أو عندها بقصد التقرب إلى آلهتهم وأوثانهم.
فهذا منجنس ما أهل لغير الله به، لأن في كليهما تعظيم الطاغوت، والفرق بينهما أن ما أهل لغير الله به قد يكون ذبح لصنم من الأصنام بعيدا عنه وعن النصب، وإنما ذكر عليه اسم الطاغوت. أما ما ذبح على النصب فلا بد أن يذبح على تلك الحجارة أو عندها، ولا يلزم أن يتلفظ باسم غير الله عليه.
ولما كانت هذه النصب حول الكعبة، وقد يتوهم متوهم أن في الذبح عليها تعظيما للبيت الحرام، أزال القرآن هذا الوهم ونص على تحريمها نصا صريحا وإن كان مفهوما مما أهل لغير الله به.


السمك والجراد مستثنى من الميتة
وقد استثنت الشريعة الإسلامية من الميتة المحرمة السمك والحيتان ونحوهما من حيوانات الماء. فحين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر: "قال هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
وقال تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه) سورة المائدة:96. قال عمر: صيده ما اصطيد منه طعامه ما رمي به. وقال ابن عباس أيضا: طعامه ميتته.
وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية من أصحابه، فوجدوا حوتا كبيرا قد جزر عنه البحر -أي ميتا- فأكلوا منه بضعة وعشرين يوما، ثم قدموا إلى المدينة، فأخبروا الرسول عليه السلام فقال: "كلوا رزقا أخرجه الله لكم، أطعمونا إن كان معكم" فأتاه بعضهم بشيء فأكله.
ومثل ميتة البحر الجراد، فقد رخص رسول الله في أكله ميتا، لأن ذكاته غير ممكنة. قال ابن أبي أوفى رضي الله عنه: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد".



الانتفاع بجلود الميتة وعظمها وشعرها
وتحريم الميتة إنما يعني تحريم أكلها. فأما الانتفاع بجلدها أو قرونها أو عظمها أو شعرها فلا بأس به، بل هو أمر مطلوب، لأنه مال يمكن الاستفادة منه فلا تجوز إضاعته.
عن ابن عباس قال: تصدق على مولاة لميمونة -أم المؤمنين- بشاة فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا أخذتم إهابها -جلدها- فدبغتموه فانتفعتم به؟" فقالوا: إنها ميتة! فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما حرم أكلها".
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم السبيل إلى تطهير جلد الميتة، وهو الدباغ، وقال في حديث "دباغ الأديم -الجلد- ذكاته" أي: إن الدباغ في التطهير بمنزلة الذكاة في إحلال الشاة ونحوها. وفي رواية: "أيما إرهاب دبغ فقد طهر".
وهو عام يشمل كل جلد ولو كان جلد كلب أو خنزير. وبذلك قال أهل الظاهر، وحكي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ورجحه الشوكاني.
وعن سودة أم المؤمنين قالت: "ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها -جلدها- ثم ما زلنا ننتبذ فيه -أي: نضع فيه التمر ليحلو الماء- حتى صار شنا، أي: قربة خرقة".



حالة الضرورة مستثناة
كل هذه المحرمات المذكورة إنما هي في حالة الاختيار.
أما الضرورة فلها حكمها -كما ذكرنا من قبل- وقد قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) سورة الأنعام:119. وقال تعالى -بعد أن ذكر تحريم الميتة والدم وما بعدهما- (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) سورة البقرة:173.
والضرورة المتفق عليها هي ضرورة الغذاء، بأن يعضه الجوع -وقد حده بعض الفقهاء بأن يمر عليه يوم وليلة- ولا يجد ما يأكله إلا هذه الأطعمة المحرمة، فله أن يتناول منها ما يدفع به الضرورة ويتقي الهلاك. وقال الإمام مالك: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها. وقال غيره: لا يأكل منها إلا ما يمسك الرمق… ولعل هذا هو الظاهر من قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد) أي غير باغ (طالب) للشهوة، ولا عاد (متجاوز) حد الضرورة. وضرورة الجوع قد نص عليها القرآن نصا صريحا بقوله: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) سورة المائدة:3 "و المخمصة: المجاعة".



ضرورة الدواء
وأما ضرورة الدواء -بأن يتوقف برؤه على تناول شيء من هذه المحرمات- فقد اختلف في اعتبارها الفقهاء.. فمنهم من لم يعتبر التداوي ضرورة قاهرة كالغذاء، واستند كذلك إلى حديث "إن الله لم يجعل شفائكم فيما حرم عليكم".
ومنهم من اعتبر هذه الضرورة وجعل الدواء كالغذاء، فكلاهما لازم للحياة في أصلها أو دوامها، وقد استدل هذا الفريق -على إباحة هذه المحرمات للتداوي- بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في لبس الحرير لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهما لحكة -جرب- كانت بهما. مع نهيه عن لبس الحرير، ووعيده عليه.
وربما كان هذا القول أقرب إلى روح الإسلام الذي يحافظ على الحياة الإنسانية في كل تشريعاته ووصاياه.



ولكن الرخصة في تناول الدواء المشتمل على محرم مشروطة بشروط:
  1. أن يكون هناك خطر حقيقي على صحة الإنسان إذا لم يتناول هذا الدواء.
  2. ألا يوجد دواء غيره من الحلال يقوم مقامه أو يغني عنه.
  3. أن يصف ذلك طبيب مسلم ثقة في خبرته وفي دينه معا.
على أنا نقول مما نعرفه من الواقع التطبيقي، ومن تقرير ثقات الأطباء: أن لا ضرورة طبية تحتم تناول شيء من هذه المحرمات -كدواء- ولكننا نقرر المبدأ احتياطا لمسلم قد يكون في مكان لا يوجد فيه إلا هذه المحرمات.


الفرد ليس بمضطر إذا كان في المجتمع ما يدفع ضرورته
وليس من شرط الضرورة ألا يجد الإنسان طعاما في ملكه هو فحسب، بل لا يكون مضطرا لتناول هذه الأطعمة المحرمة، إذا كان في أفراد مجتمعه -مسلمهم أو ذميهم- من يملك من فضل الطعام ما يدفع به الضرورة عنه. فإن المجتمع الإسلامي متكامل متكافل كأجزاء الجسد الواحد أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
ومن اللفتات القيمة لفقهاء الإسلام في التكافل الاجتماعي ما قرره الإمام ابن حزم إذ قال: "لا يحل لمسلم اضطر، أن يأكل ميتة أو لحم خنزير، وهو يجد طعاما -فيه فضل عن صاحبه- لمسلم أو ذمي، لأن فرضا على صاحب الطعام إطعام الجائع.. فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا لحم الخنزير. وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلى قاتله القود -أي: القصاص- وإن قتل المانع، فإلى لعنة الله، لأنه منع حقا. وهو طائفة باغية. قال تعالى: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) سورة الحجرات:9. ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق. وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة.
 


مـــقــــدمــــــــة


الغرض من الملبس في نظر الإسلام


الغرض من الملبس في نظر الإسلام أمران؛ ستر العورة، والزينة. ولهذا امتن الله على بني الإنسان عامة بما هيأ لهم بتدبيره من لباس ورياش فقال تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا) سورة الأعراف:26.


فمن فرط في أحد هذين الأمرين: الستر أو التزين، فقد انحرف عن صراط الإسلام إلى سبل الشيطان. وهذا سر النداءين اللذين وجههما الله إلى بني آدم -بعد النداء السابق- يحذرهم فيهما من العري، وترك الزينة، اتباعا لخطوات الشيطان. قال تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما) سورة الأعراف:27. وقال سبحانه: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) سورة الأعراف:31.


وقد أوجب الإسلام على المسلم أن يستر عورته التي يستحي الإنسان المتمدين بفطرته من كشفها، حتى يتميز عن الحيوان العاري. بل دعاه إلى هذا التستر وإن كان منفردا بعيدا عن الناس، حتى يصير الاحتشام له دينا وخلقا.


عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله ‍ عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك). قلت: يا رسول الله، فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ (أي في السفر ونحوه) قال: (فإن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها). فقلت: فإذا كان أحدنا خاليا (أي منفردا)؟ قال: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحي منه".



دين النظافة والتجمل


وقبل أن يعنى الإسلام بالزينة وحسن الهيئة وجه عناية أكبر إلى النظافة، فإنها الأساس لكل زينة حسنة، وكل مظهر جميل.


وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "تنظفوا فإن الإسلام نظيف".


(النظافة تدعو إلى الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة).


وحث عليه السلام على نظافة الثياب، ونظافة الأبدان، ونظافة البيوت، ونظافة الطرق، وعني خاصة بنظافة الأسنان، ونظافة الأيدي، ونظافة الرأس.


وليس هذا عجبا في دين جعل الطهارة مفتاحا لأولى عباداته وهي الصلاة؛ فلا تقبل صلاة من مسلم حتى يكون بدنه نظيفا، وثوبه نظيفا، والمكان الذي يصلي فيه نظيفا، وذلك غير النظافة المفروضة على الجسد كله، أو على الأجزاء المتعرضة للأتربة منه، المعروفة في الإسلام بالغسل والوضوء.


وإذا كانت البيئة العربية بما يكتنفها من بداوة وصحراء قد تغري أهلها أو الكثيرين منهم بإهمال شأن النظافة والتجمل، فإن النبي عليه السلام ظل يتعهدهم بتوجيهاته اليقظة، ونصائحه الواعية، حتى ارتقى بهم من البداوة إلى الحضارة، ومن البذاذة المزرية إلى التجمل المعتدل.


جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه الرسول -كأنه يأمره بإصلاح شعره- ففعل، ثم رجع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟".


ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا رأسه أشعث، فقال: "أما وجد هذا ما يسكن به شعره؟‍".


ورأى آخر عليه ثياب وسخة، فقال: "أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه؟".


وجاء إليه صلى الله عليه وسلم رجل وعليه ثوب دون. فقال له: "ألك مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: من كل المال قد أعطاني الله تعالى. قال: فإذا آتاك الله مالا، فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته".


وأكد الحث على النظافة والتجمل في مواطن الاجتماع مثل الجمعة والعيدين فقال: "ما على أحدكم -إن وجد سعة- أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته".



الذهـــــــب.. والحــــريـــــــر




الذهب والحرير الخالص حرام على الرجال


وإذا كان الإسلام قد أباح الزينة بل طلبها، واستنكر تحريمها (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) سورة الأعراف:32. فإنه حرم على الرجال نوعين من الزينة -على حين أحلهما للإناث-.


أولهما: التحلي بالذهب.


ثانيهما: لبس الحرير الخالص.


فعن علي كرم الله وجهه قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حريرا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا فجعله في شماله، ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي".


وعن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة".


وقال صلى الله عليه وسلم في حلة من الحرير: "إنما هذه لباس من لا أخلاق له".


ورأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه وطرحه، وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده" فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله، لا آخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.


ومثل الخاتم ما نراه عند المترفين من قلم ذهب، ساعة الذهب، قداحة (ولاعة) الذهب، علبة الذهب للسجاير، والفم الذهب … الخ.


أما التختم بالفضة فقد أباحه عليه السلام للرجال. روى البخاري عن ابن عمر قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق (فضة) وكان في يده، ثم كان بعد في يد أبي بكر؛ ثم كان بعد في يد عمر، ثم كان بعد في يد عثمان حتى وقع في بئر أريس.


أما المعادن الأخرى كالحديد وغيره فلم يرد نص صحيح يحرمها بل ورد في صحيح البخاري أن الرسول قال للرجل الذي أراد تزوج المرأة الواهبة نفسها: "التمس ولو خاتما من حديد"، وبه استدل البخاري على حل خاتم الحديد.


ورخص في لبس الحرير إذا كان لحاجة صحية، فقد أذن عليه الصلاة والسلام بلبسه لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهما، لحكة كانت بهما.



حكمة تحريمها على الرجال


وقد قصد الإسلام بتحريم هذين الأمرين على الرجال هدفا تربويا أخلاقيا نبيلا؛ فإن الإسلام -وهو دين الجهاد والقوة- يحب أن يصون رجولة الرجل من مظاهر الضعف والتكسر والانحلال. والرجل الذي ميزه الله بتركيب عضوي، غير تركيب المرأة، لا يليق به أن ينافس الغانيات في جر الذيول، والمباهاة بالحلي والحلل.


ثم هناك هدف اجتماعي وراء هذا التحريم.


فتحريم الذهب والحرير جزء من برنامج الإسلام في حربه للترف عامة، فالترف في نظر القرآن قرين للانحلال الذي ينذر بهلاك الأمم، وهو مظهر للظلم الاجتماعي، حيث تتختم القلة المترفة على حساب أكثرية بائسة. وهو بعد ذلك عدو لكل رسالة حق وخير وإصلاح. والقرآن يقول: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) سورة الإسراء:16. (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) سورة سبأ:34.


وتطبيقا لروح القرآن حرم النبي عليه السلام كل مظاهر الترف في حياة المسلم، فكما حرم الذهب والحرير على الرجال، حرم على الرجال والنساء جميعا استعمال أواني الذهب والفضة -كما سيأتي-.


وبعد هذا وذاك، هناك اعتبار اقتصادي له وزنه كذلك، فإن الذهب هو الرصيد العالمي للنقد، فلا ينبغي استعماله في مثل الأواني أو حلي الرجال.


حكمة الإباحة للنساء


وإنما استثنى النساء من هذا الحكم، مراعاة لجانب المرأة ومقتضى أنوثتها وما فطرت عليه من حب الزينة، على ألا يكون همها من زينتها إغراء الرجال، وإثارة الشهوات. وفي الحديث "إيما امرأة استعرضت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية".


وقال تعالى محذرا للنساء: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) سورة النور:31.



لبـــاس المـــــرأة المســـــلمة




مقدمة


وقد حرم الإسلام على المرأة أن تلبس من الثياب ما يصف وما يشف عما تحته من الجسد، ومثله ما يحدد أجزاء البدن، وبخاصة مواضع الفتنة منه، والثديين والخصر والألية ونحوها.


وفي الصحيح عن أبي هريرة، قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس (إشارة إلى الحكام الظلمة إعداء الشعوب)، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا".


وإنما جعلن "كاسيات" لأن الثياب عليهن، ومع هذا فهن "عاريات" لأن ثيابهن لا تؤدي وظيفة الستر، لرقتها وشفافيتها، فتصف ما تحتها، كأكثر ملابس النساء في هذا العصر.


والبخت نوع من الإبل، عظام الأسنمة، شبه رؤوسهن بها، لما رفعن من شعورهن على أوساط رؤوسهن، كأنه -صلى الله عليه وسلم- كان ينظر من وراء الغيب إلى هذا الزمان، الذي أصبح فيه لتصفيف شعور النساء وتجميلها وتنويع أشكالها محلات خاصة "كوافير" يشرف عليها غالبا رجال يتقاضون على عملهم أبهظ الأجور، وليس ذلك فحسب، فكثير من النساء لا يكتفين بما وهبهن الله من شعر طبيعي، فيلجأن إلى شراء شعر صناعي تصله المرأة بشعرها، وليبدو أكثر نعومة ولمعانا وجمالا، ولتكون هي أكثر جاذبية وإغراء.


والعجيب في أمر هذا الحديث أنه ربط بين الاستبداد السياسي والانحلال الخلقي وهذا ما يصدقه الواقع، فأن المستبدين يشغلون الشعوب عادة، بما يقوي الشهوات، ويلهي الناس بالمتاع الشخصي عن مراقبة القضايا العامة.



تشبه المرأة بالرجل والرجل بالمرأة


وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن من المحظور على المرأة أن تلبس لبسة الرجل، ومن المحظور على الرجل أن يلبس لبسة المرأة. ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. ويدخل في ذلك المتشبه في الكلام والحركة والمشية واللبس غيرها.


إن شر ما تصاب به الحياة، وتبتلى به الجماعة، هو الخروج على الفطرة، والفسوق عن أمر الطبيعة، والطبيعة فيها رجل، وفيها امرأة، ولكل منهما خصائصه، فإذا تخنث الرجل، واسترجلت المرأة، فذلك هو الاضطراب والانحلال.


وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم ممن لعنوا في الدنيا والآخرة، وأمنت الملائكة على لعنهم، رجلا جعله الله ذكرا فأنث نفسه نفسه وتشبه بالنساء، وامرأة جعلها الله أنثى، فتذكرت، وتشبهت بالرجال.


ومن أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن لبس المعصفر من الثياب. روى مسلم في "صحيحه" عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القسي (نوع من الحرير) … وعن لباس المعصفر".


وروي أيضا عن ابن عمرو قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفريين فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها "



ثياب الشهرة والاختيال


والضابط العام للتمتع بالطيبات كلها من مأكل أو مشرب أو ملبس: ألا يكون في تناولها إسراف ولا اختيال.


والإسراف هو مجاوزة الحد في التمتع بالحلال، والاختيال أمر يتصل بالنية والقلب أكثر من اتصاله بالظاهر، فهو قصد المباهاة والتعاظم والافتخار على الناس (والله لا يحب كل مختال فخور) سورة الحديد: 23.


وقال عليه السلام: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة".


ولكي يتجنب المسلم مظنة الاختيال، نهى النبي عن ثياب "الشهرة" التي من شأنها أن تثير الفخر والمكاثرة والمباهاة بين الناس بالمظاهر الفارغة. وفي الحديث: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة".


وقد سأل رجل ابن عمر: ماذا ألبس من الثياب؟ فقال: ما لا يزدريك فيه السفهاء -يعني لتفاهته وسوء منظره- ولا يعيبك به الحكماء -يعني لتجاوزه حد الاعتدال-.


تغيـيـر خلـــــق اللــــــــــه




الغلو في الزينة بتغيير خلق الله


وقد رفض الإسلام الغلو في الزينة إلى الحد الذي يفضي إلى تغيير خلق الله، الذي اعتبره القرآن من وحي الشيطان، الذي قال عن أتباعه: (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) سورة النساء:119.



تحريم الوشم وتحديد الأسنان وجراحات التجميل


ومن ذلك وشم الأبدان، ووشر الأسنان، وقد "لعن الرسول عليه الصلاة والسلام الواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة".


أما الوشم ففيه تشويه للوجه واليدين بهذا اللون الأزرق والنقش القبيح، وقد أفرط بعض العرب فيه -وبخاصة النساء- فنقشوا به معظم البدن. هذا إلى أن بعض أهل الملل كانوا يتخذون منه صورا لمعبوداتهم وشعائرهم، كما نرى النصارى يرسمون به الصليب على أيديهم وصدورهم.


أضف إلى هذه المفاسد ما فيه من ألم وعذاب بوخز الإبر في بدن الموشوم.


كل ذلك جلب اللعنة على من تعمل هذا الشيء (الواشمة) ومن تطلب ذلك لنفسها (المستوشمة).


وأما وشر الأسنان، أي تحديدها وتقصيرها، فقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة التي تقوم بهذا العمل (الواشرة)، والمرأة التي تطلب أن يعمل ذلك بها (المستوشرة). ولو فعل رجل ذلك، لاستحق اللعنة من باب أولى.


وكما حرم الرسول وشر الأسنان حرم التفلج، "ولعن المتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله".


والمتفلجة هي التي تصنع الفلج أو تطلبه، والفلج: انفراج ما بين الأسنان، ومن النساء من يخلقها الله كذلك، ومنهن من ليست كذلك، فتلجأ إلى برد ما بين الأسنان المتلاصقة خلقة، لتصير متفلجة صناعة، وهو تدليس على الناس، وغلو في التزين تأباه طبيعة الإسلام.


وبهذه الأحاديث الصحيحة نعرف الحكم الشرعي فيما يعرف اليوم باسم "جراحات التجميل" التي روجتها حضارة الجسد والشهوات -أعني الحضارة الغربية المادية المعاصرة- فترى المرأة أو الرجل ينفق المئات أو الآلاف، لكي تعدل شكل أنفها، أو ثدييها أو غير ذلك. فكل هذا يدخل فيمن لعن الله ورسوله، لما فيه من تعذيب للإنسان، وتغيير لخلقة الله، بغير ضرورة تلجئ لمثل هذا العمل إلا أن يكون الإسراف في العناية بالمظهر، والاهتمام بالصورة لا بالحقيقة، وبالجسد لا بالروح.


"أما إذا كان في الإنسان عيب شاذ يلفت النظر كالزوائد التي تسبب له ألما حسيا أو نفسانيا كلما حل بمجلس، أو نزل بمكان، فلا بأس أن يعالجه، ما دام يبغي إزالة الحرج الذي يلقاه، وينغص عليه حياته، فإن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج".


ولعل مما يؤيد ذلك أن الحديث لعن "المتفلجات للحسن" فيفهم منه أن المذمومة من فعلت ذلك لا لغرض إلا لطلب الحسن والجمال الكاذب، فلو احتاجت إليه لإزالة ألم أو ضرر، لم يكن في ذلك بأس. والله أعلم.



ترقيق الحواجب


ومن الغلو في الزينة التي حرمها الإسلام النمص، والمراد إزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النامصة والمتنمصة". والنامصة، التي تفعله، والمتنمصة التي تطلبه.


وتتأكد حرمة النمص إذا كان شعارا للخليعات من النساء.


قال بعض علماء الحنابلة: يجوز الحف (يقال: حفت المرأة وجهها: أي زينته بإزالة شعره) والتحمير والنقش والتطريف إذا كان بإذن الزوج لأنه من الزينة، وشدد النووي فلم يجز الحف، واعتبره من النمص المحرم. ويرد عليه ما ذكره أبو داود في السنن: أن النامصة هي التي تنقش الحاجب حتى ترقه. فلم يدخل فيه حف الوجه وإزالة ما فيه من شعر.


وأخرج الطبري عن امرأة أبي إسحاق أنها دخلت على عائشة، وكانت شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تحف جبينها لزوجها؟ فقالت: أميطي عنك الأذى ما استطعت.



وصل الشعر


ومن المحظور في زينة المرأة كذلك، أن تصل شعرها بشعر آخر، سواء أكان شعرا حقيقيا أم صناعيا، كالذي يسمى الآن "الباروكة".


فقد روى البخاري عن غيره عن عائشة وأختها أسماء وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة" والواصلة هي التي تقوم بوصل الشعر بنفسها أو بغيرها، والمستوصلة التي تطلب ذلك.


ودخول الرجل في هذا التحريم من باب أولى، سواء أكان واصلا كالذي يسمونه "كوافير" أو مستوصلا كالمخنثين من الشباب (كالذي يسمونهم الخنافس).


ولقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في محاربة هذا النوع من التدليس، حتى إنه لم يجز لمن تساقط شعرها نتيجة المرض أن يوصل به شعر آخر، ولو كانت عروسا ستزف إلى زوجها.


روى البخاري عن عائشة أن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت فتمعط شعرها، فأرادوا أن يصلوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة".


وعن أسماء قالت: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي أصابتها الحصبة، فامرق شعرها، وإني زوجتها، أفأصل فيه ؟ فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة".


وعن سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها، فخطبنا، فأخرج كبة من شعر. قال: "ما كنت أرى أحدا يفعل هذا غير اليهود، إن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور، يعني الواصلة في الشعر". وفي رواية أنه قال لأهل المدينة: أين علماؤكم ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم".


وتسمية الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العمل "زورا" يومئ إلى حكمة تحريمه، فهو ضرب من الغش والتزييف والتمويه، والإسلام يكره الغش، ويبرأ من الغاش في كل معاملة، مادية كانت أو معنوية، "من غشنا فليس منا".


قال الخطابي: إنما ورد الوعيد الشديد في هذه الأشياء، لما فيها من الغش والخداع، ولو رخص في شيء منها لكان وسيلة إلى استجازة غيرها من أنواع الغش، ولما فيها من تغيير الخلقة، وإلى ذلك الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله "المغيرات خلق الله".


والذي دلت عليه الأحاديث إنما هو وصل الشعر بالشعر، طبيعيا كان أو صناعيا، فهو الذي يحمل معنى التزوير والتدليس، فأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر من خرقة أو خيوط و نحوها، فلا يدخل في النهي.


وفي هذا جاء عن سعيد بن جبير قال: "لا بأس بالقرامل". والمراد به هنا: خيوط من حرير أو من صوف تعمل ضفائر، تصل به المرأة شعرها، وبجوازها قال الإمام أحمد.




صبغ الشيب


ومما يتعلق بموضوع الزينة صبغ الشيب في الرأس أو اللحية، فقد ورد أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يمتنعون عن صبغ الشيب وتغييره، ظنا منهم أن التجمل والتزيين ينافي التعبد والتدين، كما هو شأن الرهبان والمتزهدين المغالين في الدين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن تقليد القوم، واتباع طريقتهم، لتكون للمسلمين دائما شخصيتهم المتميزة المستقلة في المظهر والمخبر. روى البخاري عن أبي هريرة انه صلى الله عليه وسلم قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم". وهذا الأمر للاستحباب كما يدل عليه فعل الصحابة، فقد صبغ بعضهم كأبي بكر وعمر، وترك بعضهم مثل علي وأبي بن كعب وأنس.


ولكن بأي شيء يكون الصبغ؟ أيكون بالسواد وغيره من الألوان، أم يجتنب السواد؟ أما الشيخ الكبير الذي عم الشيب رأسه ولحيته، فلا يليق به أن يصبغ بالسواد بعد أن بلغ من الكبر عتيا. ولهذا حين جاء أبو بكر الصديق بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى رأسه كأنها الثغامة بياضا. قال: "غيروا هذا (أي الشيب) وجنبوه السواد". والثغامة نبات شديد البياض زهره وثمره.


وأما من لم يكن في مثل حال أبي قحافة وسنه فلا إثم عليه إذا صبغ بالسواد، وفي هذا قال الزهري: "كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه جديدا، فلما نغض الوجه والأسنان تركناه".


وقد رخص في الصبغ بالسواد طائفة من السلف منهم من الصحابة: سعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغيرهم.


ومن العلماء من لم يرخص فيه إلا في الجهاد، لإرهاب الأعداء، إذا رأوا جنود الإسلام كلهم في مظهر الشباب.


وفي الحديث الذي رواه أبو ذر: "إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم". والكتم: نبات باليمن تخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، أما صبغ الحناء فأحمر.


وروي من حديث أنس قال: "اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتا".



إعفاء اللحى


ومما يتصل بموضوعنا إعفاء اللحى. فقد روى فيه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب". وتوفيرها هو إعفاؤها كما في رواية أخرى (أي تركها وإبقاؤها). وقد بين الحديث علة هذا الأمر وهو مخالفة المشركين، والمراد بهم المجوس عباد النار، فقد كانوا يقصون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها. وإنما أمر الرسول بمخالفتهم، ليربي المسلمين على استقلال الشخصية، والتميز في المعنى والصورة، والمخبر والمظهر، فضلا عما في حلق اللحية من تمرد على الفطرة، وتشبه بالنساء، إذ اللحية من تمام الرجولة، ودلائلها المميزة.


وليس المراد بإعفائها ألا يأخذ منها شيئا أصلا، فذلك قد يؤدي إلى طولها طولا فاحشا، يتأذى به صاحبها، بل يأخذ من طولها وعرضها، كما روي ذلك في حديث عن الترمذي، وكما كان يفعل السلف، قال عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، (أي تقصيرها وتسويتها)، وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسن.


وقال أبو شامة: "وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشهر مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها".


أقول: بل أصبح الجمهور الأعظم من المسلمين يحلقون لحاهم، تقليدا لأعداء دينهم ومستعمري بلادهم من النصارى واليهود، كما يولع المغلوب دائما بتقليد الغالب، غافلين عن أمر الرسول بمخالفة الكفار، ونهيه عن التشبه بهم، فإن من "تشبه بقوم فهو منهم".


نص كثير من الفقهاء على تحريم حلق اللحية مستدلين بأمر الرسول بإعفائها. والأصل في الأمر الوجوب، وخاصة أنه علل بمخالفة الكفار، ومخالفتهم واجبة.


ولم ينقل عن أحد من السلف أنه ترك هذا الواجب قط. وبعضعلماء العصر يبيحون حلقها تأثرا بالواقع، وإذعانا لما عمت به البلوى ولكنهم يقولون: إن إعفاء اللحية من الأفعال العادية للرسول وليست من أمور الشرع التي يتعبد بها. والحق أن إعفاء اللحية لم يثبت بفعل الرسول وحده بل بأمره الصريح المعلل بمخالفة الكفار. وقد قرر ابن تيمية بحق أن مخالفتهم أمر مقصود للشارع، والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة. قال: وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به ودار التحريم عليه، فمشابهتهم في ذلك الظاهر سبب لمشابهتهم في الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات، وتأثير ذلك لا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر، وقد يتعسر أو يتعذر زواله، وكل ما كان سببا إلى الفساد فالشارع يحرمه.


وبهذا نرى أن في حلق اللحية ثلاثة أقول: قول بالتحريم وهو الذي ذكره ابن تيمية وغيره. وقول بالكراهة وهو الذي ذكر في الفتح عن عياض ولم يذكر غيره. وقول بالإباحة وهو الذي يقول به بعض علماء العصر. ولعل أوسطها أقربها وأعدلها -وهو القول بالكراهة- فإن الأمر لا يدل على الوجوب جزما وإن علل بمخالفة الكفار، وأقرب مثل على ذلك هو الأمر بصبغ الشيب مخالفة لليهود والنصارى، فإن بعض الصحابة لم يصبغوا، فدل على أن الأمر للاستحباب.


صحيح أنه لم ينقل عن أحد من السلف حلق اللحية، ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها وهي عادتهم.
 
الحلال والحرام ليوسف القرضاوي

اختى ورد
كتاب اكثر من رائع
لأول مرة اقرئه فعلا مفيدا جدا
جزاكى الله عنا كل الخير
وجعل الله اجره فى ميزان حسناتك يوم العرض
فى انتظار التكمله
دمتى دائما وابدا بحفظ الرحمن
احترامى
الحلال والحرام ليوسف القرضاوي


 
اهلا فيك اخي ياسر
الاروع تواجدك ومتابعتك للموضوع
اعتذر عن التاخير بس عمواجه صعوبات كتير بتنزيل بقية الكتاب
احترامي
 
فــي البــــيــــت



المسكن أو البيت هو الذي يكن المرء من عوادي الطبيعة، ويشعر فيه الخصوصية والحرية من كثير من قيود المجتمع، فيستريح فيه الجسد، وتسكن إليه النفس، ولذا قال الله تعالى في معرض الامتنان على عباده: (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) سورة النحل:80.


وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب سعة الدار، ويعد ذلك من عناصر السعادة الدنيوية فيقول: "أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنئ".


وكان يدعو كثيرا بهذه الدعوات: "اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي" فقيل له: ما أكثر ما تدعو بهذه الدعوات يا رسول الله ! فقال: "هل تركن من شيء؟".


كما حث عليه السلام على نظافة البيوت لتكون مظهرا من مظاهر الإسلام دين النظافة، وعنوانا يتميز به المسلم عن غيره ممن جعل دينهم القذارة من وسائل القربة إلى الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود". والأفنية جمع فناء، وهو بهو البيت وساحته






مظاهر الترف والوثنية


ولا حرج على المسلم أن يجمل بيته بألوان الزهور، وأنواع النقش والزينة الحلال (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) الأعراف:32.


نعم لا حرج على المسلم في أن يعشق الجمال في بيته، وفي ثوبه ونعله، وكل ما يتصل به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله جميل يحب الجمال".


وفي رواية: أن رجلا جميلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحب الجمال، وقد أعطيت منه ما ترى، حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشراك نعل. أفمن الكبر ذلك يا رسول الله ؟ قال: "لا، ولكن الكبر بطر الحق وغمص الناس".


وبطر الحق: رده، ورفض الخضوع له. وغمص الناس: احتقارهم.


بيد أن الإسلام يكره الغلو في كل شيء. والنبي صلوات الله عليه لم يرض للمسلم أن يشتمل بيته على مظاهر الترف والسرف التي نعى عليها القرآن، أو مظاهر الوثنية التي حاربها دين التوحيد بكل سلاح.




الذهـــــــب.. والفــــضـــــــة




آنية الذهب والفضة


من أجل ذلك حرم الإسلام اتخاذ أواني الذهب والفضة ومفارش الحرير الخالص في البيت المسلم، وتهدد النبي عليه السلام من ينحرف عن هذا الطريق بالوعيد الشديد. روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها: "إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم".


وروى البخاري عن حذيفة قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه، وقال: هو لهم (أي للكفار) في الدنيا ولنا في الآخرة". وما حرم استعماله حرم اتخاذه تحفة وزينة.


وهذا التحريم للأواني والمفارش ونحوها تحريم على الرجال والنساء جميعا، فإن حكمة التشريع هنا هو تطهير البيت نفسه من مواد الترف الممقوت. وما أروع ما قاله ابن قدامة: "يستوي في ذلك الرجال والنساء لعموم الحديث، ولأن على تحريمها السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء، وهذا معنى يشمل الفريقين. وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى التزين للأزواج، فتختص الإباحة به دون غيره. فإن قيل: لو كانت العلة ما ذكرتم لحرمت آنية الياقوت ونحوه مما هو أرفع من الأثمان (الذهب والفضة). وقلنا: تلك لا يعرفها الفقراء، فلا تنكسر قلوبهم باتخاذ الأغنياء لها بعد معرفتهم بها، ولأن قلتها في نفسها تمنع اتخاذها فيستغنى بذلك عن تحريمها بخلاف الأثمان".


على أن الاعتبار الاقتصادي الذي أشرنا إليه في حكمة تحريم الذهب على الرجال أشد وضوحا هنا، وأكثر بروزا. فإن الذهب والفضة هما الرصيد العالمي للنقود التي جعلها الله معيارا لقيمة الأموال، وحاكما يتوسط بينها بالعدل، وييسر تبادلها للناس. وقد هدى الله الناس إلى استعمالها نعمة منه عليهم، ليتداولوها بينهم لا ليحبسوها في بيوتهم في صورة نقود مكنوزة، أو يعطلوها في شكل أواني وأدوات للزينة.


وما أجمل ما قال الإمام الغزالي في هذا المعنى في كتاب الشكر من الإحياء: "كل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة، فقد كفر النعمة، وكان أسوأ حالا ممن كنز؛ لأن مثال هذا من استسخر حاكم البلد في الحياكة والكنس، والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس، والحبس أهون منه، وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس، تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات أن تتبدد، وإنما الأواني لحفظ المائعات، ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود. فمن لم ينكشف له هذا (يعني بالتفكير والمعرفة) انكشف له بالترجمة الإلهية، وقيل له: (من شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم)".


ولا يظن ظان أن في هذا التحريم تضييقا على المسلم في بيته، فإن في الحلال الطيب مندوحة واسعة، وما أجمل أواني القيشاني والزجاج والخزف والنحاس وسائر المعادن الكثيرة! وما أجمل المفارش والوسائد من القطن والكتان وغيرهما من المواد!



التمـــــاثيـــــل




الإسلام يحرم التماثيل


وحرم الإسلام في البيت الإسلامي أن يشتمل على التماثيل، وأعني بها الصور المجسمة غير الممتهنة، وجعل وجود هذه التماثيل في بيت سببا في أن تفر عنه الملائكة، وهم مظهر رحمة الله ورضاه تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل (أو تصاوير)".


قال العلماء: إنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه الصورة، لأن متخذها قد تشبه بالكفار؛ لأنهم يتخذون الصور في بيوتهم ويعظمونها، فكرهت الملائكة ذلك، فلم تدخل بيته هجرا له.


وحرم الإسلام على المسلم أن يشتغل بصناعة التماثيل، وإن كان يعملها لغير مسلمين، قال عليه السلام: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور". وفي رواية: "الذين يضاهون بخلق الله".


وأخبر عليه السلام أن "من صور صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا". ومعنى هذا أنه يطلب إليه أ ن يجعل فيها حياة حقيقية. وهذا التكليف إنما هو للتعجيز والتقريع.




الحكمة في تحريم التماثيل


-أ- ومن أسرار هذا التحريم -وليس هو العلة الوحيدة كما يظن بعض الناس- حماية التوحيد، والبعد عن مشابهة الوثنيين في تصاويرهم وأوثانهم التي يصنعونها بأيديهم، ثم يقدسونها ويقفون أمامها خاشعين.


إن حساسية الإسلام لصيانة التوحيد من كل شبهة للوثنية قد بلغت أشدها، والإسلام على حق في هذا الاحتياط وتلك الحساسية؛ فقد انتهى الأمر بأمم اتخذوا لموتاهم وصالحيهم صورا يذكرونهم بها، ثم طال عليهم الأمد فقدسوها شيئا فشيئا، حتى اتخذت آلهة تعبد من دون الله؛ ترجى وتخشى وتلتمس من عندها البركات، كما حدث لقوم ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر.


ولا عجب في دين كان من قواعد شريعته سد الذرائع إلى الفساد أن يسد كل المنافذ التي يتسرب منها إلى العقول والقلوب شرك جلي أو خفي، أو مشابهة للوثنيين وأهل الغلو من الأديان. ولا سيما أنه لا يشرع لجيل أو جيلين، وإنما يشرع للبشرية كلها في شتى بقاعها، وإلى أن تقوم الساعة. وما يستبعد في بيئة قد يقبل في أخرى، وما يعتبر مستحيلا في عصر قد يصبح حقيقة واقعة في عصر آخر قريب أو بعيد.


-ب- ومن أسرار التحريم بالنسبة للصانع (المثال) أن ذلك المصور أو المثال الذي ينحت تمثالا، يملؤه الغرور، حتى لكأنما أنشأ خلقا من عدم، أو أبدع كائنا حيا من تراب. وقد حدثوا أن أحدهم نحت تمثالا، مكث نحته دهرا طويلا، فلما أكمله وقف أمامه معجبا مبهورا أمام تقاسيمه وتقاطيعه حتى إنه خاطبه في نشوة من الغرور والفخر: تكلم.. تكلم !!


ولهذا قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". وفي الحديث عن الله تعالى "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة!!".


-جـ-ثم إن الذين ينطلقون في هذا الفن إلى مداه لا يقفون عند حد، فيصورون النساء عاريات أو شبه عاريات، ويصورون مظاهر الوثنية وشعائر الأديان الأخرى، كالصليب والوثن وغير ذلك مما لا يجوز أن يقبله المسلم.


-د-وفضلا عن ذلك، فقد كانت التماثيل -ولا تزال- من مظاهر أرباب الترف والتنعم، يملؤون بها قصورهم، ويزينون بها حجراتهم، ويتفننون في صنعها من معادن مختلفة.وليس بعيدا على دين يحارب الترف في كل مظاهره وألوانه -من ذهب وفضة وحرير- أن يحرم كذلك التماثيل في بيت المسلم.



نهج الإسلام في تخليد العظماء


ولعل قائلا يقول: أليس من الوفاء أن ترد الأمة بعض الجميل لعظمائها الذين كتبوا بأعمالهم صفحات مجيدة في تاريخها، فتقيم لهم تماثيل مادية تذكر الأجيال اللاحقة بما كان لهم من فضل، وما بنوه من مجد. فإن ذاكرة الشعوب كثيرا ما تنسى، واختلاف النهار والليل ينسي؟


والجواب أن الإسلام يكره الغلو في تعظيم الأشخاص -مهما بلغت مرتبتهم- أحياء كانوا أو أمواتا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله".


وأرادوا أن يقفوا إذا رأوه تحية له، وتعظيما لشأنه، فنهاهم عن ذلك وقال: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا".


وحذر أمته أن يغلوا في شأنه بعد وفاته فقال: "لا تجعلوا قبري عيدا". ودعا ربه فقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".


وجاء أناس إليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل".


ودين هذا موقفه من تعظيم البشر لا يرضى أن يقام لبعض الناس أنصاب كأنها الأصنام، تنفق عليها الألوف، ليشير الناس إليهم بالتعظيم والتبجيل.


وما أكثر ما يدخل أدعياء العظمة، والمزورون على التاريخ من هذا الباب المفتوح لكل من يقدر، أو يقدر أتباعه وأذنابه على إقامة هذا النصب الزائف. وبذلك يضللون الشعوب عن العظماء الأصلاء.


إن الخلود الحقيقي الذي يتطلع إليه المؤمنون هو الخلود عند الله، الذي يعلم السر وأخفى، والذي لا يضل ولا ينسى. وما أكثر العظماء الذين كتبوا في سجل الخلود عنده وهم جنود مجهولون عند الخلق، ذلك لأنه تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفقدوا.


وإن كان لابد من الخلود عند الناس، فلن يكون بإقامة تماثيل لمن يراد تخليدهم من العظماء. والطريقة الفذة التي يرضاها الإسلام هي تخليدهم في القلوب والأفكار، وعلى الألسنة، بما قدموا من خير وعمل، وما تركوا وراءهم من مآثر صالحات، تكون لهم لسان صدق في الآخرين.


وماخلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وقادة الإسلام، وأئمته الأعلام، بصورة مادية ولا تماثيل حجرية نحتت لهم. كلا؛ إنما هي مناقب ومآثر يتناقلها الخلف عن السلف والأبناء عن الآباء محفورة في الصدر، مذكورة بالألسنة، تعطر المجالس والندوات وتملأ العقول والقلوب، بلا صورة ولا تمثال.




الرخصة في لعب الأطفال


وإذا كان هناك نوع من التماثيل لا يظهر فيه قصد التعظيم، ولا الترف، ولا يلزم منه شيء من المحذورات السابقة، فالإسلام لا يضيق به صدرا، ولا يرى به بأسا.


وذلك كلعب الأولاد الصغار التي تصنع على شكل عرائس أو قطط أو غير ذلك من السباع والحيوانات فإن هذه الصور تمتهن باللعب وعبث الأولاد بها. قالت أم المؤمنين عائشة: "كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتيني صواحب لي، فكن ينقمعن (يختفين) خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله يسر لمجيئهن إلي. فيلعبن معي". وفي رواية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوما: "ما هذا؟" قالت: بناتي. قال: "ما هذا الذي في وسطهن؟" قالت: فرس. قال: "ما هذا الذي عليه؟" قالت: جناحان. قال: "فرس له جناحان؟" قالت: أو ما سمعت أنه كان لسليمان بن داود خيل لها أجنحة؟! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. والبنات المذكورة في الحديث هي العرائس التي يلعب بها الجواري والولدان، وكانت السيدة عائشة حديثة السن في أول زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشوكاني: في هذا الحديث دليل على أنه يجوز تمكين الصغار من اللعب بالتماثيل. وقد روي عن مالك أنه كره للرجل أن يشتري لبنته ذلك. وقال القاضي عياض: إن اللعب بالبنات للبنات الصغار رخصة.


ومثل لعب الأطفال التماثيل التي تصنع من الحلوى وتباع في الأعياد ونحوها ثم لا تلبث أن تؤكل.




التماثيل الناقصة والمشوهة


ورد في الحديث أن جبريل عليه السلام امتنع عن دخول بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لوجود تمثال على باب بيته، ولم يدخل في اليوم التالي حتى قال له: "مر برأس التمثال فليقطع حتى يصير كهيئة الشجرة".


وقد استدل فريق من العلماء بهذا الحديث، على أن المحرم من الصور هو ما كان كاملا، أما ما فقد عضوا لا تمكنه الحياة بدونه، فهو مباح.


ولكن النظر الصحيح الصادق فيما طلبه جبريل من قطع رأس التمثال حتى يصير كهيئة الشجرة؛ يدلنا على أن العبرة ليست بتأثير العضو الناقص في حياة الصورة أو موتها بدونه، وإنما العبرة في تشويهها بحيث لا يبقى منظرها موحيا بتعظيمها بعد نقص هذا الجزء منها.


ولا ريب أننا إذا تأملنا وأنصفنا نحكم بأن التماثيل النصفية التي تقام في الميادين، تخليدا لبعض الملوك والعظماء، أشد في الحرمة من التماثيل الصغيرة الكاملة التي تتخذ للزينة في البيوت.




صور اللوحات والنقوش (أي الصور غير المجسمة)


ذلك هو الموقف الإسلام من الصور المجسمة التي نطلق عليها عرفا (التماثيل).


ولكن ما الحكم في الصور واللوحات الفنية التي ترسم على المسطحات كالورق والثياب والستور والجدران والبسط والنقوذ ونحوها؟.


والجواب أن حكمها لا يتبين إلا إذا نظرنا في الصورة نفسها لأي شيء هي؟ وفي وضعها أين توضع وكيف تستعمل؟ وفي قصد مصورها ماذا قصد من تصويرها؟


فإن كانت الصورة الفنية لما يعبد من دون الله -كالمسيح عند النصارى، والبقرة عند الهندوس- وما شابه ذلك، فإن من صورها لهذا الغرض وبهذا القصد لا يكون إلا كافرا ناشرا للكفر والضلال. وفي مثله جاء الوعيد الشديد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون".


قال الطبري: "إن المراد هنا من يصور ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصد له؛ فإنه يكفر بذلك، وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصيا بتصويره فقط".


ومثل ذلك من علق هذه الصور تقديسا لها فهذا عمل لا يصدر من مسلم، إلا إذا طرح الإسلام وراء ظهره.


وقريب من ذلك من صور ما لا يعبد، قاصدا بتصويره مضاهاة خلق الله، أي مدعيا أنه يخلق ويبدع كما يخلق الله جل وعلا، فهو بهذا القصد يخرج من دين التوحيد، وفي مثل هذا جاء الحديث "إن أشد الناس عذابا الذين مضاهون بخلق الله" وهذا أمر يتعلق بنية المصور وحده. ولعل مما يؤيد هذا الحديث عن الله تعالى "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة أو ذرة" فالتعبير بقوله: "ذهب يخلق كخلقي" يدل على القصد إلى المضاهاة ومنازعة الألوهية خصائصها من الخلق والإبداع.. وتحدي الله تعالى لهم أن يخلقوا حبة أو ذرة -أي غلة- يشير إلى أنهم في فعلهم قصدوا هذا المعنى. ولهذا يجزيهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة حين يقال لهم: أحيوا ما خلقتم ! وتكليف المصور منهم أن ينفخ الروح في صورته، وليس بنافخ فيها أبدا.


ومما يحرم تصويره واقتناؤه: الصور التي يقدس أصحابها تقديسا دينيا أو يعظمون تعظيما دنيويا، فالأولى كصور الأنبياء والملائكة والصالحين، مثل إبراهيم وإسحاق وموسى ومريم وجبريل وغيرهم، وهذه تروج عند النصارى، وقد قلدهم بعض المبتدعة من المسلمين فصوروا عليا وفاطمة وغيرهما.


والثانية كصور الملوك والزعماء والفنانين في عصرنا، وهذه أقل إثما من تلك، ولكن يتأكد الإثم فيها إذا كان أصحابها من الكفرة أو الظلمة أو الفساق، كالحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، والزعماء الذين يدعون إلى غير رسالة الله، والفنانين الذين يمجدون الباطل، ويشيعون الفاحشة والميوعة في الأمة.


ويبدو أن كثيرا من الصور في عصر النبوة وما بعده، كانت من النوع الذي يقدس ويعظم، إذ كانت في الغالب من صنع الروم والفرس -أي النصارى والمجوس- فلم تكن تخلو من تأثير عقيدتهم وتقديسهم لرؤساء دينهم أو دولتهم. وقد روى مسلم عن أبي الضحى قال: كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال لي مسروق: هذه تماثيل كسرى؟ فقلت: "لا، هذه تماثيل مريم" كأن مسروقا ظن أن التصوير من مجوس، وكانوا يصورون صور ملوكهم حتى في الأواني، فظهر أن التصوير كان من نصراني.. وفي هذه القصة قال مسروق: سمعت عبد الله -يعني ابن مسعود- يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أشد الناس عذابا عند الله المصورون".


وأما ما عدا ذلك من الصور واللوحات.. فإن كانت لغير ذي روح كصور النبات والشجر والبحار والسفن والجبال والشمس والقمر والكواكب ونحوها من المناظر الطبيعية -لنبات أو جماد- فلا جناح على من صورها أو اقتناها وهذا لا جدال فيه.


وإن كانت الصورة لذي روح، وليس فيها ما تقدم من المحذورات أي لم تكن مما يقدس ويعظم ولم يقصد فيها مضاهاة خلق الله، فالذي أراه أنها لا تحرم أيضا وفي ذلك جاءت جملة من الأحاديث الصحاح.


روى مسلم في (صحيحه) عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد، عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة". قال بسر: ثم اشتكى زيد بعد، فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة قال: فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (وكان معه): ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟! فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: "إلا رقما في ثوب؟".


وروى الترمذي بسنده عن عتبة أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده فوجد عنده سهل بن حنيف (صحابيا آخر) قال: فدعا أبو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته (النمط: ثوب أو بساط فيه نقوش وصور) فقال له سهل: لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قد علمت. قال سهل: أو لم يقل: "إلا ما كان رقما في ثوب؟" فقال أبو طلحة: "بلى، ولكنه أطيب لنفسي" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.


ألا يدل هذان الحديثان على أن الصور المحرمة إنما هي المجسمة التي نطلق عليها (التماثيل)؟.


أما الصور التي ترسم في لوحات، أو تنقش على الثياب والبسط والجدران ونحوها، فليس هناك نص صحيح صريح سليم من المعارضة يدل على حرمتها.


نعم هناك أحاديث صحيحة أظهر فيها النبي صلى الله عليه وسلم كراهيته فقط لهذا النوع من التصاوير؛ لما فيه م مشابهة المترفين وعشاق المتاع الأدنى.


روى مسلم عن زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة الأنصاري قال: سمعت رسول الله يقول: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل" قال: فأتيت عائشة فقلت: إن هذا يخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل" فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك؟ فقالت: "لا … ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل: رأيته خرج في غزاته، فأخذت نمطا، فسترته على الباب، فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه، فجذبه، (النمط) حتى هتكه أو قطعه وقال: "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين !!" قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك علي".


ولا يؤخذ من الحديث أكثر من الكراهة التنزيهية لكسوة الحيطان ونحوها بالستائر ذات التصاوير. قال النووي: وليس في الحديث ما يقتضي التحريم؛ لأن حقيقة اللفظ: أن الله لم يأمرنا بذلك. وهذا يقتضي أنه ليس بواجب ولا مندوب، ولا يقتضي التحريم.


ومثل هذا ما رواه مسلم أيضا عن عائشة، قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حولي هذا، فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا".


فلم يأمرها عليه السلام بقطعه، وإنما أمرها بتحويله من مكانه في مواجهة الداخل إلى البيت، وذلك كراهية منه عليه السلام أن يرى في مواجهته هذه الأشياء التي تذكر عادة بالدنيا وزخارفها. ولا سيما أنه عليه السلام كان يصلي السنن والنوافل كلها في البيت، ومثل هذه الأنماط والأستار ذات التصاوير والتماثيل من شأنها أن تشغل القلب عن التزام الخشوع والإقبال الكامل على مناجاة الله سبحانه. وقد روى البخاري عن أنس قال: كان قرام (ستر) لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أميطيه عني، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي".


بهذا يتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر في بيته وجود ستر فيه تمثال طائر، ووجود قرام فيه تصاوير.


ومن أجل هذه الأحاديث وأمثالها قال بعض السلف: "إنما ينهى عما كان له ظل (أي المجسم) ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل".


ومما يؤيد هذا الرأي ما جاء في الحديث عن الله تعالى "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة". فإن خلق الله تعالى -كما هو مشاهد- ليس رسما على سطح، بل هو خلق صور مجسمة ذات جرم، كما قال تعالى: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) آل عمران:6.


ولا يعكر على هذا المذهب إلا حديث عائشة -في إحدى روايات الشيخين- أنها اشترت نمرقة (وسادة) فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية فقالت: يا رسول الله: أتوب إلى الله وإلى رسوله. ماذا أذنبت؟ فقال: "ما بال هذه النمرقة؟" فقالت: اشتريتها لك تقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم". ثم قال: "إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة" وزاد مسلم في رواية عن عائشة قالت: فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت، تعني أنها شقت النمرقة فجعلتها مرفقتين.



ولكن هذا الحديث يعارضه جملة أمور:
  1. أنه قد روي بروايات مختلفة ظاهرة التعارض، بعضها يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استعمل الستر الذي فيه الصورة بعد أن قطع وعملت منه الوسادة، وبعضها يدل على أنه لم يستعمله أصلا.
  2. أن بعض رواياته يدل على الكراهة فقط، وأن الكراهة إنما هي لستر الجدار بالصور، وذلك نوع ترف لا يرضاه. ولهذا قال -في رواية مسلم التي ذكرناها من قبل- "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين".
  3. حديث مسلم عن عائشة نفسها في الستر الذي فيه تمثال طائر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: "حولي هذا فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا" لا يدل على الحرمة مطلقا.
  4. أنه معارض بحديث.. القرام. الذي كان في بيت عائشة أيضا وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإماطته عنه؛ لأن تصاويره تعرض له في صلاته، قال الحافظ: "وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة في النمرقة، فهذا يدل على أنه أقره وصلى وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من رؤيته لصورته حالة الصلاة ولم يتعرض لخصوص كونها صورة".
وجمع الحافظ بينهما بأن الأول كانت تصاويره من ذات الأرواح وهذا كانت تصاويره من غير الحيوان.. ولكن يعكر على هذا الجمع حديث القرام الذي كان فيه تمثال طائر.
  1. أنه معارض بحديث أبي طلحة الأنصاري الذي استثنى ما كان رقما في ثوب وقد قال القرطبي: "يجمع بينها بأن يحمل حديث عائشة على الكراهة، وحديث أبي طلحة على مطلق الجواز، وهو لا ينافي الكراهة" واستحسنه الحافظ ابن حجر.
  2. أن راوي حديث النمرقة عن عائشة -وهو ابن أخيها القاسم بن محمد بن أبي بكر- كان يجيز اتخاذ الصور التي لا ظل لها.. فعن ابن عون قال: دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء.
قال الحافظ: يحتمل أنه تمسك بعموم قوله "إلا رقما في ثوب" وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبا من كونه مصورا، ومن كونه ساترا للجدار. ويؤيده رواية "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين".
والقاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو راوي حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما استجاز استعمالها.
ولكن هناك احتمال قد يبدو من هذه الأحاديث الواردة في شأن الصور والمصورين هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم شدد في أمرها أول الأمر، لقرب عهدهم بالشرك وعبادة الأوثان، وتقديس الصور والتماثيل، فلما استقرت عقيدة التوحيد في النفوس ورسخت جذورها في القلوب والعقول، رخص في الصور التي لا جسم لها، وإنما هي نقوش ورسوم، وإلا لم يرض بوجود ستر أو أقرام في بيته فيه صورة أو تمثال. ولم يستثن التصاوير التي ترقم وتنقش في الثياب، ومثل الثياب والورق والجدران وغيرها.

قال الطحاوي من أئمة الحنفية: "إنما نهى الشارع أولا عن الصور كلها، وإن كانت رقما؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بعبادة الصور، فنهى عن ذلك جلة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك أباح ما كان رقما في ثوب، للضرورة إلى اتخاذ الثياب، وأباح ما يمتهن لأنه يأمن على الجاهل تعظيم ما يمتهن، وبقي النهي فيما لا يمتهن".




امتهان الصورة يجعلها حلالا


هذا وكل تغيير في الصورة يجعلها أبعد عن التعظيم وأدنى إلى الامتهان، ينقلها من دائرة الكراهة إلى دائرة الاباحة. وقد جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام. استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادخل. قال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟! فإن كنت لا بد فاعلا، فاقطع رأسها، أو اقطعها وسائد، أو اجعلها بسطا".


ولهذا حين رأت عائشة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة للنمرقة ذات التصاوير جعلتها مرفقتين لما في ذلك من امتهانهما، والبعد بهما عن أدنى شبهة لتعظيم الصورة.


وقد جاء عن السلف استعمال الصورة الممتهنة، ولم يروا فيها حرجا، فعن عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها التماثيل؛ الطير والرجال، وقال عكرمة: كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا، ولا يرون بأسا بما وطئته الأقدام وكانوا يقولون في التصاوير في البسط والوسادة التي توطأ ذل لها.

يـتـبـع
 
الصور الفوتوغرافية




مقدمة


ومما لا خفاء فيه أن كل ما ورد في التصوير والصور، إنما يعني الصور التي تنحت أو ترسم على حسب ما ذكرنا.


أما الصور الشمسية -التي تؤخذ بآلة الفوتوغرافيا- فهي شيء مستحدث لم يكن في عصر الرسول، ولا سلف المسلمين، فهل ينطبق عليه ما ورد في التصوير والمصورين؟.


أما الذين يقصرون التحريم على التماثيل (المجسمة) فلا يرون شيئا في هذه الصور، وخصوصا إذا لم تكن كاملة.


وأما على رأي الآخرين فهل تقاس هذه الصور الشمسية على تلك التي تبدعها ريشة الرسام؟ أم أن العلة التي نصت عليها الأحاديث في عذاب المصورين -وهي أنهم يضاهون خلق الله- لا تتحقق هنا في الصور الفوتوغرافية؟ وحيث عدمت العلة عدم المعلول كما يقول الأصوليون؟.


إن الواضح هنا ما أفتى به المغفور له الشيخ محمد بخيت مفتى مصر أن أخذ الصورة بالفوتوغرافيا -الذي هو عبارة عن حبس الظل بالوسائط المعلومة لأرباب هذه الصناعة- ليس من التصوير المنهي عنه في شيء؛ لأن التصوير المنهي عنه هو إيجاد صورة لم تكن موجودة ولا مصنوعة من قبل، يضاهي بها حيوانا خلقه الله تعالى، وليس هذا المعنى موجودا في أخذ الصورة بتلك الآلة.


هذا وإن كان هناك من يجنح إلى التشدد في الصور كلها، وكراهيتها بكل أنواعها، حتى الفوتوغرافية منها، فلا شك أنه يرخص فيما توجبه الضرورة أو تقتضيه الحاجة والمصلحة منها، كصور البطاقات الشخصية، وجوازات السفر، وصور المشبوهين، والصور التي تتخذ وسيلة للإيضاح ونحوها، مما لا تتحقق فيه شبهة القصد إلى التعظيم أو الخوف على العقيدة. فإن الحاجة إلى اتخاذ هذه الصور أشد وأهم من الحاجة إلى اتخاذ (النقش) في الثياب الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم.



موضوع الصورة


هذا، ومن المقرر أن لموضوع الصورة أثرا في الحكم بالحرمة أو غيرها. ولا يخالف مسلم في تحريم الصورة إذا كان موضوعها مخالفا لعقائد الإسلام، أو شرائعه وآدابه، فتصوير النساء عاريات، أو شبه عاريات، وإبراز مواضع الأنوثة والفتنة منهن، ورسمهن أو تصويرهن في أوضاع مثيرة للشهوات، موقظة للغرائز الدنيا، كما نرى ذلك واضحا في بعض المجلات والصحف، ودور (السينما) كل ذلك مما لا شك في حرمته وحرمة تصويره، وحرمة نشره على الناس، وحرمة اقتنائه واتخاذه في البيوت أو المكاتب والمحلات، وتعليقه على الجدران، وحرمة القصد إلى رؤيته ومشاهدته.


ومثل هذا صور الكفار والظلمة والفساق، الذين يجب على المسلم أن يعاديهم لله ويبغضهم في الله، فلا يحل لمسلم أن يصور أو يقتني صورة لزعيم ملحد ينكر وجود الله، أو وثني يشرك مع الله البقر أو النار أو غيرها، أو يهودي أو نصراني يجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مدع للإسلام وهو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يشيع الفاحشة والفساد في المجتمع، كالممثلين والممثلات والمطربين والمطربات.


ومثل هذا، الصور التي تعبر عن الوثنية أو شعائر بعض الأديان التي لا يرضاها الإسلام كالأصنام والصلبان وما شابهها. ولعل كثيرا من البسط والستور والنمارق التي كانت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على هذا النوع من التصاوير والتهاويل. وقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه. والتصاليب: صور الصليب.


وروى ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم في عام الفتح لما رأى الصور التي في البيت الحرام لم يدخل حتى أمر فمحيت. ولا شك أنها كانت صورا تعبر عن وثنية مشركي مكة، وضلالهم القديم.


وعن علي بن أبي طالب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا قبرا إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله ‍‍‍. قال: فهاب أهل المدينة.. وانطلق الرجل ثم رجع فقال: يا رسول الله ‍‍‍‍. لم أدع بها وثنا إلا كسرته، ولا قبرا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عاد إلى شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم".


فماذا عسى أن تكون هذه الصورة التي أمر الرسول بتلطيخها وطمسها إلا أن تكون مظهرا من مظاهر الوثنية الجاهلية، التي حرص الرسول على تنظيف المدينة من آثارها. ولهذا جعل العودة إلى شيء منها كفرا بما أنزل الله ‍!!.




خلاصة لأحكام الصور والمصورين


ونستطيع أن نجمل أحكام الصور والمصورين في الخلاصة التالية:


-أ- أشد أنواع الصور في الحرمة والإثم صور ما يعبد من دون الله -كالمسيح عند النصارى- فهذه تؤدي بمصورها إلى الكفر إن كان عارفا بذلك قاصدا له.


والمجسم في هذه الصور أشد إثما ونكرا. وكل من روج هذه الصور أو عظمها بوجه من الوجوه داخل في هذا الإثم بقدر مشاركته.


-ب- ويليه في الإثم من صور ما لا يعبد، ولكنه قصد مضاهاة خلق الله. أي ادعى أنه يبدع ويخلق كما يخلق الله، فهو بهذا يكفر. وهذا أمر يتعلق بنية المصور وحده.


-ج-ودون ذلك الصور المجسمة لما لا يعبد، ولكنها مما يعظم كصور الملوك والقادة والزعماء وغيرهم ممن يزعمون تخليدهم بإقامة التماثيل لهم، ونصبها في الميادين ونحوها. ويستوي في ذلك أن يكون التمثال كاملا أو نصفيا.


-د- ودونها الصور المجسمة لكل ذي روح مما لا يقدس ولا يعظم، فإنه متفق على حرمته يستثنى من ذلك ما يمتهن، كلعب الأطفال، ومثلها ما يؤكل من تماثيل الحلوى.


-هـ- وبعدها الصور غير المجسمة -اللوحات الفنية- التي يعظم أصحابها، كصور الحكام والزعماء وغيرهم، وخاصة إذا نصبت وعلقت. وتتأكد الحرمة إذا كان هؤلاء من الظلمة والفسقة والملحدين، فإن تعظيمهم هدم للإسلام.


-و- ودون ذلك أن تكون الصورة غير المجسمة لذي روح لا يعظم، ولكن تعد من مظاهر الترف والتنعم، كأن تستر بها الجدر ونحوها، فهذا من المكروهات فحسب.


-ز- أما صور غير ذي الروح من الشجر والنخيل والبحار والسفن والجبال ونحوها من المناظر الطبيعية، فلا جناح على من صورها أو اقتناها، ما لم تشغل عن طاعة أو تؤد إلى ترف فتكره.


-ح- وأما الصور الشمسية (الفوتوغرافية) فالأصل فيها الإباحة، ما لم يشتمل موضوع الصورة على محرم، كتقديس صاحبها تقديسا دينيا، أو تعظيمه تعظيما دنيويا، وخاصة إذا كان المعظم من أهل الكفر والفساق كالوثنيين والشيوعيين والفنانين المنحرفين.


-ط- وأخيرا … إن التماثيل والصور المحرمة إذا شوهت أو امتهنت، انتقلت من دائرة الحرمة إلى دائرة الحل، كصور البسط التي تدوسها الأقدام والنعال ونحوها.



اقتنـــــاء الكــــــلاب




اقتناء الكلاب لغير حاجة


ومما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه اقتناء الكلاب في البيوت لغير حاجة. وقد رأينا بعض هؤلاء المترفين، ينفقون على الكلاب، ويبخلون على بني الإنسان، ورأينا منهم من لا يكتفي بإنفاق ماله على تدليل كلبه، بل يفرغ عاطفته فيه، على حين يجفو قريبه، وينسى جاره وأخاه.


كما أن في وجود الكلاب ببيت المسلم مظنة لنجاسة الأواني ونحوها مما يلغ فيه الكلب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب".


وقال بعض العلماء في حكمة المنع من اقتناء الكلب: إنه ينبح الضيف، ويروع السائل، ويؤذي المارة.


عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت، إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج".


وهذا المنع إنما هو للكلاب التي تقتنى لغير حاجة ولا منفعة.




كلاب الصيد والحراسة مباحة


أما الكلاب التي تقتنى لحاجة ككلاب الصيد، أو كلاب الحراسة للزرع أو الماشية أو نحوها، فهي مستثناة من هذا الحكم. وفي الحديث المتفق عليه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبا، إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية، انتقص من أجره كل يوم قيراط".


وقد استدل بعض الفقهاء من هذا الحديث على أن المنع من اتخاذ الكلاب إنما هو منع كراهة لا منع تحريم، لأن الحرام يمتنع اتخاذه على كل حال، سواء نقص الأجر أم لا.


والنهي عن اقتناء الكلاب في البيوت ليس معناه القسوة عليها أو الحكم بإعدامها؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها".


وهو عليه السلام يشير بهذا الحديث إلى هذا المعنى الكبير، والحقيقة الجليلة التي نبه عليها القرآن الكريم إذ قال: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) سورة الأنعام:38.


وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه قصة الرجل الذي وجد في الصحراء كلبا يلهث يأكل الثرى من العطش، فذهب إلى البئر ونزع خفه فملأها ماء حتى روي الكلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فشكر الله له، فغفر له".



رأي العلم الحديث في اقتناء الكلاب


هذا، وربما وجدنا في ديارنا أناسا من عشاق الغرب يزعمون لأنفسهم الرقة الحانية والإنسانية العالية، والعطف على كل كائن حي، وينكرون على الإسلام أن يحذر من هذا الحيوان الوديع الأليف الأمين. فإلى هؤلاء نسوق هذا المقال العلمي القيم، الذي كتبه عالم ألماني متخصص في مجلة ألمانية بين فيه بجلاء الأخطار التي تنشأ عن اقتناء الكلاب أو الاقتراب منها:


"إن ازدياد شغف الناس باقتناء الكلاب في السنوات الأخيرة يضطرنا إلى لفت نظر الرأي العام إلى الأخطار التي تنجم عن ذلك، خصوصا أن الحال لم تقتصر على مجرد اقتنائها، بل قد تعدت ذلك إلى مداعبتها وتقبيلها والسماح لها بلحس أيدي الصغار والكبار بل كثيرا ما تترك تلعق فضلات الطعام من الصحون المعدة لحفظ مأكل الإنسان ومشربه.


ومع أن في كل ما ذكر من العادات عيوبا ينبو عنها الذوق السليم ولا ترتضيها الآداب، هذا فضلا عن أنها لا تتفق مع قواعد الصحة والنظافة، إلا أننا نغض النظر عنها من هذه الوجهة لخروجها عن مجرى الحديث في هذا المقال العلمي، تاركين تقديرها للتربية الخلقية وتهذيب النفس.


أما من الوجهة الطبية -وهي التي تهمنا في هذا البحث- الأخطار التي تهدد صحة الإنسان وحياته بسبب اقتناء الكلاب ومداعبتها ليست مما يستهان بها، فإن كثيرا من الناس قد دفع ثمنا غاليا لطيشه، إذ كانت الدودة الشريطية بالكلاب سببا في الأدواء المزمنة المستعصية، بل كثيرا ما أودت بحياة المصابين بأمراضها.


وهذه الدودة هي عبارة عن إحدى الطفيليات الشريطية الشكل، وتسمى دودة الكلب الشريطية، وتظهر في الإنسان على شكل بثرة، وكذلك في المواشي خصوصا في الخنازير، ولكنها لا توجد تامة النمو إلا في الكلاب، وكذلك في بنات آوى والذئاب، ويندر وجودها في القطط. وتختلف عن الديدان الشريطية الأخرى بأنها صغيرة الحجم جدا حتى أنها تكاد لا ترى، ولم يعرف شيء عن حياتها إلا في السنوات الأخيرة.." إلى أن قال:


"ولأطوار نشوء دودة الكلب الشريطية خواص فريدة في علم الحيوان فمن البويضة الواحدة تنشأ رؤوس ديدان شريطية عديدة بالقرحات الناتجة عنها، كما أنه يمكن أن ينتج عن البويضات المتشابهة بثرات مختلفة اختلافا تاما، هذا إلى أن رؤوس الديدان المتولدة من القروح تتحول إلى ديدان شريطية كاملة التكوين بالغة النمو بمصران الكلاب، ولا ينشأ عنها بالإنسان والحيوان سوى بثرات وقروح جديدة تختلف اختلافا كليا عن الدودة الشريطية. ولا تتعدى القرحة في الماشية حجم التفاحة إلا فيما ندر، ومع ذلك يلاحظ أن وزن الكبد يزداد ازدياد بالغا قد يصل من خمسة إلى عشرة أضعاف وزنه العادي، وأما في الإنسان فإنها تصل إلى حجم قبضة اليد أو رأس الطفل الصغير وتمتلئ سائلا أصفر وتزن من 10 إلى 20 رطلا.


وأغلب ما توجد في الإنسان في الكبد، وتظهر فيه بأشكال عديدة متباينة، إلا أنها كثيرا ما تنتقل إلى الرئة والعضلات والطحال والكلى وإلى تجويف الجمجمة، ويتغير شكلها وتكوينها تغيرا كبيرا، حتى إنه كثيرا ما اختلط تمييزها على المختصين إلى عهد قريب.


وعلى كل حال فإن هذه القرحة أينما وجدت خطر أكيد على صحة المصاب بها وحياته، ومما يزيد الطين بلة أن توصلنا إلى معرفة أطوار تاريخ حياتها، وطرق نشأتها وتكوينها، لم يساعدنا حتى الآن على الاهتداء إلى طرق علاجها، إلا أنه في بعض الأحيان قد تموت هذه الطفيليات من تلقاء نفسها، وقد يكون السبب في ذلك هو أن مواد يفرزها الجسم تعمل على إبادة هذه الطفيليات. وقد ثبت أخيرا أن جسم الإنسان يفرز في مثل هذه الأحوال مواد مضادة بفعل هذه الطفيليات لإبادتها وإبطال عمل سمومها. ولكن مما يدعو للأسف الشديد أن الحالات التي تموت فيها هذه الطفيليات دون أن تترك أثرا أو تحدث أضرارا نادرة بالنسبة للحالات الأخرى، وهذا فضلا عن أن محاربتها بالطرق الكيميائية لم تأت بأية فائدة، وطالما لا يلتجئ المصاب إلى أسلحة الجراحين لا ينقذه من الوبال أي طريق من طرق العلاج الأخرى.


وهذه الأسباب مجتمعة تضطرنا لاتخاذ جميع الوسائل المستطاعة لمكافحة هذا المرض العضال ووقاية الإنسان من أخطاره الفجائية.


وقد ثبت للأستاذ الدكتور (نوللر) من تشريح الجثث بألمانيا أن الإصابات الآدمية بقروح دودة الكلب لاتقل عن (1) في المائة بكثير، وأما أكثر البلدان الأجنبية تلوثا بهذه الدودة فهي المناطق الشمالية بالأراضي الواطئة ودالماسيا وبلاد القرم وأسلندة وجنوب شرق أستراليا وفي إقليم فريزلذ بهولندة حيث تستخدم الكلاب في الجر ظهرت الإصابة بالدودة الشريطية فيما لا يقل عن (12) في المائة من الكلاب كما وجد في إسلندة أن بين كل (43) في المائة من الأهالي شخصا مصابا بقروحها، فإذا ما أضفنا الخسارة التي تصيب غذاء الإنسان بوجود هذه الدودة الشريطية، فإنه ما من أحد يتردد في أن إبادتها من ألزم الواجبات، وقاية للصحة العامة، وحرصا على غذاء الشعب، خصوصا أن النواحي التي سلمت حتى الآن مهددة من حين لآخر بأن يسري إليها الوباء.


وقد يكون من أنجع الطرق في مكافحتها هو أن نجتهد في حصر هذه الدودة في الكلاب وحبسها عن الانتشار، وذلك لعدم استطاعتنا في الواقع منع اقتناء الكلاب بتاتاً.


ولا ينبغي إغفال معالجة الكلاب التي يثبت إصابتها المعالجة اللازمة في مثل هذه الأحوال بطرد الدودة الكامنة بمصرانها، ويستحسن تكرار هذه العملية من حين لآخر لكلاب الرعاة وكلاب الحراسة.


ويمكن للإنسان وقاية لصحته وحرصا على حياته أن يراعي بدقة زائدة الابتعاد الكلي عن مداعبة الكلاب، فلا يسمح لها بالاقتراب منه؛ كما ينبغي تربية الأطفال على الاحتراس من الاختلاط بالكلاب، فلا تترك تلعق أيديهم، ولا يسمح لها بالإقامة بأماكن نزهة الأطفال ولهوهم؛ فإنه مما يدعو للأسف الشديد أن نرى عددا كبيرا من الكلاب خصوصا في ميادين رياضة الأطفال. هذا إلى برازها المبعثر في كل أركانها؛ كما ينبغي إعداد أوان خاصة لإطعام الكلاب، فلا تترك تلعق في الصحون التي يستعملها الإنسان، ولا يسمح لها بدخول متاجر المأكولات والأسواق العمومية أو المطاعم.. إلى آخره، وعلى العموم يجب أخذ الحيطة التامة بإبعادها عن كل ما له مساس بمأكل الإنسان أو مشربه إهـ".

وبعد: فقد رأيت كيف نهى محمد صلى الله عليه وسلم عن مخالطة الكلاب، وحذر من ولوغها في أواني الطعام والشراب، وحذر من اقتنائها لغير ضرورة؟ كيف اتفقت تعاليم محمد العربي الأمي وأحدث ما وصل إليه العلم المعاصر والطب الحديث؟.. إننا لا يسعنا إلا أن نقول ما قاله القرآن: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم: 3و4
 
فـــي الكســــــب والإحتــــــراف

(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) سورة الملك:15.
هذا هو مبدأ الإسلام؛ الأرض قد هيأها الله وسخرها ذلولا للإنسان، فينبغي أن ينتفع بهذه النعمة ويسعى في جوانبها مبتغيا من فضل الله.
التجــــــارة




الاكتساب عن طريق التجارة


دعا الإسلام في نصوص قرآنه، وفي سنة رسوله دعوة قوية إلى التجارة، والعناية بها، وأغرى بالرحلة والسفر من أجلها، وسماه (ابتغاء من فضل الله)، وقرن الله تعالى ذكر الضاربين في الأرض للتجارة بالمجاهدين في سبيل الله قال: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله) سورة المزمل:20.


وفي القرآن يمتن الله تعالى على الناس بتهيئته لهم سبل التجارة الداخلية والخارجية بالمواصلات البحرية التي لا تزال أعظم وسائل النقل للتجارة العالمية، فيقول تعالى ممتنا بتسخير البحر وإجراء السفن التجارية فيه: (وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) سورة فاطر:12. ويقرن ذلك أحيانا بإرسال الرياح: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) سورة الروم:46. ويكرر القرآن ذلك تذكيرا بالنعمة، وتنبيها على الانتفاع بها، حتى إن القرآن ليجعل من آيات الله الدالة على وجوده وقدرته وحكمته الفلك: (التي تجري في البحر بما ينفع الناس) سورة البقرة:164. (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) سورة الشورى:32.


وقد امتن الله على أهل مكة بما هيأ لهم من أسباب جعلت بلدهم مركزا تجاريا ممتازا في جزيرة العرب: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه) سورة القصص:57. وبهذا تحققت دعوة إبراهيم: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) سورة إبراهيم:37.


وامتن الله على قريش إذ يسر لهم رحلتين تجاريتين في كل عام؛ رحلة إلى اليمن في الشتاء، ورحلة إلى الشام في الصيف، يسيرون فيهما آمنين بفضل سدانتهم للبيت (الكعبة) فليشكروا هذه النعمة بعبادة الله وحده، رب البيت وصاحب الفضل عليهم: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) سورة قريش.


وقد هيأ الإسلام للمسلمين فرصة التبادل التجاري فيما بين أقطارهم وشعوبهم على نطاق عالمي واسع في كل عام، وذلك في الموسم السنوي الإسلامي العالمي؛ موسم الحج إلى بيت الله الحرام، حين يأتون: (رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله) سورة الحج:27-28.


ومن هذه المنافع -ولا شك- التجارة، وقد روى البخاري أن المسلمين كانوا يتحرجون من التجارة في موسم الحج يخشون أن يكون في هذا ما يشوب إخلاص نيتهم، أو يكدر صفاء عبادتهم، فنزل القرآن يقول في صراحة وجلاء: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) سورة البقرة:198.


وقد امتدح القرآن رواد المساجد المسبحين لله بالغدو والآصال بأنهم (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) سورة النور:37. فالمؤمنون في نظر القرآن ليسوا أحلاس مساجد، ولا دراويش تكايا، ولا رهبان أديرة، إنما هم رجال أعمال، وميزتهم أن أعمالهم الدنيوية لا تشغلهم عن واجباتهم الدينية.


هذا بعض ما جاء في القرآن عن التجارة.


أما في السنة، فقد حث نبي الإسلام على التجارة، وعني بأمرها، وإرساء قواعدها بقوله وفعله وتقريره.


ففي أقواله الحكيمة نسمع هذه الأحاديث:


"التاجر الأمين الصدوق مع الشهداء يوم القيامة".


"التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء".


ولا نعجب إذا جعل النبي التاجر الصدوق بمنزلة المجاهد، والشهيد في سبيل الله؛ فقد أثبتت لنا تجارب الحياة، أن الجهاد ليس في ميدان القتال وحده، بل في ميدان الاقتصاد أيضا.


وإنما وعد التجار بهذه المنزلة الرفيعة عند الله، وهذه المثوبة الجزيلة في الآخرة؛ لأن التجارة في الغالب تغري بالطمع، واكتساب الربح من أي طريق، والمال يلد المال، والربح يغري بربح أكثر. فمن وقف عند حدود الصدق والأمانة، فهو مجاهد انتصر في معركة الهوى، وحق له منزلة المجاهدين.


كما أن من شأن التجارة أن تغرق أهلها في دوامة من الأرقام، وحساب رأس المال والأرباح، حتى إننا نجد في عهد الرسول قافلة تحضر بتجارة والنبي يخطب، فما إن سمع القوم بها حتى شغلوا عنه وانصرفوا إليها، فنزل قوله تعالى يعاتبهم: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين) سورة الجمعة:11.


فمن استطاع أن يبقى في هذه الدوامة قوي اليقين، عامر القلب بخشية الله، رطب اللسان بذكر الله، كان جديرا أن يكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء.


ويكفينا من فعله عليه السلام في شأن التجارة أنه كما عني بالجانب الروحي فأقام مسجده بالمدينة على تقوى من الله ورضوان، ليكون جامعا للعبادة، وجامعة للعلم، ودارا للدعوة، ومركزا للدولة … عني بالجانب الاقتصادي فأقام سوقا إسلامية صرفا، لا سلطان لليهود عليها، كما كانت سوق بني قينقاع من قبل. وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أوضاعها، وظل يرعاها بتعاليمه وتوجيهاته، فلا غش، ولا تطفيف، ولا احتكار، ولا تناجش. إلى غير ذلك مما سنذكره عند حديثنا عن (المعاملات) في فصل (الحلال والحرام في الحياة العامة للمسلم).


وفي سير أصحاب رسول الله نجد منهم التجار البارعين كما نجد الصناع والزراع وسائر أهل الحرف والأعمال.


فهذا رسول الله بين أظهرهم تتنزل عليه آيات الله، ويناجيهم بكلمة السماء، ويغدو عليه الروح الأمين ويروح بوحي الله؛ وكلهم حب لهذا النبي وإخلاص وتجرد، يتمنى كل امرئ منهم ألا يفارقه طرفة عين. ومع هذا نجد أصحابه كل في عمله؛ هذا يضرب في الأرض لتجارة. وهذا يعمل في نخيله وزرعه. وذاك يسعى في حرفته وصنعته. ومن فاته من تعليم الرسول شيء سأل عنه إخوانه ما استطاع. وقد أمروا أن يبلغ الشاهد الغائب.


فالأنصار في الغالب كانوا أهل زرع ونخيل، والمهاجرون في الغالب كانوا أهل تجارة وصفق في الأسواق.


وهذا عبد الرحمن بن عوف المهاجر يعرض عليه أخوه في الله سعد بن الربيع الأنصاري أن يشاطره ماله وداريه، ويختار إحدى زوجتيه فيطلقها له فيلقى هذا الإيثار النبيل بعفاف نبيل آخر. ويقول لسعد: بارك الله لك في مالك وأهلك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال سعد: نعم سوق بني قينقاع. فغدا إليه عبد الرحمن بإقط -جبن- وسمن وباع واشترى. ثم تابع الغدو إلى السوق حتى صار من أكبر أثرياء المسلمين، ومات عن ثروة ضخمة.


وهذا أبو بكر الصديق ظل يتاجر ويسعى، حتى يوم بايعه المسلمون خليفة، كان يريد أن يذهب إلى السوق.


وهذا عمر قال عن نفسه: ألهاني الصفق بالأسواق عن سماع حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عثمان… وهؤلاء كثيرون.





موقف الكنيسة من التجارة


وهكذا سار المجتمع الإسلامي مقبلا على دنياه في ظل دينه، يتاجر ويبيع، ولكن لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله. على حين كانت الجماهير في القرون الوسطى بمعظم الممالك والدول الأوروبية المسيحية يترددون في مقابلة غامضة بين فكرة التخليص أو الخلاص، أي: خلاص النفس من الخطيئة التي تنغمس فيها إن هي عارضت آراء (الأكليروس) ونشطت إلى الحرف والتجارة هذا من ناحية، وبين المجازفة بالتردي في اللعنة التي تحل بالناس إذا هم جرؤوا على مجابهة تعاليم الآباء من رجال الدين، واشتغلوا بالحرف والصناعات، وبالتجارة. ولم تكن الخطيئة مجرد سيئة لا يجزى مقترفها إلا بقدر ما اقترف من ذنب، ولكنها كانت -كما قيل آنئذ للناس- خطيئة أبدية ولعنة مقيمة، في الأرض وفي السماء، في الحياة الأولى وفي الحياة الآخرة.


ويقول القديس أوغسطين: "إن ممارسة الأعمال Business هي في حقيقتها خطيئة، لأنها تصرف النفس عن الحق، وهو الله".


ويقول آخر: إن الشخص الذي يشتري شيئا ليعود فيبيعه على حالته، وبغير تعديل يجريه عليه، فإن هذا الشخص الأخير يدخل في زمرة المشترين والبائعين المبعدين عن حظيرة المعبد وقدسيته.


وهذه الأقوال لا تخرج عن كونها امتدادا منطقيا لتعاليم القديس بولس الذي قرر بأنه: "من حيث إن المسيحي لا ينبغي له أن ينازع أخاه المسيحي نزاعا قضائيا، فإنه يتعين ألا تكون بين المسيحين تجارة ناشطة"




التجارة المحرمة


أما الإسلام فلم يحرم من التجارة إلا ما كان مشتملا على ظلم أو غش أو استغلال أو ترويج لشيء ينهي عنه الإسلام.


فالتجارة بالخمور أو المخدرات أو الخنازير أو الأصنام أو التماثيل، أو نحو ذلك مما يحرم الإسلام تناوله أو تداوله أو الانتفاع به تجارة محرمة لا يرضى عنها الإسلام، وكل كسب يجيء من طريقها إنما هو سحت خبيث. وكل لحم نبت من هذا السحت فالنار أولى له. ولا يشفع لمن يتاجر بهذه المحرمات أن يكون صدوقا أو أمينا، فإن أساس تجارته نفسه منكر يحاربه الإسلام ولا يقره بحال.


ومن كانت تجارته في الذهب أو الحرير فلا حرج عليه، إذ هما حلال للإناث؛ إلا أن يتاجر في شيء لا يستعمل إلا للرجال.


فإذا كانت التجارة في شيء مباح فقد بقي على التاجر أمور يجب أن يحذرها، حتى لا يبعث يوم القيامة في زمرة الفجار وإن الفجار لفي جحيم.


خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون فقال: "يا معشر التجار.." فاستجابوا لرسول الله ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه. فقال: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق".


وعن واثلة بن الأسقع قال: كان رسول الله يخرج إلينا -وكنا تجارا- وكان يقول: "يا معشر التجار إياكم والكذب".


فليحذر التاجر الكذب، فإنه آفة التجار. والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار. وليحذر كثرة الحلف بعامة، واليمين الكاذبة بخاصة، فإن النبيصلى الله عليه وسلم ذكر: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ أحدهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب".


وعن أبي سعيد قال: مر أعرابي بشاة فقلت: تبيعها بثلاثة دراهم؟ فقال: لا والله. ثم باعها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "باع آخرته بدنياه".


وليحذر الغش فإن الغاش خارج عن أمة الإسلام.


وليحذر من التطفيف في الكيل أو الوزن (ويل للمطففين).


وليحذر من الاحتكار حتى لا يبرأ الله ورسوله منه.


وليحذر من الربا فإن الله يمحقه، وفي الحديث: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زينة".
 
مـــقــــدمــــــــة





قعود القادر عن العمل حرام


ولا يحل للمسلم أن يكسل عن طلب رزقه، باسم التفرغ للعبادة، أو التوكل على الله، فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.


كما لا يحل له أن يعتمد على صدقة يمنحها، وهو يملك من أسباب القوة ما يسعى به على نفسه، ويغني به أهله ومن يعول. وفي ذلك يقول نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة (أي قوة) سوي".


ومن أشد ما قاومه النبي عليه الصلاة والسلام، وحرمه على المسلم، أن يلجأ إلى سؤال الناس، فيريق ماء وجهه، ويخدش مروءته وكرامته من غير ضرورة تلجئه إلى السؤال. قال عليه السلام: "الذي يسأل من غير حاجة كمثل الذي يلتقط الجمر". وقال: "من سأل الناس ليثري به مال كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقلل، ومن شاء فليكثر". والرضف هو: الحجارة المحماة.


وقال: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليست في وجهه مزعة لحم". بمثل هذه القوارع الشديدة صان النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم كرامته، وعوده التعفف، والاعتماد على النفس، والبعد عن تكفف الناس.



متى تباح المسألة


ولكن الرسول صلوات الله عليه يقدر للضرورة والحاجة قدرها، فمن اضطر تحت ضغط الحاجة إلى السؤال وطلب المعونة من الحكومة أو الأفراد فلا جناح عليه قال: "إنما المسائل كدوح يكدح الرجل بها وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدا".


روى مسلم في (صحيحه) عن أبي بشر قبيصة بن المخارق رضي الله عنه قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة؛ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش. ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة! فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش… فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا".


الحمالة: ما يتحمله المصلح بين فئتين في ماله ليرتفع بينهم القتال ونحوه.


الجائحة: الآفة تصيب الإنسان في ماله.


القوام: ما يقوم به حال الإنسان من مال غيره.


الحجا: العقل والرأي.



الكرامة في العمل


وينفي النبي صلى الله عليه وسلم فكرة احتقار بعض الناس لبعض المهن والأعمال، ويعلم أصحابه أن الكرامة كل الكرامة في العمل أي عمل، وأن الهوان والضعة في الاعتماد على معونة الناس يقول: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها. فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه".


فللمسلم أن يكتسب عن طريق الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو في أي حرفة من الحرف أو وظيفة من الوظائف، ما دامت لا تقوم على حرام، أو تعين على حرام، أو تقترن بحرام.



الاشتغـــــال بالوظائـــــف





مقدمة


وللمسلم أن يكسب رزقه عن طريق الوظيفة، سواء أكان تابعا للحكومة أم لهيئة أم لشخص، ما دام قادرا على تحمل تبعات عمله، وأداء واجباته. ولا يجوز لمسلم أن يرشح نفسه لعمل ليس أهلا له، وخاصة إذا كان من مناصب الحكم، أو القضاء.


فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأمراء. ويل للعرفاء (الرؤساء) ويل للأمناء (الحفظة على الأموال) ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا، يدلون بين السماء والأرض، وأنهم لم يلوا عملا".


وعن أبي ذر: قلت: يا رسول الله. ألا تستعملني؟ (أي في منصب) قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها".


وقال عليه السلام: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار".


والأولى بالمسلم ألا يحرص على تلك المناصب الكبيرة، ويسعى وراءها ولو كان لها كفءا فإن من اتخذ المنصب ربا اتخذه المنصب عبدا، ومن وجه كل همه إلى مظاهر الأرض حرم توفيق السماء.


وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن. لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها".


وعن أنس أنه عليه السلام قال: "من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده".


وهذا ما لم يعلم من نفسه أنه لا يسد الفراغ غيره، وإذا لم يقدم نفسه تعطلت المصالح، واضطرب حبل الأمور. وقد قص علينا القرآن قصة يوسف الصديق وفيها أنه قال للملك: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) سورة يوسف:55.


هذا هو أدب الإسلام في طلب الوظائف السياسية ونحوها.




الوظائف المحرمة


وما قلناه من إباحة الاشتغال بالوظيفة إنما مقيد بألا يكون في وظيفته ضرر للمسلمين، فلا يحل لمسلم أن يعمل ضابطا أو جنديا في جيش يحارب المسلمين، ولا يحل له أن يعمل في مؤسسة أو مصنع ينتج أسلحة لحرب المسلمين، ولا يجوز له أن يشتغل موظفا في هيئة تناوئ الإسلام وتحارب أهله.


وكذلك من اشتغل بوظيفة من شأنها الإعانة على ظلم أو حرام فهي حرام كمن يشتغل في عمل ربوي أو في محل للخمر، أو مرقص، أو في ملهى أو نحو ذلك. ولا يعفى هؤلاء جميعا من الإثم أنهم لا يباشرون الحرام ولا يقترفونه، فقد قدمنا أن من مبادئ الإسلام أن الإعانة على الإثم إثم، ومن أجل ذلك لعن النبيصلى الله عليه وسلم كاتب الربا وشاهديه كما لعن آكله، ولعن عصر الخمر وساقيها كما لعن شاربها.


وكل هذا ما لم تكن هناك ضرورة قاهرة تلجئ المسلم إلى طلب قوته من مثل هذه الأعمال، فإن وجدت فإنها تقدر بقدرها مع كراهيته للعمل، ودوام بحثه عن غيره حتى ييسر الله له كسبا حلالا بعيدا عن أوزار الحرام.


والمسلم ينأى بنفسه دائما عن مواطن الشبهات التي يرق فيها الدين ويضعف فيها اليقين، مهما كان فيها من كسب ثمين، ومال وفير.


قال عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".


وقال: "لا يبلغ عبد درجة المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس".

 
الزراعــــــة


الاكتساب عن طريق الزراعة


في القرآن الكريم يذكر الله تعالى -في معرض التفضل والامتنان على الإنسان- الأصول التي لا بد منها لقيام الزراعة.


فالأرض هيأها الله للإنبات والإنتاج، فجعلها ذلولا، وجعلها بساطا، وهي لذلك نعمة للخلق يجب أن يذكروها ويشكروها (والله جعل لكم الأرض بساطا. لتسلكوا منها سبلا فجاجا) سورة نوح:19،20 (والأرض وضعها للأنام. فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام. والحب ذو العصف والريحان. فبأي آلاء ربكما تكذبان) سورة الرحمن:10-13.


والماء يسره الله تعالى، ينزله مطرا أو يجريه أنهارا، فيحيي به الأرض بعد موتها: (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا) سورة الأنعام:99. (فلينظر الإنسان إلى طعامه. أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقضبا) سورة عبس:24-28.


والرياح يرسلها الله مبشرات، فتسوق السحاب، وتلقح النبات؛ وفي ذلك كله يقول الله تعالى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم. وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) سورة الحجر:19-22. وفي كل هذه الآيات تنبيه إلهي للإنسان إلى نعمة الزراعة وتيسير وسائلها له.


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير ولا إنسان إلا كان له به صدقة".


وقال: "ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة".


ومقتضى الحديث أن الثواب مستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولا منه، أو منتفعا به ولو مات غارسه أو زارعه.. ولو انتقل ملكه إلى ملك غيره. قال العلماء: في سعة كرم الله أن يثيب على ما بعد الحياة، كما كان يثيب على ذلك في الحياة، في ستة؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو غرس، أو زرع، أو رباط (وهو الإقامة على الثغور والحدود لحراستها من الأعداء).


وقد روي أن رجلا مر بأبي الدرداء رضي الله عنه وهو يغرس جوزة فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، وهذه لا تثمر إلا في كذا وكذا عاما..؟ فقال أبو الدرداء: ما علي أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري؟ وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأذني هاتين: "من نصب شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر، فإن له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل". واستدل بعض العلماء بهذه الأحاديث وأمثالها على أن الزراعة أفضل المكاسب، وقال آخرون: بل الصناعة وعمل اليد أفضل، وقال غيرهم: بل التجارة.


وقال بعض المحققين: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال، فحيث احتيج إلى الأقوات أكثر تكون الزراعة أفضل، للتوسعة على الناس. وحيث احتيج إلى المتجر لانقطاع الطرق مثلا تكون التجارة أفضل، وحيث احتيج إلى الصنائع تكون أفضل".


وهذا التفصيل الأخير يوافق أفضل ما انتهى إليه الاقتصاد الحديث.




الزراعة المحرمة

كل نبات حرم الإسلام تناوله. أو لا يعرف له استعمال إلا في الضرر، فزراعته حرام كالحشيش ونحوه.


ومثل ذلك التبغ (الدخان)، إن قلنا تناوله حرام -كما هو الراجح- فزراعته حرام، وإن قلنا مكروه فمكروه.


وليس عذرا للمسلم أن يزرع الشيء المحرم ليبيعه لغير المسلمين، فإن المسلم لا يروج الحرام أبدا، كما لا يحل له أن يربي الخنازير مثلا ليبيعها للنصارى. وقد رأينا كيف حرم الإسلام بيع العنب الحلال لمن يعلم أنه يتخذه خمراً.







الصناعـــــات والحـــــرف

مقدمة

رغب الإسلام في الزراعة ونوه بفضلها، وأشاد بمثوبة أهلها… ولكنه كره لأمته أن تحصر نشاطها وجهدها في الزراعة، كما تنحصر قوقعة البحر في صدفتها، وأبى الإسلام على أبنائه أن يكتفوا بالزرع وحده ويتبعوا أذناب البقر وكفى، فهذا نقص في كفاية الأمة يعرضها للخطر. ولا غرو أن أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك مصدر شر وبلاء وذل يحيق بالأمة وهو ما صدقه الزمن أعظم تصديق. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة -صورة من صور التحايل على أكل الربا- وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".


إذن، فلا بد مع الزراعة من الصناعات والحرف الأخرى، التي تكتمل بها عناصر الحياة الطيبة، ومقومات الأمة العزيزة الحرة، والدولة القوية الغنية. وهذه الحرف والصناعات ليست عملا مباحا في شريعة الإسلام فحسب، بل هي -كما قرر أئمته وعلماؤه- فرض كفاية في دين المسلمين. بمعنى أن الجماعة الإسلامية لا بد أن يتوافر في أهلها من كل ذي علم وحرفة وصناعة من يكفي حاجتها، ويقوم بشأنها. فإذا حدث نقص في جانب من جوانب العلم أو الصناعة، لم يوجد من يقوم به، أثمت الجماعة كلها، وبخاصة أولو الأمر، وأهل الحل والعقد فيها.


قال الإمام الغزالي: "أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فأنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث، وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى، وسقط الفرض عن الآخرين؛ فلا تعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة (النسيج) والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا البلد من الحجام لسارع الهلاك إليهم بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء، أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله".


وقد أشار القرآن إلى كثير من الصناعات ذكرها على أنها نعمة من فضله، كقوله عن داود: (وألنا له الحديد. أن اعمل سابغات وقدر في السرد) سبأ:10-11. (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) الأنبياء:80.


وقوله عن سليمان: (وأسلنا له عين القطر، ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا) سبأ:12-13.


وقوله عن ذي القرنين وإقامة سده العالي: (قال: ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما، آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال: انفخوا حتى إذا جعله نارا قال: آتوني أفرغ عليه قطرا. فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) سورة الكهف:95-97.


وذكر قصة نوح وصنعه للسفينة، وأشار إلى نوع ضخم من السفن يجري في البحار كالجبال (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) الشورى:32 -أي الجبال-.


وذكر في كثير من سوره صناعة الصيد بكل صوره وأنواعه، من صيد الأسماك وحيوان البحر، وصيد الحيوانات البرية، وصناعة الغوص لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ونحوهما.


وفوق ذلك كله نبه القرآن على قيمة الحديد تنبيها لم يسبقه به كتاب دين أو دنيا، فبعد أن ذكر تعالى إرساله الرسل لخلقه وإنزاله الكتب عليهم قال: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) سورة الحديد:25. ولا عجب أن سميت السورة التي فيها هذه الآية سورة (الحديد).


وكل صناعة أو حرفة تسد حاجة في المجتمع أو تجلب له نفعا حقيقيا فهي عمل صالح إذا نصح فيها صاحبها وأتقنها كما أمره الإسلام.


وقد مجد الإسلام حرفا كان الناس ينظرون إليها نظرة فيها كثير من التحقير والازدراء، فعمل كرعي الغنم لا يعبأ الناس بصاحبه في العادة، ولا ينظرون إليه نظرة إجلال أو تكريم، ولكنه عليه السلام يقول: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم" قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" محمد رسول الله وخاتم النبيين كان يرعى الغنم، وأكثر من ذلك أنها لم تكن غنمه، بل يرعاها بأجر معين لبعض أهل مكة، ويذكر هذا لأتباعه ليعلمهم أن الفخر للعاملين لا للمترفين والعاطلين.


وقد قص القرآن علينا قصة سيدنا موسى وهو يعمل أجيرا عند شيخ كبير استأجره ثماني سنين على أن يزوجه إحدى ابنتيه وكان عنده نعم العامل، ونعم العامل، ونعم الأجير، وصدقت فيه فراسة ابنة الشيخ حين (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) سورة القصص: 26. وقد روى ابن عباس أن داود "كان زرادا، (يصنع الزرد والدروع) وكان آدم حراثا، وكان نوح نجارا، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعيا".


فليهنأ المسلم بحرفته، فما من نبي إلا عمل في حرفة. وفي (الصحيح): "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".



صناعات وحرف يحاربها الإسلام

غير أن هناك صناعات وحرفا يحرم الإسلام على أبنائه الاشتغال بها لما فيها من إضرار بالمجتمع في عقيدته أو في أخلاقه أو أعراضه أو مقوماته الأدبية.



البغاء

فالبغاء مثلا حرفة تبيحها أكثر بلاد الغرب، وتعطى بها إذنا وترخيصا، يجعل صاحبته ضمن أصحاب الحرف، ويعطيها حقوقهم، على حين يرفض الإسلام ذلك كل الرفض، ولا يجيز لحرة ولا لأمة أن تتكسب بفرجها.


وقد كان بعض أهل الجاهلية يفرضون ضريبة يومية على الأمة، عليها أن تؤديها لسيدها، بأي طريق اكتسبتها، وكانت كثيرا ما تلجأ إلى احتراف الزنا لتدفع ما ضرب عليها. وكان بعضهم يكرهن على ذلك إكراها، طلبا لعرض دنيوي تافه، وكسب قذر رخيص. فلما جاء الإسلام ارتفع بأبنائه وبناته عن الهوان، ونزل قول الله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) سورة النور:33.


وروى ابن عباس أن عبد الله بن أبي -رأس المنافقين- جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جارية من أجمل النساء تسمى (معاذة) فقال: يا رسول الله هذه لأيتام فلان؛ أفلا تأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها؟ فقال عليه السلام: "لا".


وبذلك منع النبي هذا الاحتراف الدنس، أيا كان الدافع إليه، وأهدر كل ما يمكن أن يقال من الحاجة أو الضرورة أو نبل الغاية، ليبقى المجتمع الإسلامي طاهرا من هذه الخبائث الموبقات.



الرقص والفنون الجنسية

وكذلك لا يقبل الإسلام احتراف الرقص الجنسي المثير، ولا أي عمل من الأعمال التي تثير الغريزة كالغناء الخليع، والتمثيل الماجن، وكل عبث من هذا النوع، وإن سماه بعض الناس "فنا" وعده قوم "تقدما" إلى غير ذلك من العبارات المضللة.


إن الإسلام حرم كل علاقة جنسية تقوم على غير الزواج، وحرم كل قول أو عمل يفتح نافذة إلى علاقة محرمة. وهذا سر نهي القرآن عن الزنا بهذا التعبير المعجز: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) سورة الإسراء:32. فلم يكتف بالنهي عن الزنا، بل نهى عن القرب منه.


وكل ما ذكرناه، وما يعرفه الناس من مثيرات، إنما هو قرب من هذه الفاحشة، بل إغراء بها، وتحريض عليها. ألا ساء ما يفعلون.



صناعة التماثيل والصلبان ونحوها

وإذا كان الإسلام -كما ذكرنا- يحرم اتخاذ التماثيل، فإنه يحرم صناعتها أكثر من اتخاذها.


وقد روى البخاري عن سعيد بن أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس، إني رجل إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. سمعته يقول: "من صور صورة فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدا". فربا الرجل ربوة شديدة -يعني انتفخ من الغيظ والضيق- فقال ابن عباس: "ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، وكل شيء ليس فيه روح".


ومثل ذلك صناعة الأصنام أو الصلبان أو ما ماثلها.


أما تصوير اللوحات والتصوير الفوتوغرافي فقد قدمنا أن الأقرب إلى روح الشريعة فيهما هو الإباحة -أو على الأكثر الكراهة- وهذا ما لم يشتمل موضوع الصورة نفسها على محرم في الإسلام كإبراز مواضع الفتنة من الأنثى وتصوير رجل يقبل امرأة ونحوها. ومثل ذلك الصور التي تعظم وتقدس كصور الملائكة والأنبياء ونحوها.



صناعة المسكرات والمخدرات

وقد علمنا مما تقدم أن الإسلام يحرم كل مشاركة في ترويج الخمر، صناعة أو توزيعا، أو تناولا. وكل من فعل ذلك فهو ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.


والمخدرات من حشيش وأفيون وغيرهما مثل المسكرات في حرمة تداولها وتوزيعها وصنعها. وكذلك يأبى الإسلام على المسلم أن يشتغل بأي صناعة أو حرفة تقوم على عمل شيء حرام أو ترويج أمر حرام.
 
فــي مجـــــال الغريـــــزة



موقف الإنسان أمام الغريزة الجنسية
  1. فإما أن يطلق لها العنان تسبح أين شاءت وكيف شاءت، بلا حدود توقفها، ولا روادع تردعها، من دين أو خلق أو عرف. كما هو الشأن في المذاهب الإباحية التي لا تؤمن بالدين، ولا بالفضيلة. وفي هذا الموقف انحطاط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان. وإفساد للفرد والأسرة، وللجماعة كلها.
  2. وإما أن يصادمها ويكبتها. كما هو الشأن في مذاهب التقشف والحرمان والتشاؤم كالمانوية والرهبانية ونحوهما. وفي هذا الموقف وأد للغريزة، وتعطيل لعملها، ومنافاة لحكمة من ركبها في الإنسان وفطره عليها، ومصادمة لسنة الحياة التي تستخدم هذه الغرائز لتستمر في سيرها.
  3. وإما أن يضع لها حدودا تنطلق في داخلها، وضمن إطارها، دون كبت مرذول، ولا انطلاق مجنون. كما هو الشأن في الأديان السماوية، التي حرمت السفاح، وشرعت النكاح -الزواج- وخصوصا الإسلام الذي اعترف بالغريزة، فيسر سبيلها من الحلال، ونهى عن التبتل واعتزال النساء، كما حرم الزنى وملحقاته ومقدماته أشد التحريم.
وهذا الموقف هو العدل والوسط.. فلولا شرع الزواج ما أدت الغريزة دورها في استمرار بقاء الإنسان.. ولولا تحريم السفاح وإيجاب اختصاص الرجل بامرأة ما نشأت الأسرة التي تتكون في ظلالها العواطف الاجتماعية الراقية من مودة ورحمة وحنان وحب وإيثار، ولولا الأسرة ما نشأ المجتمع ولا أخذ طريقه إلى الرقي والكمال.

ولا تقربوا الزنى
ولا عجب إذا رأينا الأديان السماوية كلها مجمعة على تحريم الزنى ومحاربته. وآخرها الإسلام الذي شدد النهي عنه والتحذير منه لما يؤدي إليه من اختلاط الأنساب، والجناية على النسل، وانحلال الأسر، وتفكك الروابط، وانتشار الأمراض (السارية) وطغيان الشهوات وانهيار الأخلاق، وصدق الله (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) سورة الإسراء:32. والإسلام -كما عرفنا- إذا حرم شيئا سد الطرق الموصلة إليه، وحرم كل ما يفضي إليه من وسائل ومقدمات.
فما كان من شأنه أن يستثير الغرائز الهاجعة، ويفتح منافذ الفتنة على الرجل أو المرأة، ويغري بالفاحشة أو يقرب منها أو ييسر سبيلها فإن الإسلام ينهي عنه ويحرمه سدا للذريعة ودرءا للمفسدة.

الخلوة بالأجنبية حرام
ومن هذه الوسائل التي حرمها الإسلام: خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه. وهي التي لا تكون زوجة له ولا إحدى قريباته التي يحرم عليه زواجها حرمة مؤبدة، كالأم والأخت والعمة والخالة -كما سنذكر بعد-.
وليس هذا فقدانا للثقة بهما أو بأحدهما، ولكنه تحصين لهما من وساوس السوء، وهواجس الشر، التي من شأنها أن تحوك في صدريهما، عند التقاء فحولة الرجل بأنوثة المرأة، ولا ثالث بينهما. وفي هذا قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان".
وفي تفسير قوله تعالى في شأن نساء النبي: (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) سورة الأحزاب:53. يقول الإمام القرطبي: "يريد: من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي أن ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة أقوى في الحماية. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته".
ويحذر الرسول هنا تحذير خاصا من خلوة المرأة بأحمائها (أقارب زوجها) كأخيه وابن عمه؛ لما يحدث عادة من تساهل في ذلك بين الأقارب، قد يجر أحيانا إلى عواقب وخيمة، لأن الخلوة بالقريب أشد خطرا من غيره، والفتنة به أمتن، لتمكنه من الدخول إلى المرأة من غير نكير عليه، بخلاف الأجنبي.
ومثل ذلك أقارب الزوجة من غير محارمها كابن عمها وابن خالها وابن خالتها، فلا يجوز لأحد منهم الخلوة بها.
قال عليه الصلاة والسلام: "إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو ؟ قال: الحمو الموت". وحمو المرأة: أقارب زوجها.
يعني أن في هذه الخلوة الخطر والهلاك؛ هلاك الدين إذا وقعت المعصية، وهلاك المرأة بفراق زوجها إذا حملته الغيرة على تطليقها، وهلاك الروابط الاجتماعية إذا ساء ظن الأقارب بعضهم ببعض.
وليس مثار هذا الخطر هو الغريزة البشرية، وما تجلبه من خواطر وانفعالات فحسب، بل يضاف لذلك الخوف على كيان الأسرة ومعيشة الزوجين وأسرارهما أن تتطاول إليها ألسنة الثرثارين والفضوليين أو هواة تخريب البيوت. وفي ذلك يقول ابن الأثير: (الحمو الموت) هذه كلمة تقولها العرب، كما تقول (الأسد الموت) و (السلطان النار) أي لقاؤهما مثل الموت والنار، يعني أن خلوة الحمو معها أشد من خلوة غيره من الغرباء، لأنه ربما حسن لها أشياء، وحملها على أمور تثقل على الزوج، من التماس ما ليس في وسعه، أو سوء عشرة، أو غير ذلك. ولأن الزوج لا يؤثر أن يطلع الحمو على باطن حاله، بدخول بيته.

النظر إلى الجنس الآخر بشهوة
ومما حرمه الإسلام -في مجال الغريزة الجنسية- إطالة النظر من الرجل إلى المرأة ومن المرأة إلى الرجل. فإن العين مفتاح القلب، والنظر رسول الفتنة، وبريد الزنى. وقديما قال الشاعر:
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كل الحوادث مبداها من النظر

وحديثا قال آخر:
فكلام فموعد فلقاء
نظرة فابتسامة فسلام

لهذا وجه الله أمره إلى المؤمنين والمؤمنات جميعا بالغض من الأبصار، مقترنا بأمره بحفظ الفروج: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن..) سورة النور:30-31.
وفي هاتين الآيتين عدة توجيهات إلهية منها توجيهان يشترك فيهما الرجال والنساء جميعا وهما الغض من البصر، وحفظ الفرج، والباقي موجه إلى النساء خاصة.
ويلاحظ أن الآيتين أمرتا بالغض من البصر لا بغض البصر، ولم تقل: "ويحفظوا من فروجهم" كما قالت (يغضوا من أبصارهم) فإن الفرج مأمور بحفظه جملة دون تسامح في شيء منه. أما البصر فقد سمح الله للناس بشيء منه رفعا للحرج، ورعاية للمصلحة كما سنرى.
فالغض من البصر ليس معناه إقفال العين عن النظر، ولا إطراق الرأس إلى الأرض، فليس هذا بمراد ولا مستطاع. كما أن الغض من الصوت في قوله تعالى: (واغضض من صوتك) سورة لقمان:19، ليس معناهإغلاق الشفتين عن الكلام، وإنما معنى الغض من البصر خفضه، وعدم إرساله طليق العنان يلتهم الغاديات والرائحات أو الغادين والرائحين. فإذا نظر إلى الجنس الآخر لم يغلغل النظر إلى محاسنه، ولم يطل الالتفات إليه والتحديق به.
ولهذا قال الرسول عليه السلام لعلي بن أبي طالب: "يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة".
وقد جعل النبي عليه السلام النظرات الجائعة الشرهة من أحد الجنسين إلى الآخر زنى للعين، فقال: "العينان تزنيان وزناهما النظر". وإنما سماه (زنى) لأنه ضرب من التلذذ والإشباع للغريزة الجنسية بغير الطريق المشروع.
ويطابق هذا ما جاء في الإنجيل عن المسيح عليه السلام: "لقد كان من قبلكم يقولون لا تزن وأنا أقول لكم: من نظر بعينه فقد زنى".
إن هذا النظر المتلذذ الجائع ليس خطرا على خلق العفاف فحسب، بل هو خطر على استقرار الفكر، وطمأنينة القلب الذي يصاب بالشرود والاضطراب.
قال الشاعر:
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
رأيت الذي لا كله أنت قادر


تحريم النظر إلى العورات
ومما يجب غض البصر عنه العورات، فقد نهى النبيصلى الله عليه وسلم عن النظر إلى العورات، ولو كان من رجل إلى رجل، أو من امرأة إلى امرأة بشهوة أم بغير شهوة، قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد".
وعورة الرجل التي لا يجوز النظر إليها من رجل أو امرأة تتحدد فيما بين السرة والركبة، كما ورد في الحديث. ويرى بعض الأئمة كابن حزم وبعض المالكية أن الفخذ ليس بعورة.
وعورة المرأة بالنسبة للرجل الأجنبي عنها هي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها، أما عورتها بالنسبة لمن كان ذا محرم منها كأبيها وأخيها فسيأتي الحديث عنها عند الكلام على إبداء الزينة.
وما لا يجوز النظر إليه من العورات لا يجوز أن يمس باليد أو بجزء من البدن. وكل ما ذكرنا تحريمه من العورات -نظرا أو لمسا- مشروط بعدم الضرورة أو الحاجة، فإذا وجدت كما في حالة الإسعاف أو العلاج فقد زالت الحرمة. وكل ما ذكرنا من جواز النظر مشروط بأمن الفتنة والشهوة، فإن وجدت فقد زالت الإباحة سدا للذريعة.

حدود إباحة النظر إلى الرجل أو المرأة
ومما ذكرنا يتبين أن نظر المرأة إلى ما ليس بعورة من الرجل -أي ما فوق السرة وتحت الركبة- مباح ما لم تصحبه شهوة أو تخف منه فتنة وقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة أن تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم في المسجد النبوي، وظلت تنظر إليهم حتى سئمت هي فانصرفت.
ومثل هذا نظر الرجل إلى ما ليس بعورة من المرأة -أي إلى وجهها وكفيها- فهو مباح ما لم تصحبه شهوة أو تخف منه فتنة.
فعن عائشة أن أسماء بنت أبي بكر -أختها- دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في لباس رقيق يشف عن جسمها، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنها وقال: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" -وأشار إلى وجهه وكفيه-.
وفي الحديث ضعف ولكن تقويه أحاديث صحاح في إباحة رؤية الوجه والكفين عند أمن الفتنة.
وخلاصة القول: أن النظرة البريئة إلى غير عورة من الرجل أو المرأة حلال ما لم تتخذ صفة التكرار والتحديق الذي يصحبه -غالبا- التلذذ وخوف الفتنة.
ومن سماحة الإسلام أنه عفا عن النظرة الخاطفة، التي تقع من الإنسان فجأة حين يرى ما لا تباح له رؤيته، فعن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول اللهصلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فقال: "اصرف بصرك" يعني: لا تعاود النظر مرة ثانية.

ما يجوز إبداؤه من زينة المرأة وما لا يجوز
هذا ما يتعلق بالغض من الأبصار، الذي أمرت به الآيتان الرجال والنساء. أما التوجيهات الإلهية للنساء في الآية الثانية فهي قوله تعالى:
-أ- (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) سورة النور:31.
زينة المرأة: كل ما يزينها ويجملها، سواء أكانت زينة خلقية كالوجه والشعر ومحاسن الجسم، أم مكتسبة كالثياب والحلي والأصباغ ونحوها. وفي هذه الآية الكريمة أمر الله النساء بإخفاء زينتهن، ونهاهن عن إبدائها، ولم يستثن (إلا ما ظهر منها).
وقد اختلف العلماء في تحديد معنى (ما ظهر منها) وقدره؛ أيكون معناه: ما ظهر بحكم الضرورة من غير قصد كأن كشفته الريح مثلا، أو يكون معناه: ما جرت به العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور؟
إن المأثور عن أكثر السلف يدل على الرأي الثاني.
فقد اشتهر عن ابن عباس أنه قال في تفسير (ما ظهر منها) الكحل والخاتم، وروي مثله عن أنس.
وإباحة الكحل والخاتم يلزم منها إظهار موضعيهما كذلك وهما الوجه والكفان. وهذا ما جاء صراحة عن سعيد بن جبير وعطاء والأوزاعي وغيرهم.
وعن عائشة وقتادة وغيرهما إضافة السوارين إلى ما ظهر من الزينة. وهذا يعني استثناء بعض الذارع من الزينة المنهي عن إبدائها، واختلف في تحديده من قدر قبضة إلى نصف الذارع.
وبإزاء هذا التوسع ضيق آخرون كعبد الله بن مسعود والنخعي، ففسروا ما ظهر من الزينة بالرداء ونحوه من الثياب الظاهرة. وهي التي لا يمكن إخفاؤها.
والذي أرجحه أن يقصر (ما ظهر منها) على الوجه والكفين وما يعتاد لهما من الزينة المعقولة بلا غلو ولا إسراف كالخاتم لليد والكحل للعين كما صرح به جماعة من الصحابة والتابعين.
وهذا بخلاف الأصباغ والمساحيق التي تستعملها المرأة في عصرنا للخدين والشفتين والأظافر ونحوها، فإنها من الغلو المستنكر، والذي لا يجوز أن يستعمل إلا داخل البيت. أما ما عليه النساء اليوم من اتخاذ هذه الزينة عند الخروج من البيت لجذب انتباه الرجال فهو حرام. وأما تفسير (ما ظهر منها) بالثياب والرداء الخارجي فغير مقبول؛ لأنه أمر طبيعي لا يتصور النهي عنه حتى يستثنى، ومثل ذلك تفسيرها بما كشفته الريح ونحوه من أحوال الضرورة؛ لأن هذا مما لا حيلة فيه، سواء استثنى أم لم يستثن. والذي يتبادر إلى الذهن من الاستثناء أنه رخصة وتخفيف للمرأة المؤمنة في إبداء شيء يمكن إخفاؤه، ومعقول أن يكون هو الوجه والكفين.
وإنما سومح في الوجه والكفين، لأن سترهما فيه حرج على المرأة، وخاصة إذا كانت تحتاج إلى الخروج المشروع، كأرملة تسعى على أولادها، أو فقيرة تعمل في مساعدة زوجها، فإن فرض النقاب عليها، وتكليفها تغطية كفيها في كل ذلك مما يعوقها، ويشق عليها.
قال القرطبي: لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج، صلح أن يكون الاستثناء راجعا إليها. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعليها ثياب رقاق- فإعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا".وأشار إلى وجهه وكفيه.
وفي قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) ما يشير إلى أن وجوه النساء لم تكن مغطاة، ولو كانت المرأة مستورة الجسم والوجه جميعا، ما كان هناك مجال للأمر بالغض من الأبصار، إذ ليس ثمة ما يبصر حتى يغض عنه.
ومع هذا فالأكمل للمرأة المسلمة أن تجتهد في إخفاء زينتها، حتى الوجه نفسه ما استطاعت، وذلك لانتشار الفساد، وكثرة الفسوق في عصرنا، ويتأكد ذلك إذا كانت جميلة يخشى الافتتان بها.
-ب- (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) سورة النور:31.
الخمر: جمع خمار وهو غطاء الرأس.
الجيوب: جمع جيب وهو فتحة الصدر من الثوب.
والواجب على المرأة المسلمة أن تغطي رأسها بخمارها، وأن تستر به -أو بأي شيء آخر- صدرها ونحرها وعنقها حتى لا ينكشف شيء من هذه المفاتن لنظرات المتطلعين من الغادين والرائحين.
-ج- (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن) سورة النور:31.
وهذا توجيه يتضمن نهي النساء المؤمنات عن كشف الزينة الخفية -كزينة الأذن والشعر والعنق والصدر والساق- أمام الرجال الأجانب الذين رخص لها أمامهم في إبداء الوجه والكفين (ما ظهر منها).


وقد استثنى من هذا النهي اثنا عشر صنفا من الناس:
  1. بعولتهن: أي أزواجهن، فللرجل أن يرى من زوجته ما يشاء، وكذلك المرأة. وفي الحديث: "احفظ عورتك إلا من زوجتك".
  2. آباؤهن، ويدخل فيهم الأجداد من قبل الأب والأم.
  3. آباء أزواجهن، فقد أصبح لهم حكم الآباء بالنسبة إليهن.
  4. أبناؤهن، ومثلهم أبناء ذريتهن من الذكور والإناث.
  5. أبناء أزواجهن، لضرورة الاختلاط الحاصل، ولأنها بمنزلة أمهم في البيت.
  6. إخوانهن، سواء أكانوا أشقاء أو من الأب أو من الأم.
  7. بنو إخوانهن، لما بين الرجل وعمته من حرمة أبدية.
  8. بنو أخواتهن، لما بين الرجل وخالته من حرمة أبدية.
  9. نساؤهن: أي النساء المتصلات بهن نسبا أو دينا. أما المرأة غير المسلمة فلا يجوز لها أن ترى من زينة المسلمة إلا ما يراه الرجل -على الصحيح-.
  10. ما ملكت أيمانهن: أي عبيدهن وجواريهن لأن الإسلام جعلهم كأعضاء في الأسرة. وخصه بعض الأئمة بالإماء دون الذكور.
  11. التابعون غير أولي الإربة من الرجال، وهم الأجراء والأتباع الذين لا شهوة لهم في النساء لسبب بدني أو عقلي. المهم أن يتوافر هذان الوصفان: التبعية للبيت الذي يدخلون على نسائه، وفقدان الشهوة الجنسية.
  12. الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء. وهم الصغار الذين لم يثر في أنفسهم الشعور الجنسي، فإذا لوحظ عليهم ظهور هذا الشعور لم يبح للمرأة أن تبدي أمامهم زينتها الخفية -وإن كانوا دون البلوغ-.
ولم تذكر الآية الأعمام والأخوال لأنهم بمنزلة الآباء عرفا. وفي الحديث "عم الرجل صنو أبيه".
 
عورة النساء
ومما تقدم نعلم أن كل ما يجوز للمرأة إبداؤه من جسدها فهو عورة يجب سترها، ويحرم كشفها.
فعورتها بالنسبة للرجال الأجانب عنها وكذلك النساء غير المسلمات جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، على ما اخترناه، إذ أبيح كشفهما -كما قال الرازي- للحاجة في المعاملة والأخذ والعطاء، فأمرن بستر ما لا تؤدي الضرورة إلى كشفه، ورخص لهن في كشف ما اعتيد كشفه، وأدت الضرورة إلى إظهاره، إذ كانت شرائع الإسلام حنيفية سمحة. قال الرازي: ولما كان ظهور الوجه والكفين كالضروري، لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة. أما القدم فليس ظهورها بضروري فلا جرم اختلفوا هل هي عورة أم لا؟.
وعورتها بالنسبة للأصناف الاثني عشر المذكورين في آية النور تتحدد فيما عدا مواضع الزينة الباطنة من مثل الأذن والعنق والشعر والصدر والذراعين والساقين، فإن إبداء هذه الزينة لهؤلاء الأصناف قد أباحته الآية.
وماعدا ذلك من مثل الظهر والبطن والسوءتين والفخذين، فلا يجوز إبداؤه لامرأة أو لرجل إلا للزوج.
وهذا الذي يفهم من الآية أقرب مما ذهب إليه بعض الأئمة؛ أن عورة المرأة بالنظر إلى المحارم ما بين السرة والركبة فقط. وكذلك عورتها بالنسبة إلى المرأة بل الذي تدل عليه الآية أدنى إلى ما قاله بعض العلماء: إن عورتها للمحرم ما لا يبدو منها عند المهنة. فما كان يبدو منها عند عملها في البيت عادة فللمحارم أن ينظروا إليه.
ولهذا أمر الله نساء المؤمنين أن يستترن عند خروجهن بجلباب سابغ كاس، يتميزن به عمن سواهن من الكافرات والفاجرات، وفي هذا أمر الله نبيه أن يؤذن في الأمة بهذا البلاغ الإلهي العام: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) الأحزاب:59. والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب واسع كالملاءة تستتر به المرأة.
وكان بعض نساء الجاهلية إذا خرجن من بيوتهن كشفن عن بعض محاسنهن، من مثل النحر والعنق والشعر، فيتبعهن الفساق والعابثون. فنزلت الآية الكريمة تأمر المرأة المؤمنة بإرخاء بعض جلبابها عليها، حتى لا ينكشف شيء من تلك المفاتن من جسدها، وبهذا يعرف من مظهرها أنها عفيفة مؤمنة، فلا يتعرض لها ماجن أو منافق بإيذاء.
فالواضح من تعليل الآية أن هذا الأمر خوف على النساء من أذى الفساق، ومعاينة المجان، وليس خوفا منهن ولا فقدانا للثقة بهن -كما يدعي بعضهم- فإن المرأة المتبرجة بزينتها وثيابها، أو المتكسرة في مشيتها، أو الطرية في حديثها، تغري الرجال بها دائما، وتطمع العابثين فيها، وهذا مصداق الآية الكريمة (فلا تخضعن بالقول، فيطمع الذي في قلبه مرض) الأحزاب:32.
وقد شدد الإسلام في أمر التستر والتصون للمرأة المسلمة. ولم يرخص في ذلك إلا شيئا يسيرا خفف به عن عجائز النساء. قال تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وأن يستعففن خير لهن، والله سميع عليم) النور:60.
والمراد بالقواعد النساء اللاتي قعدن عن الحيض والولد لكبرهن فلا يطمعن في الزواج، ولا يرغبن في الرجال، كما لا يرغب فيهن الرجال. فهؤلاء قد خفف الله عنهن، ولم يجعل عليهن حرجا أن يضعن من بعض الثياب الخارجية الظاهرة كالملحفة والملاءة والعباءة والطرحة ونحوها.
وقد قيد القرآن هذه الرخصة بقوله: (غير متبرجات بزينة) أي غير قاصدات بوضع هذه الثياب التبرج، ولكن التخفف إذا احتجن إليه.
ومع هذه الرخصة، فالأفضل والأولى أن يتعففن عن ذلك، طلبا للأكمل، وبعدا عن كل شبهة (وأن يستعففن خير لهن).

دخول المرأة الحمامات العامة
ومن أجل عناية الإسلام بحفظ العورات وسترها، حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من دخول المرأة الحمامات العامة، وتعرية جسدها أمام غيرها من النساء، اللائي يحلو لهن أن يتخذن من الأوصاف البدنية لهذه وتلك حديث المجالس، ومضغة الأفواه.
كما حذر عليه السلام من دخول الرجل الحمام إلا بمئزر يستره عن أعين الآخرين. فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام".
وعن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن دخول الحمامات ثم رخص للرجال أن يدخلوها بالمآزر".
واستثنى من ذلك المرأة يوصف لها دخول الحمام لعلاج مرض ألم بها أو نفاس ونحوه. فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الحمامات: "فلا يدخلها الرجال إلا بمئزر. وامنعوها النساء، إلا مريضة أو نفساء". وفي إسناد الحديث شيء من الضعف، ولكن قواعد الشرع في الترخيص للمريض والتيسير عليه في العبادات والواجبات تقويه وتعضده. كما يشهد له الأصل المشهور أن ما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة والمصلحة. ويؤيده أيضا ما رواه الحاكم عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا بيتا يقال له الحمام قالوا: يا رسول الله! إنه يذهب الدرن وينفع المريض. قال: فمن دخل فليستتر".
فإن دخلت المرأة الحمام بغير عذر ولغير حاجة فقد ارتكبت حراما، واستحقت وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو المليح الهذلي رضي الله عنه أن نساء من أهل حمص أو من أهل الشام دخلن على عائشة رضي الله عنها فقالت: أنتن اللاتي تدخلن نساءكن الحمامات؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها".
وعن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عنها ستره".
وإذا كان هذا تشديد الإسلام في دخول النساء الحمام وهو بيت جدران أربعة لا يدخله إلا النساء، فليت شعري ما الحكم في أولئك الخالعات الخليعات اللاتي يبدين عوراتهن للرجال الغادين والرائحين، ويعرضن أجسادهن على شواطئ البحار (البلاجات) للأعين الجائعة، والغرائز الشرهة؟.
أما أنهن قد هتكن كل ستر بينهن وبين الرحمن، ورجالهن شركاء في الإثم لأنهم رعاة مسئولون، لو كانوا يعلمون!.

التبرج حرام
للمرأة المسلمة خلق يميزها عن المرأة الكافرة أو المرأة الجاهلية؛ فخلق المرأة المسلمة هو التصون والاحتشام والعفاف والحياء.
أما المرأة الجاهلية فخلقها هو: التبرج والإغراء.
ومعنى التبرج: التكشف والظهور للعيون، ومنه (بروج مشيدة) وبروج السماء.. وذلك لارتفاعها وظهورها للناظرين. وقال الزمخشري: حقيقة التبرج: تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارج: لا غطاء عليها .. إلا أنه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال، بإبداء زينتها، وإظهار محاسنها، فأضاف الزمخشري إلى المعنى عنصرا جديدا هو التكلف والقصد إلى إظهار ما يجب إخفاؤه من الزينة. وقد يكون هذا الذي يجب إخفاؤه موضعا في الجسم أو حركة لعضو منه، أو طريقة في الكلام أو المشي، أو حلية مما يتزين به النساء أو يلبسنه، أو غير ذلك.
وللتبرج صور ومظاهر عرفها الناس قديما وحديثا، وقد ذكر المفسرون بعضها في تفسير قوله تعالى لنساء النبي: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) سورة الأحزاب:33.
قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال.
وقال قتادة: كان لهن مشية تكسر وتغنج.
وقال مقاتل: التبرج أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده، فيداري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها.
هذه صورة من تبرج الجاهلية القديمة؛ الاختلاط بالرجال.. التكسر في المشي، لبس الخمار ونحوه على هيئة يبدو معها بعض محاسن البدن وزينته. وقد رمتنا جاهلية هذا العصر بصور وألوان من التبرج، يعد معها تبرج الجاهلية الأولى ضربا من التصون والاحتشام.

ما يخرج المرأة عن حد التبرج
والذي يخرج المرأة المسلمة عن حد التبرج ويسمها بأدب الإسلام أن تلتزم الآداب التالية:
(أ) غض البصر: فإن أثمن زينة للمرأة هو الحياء، وأبرز عنوان للحياء هو غض البصر قال تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن).
(ب) عدم الاختلاط بالرجال اختلاط تلاصق وتماس، كما يحدث ذلك في دور السينما ومدرجات الجامعات وقاعات المحاضرات ومركبات النقل ونحوها في هذا الزمان. وقد روى معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له". المخيط: ما يخاط به كالإبرة والمسلة ونحوهما.

(ج) أن تكون ملابسها موافقة لأدب الشرع الإسلامي. واللباس الشرعي هو الذي يجمع الأوصاف التالية:
  1. أن يغطي جميع الجسم. عدا ما استثناه القرآن في (ما ظهر منها) وأرجح الأقوال أنه الوجه والكفان.
  2. ألا يشف ويصف ما تحته. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن من أهل النار نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات … لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها"
ومعنى كاسيات عاريات: أن ثيابهن لا تؤدي وظيفة الستر فتصف ما تحتها لرقتها وشفافيتها.
دخلت نسوة من بني تميم على عائشة -رضي الله عنها- وعليهن ثياب رقاق، فقالت عائشة: "إن كنتن مؤمنات فليس هذا بثياب المؤمنات".

وأدخلت عليها امرأة عروس عليها خمار رقيق شفاف فقالت: لم تؤمن بسورة (النور) امرأة تلبس هذا.
  1. ألا يحدد أجزاء الجسم، ويبرز مفاتنه، وإن لم يكن رقيقا شفافا، كتلك الثياب التي رمتنا بها حضارة الجسد والشهوة -أعني الحضارة الغربية- التي يتسابق مصممو الأزياء فيها في تفصيل الثياب التي تبرز النهود والخصور والأرداف ونحوها، بصورة تهيج الغرائز وتثير الشهوات الدنيا، فلابساتها كاسيات عاريات أيضا، وهي أشد إغراء وفتنة من الثياب الرقيقة الشفافة.
  2. ألا يكون مما يختص بلبسه الرجال كالبنطلون في عصرنا، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، كما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ونهى المرأة أن تلبس لبسة الرجل، والرجل أن يلبس لبسة المرأة.
  3. ألا يكون لباسا اختص بلبسه الكافرات من اليهوديات والنصرانيات والوثنيات، فإن قصد التشبه بهؤلاء محظور في الإسلام الذي يريد لرجاله ونسائه التميز والاستقلال في المظهر والمخبر، ولهذا أمر بمخالفة الكفار في أمور كثيرة. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم".
(د) أن تلتزم الوقار والاستقامة في مشيتها وفي حديثها وتتجنب الإثارة في سائر حركات جسمها ووجهها؛ فإن التكسر والميوعة من شأن الفاجرات لا من خلق المسلمات. قال تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) سورة الأحزاب:32.
(هـ) ألا تتعمد جذب انتباه الرجال إلى ما خفي من زينتها بالعطور أو الرنين أو نحو ذلك. قال تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن).
فقد كانت المرأة في الجاهلية حين تمر بالناس تضرب برجلها، ليسمع قعقعة خلخالها فنهى القرآن عن ذلك، لما فيه من إثارة لخيال الرجال ذوي النزعات الشهوانية، ولدلالته على نية سيئة لدى المرأة في لفت أنظار الرجال إليها زينتها.
ومثل هذا في الحكم ما تستعمله من ألوان الطيب والعطور ذات الروائح الفائحة، لتستثير الغرائز، وتجذب إليها انتباه الرجال، وفي الحديث: "المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا، يعني: زانية".
ومن هنا نعلم أن الإسلام لم يفرض على المرأة -كما يقال- أن تظل حبيسة البيت، لا تخرج منه إلا إلى القبر، بل أباح لها الخروج للصلاة وطلب وقضاء الحاجات، وكل غرض ديني أو دنيوي مشروع. كما كان يفعل ذلك نساء الصحابة ومن بعدهم من خير القرون. وكان منهن من يخرج للمشاركة في القتال والغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء والقواد. وقد قال عليه الصلاة والسلام لزوجه سودة: "قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن".
وقال: "إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها". وفي حديث آخر: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".
وقد ذهب بعض العلماء المتشددين إلى أن المرأة يحرم عليها أن تنظر إلى أي جزء من الرجل، مستدلين بما رواه الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ولميمونة، وقد دخل عليهما ابن أم مكتوم: "احتجبا" فقالتا: إنه أعمى. قال: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟" ولكن المحققين قالوا: إن هذا الحديث غير صحيح عند أهل النقل؛ لأن راويه عن أم سلمة نبهان مولاها وهو ممن لا يحتج بحديثه.
وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السلام تغليظ على أزواجه لحرمتهن، كما غلظ عليهن أمر الحجاب؛ كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة .. ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تقضي عدتها في بيت أم شريك ثم استدرك فقال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل إعمى، تضعين ثيابك ولا يراك".

خدمة المرأة ضيوف زوجها
وأوضح من ذلك أن للمرأة أن تقوم بخدمة ضيوف زوجها في حضرته، ما دامت متأدبة بأدب الإسلام في ملبسها وزينتها وكلامها ومشيها، ومن الطبيعي أن يروها وتراهم في هذه الحال، ولا جناح في ذلك إذا كانت الفتنة مأمونة من جانبها وجانبهم.
وروى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد الأنصاري قال: "لما أعرس أبو أسيد الساعدي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاما ولا قدم إليهم إلا امرأته أم أسيد؛ بلت تمرات في تور (إناء) من حجارة، من الليل، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته له -أي مرسته بيدها- فسقته، تتحفه بذلك".
ففي هذا الحديث -كما قال شيخ الإسلام ابن حجر-: جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه .. ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك. فإذا لم تراع المرأة ما يجب عليها من الستر -كأكثر نساء هذا الزمن- فإن ظهورها للرجال يصير حراما.

الشذوذ الجنسي من كبائر المحرمات
بقي أن نعرف فيما يختص بتنظيم الغريزة الجنسية في الإسلام، أنه كما حرم الزنى وحرم الوسائل المفضية إليه. حرم كذلك هذا الشذوذ الجنسي الذي يعرف (بعمل قوم لوط) أو (اللواط).
فهذا العمل الخبيث انتكاس في الفطرة، وانغماس في حمأة القذارة، وإفساد للرجولة، وجناية على حق الأنوثة.
وانتشار هذه الخطيئة القذرة في جماعة، يفسد عليهم حياتهم ويجعلهم عبيدا لها، وينسيهم كل خلق وعرف وذوق. وحسبنا في هذا ما ذكره القرآن الكريم عن قوم لوط الذين ابتكروا هذه الفاحشة القذرة، وكانوا يدعون نساءهم الطيبة الحلال، ليأتوا تلك الشهوة الخبيثة الحرام. ولهذا قال لهم نبيهم: (أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم؟! بل أنتم قوم عادون) الشعراء:165،166. ودمغهم القرآن -على لسان لوط- بالعدوان والجهل والإسراف والفساد والإجرام.
ومن أغرب مواقف هؤلاء القوم التي ظهر فيها اعوجاج فطرتهم، وفقدان رشدهم، وانحطاط أخلاقهم، وفساد أذواقهم، موقفهم من ضيوف لوط الذين كانوا ملائكة عذاب أرسلهم الله في صورة البشر ابتلاء لأولئك القوم وتسجيلا لذلك الموقف عليهم وهو الذي حكاه القرآن: (ولما جاءت رسلنا لوط سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب. وجاءه قومه يهرعون إليه، ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال: يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد؟ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد. قال: لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد. قالوا: يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك …) هود:77-81.
وقد اختلف فقهاء الإسلام في عقوبة من ارتكب هذه الفاحشة: أيحدان حد الزاني؟ أم يقتل الفاعل والمفعول به؟ وبأي وسيلة يقتلان؟ أبالسيف؟ أن بالنار؟ أن إلقاء من فوق جدار؟.
وهذا التشديد الذي قد يبدو قاسيا إنما هو تطهير للمجتمع الإسلامي من هذه الجراثيم الفاسدة الضارة التي لا يتولد عنها إلا الهلاك والإهلاك.


حكم الاستمناء
وقد يثور دم الغريزة في الشاب فليجأ إلى يده يستخرج بها المني من جسده ليريح أعصابه، يهدئ من ثورة الغريزة وهو ما يعرف اليوم (بالعادة السرية).
وقد حرمها أكثر العلماء، واستدل الإمام بقوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) المؤمنون:5-7. والمستمني بيده قد ابتغى لشهوته شيئا وراء ذلك.
وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه اعتبر المني فضلة من فضلات الجسم، فجاز إخراجه كالفصد وهذا ما ذهب إليه وأيده ابن حزم. وقيد فقهاء الحنابلة الجواز بأمرين: الأول خشية الوقوع في الزنى … والثاني عدم استطاعة الزواج.
ويمكن أن نأخذ برأي الإمام أحمد في حالات ثوران الغريزة وخشية الوقوع في الحرام؛ كشاب يتعلم أو يعمل غريبا عن وطنه، وأسباب الإغراء أمامه كثيرة، ويخشى على نفسه العنت، فلا حرج عليه أن يلجأ إلى هذه الوسيلة يطفئ بها ثوران الغريزة، على ألا يسرف فيها ويتخذها ديدنا.
وأفضل من ذلك ما أرشد إليه الرسول الكريم الشاب المسلم الذي يعجز عن الزواج؛ أن يستعين بكثرة الصوم، الذي يربي الإرادة، ويعلم الصبر، ويقوي ملكة التقوى ومراقبة الله تعالى في نفس المسلم وذلك حين قال:"يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" كما رواه البخاري.
 
فــي الـــــزواج

لا رهبانية في الإسلام
وقف الإسلام دون إرخاء العنان لغريزة الجنس لتنطلق بغير حدود ولا قيود. ولذلك حرم الزنى وما يفضي إليه وما يلحق به.
ولكنه إلى جانب ذلك قاوم النزعة المضادة لذلكذلك دعا إلى الزواج، ونهى عن التبتل.. نزعة مصادمة الغريزة وكبتها، ومن أجل والخصاء.
فلا يحل للمسلم أن يعرض عن الزواج مع القدرة عليه بدعوى التبتل لله، أو التفرغ للعبادة والترهب والانقطاع عن الدنيا.
وقد لمح النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أصحابه شيئا من النزوع إلى هذه الوجهة الرهبانية، فأعلن أن هذا انحراف عن نهج الإسلام، وإعراض عن سنته عليه الصلاة والسلام، وبذلك طارد تلك الأفكار النصرانية من البيئة الإسلامية. فعن أبي قلابة قال: أراد أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة، ثم قال: "إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد؛ وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الأديار والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم".قال ونزلت فيهم الآية: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) سورة المائدة:87.
وعن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح فنزلت الآية السابقة والتي بعدها.
وروى البخاري وغيره أن رهطا من الصحابة ذهبوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون أزواجه عن عبادته، فلما أخبروه بها كأنهم تقالوها -أي: اعتبروها قليلة- ثم قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر فلا أفطر، وقال الثاني: وأنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم خطأهم وعوج طريقهم وقال لهم: "إنما أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وقال سعد بن أبي وقاص: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا".
ووجه عليه السلام نداءه إلى الشباب عامة فقال: "يا معشر الشباب!من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج".
ومن هنا قال بعض العلماء: إن الزواج فريضة على المسلم لا يحل له تركه ما دام قادرا عليه. وقيده غيرهم بمن كان تائقا إليه، خائفا على نفسه.
ولا يليق بالمسلم أن يصد نفسه عن الزواج خشية ضيق الرزق عليه أو ثقل المسئولية على عاتقه وعليه أن يحاول ويسعى وينتظر فضل الله ومعونته التي وعد بها المتزوجين الذين يرغبون في العفاف والإحصان. قال تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) سورة النور:32. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح الذي يريد العفاف. والمكاتب الذي يريد الأداء -أي العبد الذي يريد أن يحرر رقبته ببذل مقدار من المال يكاتب عليه سيده- والغازي في سبيل الله".


النظر إلى المخطوبة
ويشرع للمسلم إذا عزم على الزواج، واتجهت نيته لخطبة امرأة معينة أن ينظر إليها قبل البدء في خطوات الزواج، ليقدم عليه على بصيرة وبينة. ولا يمضي في الطريق معصوب العينين، حتى يكون بمنجاة من الوقوع في الخطأ والتورط فيما يكره.
هذا إلى أن العين رسول القلب، وقد يكون التقاء العين بالعين سبيلا لالتقاء القلوب، وائتلاف الأرواح.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنظرت إليها؟ فقال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا".
وروى المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها؛ فإنه أحرى امرأة من الأنصار أن يؤدم بينكما" فإتى أبويها، فأخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرها ذلك.. فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر… قال المغيرة: فنظرت إليها فتزوجتها".
ولم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة ولا للرجل الآخر المقدار الذي تباح لهما رؤيته من المخطوبة. وقال بعض العلماء: هو الوجه والكفان. ولكن الوجه والكفين تجوز رؤيتها -بدون شهوة- في غير الخطبة، وما دام ظرف الخطبة مستثنى فلا بد أن يجوز له أن يرى منها أكثر مما يجوز في الظروف المعتادة الأخرى. وقد جاء في الحديث: "إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن ينظر منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل".
وقد تطرف بعض العلماء في الترخيص بالقدر الذي يرى، وتطرف آخرون في التشديد والتضييق، والخير في التوسط والاعتدال. وقد حدده بعض الباحثين بأن للخاطب في عصرنا الحالي أن يراها في الملابس التي تظهر بها لأبيها وأخيها ومحارمها بلا حرج، قال: بل له -في نطاق الحديث الشريف- أن يصحبها مع أبيها أو أحد محارمها -وهي بزيها الشرعي- إلى ما اعتادت أن تذهب إليه من الزيارات والأماكن المباحة لينظر عقلها وذوقها وملامح شخصيتها، فإنه داخل في مفهوم البعضية التي تضمنها قوله عليه السلام "فقدر أن ينظر منها بعض ما يدعوه إلى زواجها".
وله أن ينظر إليها بعلمها وعلم أهلها، كما أن ينظر إليها دون أن تعلم هي أو يعلم أحد من أهلها ما دام ذلك بنية الخطبة. وقد قال جابر بن عبد الله عن امرأته: كنت أتخبأ لها تحت شجرة لأراها.
ومن حديث المغيرة الذي ذكرناه نعلم أنه لا يباح للأب المسلم أن يمنع ابنته أن يراها من يريد خطبتها صادقا، باسم التقاليد، فإن الواجب أن تخضع التقاليد للشريعة، لا أن تخضع شريعة الله لتقاليد الناس.
كما لا يحل للأب ولا للخاطب ولا للمخطوبة أن يتوسعوا في الرخصة فيلقوا الحبل على الغارب للفتى والفتاة -باسم الخطبة- يذهبان إلى الملاهي والمتنزهات والأسواق بغير حضور أحد من المحارم، كما يفعل اليوم عشاق الحضارة الغربية والتقاليد الغربية.
إن التطرف إلى اليمين أو اليسار أمر تأباه طبيعة الإسلام.

الخطبة المحرمة
ولا يحل للمسلم أن يتقدم لخطبة امرأة مطلقة أو متوفى عنها زوجها في عدتها؛ لأن وقت العدة حرم للزوجية السابقة، فلا يجوز الاعتداء عليه. وله أن يفهم المرأة المتوفى عنها زوجها -وهي في العدة- رغبته في زواجها بالتعريض والتلميح لا بالإظهار والتصريح قال تعالى: (ولا جناح فيما عرضتم به من خطبة النساء) سورة البقرة:235.
ويحرم عليه أن يخطب على خطبة أخيه، إذا كان قد وصل إلى اتفاق مع الطرف الآخر. ذلك أن الخاطب قبله قد اكتسب حقا يجب أن يصان، رعاية للعلاقة وحسن المودة بين الناس، وبعدا بالمسلم عن سلوك ينافي المروءة، ويشبه الاختطاف والعدوان. فإذا صرف الخاطب الأول نظره عن الخطبة، أو أذن بنفسه للخاطب الثاني فلا حرج حينئذ عليه.
روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه". وروى البخاري عنه أنه قال: "لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له".

البكر تستأذن ولا تجبر
والفتاة هي صاحبة الشأن الأول في زواجها، فلا يجوز لأبيها أو وليها أن يهمل رأيها أو يغفل رضاها. قال عليه الصلاة والسلام: "الثيب أحق بنفسها من وليها. والبكر تستأذن في نفسها. وإذنها صماتها". وجاءت فتاة إلى النبيصلى الله عليه وسلم فأخبرته أن أباها زوجها من ابن أخيه وهي له كارهة فجعل النبيصلى الله عليه وسلم الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء. ولا يحل للأب أن يؤخر زواج ابنته إذا خطبها كفء ذو دين وخلق قالصلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يؤخرن؛ الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفءا". وقال: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".

المحرمات من النساء


ويحرم على المسلم أن يتزوج واحدة من النساء الآتي ذكرهن:
  1. زوجة الأب -سواء طلقها أو مات عنها- وكان هذا الزواج جائزا في الجاهلية فأبطله الإسلام. لأن زوجة الأب لها منزلة الأم بعد زواجها بأبيه، فكان من الحكمة تحريمها عليه رعاية لحرمة الأب. ثم إن تحريمها عليه على التأبيد يقطع طمعه فيها وطعمها فيه فتستقر العلائق بينهما على أساس من الاحترام والهيبة.
  2. الأم، ومثلها الجدة وإن علت من قبل الأب أو الأم.
  3. البنت، ومثلها بنت ابنه أو ابنته مهما امتدت الفروع.
  4. الأخت: شقيقة كانت أو لأب أو لأم.
  5. العمة: أخت الأب شقيقة أو لأب أو لأم.
  6. الخالة: أخت الأم شقيقة أو لأب أو لأم.
  7. بنات الأخ.
  8. بنات الأخت.
وهؤلاء النسوة القريبات هن اللاتي يطلق عليهن في الإسلام اسم (المحارم) لأنهن محرمات على المسلم حرمة أبدية لا تحل في وقت من الأوقات، ولا بحال من الأحوال كما يسمى الرجل (محرما) بالنسبة إليهن أيضا. والحكمة في تحريم زواج هؤلاء القريبات ظاهرة.
(أ)فالإنسان الراقي تنبو فطرته عن الاشتهاء الجنسي لمثل أمه أو أخته أو بنته، بل إن من الحيوانات من يأبى ذلك، وشعور المرء نحو خالته وعمته كشعوره نحو أمه، والعم والخال كذلك بمنزلة الوالد.
(ب) إن الشريعة لو لم تجئ بقطع الطمع فيهن لكان الخطر متوقعا على العلاقة بين الرجل وبينهن، لوجود الخلوة وشدة الاختلاط.
(ج) إن بين الرجل وبين هؤلاء القريبات عاطفة قائمة مستقرة تتمثل في الاحترام والتكريم أو الحنان والعطف. فكان الأولى أن يتوجه بعاطفة حبه إلى الأجنبيات عنه عن طريق المصاهرة، فتحدث صلات جديدة، وتتسع دائرة المحبة والمودة بين الناس (وجعل بينكم مودة ورحمة) سورة الروم:21.
(د) إن هذه العاطفة الفطرية بين الرجل وقريباته اللاتي ذكرنا، والقائمة على الحنان أو التوقير، يجب إبقاؤها حارة قوية، لتكون ركيزة العلاقة الدائمة بينهم، وأساس الرعاية والمحبة والولاء. وتعريض مثل هذه العاطفة أو الصلة للزواج وما يحدث فيه من شجار وخلاف قد يؤدي إلى البينونة والانفصال، مما يتنافى وما يراد لتلك العواطف من استقرار ولتلك الصلات من ثبات ودوام.
(هـ) إن النسل من هؤلاء القريبات يغلب أن يكون ضاويا ضعيفا، وإذا كان في فصيلة الشخص عيوب جسمية أو عقلية فمن شأنه أن يركزها في النسل.
(و) إن المرأة في حاجة إلى من يخاصم عنها، ويحمي مصالحها عند زوجها، وخاصة إذا اضطربت العلائق بينهما فكيف إذا كان حاميها هو خصمها؟



المحرمات بالرضاعة
  1. ويحرم على المسلم أن يتزوج المرأة التي أرضعته في صغره، فقد صارت بإرضاعها إياه في حكم الأم، وقد أسهم لبنها في إنبات لحمه وتكوين عظمه، وأحدث هذا الرضاع عاطفة بنوة وأمومة بينه وبينها، وقد تختفي هذه العاطفة ولكنها تكمن في العقل الباطن (اللاشعور) لتظهر فيما بعد عند المقتضى.
وقد اشترط لتأثير هذا الرضاع أن يكون في الصغر أي: قبل تمام سنتين للرضيع، وهو الزمن الذي يكون اللبن فيه الغذاء الأول.
وأن لا يقل عدد الرضعات عن خمس مشبعات، والرضعة المشبعة هي التي يدع الطفل فيها الثدي من تلقاء نفسه لشعوره بالشبع.


وتحديد الرضعات بخمس هو أرجح وأوسط ما جاءت به الروايات.
  1. الأخوات من الرضاعة: كما أن المرأة صارت بالرضاع أما للرضيع فكذلك بناتها صرن له أخوات من الرضاعة، وكذلك أخواتها صرن له خالات من الرضاعة وهكذا سائر أقاربها. وفي الحديث النبوي: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". فكما يحرم من النسب العمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، فكذلك يحرم هؤلاء من الرضاع.


المحرمات بالمصاهرة
  1. ومن المحرمات: أم الزوجة. وهذه يحرمها الإسلام بمجرد العقد على ابنتها ولو لم يدخل بها، لأنها تصبح للرجل لمنزلة أمه.
  2. الربيبة: وهي بنت الزوجة التي دخل بها، فإن لم يكن دخل بالأم، فلا جناح عليه أن يتزوج البنت.
  3. حليلة الابن: ومعنى الابن: هو الابن من الصلب لا الابن المتبنى. فقد أبطل الإسلام شرعية نظام التبني وما يترتب عليه لما فيه من مخالفة للحقيقة والواقع، مما يؤدي إلى تحريم الحلال، وتحليل الحرام. قال تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم؛ ذلكم قولكم بأفواهكم) سورة الأحزاب:4. أي هو مجرد قول باللسان، لا يغير الواقع، ولا يجعل الغريب قريبا.
وحرمة هؤلاء الثلاث إنما جاءت لعلة طارئة هي المصاهرة، وما ترتب عليها من صلات وثيقة بين المتصاهرين اقتضت هذا التحريم.
 

الجمع بين الأختين
  1. ومما حرمه الإسلام على المسلم -وكان مشروعا في الجاهلية- الجمع بين الأختين؛ فإن رابطة الحب الأخوي الذي يحرص الإسلام على دوامه بينهما ينافيها أن تكون إحداهما ضرة للأخرى.
وقد صرح القرآن بتحريم الجمع بين الأختين وأضاف الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك قوله: "لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها" كما في (الصحيحين) وغيرهما. قال: "إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" والإسلام يؤكد صلة الأرحام فكيف يشرع ما يؤدي لتقطيعها؟!

المتزوجات
  1. والمرأة المتزوجة ما دامت في عصمة زوجها لا يحل لها الزواج بآخر. ولكي تحل لزوج آخر لا بد من شرطين:
(أ) أن تزول يد الزوج عنها بموت أو طلاق.
(ب) أن تستوفي العدة التي أمر الله بها، وجعلها وفاء للزوجية السابقة وسياجا لها. ومدة هذه العدة للحامل أن تضع حملها قصر الزمن أو طال.
وللمتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر ليال.
وللمطلقة ثلاث حيضات. وإنما جعلت ثلاثا، للتأكد من ضمان براءة الرحم، خشية أن يكون قد علق به حمل من ماء الزوج السابق. فلا بد من هذا الاحتياط منعا لاختلاط الأنساب. وهذا لغير الصغيرة أو كبيرة السن التي انقطع عنها الحيض. أما هما فعدتهما ثلاثة أشهر.
قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء, ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) سورة البقرة:228. وقال (واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائى لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) سورة الطلاق:4. وقال: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) سورة البقرة:234.
وهذه الأصناف الخمسة عشر من محرمات النساء ذكرها القرآن الكريم في آيات ثلاث من سورة قال عز وجل: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا. حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف، إن الله كان غفورا رحيما. والمحصنات من النساء..) سورة النساء:22-24. وأما تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها فقد جاءت به السنة الشريفة.

المشركات
  1. ومن المحرمات: المشركة، وهي التي تعبد الأوثان كمشركات العرب ومن شابههن.
قال تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم. أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) سورة البقرة:221.
بينت الآية أنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج مشركة، كما لا يجوز للمسلمة أن تتزوج مشركا للاختلاف الشاسع بين الدينين فهؤلاء يدعون إلى الجنة وأولئك يدعون إلى النار. هؤلاء مؤمنون بالله وبالنبوة وبالآخرة، وأولئك مشركون بالله منكرون للنبوة جاحدون بالآخرة.
والزواج سكينة ومودة فكيف يلتقي هذان الطرفان المتباعدان؟

زواج الكتابيات
أما الكتابيات من اليهود والنصارى، فقد أجاز القرآن الزواج منهن، تبعا لنظرته لأهل الكتاب، ومعاملته الخاصة لهم، واعتبارهم أهل دين سماوي وإن حرفوا فيه وبدلوا. فكما أباح مؤاكلتهم أباح مصاهرتهم بزواج المسلم من نسائهم. قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجوهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان) سورة المائدة:5.
وهذا لون من التسامح الإسلامي الذي قل أن يوجد له نظير في الأديان والملل الأخرى، فرغم رميه لأهل الكتاب بالكفر والضلال أباح للمسلم أن تكون الكتابية -وهي على دينها- زوجته وربة بيته، وسكن نفسه، وموضع سره، وأم أولاده. ومع أنه يقول في شأن الزوجية وأسرارها: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) سورة الروم:21.
وهنا تنبيه لا بد أن نتوجه إليه: إن المسلمة المتدينة الحريصة على دينها أفضل للمسلم من مجرد مسلمة ورثت الإسلام عن أبويها، والرسول صلوات الله عليه يعلمنا ذلك فيقول: "اظفر بذات الدين تربت يداك" فإذا علمنا ذلك تبين لنا أن المسلمة -أيا كانت- أفضل للمسلم من أي امرأة كتابية.
ثم إذا كان المسلم يخشى من مثل هذه الزوجة على عقيدة أولاده أو توجيههم فالواجب أن يستبرىء لدينه ويجتنب هذا الخطر.
وإذا كان عدد المسلمين قليلا في بلد -كجالية من الجاليات مثلا- فالراجح هنا أن يحرم على رجالهم زواجهم بغير المسلمات، لأن زواجهم بغيرهن في هذا الحال، مع حرمة زواج المسلمات من الآخرين، قضاء على بنات المسلمين أو على فئة غير قليلة منهن بالكساد والبوار، وفي هذا ضرر محقق على المجتمع المسلم. وهو ضرر يمكن أن يزال بتقييد هذا المباح وتعليقه إلى حين.

زواج المسلمة من غير المسلم
ويحرم على المسلمة أن تتزوج غير مسلم، كتابيا أو غير كتابي، ولا يحل لها ذلك بحال وقد ذكرنا قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) سورة البقرة:221. وقال في شأن المؤمنات المهاجرات: (فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعونهن إلى الكفار؛ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) سورة الممتحنة:10. ولم يرد نص باستثناء أهل الكتاب من هذا الحكم، فالحرمة مجمع عليها بين المسلمين.
وإنما أجاز الإسلام للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية ولم يجز للمسلمة أن تتزوج بأحدهما؛ لأن الرجل هو رب البيت والقوام على المرأة والمسؤول عنها. والإسلام قد ضمن للزوجة الكتابية -في ظل الزوج المسلم- حرية عقيدتها، وصان لها -بتشريعاته وإرشاداته- حقوقها وحرمتها. ولكن دينا آخر -كالنصرانية أو اليهودية- لم يضمن للزوجة المخالفة في الدين أي حرية، ولم يصن لها حقها.. فكيف يغامر الإسلام بمستقبل بناته، ويرمي بهن في أيدي من لا يرقبون في دينهن إلا ولا ذمة؟!
وأساس هذا أن الزوج لا بد أن يحترم عقيدة زوجته ضمانا لحسن العشرة بينهما، والمسلم يؤمن بأصل اليهودية والنصرانية دينين سماويين -بغض النظر عما حرف منهما- ويؤمن بالتوراة والإنجيل كتابين من عند الله، ويؤمن بموسى وعيسى رسولين من عند الله من أولي العزم من الرسل. فالمرأة الكتابية تعيش في كنف رجل يحترم أصل دينها وكتابها ونبيها، بل لا يتحقق إيمانه إلا بذلك. أما اليهودي أو النصراني فلا يعترف أدنى اعتراف بالإسلام، ولا بكتاب الإسلام، ولا برسول الإسلام. فكيف يمكن أن تعيش في ظله امرأة مسلمة يطالبها دينها بشعائر وعبادات، وفروض وواجبات، ويشرع لها أشياء ويحرم عليها أشياء؟.
ألا إنه من المستحيل أن تبقى للمسلمة حرمة عقيدتها، وتتمكن من رعاية دينها، والرجل القوام عليها يجحده كل الجحود!!.
ومن هنا كان الإسلام منطقيا مع نفسه حين حرم على الرجل المسلم أن يتزوج وثنية مشركة؛ لأن الإسلام ينكر الشرك والوثنية كل الإنكار فكيف يتحقق بينهما السكون والمودة والرحمة؟
إن الجمع بينهما يشبه ما قاله الشاعر العربي قديما:
عمرك الله، كيف يلتقيان؟
أيها المنكح الثريا سهيلا
وسهيل إذا استقل يماني!!
هي شامية إذا ما استقلت

الزانيات
  1. والمراد بالزانيات هنا البغايا اللاتي يجاهرن بالزنى ويتكسبن به. وقد روي أن مرثد بن أبي مرثد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بغيا كانت له بها علاقة في الجاهلية -واسمها عناق- فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه حتى نزل قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) سورة النور:3. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم عليه الآية وقال له: "لا تنكحها".
ذلك أن الله تعالى إنما أباح زواج المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب -كما مر- والمحصنات هن العفيفات. وكذلك أحل للرجال الزواج بشرط أن يكونوا (محصنين غير مسافحين) سورة النساء:24. فمن لم يقبل هذا الحكم من كتاب الله ولم يلتزمه فهو مشرك، لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله. ومن أقر بهذا الحكم وقبله والتزمه، ولكنه خالفه ونكح ما حرم عليه النكاح فيكون زانيا.
وهذه الآية ذكرت بعد آية الجلد في سورة النور: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة… الآية) سورة النور:2. فهذه عقوبة بدنية، وتلك عقوبة أدبية فإن تحريم زواج الزاني والزانية يشبه التجريد من شرف المواطن أو إسقاط الجنسية أو الحرمان من حقوق معينة في العرف الحديث.
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين معنى الآية السابقة:
"وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة، ومقتضى العقل فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانا ديوثا زوج بغي، فإن الله فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا: زوج قحبة فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك".
"ومما يوضح هذا التحريم.. أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج وفساد النسب الذي جعله الله بين الناس لتمام مصالحهم، وعده من جملة نعمه عليهم، فالزنى يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، فمن محاسن هذه الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرىء (أي: تعرف براءة رحمها بأن تحيض حيضة على الأقل)".
وأيضا فإن الزانية خبيثة… والله سبحانه وتعالى جعل النكاح سببا للمودة والرحمة، والمودة خالص الحب فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب زوجا له؟ والزوج سمي زوجا من الازدواج وهو الاشتباه، فالزوجان: الاثنان المتشابهان، والمنافرة تامة بين الطيب والخبيث شرعا وقدرا، فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد. وصدق الله إذ يقول: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) سورة النور:26.

زواج المتعة
والزواج في الإسلام عقد متين وميثاق غليظ، يقوم على نية العشرة المؤبدة من الطرفين لتتحقق ثمرته النفسية التي ذكرها القرآن -من السكن النفسي والمودة والرحمة- وغايته النوعية العمرانية من استمرار التناسل وامتداد بقاء النوع الإنساني (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) سورة النحل:72.
أما زواج المتعة، وهو ارتباط الرجل بامرأة لمدة يحددانها لقاء أجر معين، فلا يتحقق فيه المعنى الذي أشرنا إليه. وقد أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يستقر التشريع في الإسلام. أجازه في السفر والغزوات، ثم نهى عنه وحرمه على التأبيد.
وكان السر في إباحته أولا أن القوم كانوا في مرحلة يصح أن نسميها (فترة انتقال) من الجاهلية إلى الإسلام؛ وكان الزنى في الجاهلية ميسرا منتشرا. فلما كان الإسلام، واقتضاهم أن يسافروا للغزو والجهاد شق عليهم البعد عن نسائهم مشقة شديدة، وكانوا بين أقوياء الإيمان وضعفاء؛ فأما الضعفاء، فخيف عليهم أن يتورطوا في الزنى، أقبح به فاحشة وساء سبيلا.
وأما الأقوياء فعزموا على أن يخصوا أنفسهم أو يجبوا مذاكيرهم كما قال ابن مسعود: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل".
وبهذا كانت إباحة المتعة رخصة لحل مشكلة الفريقين من الضعفاء والأقوياء، وخطوة في سير التشريع إلى الحياة الزوجية الكاملة، التي تتحقق فيها كل أغراض الزواج من إحصان واستقرار وتناسل، ومودة ورحمة، واتساع دائرة العشيرة بالمصاهرة.
وكما تدرج القرآن بهم في تحريم الخمر وتحريم الربا -وقد كان لهما انتشار وسلطان في الجاهلية- تدرج النبي صلى الله عليه وسلم بهم كذلك في تحريم الفروج. فأجاز عند الضرورة المتعة ثم حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الزواج. كما روى ذلك عنه علي، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. ومن ذلك ما أخرجه مسلم في (صحيحه) عن سبرة الجهني "أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فأذن لهم في متعة النساء. قال: فلم يخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي لفظ من حديثه: "وإن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة".
ولكن هل هذا التحريم بات كزواج الأمهات والبنات أو هو تحريم مثل تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، فيباح عند الضرورة وخوف العنت؟
الذي رآه عامة الصحابة أنه تحريم بات حاسم لا رخصة فيه بعد استقرار التشريع. وخالفهم ابن عباس فرأى أنها تباح للضرورة. فقد سأله سائل عن متعة النساء فرخص له فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه؟ قال ابن عباس: نعم.
ثم لما تبين لابن عباس رضي الله عنه أن الناس توسعوا فيها ولم يقتصروا على موضع الضرورة، أمسك عن فتياه ورجع عنها.

الزواج بأكثر من واحدة
الإسلام دين يلائم الفطرة، ويعالج الواقع، بما يهذبه ويبعد به عن الإفراط والتفريط. وهذا ما نشاهده جليا في موقفه من تعدد الزوجات. فإنه لاعتبارات إنسانية هامة، فردية واجتماعية، أباح للمسلم أن يتزوج بأكثر من واحدة.
وقد كان كثير من الأمم والملل قبل الإسلام، يبيحون التزوج بالجم الغفير من النساء قد يبلغ العشرات، وقد يصل إلى المائة والمئات، دون اشتراط لشرط، ولا تقييد بقيد. فلما جاء الإسلام وضع لتعدد الزوجات قيدا وشرطا.
فأما القيد فجعل الحد الأقصى للزوجات أربعا. وقد أسلم غيلان الثقفي وتحته عشرة نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعا وفارق سائرهن". وكذلك من أسلم عن ثمانية وعن خمسة نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمسك منهن إلا أربعا.
أما زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بتسع نسوة فكان هذا شيئا خصه الله به لحاجة الدعوة في حياته، وحاجة الأمة إليهن بعد وفاته.

العدل شرط في إباحة التعدد
وأما الشرط الذي اشترطه الإسلام لتعدد الزوجات فهو ثقة المسلم في نفسه أن يعدل بين زوجتيه أو زوجاته في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت والنفقة، فمن لم يثق في نفسه بالقدرة على أداء هذه الحقوق بالعدل والسوية حرم عليه أن يتزوج بأكثر من واحدة قال تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) النساء:3. وقال عليه الصلاة والسلام: "من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا".
والميل الذي حذر منه هذا الحديث هو الجور على حقوقها، لا مجرد الميل القلبي، فإن هذا داخل في العدل الذي لا يستطاع، والذي عفا الله عنه وسامح في شأنه، قال سبحانه وتعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل) النساء:129. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك.. فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" يعني بما لا يملكه أمر القلب والميل العاطفي إلى إحداهن خاصة.
وكان إذا أراد سفرا حكم بينهن بالقرعة، فأيتهن خرج سهمها سافر بها. وإنما فعل ذلك دفعا لوخز الصدور، وترضية للجميع.


الحكمة في إباحة التعدد
إن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة التي ختم بها الرسالات، لهذا جاء بشريعة عامة خالدة تتسع للأقطار كلها، وللأعصار قاطبة، وللناس جميعا.
إنه لا يشرع للحضري ويغفل البدوي، ولا للأقاليم الباردة، وينسى الحارة، ولا لعصر خاص مهملا بقية العصور والأجيال.
إنه يقدر ضرورة الأفراد وضرورة الجماعات، ويقدر حاجاتهم ومصالحهم جميعا.
فمن الناس من يكون قوي الرغبة في النسل رزق بزوجة لا تنجب، لعقم أو مرض أو غيره. أفلا يكون أكرم لها وأفضل له أن يتزوج عليها من تحقق له رغبته مع بقاء الأولى وضمان حقوقها؟
ومن الرجال من يكون قوي الغريزة ثائر الشهوة، ولكنه رزق بزوجة قليلة الرغبة في الرجال، أو ذات مرض، أو تطول عندها فترة الحيض، أو نحو ذلك، والرجل لا يستطيع الصبر كثيرا عن النساء، أفلا يباح له أن يتزوج بأخرى حليلة بدل أن يبحث عنها خليلة؟
وقد يكون عدد النساء أكثر من عدد الرجال -وخاصة في أعقاب الحروب التي تلتهم صفوة الرجال والشباب- وهنا تكون مصلحة المجتمع ومصلحة النساء أنفسهن أن يكن ضرائر لا أن يعشن العمر كله عوانس محرومات من الحياة الزوجية وما فيها من سكون ومودة وإحصان، ومن نعمة الأمومة، ونداء الفطرة في حناياهن يدعو إليها.
إنها إحدى طرائق ثلاث أمام هؤلاء الزائدات عن عدد الرجال القادرين على الزواج:
  1. فإما أن يقضين العمر كله في مرارة الحرمان.
  2. وإما أن يرخى لهن العنان ليعشن أدوات لهو لعبث الرجال الحرام!
  3. وإما أن يباح لهن الزواج برجل متزوج قادر على النفقة والإحسان.
ولا ريب أن هذه الطريقة الأخيرة هي الحل العادل، والبلسم الشافي، وذلك هو ما حكم به الإسلام: (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) سورة المائدة:50.
هذا هو تعدد الزوجات الذي أنكره الغرب المسيحي على المسلمين، وشنع عليهم، على حين أباح لرجاله تعدد العشيقات الخليلات، بلا قيد ولا حساب، ولا اعتراف بأي التزام قانوني أو أدبي، نحو المرأة أو الذرية التي تأتي ثمرة لهذا التعدد اللاديني واللاأخلاقي فأي الفريقين أقوم قيلا وأهدى سبيلا؟

 
الوسوم
الجمال القرضاوي ليوسف والحرام
عودة
أعلى