الحب قبل النظرة الاولى

kenzy*

الاعضاء
قصة أعجبتني فأحببت نقلها اليكم

في مثل هذا التاريخ من كل عام تحمل نسمات دافئة عيد الام ومعه تحمل فصل الربيع. وليس صدفة ان ييطل الاثنان في الوقت عينه, اذ انهما مترابطان اصلاً في صفات مشتركة اولها العطاء والدفء وليس آخرها الحياة. في هذا الفصل تتفتح براعم أزهار الحقول المعشوشبة بعد موسم الأمطار، وتفتح أمهات عيونهنّ على وجوه أولادهنّ الصغيرة الملوّحة باللون الزهريّ. يطلّ العيد في كلّ مرة حاملاً بشائر عن حياة تجري في الشرايين وتتجدّد مع كل ولادة وانبعاث وطلّة. للأمهات عيدهنّ. وللأمهات الشابات قصصهنّ عن الأمومة والطفولة ومعانيهما. في عيد الأمّ هذه المرة، قصص عن نساء ثلاث يروين تجارب حملهنّ أو ولادتهنّ، ومراحل الانتقال أو الاستعداد للولوج الى عالم الأمومة وطقوسه وتبدلاته. عيد الأم الشابة لا يترك مجالاً إلا لمزيد من الحبّ والحنان والتعبير الصادق عن اكتشاف الكائن الغريب الذي يخرج من رحمهنّ الى عالمهنّ في لحظات فيصير جزءا لا ينفصل عن ذات الأم ووعيها وتطلعاتها المستقبلية.
[ ... الأول في حياتي
سارة ستترك دبي. ستترك عملها وأصدقاءها ويومياتها في الإمارة الخليجية الحديثة المنفتحة على الغرب، لتعود الى بيروت. تعود الى ثنايا الوطن بعد سنوات من العمل والحياة في الإمارات العربية المتحدة، شأنها شأن الألوف من اللبنانيات اللواتي يقمن في دول الخليج أو على امتداد جغرافية الاغتراب. تعود سارة محمّلة بالذكريات وبطفلة تنمو في أحشائها. الطفلة هي السبب الأول في عودتها. هي العلة الأولى وراء قرار الرجوع الى مسقط الرأس. أصبحت سارة أماً. الطفلة تنمو في رحمها. تهزّ أحشاءها حيناً وترفسها من الداخل حيناً آخر. كأنها تبتدع شكلاً من المخاطبة يعتمد على الحركة الفجائية. "أشعر بها أحياناً وكأنها تتشقلب في بطني ثم تهدأ، وفجأة تهتزّ من جديد، تفاجئني وتخطف أنفاسي بحركتها الفجائية"، تقول سارة. أصبحت أماً في اللحظة التي أبلغها الطبيب بأنها حامل. ستحمل الطفلة وتعودان الى الوطن. كأنّ في العودة إليه شكلاً آخر من أشكال الأمومة. عودة الى الأرض التي تنجب أبناءها بعد مخاضات عسيرة، ليحمل كل منهم لعنة الوطن أينما حلّ. في العودة حنين الى الأرض الأم، والعائلة الأم، والبيت الأم، والحقل الأم، والطريق الأم، والأصدقاء والجيران وأصحاب الدكاكين في الحيّ وعمّال البلدية والساحات والسيارات وأشجار الحديقة ووجوه الأحبة الأمهات جميعاً. تعود سارة الى الوطن كالطفلة العائدة الى حضن أمها ناشدة الأمان والعاطفة. فللأمهات أمهات أيضاً كما لهنّ أولاد.
سارة أرادت أن تنجب في الوطن. تقول "سأصبح أمّاً. إنها خطوة عملاقة. أنا خائفة قليلاً. سأترك دبي وأعود الى بيروت. لأبدأ من جديد. أنا وطفلتي أولاً ثم سيلحق بنا زوجي. سنبدأ من جديد. لكنني سأكون بالقرب من عائلتي، فمن المهم أن لا تشعر طفلتي بالغربة عن الأهل والأمكنة وعن عائلتها الكبيرة". وتضيف "أعود الى وطني لألد. الى البيئة السليمة والمناسبة للتربية وللعلاقات الاجتماعية بعد غربة طويلة في دبي. أنا سعيدة أن طفلتي ستكون محاطة بأشخاص يحبونها حقا. بأشخاص يشعرونها بالحنان والأمان. ولكنني أفكر في الوقت ذاته أننا عائدون الى لبنان، الى الوطن الذي نخاف فيه من التحوّلات والتبدلات المستمرة، من اللاستقرار الدائم الذي يهدّد حيواتنا الاقتصادية والاجتماعية معاً. لكنني أعود وأقول لنفسي أننا نعود ويحذونا الأمل بأن الأوضاع في البلاد تتحسّن، وسنبقي هذا الأمل مضاء في قلوبنا كالشمعة في الظلمة الحالكة".
لكن العودة تحمل في معانيها المتعدّدة معنى البداية. والبداية الجديدة ستفرض نمطاً حياتياً ليس من السهولة التعوّد عليه والتأقلم معه. تقول سارة "سيكون من الصعب البدء من جديد، تغيير نمط الحياة ونظام اليوميات. أشعر بالصعوبة في العودة للبحث عن عمل وترك الأصدقاء والمضي (...) لكنني لا أفكر في هذه القضايا كأولوية. الطفلة الآن هي شغلي الشغال وكل شيء آخر يتلاشى".
تخرج الطفلة من تقوقعها في الرحم الى عالم أمّها وامتدادته. لا تطلب منها إذناً. تداهم حياتها فجأة وتفرض نفسها على مزاج أمّها وطباعها. تصبح الأم من دون أن تعرف شخصين إثنين. تصبح أما وطفلة صغيرة. وعليها أن توازي بين الكائنين والعالمين والرمزيتين. يمنح الحمل الأم نشوة غريبة لم تكتشفها من قبل. تقول سارة "لم أعد قادرة على الانتظار حتى أرزق بطفلتي. لم أكن أريدها في وقت مبكر من حياتي الزوجية، لكن فجأة شعرت أن هناك ما يحثني على الإنجاب. وشعرت أنني جاهزة لهذه التجربة. عاطفة الأمومة والحاجة الى الأولاد هما نعمة. نعم نعمة منحتا للنساء. وللنساء فقط. وأنا أقول دائماً لزوجي أشعر أنني محظوظة لأنني امرأة وأن الرجال يغارون من كوني كذلك. فنحن النساء عندنا الفرصة لاختبار هذه العاطفة النقية والحب الكبير تجاه كائن لم يخرج بعد الى العالم. كم هو شديد وعميق الشعور بأن الطفل في أحشائنا ينمو. لا أستطيع الانتظار حتى ألد طفلتي ولأختبر تجربة أن أكون في الحقيقة والفعل أماً، وأنا سعيدة أن تكون طفلتي ثمرة حبي أنا وزوجي".
تهزّ الطفلة في بطن سارة. تتحرّك. تذكرها بأنها موجودة. تحالو استنباط لغتها الخاصة للتعبير عن حبّها للمرأة التي تصبر عليها شهوراً تسعة ثم سنوات إضافية. سارة تسعد بذلك. تفي عاطفتها وهي تتحدث عن ابنتها المستعجلة الخروج الى العالم. تقول "عندما أفكر أنني سأهب شيئاً مني لطفلتي أشعر بالسعادة. سأمنحها الحياة. أشعر بها تتحرّك بداخلي. أرى نفسي أتغذى لأغذيها. مسؤولة عنها في كل حركة وصوت وخطوة. أتخيّلني أرفعها. أمنحها ما تحتاج إليه. أعلمها. أحميها. أغمرها بين يدي وأضمّها الى صدري. أشعر بخفقات قلبها. بدفئها بين يدي. سأحبّها أكثر من كل شيء في الكون. ستكون الاهتمام الأول في حياتي. كنت أعرف دائماً أن هذا ما تعنيه الأمومة. ولكنني أدرك الآن جوهر الكلمة ومعناها العميق. أستطيع أن أعي معنى أن هذا الحب غير المشروط والذي لا حدود له، سيكون فياضاً عندما تخرج الى العالم وأغمرها بين ذراعي". وتضيف سارة "الآن أفهم كيف أن المرء يزيد تقديره لأهله عندما يصبح عائلة، وأنا الآن أشعر بالغبطة أنني على تفاهم مع عائلتي استمع لهواجسهم واهتماماتهم وهما يبادلوني الوضع ذاته". يكاد يكون الشيء ذاته. تكاد تكون دورة الحياة ذاتها. أن تكون الطفلة ابنة ثم تصبح صبية ثم زوجة فأمّاً فجدة. هي حلقة مترابطة متداخلة لا يمكن فهم العلاقة بين مراحلها إلا بالتجربة.
[النظرة الاولى
تعود سارة الى بيروت، في حين تبقى نتالي في الإمارات. فهي مستقرة في تلك البلاد منذ سنوات. نتالي أم لطفلين اثنين منذ بضع سنوات. لا تفارقها ذكريات الأيام الأخيرة قبل الانجاب واللحظات الأولى لرؤية طفلها الأول.
تقول "لا أخفي أن الحمل جعلني في الشهر التاسع ثقيلة ومتعبة وغير قادرة على النوم وبالكاد قادرةعلى الحركة، لكن كل شيء في عالمي كان يستعدّ لاستقبال عفيف (إبنها). بعد 12 ساعة من الأوجاع شاهدت الطفل يخرج. كان المشهد كالوقوع في الحب من النظرة الأولى، فما ان وقعت عيناي عليه حتى أغرمت به. كان الغرام الكبير مع هذا الكائن الغريب الآتي الى عالمنا، وأنا أشاهده صغيراً جداً وشديد الاحمرار. كانت الدموع تترقرق من عيني. كنت أعرف أن كل شيء سيسير بشكل جيد، وأن لا شيء في العالم سيمنعني من متابعة تلك اللحظات المؤثرة. كانت الايام الأخيرة قبل الولادة ضاغطة ومرهقة جداً، علي أن أعترف بذلك، ولكن في تلك اللحظة كان الشعور رائعاً ولا يمكن وصفه".
أصبحت نتالي أمّاً للمرة الأولى. أخرجها عفيف من حياتها السابقة وأدخلها الى عالمه. ألعاب وحفاضات وأغطية وأغذية وبكاء متواصل حينا ومتقطع أحياناً أخرى واحتياجات ومتطلبات وأسئلة كثيرة تراود الأم في لحظة لتستنطقها عن حالها كأمّ. لم تعمل نتالي منذ أن أنجبت طفلها. فضّلت البقاء بقربه. عكس الكثير من النساء اللواتي يسعين للتوفيق بين حياتهن الخاصة وأولادهن وأعمالهنّ. تقول نتالي "ليس من السهل على الأمهات أن يعدن الى أعمالهن بعد الولادة، إن في ذلك تضحية كبيرة، حين تترك الأم طفلها للذهاب الى العمل. طبعا أنا لست ضد المرأة العاملة ولكنني ضد اللواتي يتركن أطفالهن كل اليوم. قد يكون لذلك بعض المبرّرات بالنسبة الى النساء اللواتي يعشن في عائلات فقيرة ويحتجن الى العمل من أجل لقمة العيش. لكن كلنا نحنتج الى إنعاش وتنشيط عقلي، لأن الاستماع الى الطفل وهو يقول ماما أريد هذا وأريد ذاك كل النهار، يحتاج الى الوقت والاهتمام". وتضيف "أن العمل بدوام كامل بعد الانجاب لهو قضية مستحيلة، على كل حال فأن تكون المرأة أمّاً يعني أن تعمل أكثر من المرأة العاملة، يعني أن تعمل من دون ساعة غداء ولا عطلة نهاية أسبوع وبدوام مكثف وفي سهرات تمتد من المساء حتى اللحظات الأولى من الفجر".
لم تفارق نتالي ولدها. لم تفرض عليها ظروفها العائلية والاقتصادية الاجتماعية ذلك. أصبح محور حياتها الجديدة. صارت كينونتها مقسّمة الى اثنين. حضر بقوة في كل حركة. في كل فعل. في كل قول. في اللحظات التي تغمض فيها الجفون لتعود وترتفع تلبية لنداء أو بكاء. تجسّدت الأمومة في أشكالها الثقيلة المرهقة والمتعبة. العناية بالطفل والاهتمام به وبحاجاته تستهلك الكثير من الوقت والطاقة على حساب أشياء كثيرة. لكن كل ذلك لم يجرّد الأمومة من معانيها الانسانية الحقيقية. تقول نتالي "بقيت الأمومة في أصعب الظروف وأعقدها تعني الحب، والحنان، والعطاء من دون حدود، والتربية والتعليم ومرافقة مراحل النمو. نعني اللعب على أربعة عند الضرورة مع الأطفال، تعني الكثير من الصبر، تعني المستقبل وكثير من الأمور الأخرى". وتتابع "أحياناً نشعر أن الطفل يمتصّ حياتنا، ولكن ليس هناك أجمل من النظر الى الطفل ورؤيته يبتسم وكأنه يقول شكرا يا أمي أحبك. أن تكون المرأة أم هو امتياز بحد ذاته".
[ ...الحب غير المشروط
تمضي نتالي في حياتها برفقة ملاكيها الاثنين، فيما تعدّ رنا الأيام قبل الولادة. بين جلسات الانتظار والتأمّل والاستعدادت العملية لاستقبال الطفل، تنشغل رنا بالعالم الخفي في داخلها. تتبّعه من خلال حركة الجنين في رحمها ووفق تصوّرات لا يفهما غير الأمّ الحقيقية. تقول "الشعور أنني أصبحت أمّاً يعني خليط من الأحاسيس، فمرة أشعر أنني فرحة ومغتبطة ومتحمّسة لأرزق بالطفل ومرة أخرى أراني مرتعبة وفي حالة من الجنون. أنا فرحة لأن ما أشعر به قد يكون الاحساس الأعظم والأهم في العالم، حين أدرك أن هناك طفلاً ينمو في أحشائي ويكبر، وأنه سيكون في وقت قريب جداً محمولاً بين ذراعي وجزءاً من حياتي وعائلتي". كم هو حقيقي هذا الشعور. وكم هو مخلص التعبير عنه على شفاه الأمهات. لكن ماذا وراء ذلك؟ لا تخفي رنا رهبتها واستفهماتها، وتردف "كل ذلك لا يمنعني في بعض الأحيان من الشعور بأنني غير قادرة على تحمّل هذا النوع من المسؤوليات، وأتساءل أي نوع من الأمهات سأكون لأجله، وآمل أن أكون أماً صالحة".
تمضي الأيام ومعها يتسارع العدّ العكسي لموعد الانجاب. لموعد التغيير في أجندة اليوميات والوظائف. تقول رنا "أعتقد أن أموراً كثيرة في حياتي ستتغيّر بعد انجابي الطفل، أعرف أني سأكون أكثر سعادة وحماسة للحياة لأنني سأتقاسمها مع طفلي، وهي فعلاً مقاربة جديدة، وستكون حياتي مليئة بالتحديات أكثر من أي وقت مضى، لأن تربية الطفل والاعتناء به ليسا أمرين سهلين للقيام بهما (...) قد تكون حياتي فوضوية في البداية، لكنني سأتقلم مع ذلك وسأسعى للاستمتاع في كل ثانية".
وتضيف "يصعب عليّ في الحقيقة توصيف معنى الأمومة، وكنت دائما أعتقد أنني أفتقد للأمومة، لكن الحقيقة أن كل امراة لديها أمومة، وربما لا تنتبه لذلك ولا تشعر به إلا حين تصبح حاملاً. ما هي الأمومة؟ إنها شعور بالحب غير المشروط، إنها فعل الابتعاد عن الأنانية من أجل الطفل، ما يجعل المرأة أكثر اهتماماً ورعاية لابنها مهما كانت الظروف".


مع خالص ودي
 
ايفووو
أسعدني كثيرا مروركِـ وتعطيركـِ هذه الصفحه
تــ ح ــياتيـ لكــِ
---​
 
الوسوم
الاولى الحب النظرة قبل
عودة
أعلى